تكشف هذه المقالة، من خلال وثائق جُمعت، ومتابعة لتفصيلات كثيرة، المسؤولية المباشرة لإسرائيل عن التفجيرات التي وقعت في بغداد بين سنتَي 1950 و1951، وساهمت في تهجير يهود العراق إلى فلسطين المحتلة.
في منتصف سنة 1980 غادرتُ إسرائيل إلى الولايات المتحدة. المحاكمة المتوقعة أضحت مبعث إزعاج وضيق بالنسبة إليّ، وبعد مفاوضات بين محامي الطرفين، اتُّفق على إدخال بلاغ من طرفي إلى ملفات المحكمة يقول إن يهود العراق هاجروا إلى إسرائيل بدافع الشوق الصهيوني، وإن القضية بأسرها أُديرت بطريقة لا شوائب فيها (لا أذكر النص الدقيق، فالقضية لم تعد تعنيني قطّ). المواد الأصلية من المستندات والإفادات موجودة، في معظمها، في ملف المحكمة في إسرائيل، لكن بقيت بين يديّ صحف وصور مستندات وصور إفادات أوردها هنا.
وبسبب كثرة المواد، ولأنه ينقصها بعض الأجزاء (الموجودة في المحكمة)، ولأنها أُعدّت لمقتضيات المحكمة أساساً، فإني أخشى أن يكون من الصعب "بناء" أجزائها وإعداد صورة كاملة لها. ولذلك، أعرض هنا استنتاجاتي الأساسية، على أمل بأن تساعد الباحث في تلك المواد مستقبلاً [...].[1]
1/1/1999
تسليم بين الأجيال
عثرنا على هذا المقتبس في أرشيف باروخ نادل (Baruch Nadel) الخاص، وهو الصحافي والباحث والكاتب الذي عمل عدة أعوام في الصحافة في إسرائيل، وخصوصاً في "يديعوت أحرونوت". وقد علمنا بوجود هذا الأرشيف في سنة 2015 خلال محادثة جرت بالمصادفة مع الدكتورة نانت شطال (Nanette Stahl)، أمينة مكتبة وقيّمة أرشيف مسؤولة عن المواد الأرشيفية اليهودية في مكتبة ستيرلينغ في جامعة ييل. روت شطال أن نادل الذي هاجر من إسرائيل إلى نيويورك في سنة 1981، درج على تزويد المكتبة بمواد أرشيفية كان يجمعها ويصنفها على مدى أعوام عديدة. وأبرز ما في الأرشيف هو وثيقة موجهة "إلى الباحث في المواد في المستقبل" - وهي وثيقة تمتد على 71 صفحة بعنوان: "هجرة يهود العراق إلى إسرائيل 1950 - 1951". وقد أرفق نادل بهذه الوثيقة نحو 400 وثيقة أُخرى، من ضمنها نصوص عشرات المقابلات مع أشخاص كانوا في بغداد خلال تلك الأعوام. ويظهر من الوثائق أن مردخاي بن - بورات (Mordechai Ben-Porat) - الذي كان عضو كنيست عن حزب "رافي" ثم "المعراخ"، ووزيراً في حكومة مناحم بيغن - كان المسؤول عن سلسلة من التفجيرات ضد اليهود في بغداد في سنتَي 1950 و1951. وبين الوثائق أيضاً، توثيق للاستجوابات الـ 365 التي قدمها نادل إلى المحكمة في سنة 1977 رداً على دعوى التشهير التي قدمها بن - بورات ضده، وهذه الاستجوابات لا توثيق لها في أي أرشيفات أُخرى، وفيها مفتاح المعرفة للباحثين المستقبليين.[2] ونحن لا نعلم إن كان نادل قد حاول عرض الوثائق على أحد الأرشيفات في إسرائيل - أرشيف الدولة؛ الأرشيف الصهيوني المركزي؛ أرشيف مركز تراث يهود بابل؛ أرشيف تاريخ الهاغاناه وغيرها - وماذا كانت إجاباتها، لكن من غير المعقول الافتراض أن نادل فقد ثقته بدولة إسرائيل وبمؤسساتها، وأنه لم يحاول قطّ، عرض الوثائق على أرشيف إسرائيلي. وإذا كان الأمر كذلك حقاً، فإن قراره يضفي على الوثيقة الموجهة إلى جيل المستقبل أهمية أكبر.
إن الذاكرة، في أساسها، هي عمل انعكاسي لجمع أجزاء من المعرفة معاً، في الوقت الذي يقوم أحدها باستعادة الآخر وتدويره، فمركّبات الانعكاس، لبنة فوق أُخرى، هي التي تحدد بلاغة الانتقال من جيل إلى آخر. الذاكرة أيضاً، ليست متجانسة إطلاقاً، لأن السيادة تتحكم في سيرورات نقل الذاكرة، وهذه السيطرة هي التي تتيح لها تصفيته وتوجيهه وفقاً لحاجاتها السياسية. وهذه الوثيقة الموجهة إلى جيل المستقبل هي عمل خالص من إنشاء الذاكرة بواسطة الحركة من المعطى الأول حتى ناتج الانعكاس الممارَس عليه، وفي الحالة التي أمامنا، فإن الانتقال من الجيل الأول إلى الجيل الذي يليه هو نتيجة إجراء طوّر فيه نادل بواسطة بحثه الدقيق نظرة إضافية أُخرى، انعكاسية، على الجيل الذي سبقه. غير أن هذا الانعكاس يبقى على الدوام جزئياً وانتقائياً، ولذلك، كلما كانت المرحلة الثانية من الذاكرة أكثر امتلاء، وأكثر غنى واحتواء لأجزاء المعلومات الأولية، كانت أكثر سلطة وقوة، وهكذا يصبح عمل الذاكرة فعلاً سياسياً يقيم علاقة غير متوازية بين موضوع الذاكرة والانعكاس الممارَس عليها. إن الموضوع ذاته هو معطى ثابت ومستقر، ظاهرياً على الأقل، بينما مرحلية الانعكاس هي التي تملي هدفه، وبالتالي فإن الفعل السياسي الانعكاسي هو الذي يغير الواقع الذي يعمل انعكاس الذاكرة في إطاره.
في هذه الوثيقة الموجهة إلى الباحثين المستقبليين يعرض نادل قضيتَي عنف: الأولى هي العنف في بغداد خلال سنتَي 1950 و1951، والثانية هي العنف الذي مورس ضده عندما أنشأ الأرشيف وحاول أن يركّب منه قصة ضلوعه في الموضوع. ومن الاستجوابات التي قدمها نادل إلى المحكمة - والتي يُكشف النقاب عنها هنا للمرة الأولى - تُعرَض قصة القضية التي ستحظى بتمثيل غير مسبوق.
قبل أن نعرض أرشيف نادل، سنعرض باختصار الأحداث العنيفة التي وقعت في بغداد بدءاً من 15 آذار / مارس 1950 حتى حزيران / يونيو 1951، لدى انتهاء عملية نقل يهود العراق إلى إسرائيل جواً، والتي أُطلق عليها الاسم التوراتي "عملية عزرا ونحميا" (Ezra and Nehemiah). ففي آذار / مارس 1950، سنّ البرلمان العراقي قانون التخلي عن الجنسية (De-naturalisation Law)، والذي أتاح لأي يهودي معنيّ بمغادرة العراق إمكان فعل ذلك بثمن التنازل عن جنسيته وفقدان حق العودة إلى العراق مستقبلاً. وقد جرى تشريع هذا القانون بمبادرة وقيادة رئيس الحكومة العراقية آنذاك، توفيق السويدي، خريج مدرسة "أليانس" (Alliance)، والذي لديه أصدقاء يهود كثيرون، بينهم رئيس الجالية يحزقيل شمطوف (Yehezkel Shemtov)، والمبعوث الصهيوني مردخاي بن - بورات، اللذان أديا دوراً مهماً في عملية تشريع القانون الذي سمح عملياً بهجرة يهود العراق إلى إسرائيل. وفي 10 آذار / مارس 1951، قدم نوري السعيد، رئيس الحكومة الذي خلف السويدي، مشروع قانون إلى مجلس النواب ومجلس الشيوخ يقضي بتجميد أملاك اليهود فاقدي الجنسية. ومن أجل منع عقد أي صفقات خلال الفترة ما بين تشريع القانون والبدء بتطبيقه، أغلقت وزارة المال العراقية البنوك لثلاثة أيام وبدأت الشرطة باتخاذ إجراءات لتنفيذه: أُغلقت حوانيت اليهود وتم تشميعها؛ صودرت أملاك وسيارات؛ أُجريت تفتيشات في منازل التجار والصرافين (غات 1989). وعقب تشريع قانون التنازل عن الجنسية، افتُتح في بغداد مكتب لتسجيل اليهود المعنيين بالهجرة، غير أن اليهود لم يسارعوا في البداية إلى المثول فيه: في اليوم الأول من التسجيل مثُل ثلاثة يهود فقط، وحتى 7 نيسان / أبريل 1950 كان قد تسجل 126 يهودياً في المجمل. لكن خلال الأيام التي تلت التفجير الأول الذي وقع في 8 نيسان / أبريل 1950 في مقهى البياضة، تسجل 3400 يهودي للهجرة، وحتى نهاية نيسان / أبريل سجل العدد رقماً قياسياً بلغ 25,300 متسجل، لكن بين أيار / مايو وكانون الأول / ديسمبر 1950، هبطت نسبة المتسجلين (لا نملك معطيات دقيقة). ثم كان التفجير الثاني في 14 كانون الثاني / يناير 1951 حين أُلقيت قنبلة يدوية نحو كنيس مسعودة شمطوف (Mas’uda Shemtov)، وأدت إلى مقتل خمسة يهود، بينهم فَتَيان، وإصابة 19 شخصاً آخرين كانوا في المكان. أُلقيت القنبلة في الساعة السابعة والربع من نافذة مبنى في مقابل الكنيس، بعد دقائق معدودة من مغادرة باص كان يقلّ يهوداً إلى المطار في طريقهم إلى إسرائيل، وقد أصاب هذا التفجير القاتل المجتمع اليهودي بصدمة شديدة أدت إلى حدوث ارتفاع حاد في معدلات المتسجلين للهجرة في ذلك الشهر. فإذا كان 2300 يهودي قد تسجلوا للهجرة خلال الأسابيع الستة الممتدة من 1 كانون الأول / ديسمبر 1950 حتى 13 كانون الثاني / يناير 1951، فإن العدد ارتفع إلى 7600 رجل وامرأة خلال الفترة التي تلت ذلك التفجير. وفي الأشهر التالية من سنة 1951 وقعت ثلاثة تفجيرات: في 14 آذار / مارس في مكتب المعلومات التابع لسفارة الولايات المتحدة في بغداد؛ في 10 أيار / مايو في وكالة السيارات اليهودية بيت لاوي (Beit-Lawi)؛ في 5 حزيران / يونيو في بناية شركة ستانلي شعشوع.
عقب هذه الأحداث، اعتُقل عشرات اليهود العراقيين الذين كانوا أعضاء في التنظيم السري الصهيوني ("الصفّ") واتُّهموا بوضع المتفجرات، وحوكم منهم 28 يهودياً وسبعة عرب، أغلبيتهم الساحقة أعضاء في شبكة أقامها ناشطون صهيونيون بمساعدة "الموساد" (غات 1989، ص 151). في نهاية المحاكمة التي حظيت بتغطية وأصداء إعلامية واسعة، حُبس اثنان منهم لفترتين مختلفتين، هما: إلياهو جورجي (Eliyahu Georgi)، ويهودا تَجَار (Yehuda Tajar) الذي كان ضابط استخبارات إسرائيلياً وصل إلى بغداد في مهمة سرية وباسمٍ مستعار، وقد حُكم عليه بالسجن المؤبد، ثم أُفرج عنه بعد عشرة أعوام. علاوة على هؤلاء، أُعدم شنقاً في وسط بغداد في كانون الثاني / يناير 1952، اثنان آخران هما يوسف بصري (Yusuf Basri) وشالوم صالح (Shalom Salih)، وفي 5 تموز / يوليو 1951، أقلعت الطائرة الأخيرة من بغداد إلى إسرائيل.
في المجموع، هاجر من العراق 124,000 يهودي وبقي فيه نحو 500 فقط،[3] ولا شك في أن التفجيرات أدت إلى حدوث ارتفاع كبير في معدلات المتسجلين للهجرة بين آذار / مارس 1950 وحزيران / يونيو 1951. وقد أثارت هذه القضية، منذ بدايتها، سجالاً غريزياً تخلله كثير من الكشوفات والإخفاءات، والإقرارات والإنكارات، فالتفجيرات كلها كانت صغيرة جداً، ويتفق الجميع على أنها لم تكن تقصد إيقاع أضرار في الأرواح، وإنما في الأملاك فقط، لكن لسوء الحظ، وقع قتلى في كنيس مسعودة شمطوف، الأمر الذي أثار حالة من الغليان الشديد في أوساط المجتمع اليهودي لم تهدأ حتى الآن. إن حادث الكنيس هذا بات علامة مميزة ودليلاً على الأحداث كلها، وهو أشبه بنواة العنف المركزة التي تُنشر تمثيلاتها، مراراً وتكراراً في الخطاب الإسرائيلي على مرّ الأعوام، لأن استرجاعها يخدم مصالح سياسية متعددة، بل متضاربة.
بحسب الصيغة التي وضعها مردخاي بن - بورات الذي أُوفد في سنة 1949 من إسرائيل إلى العراق لتنظيم نشاط التنظيم السري الصهيوني في بغداد وعملية تهجير اليهود، فإن مَن ألقى القنبلة على الكنيس هم عناصر قومية عراقية متعصبة كان هدفها المسّ باليهود وتعجيل خروجهم من العراق (بن - بورات 1996). أمّا بحسب رواية نادل، فإن يهوداً صهيونيين هم الذين نفذوا الهجوم الإجرامي من أجل دبّ الرعب في نفوس اليهود المترددين، وتشجيعهم على التسجيل للمغادرة إلى إسرائيل - يمكن تعلّم كثير عن هذه القضية من ردة فعل الجالية العراقية في إسرائيل على الأحداث في بغداد. فقد أفادت تقارير جميع الصحف الإسرائيلية بأن الكلمات الأخيرة التي نطق بها يوسف بصري وشالوم صالح عندما صعدا إلى حبل المشنقة كانت: "تحيا دولة إسرائيل" (هليل 1985، ص 342). ظاهرياً، كان من الممكن توقّع أن يردّ اليهود العراقيون في إسرائيل بالغضب على الإعدام، إلّا إن اجتماعات الحداد التي نظمتها لجان الجالية في عدة مدن من البلد لم تنجح في إثارة وتجنيد تضامن جماهيري. وأكثر من ذلك، ففي وثيقة سرية أرسلتها دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية إلى وزير الخارجية موشيه شاريت (Moshe Sharett)، روى موظف الوزارة موشيه ساسون (Moshe Sassoon) أن "المشاعر المميَّزة لدى معظم المهاجرين الجدد هي مشاعر التشفي." فالوثيقة تفيد بأن عدداً غير قليل من سكان "المعبروت" (مخيمات لاستيعاب اليهود المهاجرين إلى إسرائيل في خمسينيات القرن العشرين [المترجم]) من المهاجرين من العراق ردوا على الإعدام بالقول: "هذا انتقام الرب من الحركة الصهيونية التي أوصلتنا إلى هنا."[4] كان هذا تعبيراً عن احتجاج شديد وفريد من نوعه، وكان يدل على أن ثمة كثيرين من أبناء الجالية وبناتها الذين يعتقدون أن أعضاء الحركة الصهيونية هم الذين نفذوا التفجيرات من أجل تهجير يهود العراق إلى إسرائيل رغماً عنهم (Shenhav 2006, pp. 110–113).
أدى التوتر الذي أثارته الأحداث العنيفة في بغداد إلى تشكيل لجنة تحقيق عاجلة في إسرائيل في سنة 1952 كان الهدف منها تهدئة خواطر اليهود العراقيين الهائجين. ولا يوجد في الأرشيفات أي معلومات بشأن ما خلصت إليه اللجنة من استنتاجات ولا طريقة عملها، بل إن المعلومات الوحيدة المتوفرة عنها تظهر في كتاب بن - بورات:
حيال تصاعد الشائعات وحملة التشهير بين المهاجرين، تشكلت في بداية الخمسينيات لجنة تحقيق كان شلومو هليل [Shlomo Hillel] أحد أعضائها. وقد استمعت اللجنة إلى عدد كبير من الشهود، لكنها لم تتوصل إلى أي دليل يثبت الشائعات أو يدحضها، مرة واحدة وإلى الأبد. ولذلك، أوصت اللجنة بأنه بعد أن ينهي السجناء الذين كانوا ما زالوا في العراق آنذاك محكومياتهم ويتم الإفراج عنهم، يُصار إلى تشكيل لجنة تحقيق جديدة تستمع إليهم وتحاول التوصل إلى معلومات جديدة (بن - بورات 1996، ص 155).
في نهاية سنة 1960، عَيّن إيسر هرئيل (Isser Harel) لجنة تحقيق أُخرى من جهاز "الموساد"، وقد اجتمعت اللجنة بصورة سرية في تشرين الثاني / نوفمبر 1960 وقابلت 12 شاهداً فقط - لا أحد يعلم شيئاً عن الاعتبارات التي وقفت وراء اختيارهم - وكان يبدو واضحاً أنها استعجلت إنهاء عملها وإغلاق القضية. وبعد مضي ثلاثة أسابيع فقط، نُشرت استنتاجات اللجنة التي ورد فيها أن ليس ثمة إثباتات على الادعاء أن بن - بورات هو المسؤول عن التفجيرات. وللمداولات في دعوى التشهير التي قدمها بن - بورات ضد باروخ نادل في سنة 1977، حضر الأول مزوداً بمحضر لجنة التحقيق التابعة للموساد من كانون الأول / ديسمبر 1960. وقد أعاد بن - بورات تشكيل هذه اللجنة إلى قرار سابق للجنة من سنة 1952، لكن ليس من المستبعد أن يكون دافيد بن - غوريون هو الذي ضغط من أجل إنقاذ شريكه السياسي بن - بورات وتخليصه من الضائقة التي تورط فيها في أعقاب الاتهامات المتكررة التي وجّهها إليه يهود عراقيون وصحافيون.
وثيقة نادل الموجهة إلى الباحثين المستقبليين مؤرخة في 1 كانون الثاني / يناير 1991، وهذه نقطة مهمة لرصد ومتابعة جولات السجال الذي نحن في صدده، لأن نادل لم يكن يعرف في ذلك الوقت، على ما يبدو، ما قيل في لجنة التحقيق التابعة للموساد. فبحسب أرشيف نادل، ليس ثمة شك في أن الناشطين الصهيونيين زرعوا أو ألقوا القنابل، ووفقاً لروايته، ثمة العديد من الشهادات الموثقة التي تعتمد على مصادر متنوعة، بمَن في ذلك أشخاص كانوا شهوداً على الأحداث أو سمعوا عنها من مصدر أول. ويشمل الأرشيف الوثائق العديدة التي جمعها نادل خلال البحث الذي أجراه عن القضية، ومن ضمنها قصاصات من الصحف عن تقارير ظهرت في الصحافة العراقية عن المحاكمات، إلى جانب مقابلات ورسائل أرسلها حقوقيون من مهاجري العراق إلى وزير العدل آنذاك يعقوب شمشون شبيرا (Yaakov Samson Shapira) شكَوا فيها من موقف الاستهتار الذي أبدته سلطات دولة إسرائيل تجاه المحكمة العراقية. لكن في سنة 1990، وبينما كان نادل يبحث عن معلومات إضافية في المكتبة القومية، وجد أن صفحات الصحف العراقية عن تلك الأيام قد انتُزعت. وبصفتنا ممّن درسوا هذه المسألة طوال عدة أعوام، فإنه يبدو أن هنالك ما يكفي ويزيد من الإثباتات المتراكمة التي تشير إلى ضلوع بن - بورات في القضية. فمع أن الإثباتات تستند إلى شهادات ليس من الممكن توحيدها لبلورة قرار حاسم ويقيني، إلّا إن من الصعب إغفال العلاقة المباشرة بين التفجيرات والارتفاع الحاد جداً في معدلات التسجيل للهجرة، كما من الصعب إغفال العلاقة بين التفجيرات ووقف نشاط القطار الجوي الذي كان ينقل المهاجرين من رومانيا. ونحن في هذه المقالة، لا نريد الخوض في سؤال "مَن الذي أصدر الأمر"، ومَن الذي نفّذه، مثلما سُئل بشأن أحداث "فضيحة لافون" في مصر في سنة 1954 (والتي يُطلق عليها أيضاً اسم "قضية العار" أو "عملية سوزانا" [المترجم]). لكن الأحداث في مصر استُخدمت في السجال، مثلما سنرى لاحقاً، كنوع من التماثل المصطنَع بأن من الممكن التحدث عن الأحداث التي سمّاها بن - بورات "مؤامرة بغداد" (بن – بورات 1996، ص 147)، وإخفاءها في الوقت ذاته.
أرشيف نادل هو الأكثر أهمية بين مختلف الردود التي عالجت على مدى الأعوام أحداث العنف في بغداد. وموقفنا هذا ينبع من حقيقة أن الجزء الأكبر من الأبحاث عن هذا الموضوع استند إلى مصادر صهيونية، بل يوجد في أرشيف الدولة ملفات تسمى "ملفات بغداد 1951" لا تزال، حتى الآن، مغلقة أمام الجمهور العام بذريعة "خصوصية الفرد"، على الرغم من جميع الجهود التي بذلناها للاطلاع عليها. وبعد أن نعرض ادعاءات نادل، سنعرض في المقابل وثائق لجنة التحقيق التابعة للموساد (والتي سنسميها، لضرورة البحث في الأرشيفات، "أرشيف الموساد")، وهي وثائق لم تكن مكشوفة أمام نادل في ذلك الوقت. ونظراً إلى أن محكمة التشهير انتهت في بدايتها فور التوصل إلى اتفاق تسوية في تشرين الثاني / نوفمبر 1981، فإن وثيقة نادل مجزأة، ومن غير الممكن أن نستخلص منها سوى سلسلة التساؤلات التي قدمها إلى المدّعي، مثلما هو متّبع في دعاوى التشهير المدنية. إن الإجابات عن هذه التساؤلات ناقصة لأنه لم يكن في الإمكان العثور عليها في أرشيف المحكمة في هيرتسليا أو أرشيف المحاكم، لكننا سنعرض فيما يلي، خلاصة وثيقة نادل التي تلقي ضوءاً جديداً - قديماً على القضية، ثم نضعها في مواجهة مع "الثقوب" في أرشيف المحكمة وفي "أرشيف الموساد".
في نظرة إلى الوراء، يوفر الأرشيفان - أرشيف نادل المكشوف وأرشيف جهاز الأمن المخفي - نافذة على سياسة عمليات الذاكرة والحفظ في الأرشيف. فالقدرة على استخدام منظور "باحثي المادة في المستقبل"، والمقارنة بين هذين "الأرشيفَين"، تتيحان لنا معرفة أن القاسم المشترك بينهما هو الاستنتاج نفسه بشأن القياس بين الأحداث في العراق والأحداث في مصر. غير أن استخدام القياس كان مقلوباً، عكسياً، في كل من الأرشيفين.
كشف وتغطية في اللغة
في منتصف الستينيات، تعاقدت منشورات "معرخوت"، دار النشر لإصدارات الجيش الإسرائيلي، مع باروخ نادل لتأليف كتاب يوثق "عملية عزرا ونحميا". ففي الوثيقة التي تركها للباحثين المستقبليين ادعى نادل أنه في أثناء تأليف الكتاب تبيّن له أن دولة إسرائيل كانت متورطة بصورة مباشرة في أعمال العنف في بغداد، بل إنها مسؤولة عنها أيضاً. وقد أظهرت النتائج الأولية لتحقيقه الصحافي أنه من أجل إقناع اليهود المترددين، وخصوصاً أولئك المعارضين للهجرة، بمغادرة العراق بصورة فورية، لجأت دولة إسرائيل إلى تنفيذ سلسلة من عمليات العنف التي ارتبط بها اسم مردخاي بن - بورات، عضو الكنيست في ذلك الوقت، الذي أوفده الموساد الإسرائيلي إلى العراق في بداية الخمسينيات للإشراف على تنظيم الهجرة. عرض نادل كشوفاته المثيرة أمام دار النشر "معرخوت" فكان الرد حاداً: طُلب من نادل التوقف عن تأليف الكتاب، وبدلاً منه، توجهت دار النشر "معرخوت" إلى الكاتب يهودا أطلس (Yehuda Atlas) ودعته إلى تأليف الكتاب. وفعلاً، نشر أطلس في سنة 1969 كتابه "حتى حبل المشنقة: قصص التنظيم السري في العراق" (أطلس 1969)، لكن الكتاب لم يتضمن أي ذِكر للشبهات القوية التي كشف عنها تحقيق نادل.
مأخوذاً بصدمة التجربة، قرر نادل نشر أجزاء من استنتاجاته، بعد نحو عقد من الزمن، وكانت البداية مقابلة معه نُشرت في نيسان / أبريل 1977 في مجلة "بِمَعْرَاخاه (لسان حال الجمهور السفارادي والطوائف الشرقية) اتهم فيها نادل بن - بورات بالمبادرة إلى أعمال العنف المرتبطة بالهجرة، بل ادعى أن بن - بورات نفسه هو الذي ألقى القنبلة في باحة كنيس مسعودة شمطوف ("باروخ نادل: أنا أتهم"، في "بِمَعْرَاخاه" 1977).[5]
رداً على ذلك، رفع بن - بورات في آب / أغسطس 1977 دعوى تشهير ضد نادل ("بن – بورات يقدم دعوى تشهير..."، "دفار" 1977؛ "عضو كنيست سابق يقدم دعوى..."، "يديعوت أحرونوت" 1977)،[6] لكن هذا الأخير بعد نحو عام على ذلك، قدم لائحة الدفاع رداً على الدعوى ("الصحافي نادل يقدم لائحة دفاع..."، "دفار" 1977)، فقامت المحكمة في تشرين الثاني / نوفمبر 1977 بإلزام بن - بورات بالرد على التساؤلات الـ 365 التي وجهها إليه نادل (أديرَم 1977). وفي إطار استعداداته للمحكمة، أجرى نادل مقابلات مع نحو 80 شخصاً، بعضهم كان في منطقة الكنيس في وقت الحادثة. وللمقارنة، فإن اللجنة التي شكلها رئيس الموساد إيسر هرئيل في سنة 1960، كانت قد قابَلَت - مثلما ذكرنا - 12 شاهداً فقط.
صدر قرار الحكم بعد أربع سنوات، في تشرين الثاني / نوفمبر 1981، وورد فيه أنه "بنشرِه أن مبعوثي الدولة ألقوا قنابل [...]، فإن السيد نادل تأثر بالمنشورات الخبيثة التي صدرت عن السلطات العراقية ولم يكن يمتلك مجمل الحقائق"، وهو يتراجع "عن جميع الاتهامات التي رمى بها مبعوثي الدولة وناشطيها، ويعتذر عن أي إساءة لحقت بهم جرّاء النشر."[7] ثمة أساس معقول للافتراض - على الرغم من عدم توفر وثائق تثبت ذلك - أن المحكمة فرضت على نادل هذه التسوية في ضوء النتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق التابعة للموساد ("أرشيف الموساد")، والتي لم يكن نادل على علم بها آنذاك. ففي إطار التسوية، قبل نادل بنصّ يقول إن "هجرة يهود العراق ضمن عملية 'عزرا ونحميا' كانت نتيجة تشوّق يهود العراق إلى الأرض المقدسة" (بن - بورات 1996، ص 220). كانت تلك، ربما، المرة الأولى في تاريخ الصهيونية التي تحدد فيها محكمة هوية اليهود القومية.
في شباط / فبراير 1978، بعد بدء المحاكمة بفترة قصيرة، كتب شالوم كوهين (Shalom Cohen)، المساعد الأول لأوري أفنيري (Uri Avnery)، مقالة في أسبوعية Jeune Afrique التي كانت ترافق القضية وتنشر أصداءها خارج إسرائيل. ومن ضمن ما كتبه، الأمور التالية:
هذه المحاكمة كانت كافية لتجاوز حجم القضية الطبيعي والتحول إلى محكمة "الصهيونية المتوحشة". فباروخ نادل يتهم بن – بورات بالمشاركة في مجموعة الوصوليين النفعيين التي نجحت في فرض نفسها على شعب إسرائيل من خلال تعطشهم إلى النفوذ والسيطرة (Cohen 1978).
يعتمد كوهين على ما كتبه نادل في وصف الهجرة من العراق بأنها "هجرة قسرية" "أُرغِمت في اتجاه إسرائيل بطرق إرهابية كان المسؤولون عنها إسرائيليين" (كانوا موجودين هناك). ومثلما ذكرنا آنفاً، فإننا في هذه المقالة لا نبحث فيما إذا كان التقرير موثوقاً به بشأن الحقائق، بل إن موضوعنا الأساسي هو الحيل البلاغية التي اختار نادل بواسطتها الطعن في صدقية المدّعي والدفاع عن نفسه أمام دعوى التشهير.
وسنرى أدناه، كيف عرض نادل جملة من الأسئلة المتظاهرة بالبراءة مقدّماً بواسطتها روايته عن القضية. فالأسئلة ترتكز على بناء بلاغي من التهكم يحمل فيه كل فعل كلامي معنى مزدوجاً، أحدهما مرئي والآخر مستتر. استهل نادل سلسلة تساؤلاته بالسؤال التالي:
(1) هل صحيح أنه عندما قرر [حزب] مباي (Mapai) في سنة 1956 تعيينك رئيساً للمجلس المحلي في بلدة أور يهودا (Ur Yehuda)، والتي كان جميع سكانها، تقريباً، مهاجرين من العراق، وجّه إليك مهاجرون من مدينتك اتهامات علنية بأنك كنت متورطاً في قضية إلقاء القنابل على تجمعات سكنية يهودية ومواقع أُخرى، في بغداد، خلال سنتَي 1950 و1951؟
علامة الاستفهام هي إشارة تستحضر الجملة التي سبقتها. فالسؤال الذي يراد منه استيضاح مدى صحة المعلومات، يستحضر الجواب في مجرد طرح السؤال - مثلاً، أن تعيين بن - بورات لم يكن بقرار من وزير الداخلية، مثلما هو متبع، وإنما بقرار من مباي الحزب الحاكم. إن السعي وراء أصوات سكان أور يهودا، المهاجرين من العراق، يبتغي تمثيل تجاربهم الشخصية، والجواب متضمَّن في السؤال مسبقاً لأن الإجابة بالنفي أيضاً ستُبقي الاتهامات محلقة في الهواء. وسنرى كيف أن التساؤلات، مرة تلو أُخرى، ترتكز على بلاغة: "هل صحيح أن...."، التي تبلّغ القارىء أن تعبيراً تهكمياً سيعقب في الحال.
في هذا الشأن، سار نادل على أرض صلبة. فقد تم التعبير عن غضب الجالية العراقية في إسرائيل بصورة علنية، شفاهياً ثم كتابياً، من جانب مَن عرّفوا أنفسهم بأنهم متضررون من القضية، مثل نعيم غلعادي (Giladi 1990; 1992) الذي وصف الأحداث في بغداد بـ "فضائح بن - غوريون". وفيما يلي الأسئلة 4، 5، 6، 8:
(4) هل صحيح أنه أُجري في فرع مباي في رمات غان (Ramat Gan) في سنة 1955 تصويت على ترشيحك لرئاسة مجلس أور يهودا؟
(5) هل صحيح أنه طُرح في الوقت ذاته ادعاء بأنك شاركت في إلقاء القنابل في العراق؟
(6) هل صحيح أنه في أعقاب التعيين المذكور، حين كنتَ تخرج إلى شوارع أور يهودا، كانوا يصرخون خلفك في الشوارع، غير مرة: "قاتِل"! بينما المعنى المقصود بوضوح هو أنك كنت ضالعاً في إلقاء القنابل التي قتلت إحداها خمسة يهود، بينهم فَتَيان؟
هل صحيح أنهم كانوا يصرخون خلفك في الشارع "لِصّ"، بينما كان المقصود أنك كنت متورطاً في سرقة أموال وأملاك من المهاجرين من العراق؟
(8) هل صحيح أنك لم تقدم ضد هؤلاء السكان دعاوى تشهير؟
يسرد نادل الرواية التاريخية من خلال سيناريو مؤلف من أسئلة فقط، فالأسئلة مصاغة على نحو يعبّر عن توق ومقت منسوبين إلى اليهود العراقيين أنفسهم؛ فنادل يُبرز مقاصد أعضاء الجالية العراقية من خلال التعبيرات التهكمية. وهذا المقت الظاهر الذي يكنّه نادل لبن - بورات يعبّر عنه من خلال امرأة من المهاجرين من العراق:
(10) هل صحيح أن سيدة من سكان أور يهودا سكبت البول و/ أو البراز على وجهك وهي تتهمك بإلقاء قنبلة في العراق، و/ أو بسرقة أملاك المهاجرين من هناك؟
يعرض نادل الاتفاق الضمني بين المرسِل والمرسَل إليه بشأن هتافات "قاتل" و"لصّ" كأنها مفهومة ضمناً، فهذا الخطاب الذي يصوغه ويبنيه يحمل معاني حَرْفية ومحددة، والمعنى النموذجي لأي استخدام لشكل من التهكم هو التظاهر بالبراءة. فهو يتظاهر بواسطة التهكم، والنتيجة المباشرة للتهكم المتظاهر بالبراءة هو أن السؤال الذي يبدو ظاهرياً أنه يطرح نفسه، كإفادة ليست مبنية على معرفة أي ذرة معلومات محددة وعينية، قد يفسّره المتلقي / المستمع الخارجي للحوار التهكمي، أي المحكمة هنا، بأنه سؤال استنكاري. إنه سؤال كفعل متهكم، سؤال غير حقيقي، سؤال هو عكس السؤال ونقيضه تحديداً، ذلك بأن الإجابة لم تعد متضمَّنة فيه. وعلى هذا النحو، يتحرك الوصمان "قاتل" و"لصّ" في الحيز الملتبس ما بين الاستخدام التهكمي والمجازي، وبين الاستخدام الحَرْفي والمحدَّد.
إن سلسلة الأسئلة المتداخلة تحكي قصة بديلة في إطار كرونولوجي، حتى في حال عدم توفر الإجابات، كما أن القصة تكشف الشظايا والفراغات التي أنكرها بن - بورات، فيُتاح، بهذه الطريقة، تنشيط سلسلة متكررة من المواقف الفردية لذاتٍ ترفض أن تكون خاضعة تماماً كموضوع للاستجواب الذي تجريه لها المحكمة. هكذا يبني نادل نفسه كصوت لصحافي استقصائي مثقف، أي ذاك الذي يقول الحقيقة في وجه القوة. والطريقة التي مارس بها نادل دفاعه ضد دعاوى التشهير هي جزء لا يتجزأ من الإجراءات السياسية التي اتخذها ضد محو وإسكات أحداث بغداد خلال الفترة 1950 - 1951، فقد كان ذلك إسكاتاً مكثفاً وواسعاً شاركت فيه مؤسسات الدولة، والصحافة، والمنظمات المتنوعة الخاصة بجالية اليهود العراقيين في إسرائيل، علاوة طبعاً على بن - بورات ومؤيدي موقفه.
في السؤال رقم 50، يكشف نادل جزءاً إضافياً آخر من القصة:
(50) هل تعلم أن السيد شلومو هليل قال في الكنيست لمجموعة من أعضاء الكنيست، بينهم مهاجرون من العراق، أنه من الممكن بالتأكيد كشف حقيقة مَن الذي ألقى القنابل في بغداد، لكن هذا لن يعود بأي فائدة على دولة إسرائيل؟
كلمة "كشْف" هنا تحمل معنيين اثنين في الجوهر: هل قصد هليل "الكشف" بمعنى إماطة اللثام (to reveal)، أم بمعنى الاستكشاف والاستجلاء (to discover)، أم هل تعمّد جعل المعنيَين ملتبسَين؟ ليس ثمة شك يساور نادل في أن هليل يعرف الحقيقة ولذلك، فهو يقصد الكشف بمعنى إماطة اللثام وليس الكشف بمعنى الاستكشاف. ومن شبه المؤكد أن نادل سمع عن ذلك. وإن لم يكن ذلك قد حدث، فإن هذا يعني أنه يتمتع بحدس سليم: أن شلومو هليل - مثلما أشرنا إلى ذلك سابقاً - كان أحد أعضاء لجنة التحقيق التي أُنشئت في سنة 1960 لتقصي وقائع القضية. ولهذا، من الصعب التصديق أن هليل قصد الكشف بمعنى الاستقصاء، وإنما قصد الكشف بمعنى إماطة اللثام.
يبدو، إذاً، أن نادل ينسب إلى شلومو هليل فعل التورية، وهذه التورية ليست انزلاقاً عرضياً: إنها الطريقة التي يتمثل فيها أي مفترق في السجال المركّب بشأن العنف في بغداد. فجميع ما كُشف عن العمليات في العراق يتسم بالتأتأة والتلعثم، وفي الوقت ذاته إظهار الكشف والإخفاء في اللغة، وهذا هو السبب الذي جعل نادل يحتاج إلى سلسلة طويلة، بل مرهقة أيضاً، من الاستفسارات. لكن، على الرغم من أن التكرار الهَوَسي الذي يلجأ إليه نادل غير قادر على الإثبات بصورة قطعية أن الأحداث العنيفة وقعت فعلاً، فإنه يبدو أنه نجح، مع ذلك، في إحداث أثر قوي جداً من الواقعية والتثبيت الفائض الذي يعود ويؤكد حقيقة ضلوع بن - بورات في أحداث العنف.
في وقت لاحق، في السؤال رقم 18 يسأل:
أ - هل صحيح أنه في يوم 2 / 5 / 1966 أرسل مَن كان يشغل منصب نائبك في مجلس أور يهودا المحلي، السيد كدوري ألويا، رسالة إلى رئيس الحكومة، السيد ليفي أشكول (Levi Eshkol) رحمه الله، وإلى وزير العدل، السيد يعقوب شمشون شبيرا، يقرّ فيها السيد ألويا بأن المحكمة التي حكمت بإعدام يوسف بصري رحمه الله وشالوم صالح رحمه الله، بسبب إلقائهما القنابل، كانت محكمة منصفة؟ (الرسالتان مؤرختان في 2 / 5 / 1966، و8 / 8 / 1966).
ب - هل صحيح أن السيد ألويا ادعى، في الرسالة ذاتها، بأنك كنت تتصرف في العراق بعدم حذر إجرامي؟
ج - هل صحيح أن السيد ألويا ادعى، في الرسالة ذاتها، بأن الاتهامات ضدك بشأن مسؤوليتك عن إلقاء القنابل طُرحت فور انتهاء المحاكمة في العراق، وترددت في أور يهودا في سنة 1955 أيضاً؟
يصوّر نادل بن - بورات على أنه جاء إلى أرض إسرائيل في سنة 1945، وأنه أُرسل إلى بغداد بعد قيام الدولة في مهمة لتعزيز أنشطة التنظيم السري الصهيوني والعمل من أجل نقل يهود العراق إلى إسرائيل، لكنه يصبغ نشاطه "الجليل" بلون مقلق من عدم الشرعية الأخلاقية. فهو ينسب إلى بن - بورات سلسلة من الجرائم، وفي مقدمها إلقاء القنبلة والتسبب بالموت، علاوة على تسليم اثنين من الذين ألقوا القنابل من مجموعة "الصف"، التنظيم السري الصهيوني في بغداد، وإعدامهما. ويدّعي نادل أن بن - بورات اتُّهم أيضاً بسرقة أموال من المهاجرين من العراق إلى إسرائيل؛ ويربط نادل هذه مباشرة بالعلاقات التي كان يقيمها بن - بورات مع العالم السفلي في بغداد، ولا سيما عالم الدعارة الذي اشتغل هو نفسه فيه عندما كان عمره 17 عاماً (السؤال رقم 85 خ، د، ر). وهو يصف بن - بورات بأنه "صنف ظلامي جداً" (السؤال رقم 7)، شخصية عامة ملوثة بأفعال غير معيارية، مقوّضاً بالتالي شرعيته.
ويخصص نادل مكاناً مركزياً لقصة تسليم يهودا تَجَار، مبعوث الاستخبارات الإسرائيلية في بغداد (الأسئلة 291، 295، 302، 303) الذي سُجن عشرة أعوام، وأوقع بجميع أعضاء شبكة التنظيم السري الصهيوني في بغداد (السؤال رقم 4). فبحسب ادعاء نادل، فإن بن - بورات - الذي أوفد من إسرائيل لمساعدة تَجَار - هو الذي قاد هذا الأخير إلى متجر التجزئة "أوروزدي باك" (Eurosdi Pak) على الرغم من علمه بأن المنتوج الذي كان يبحث عنه تَجَار لم يكن متوفراً هناك، كما أنه تحدث معه باللغة العبرية بشكل علني من دون أدنى محاولة للمحافظة على السرية. وكان موجوداً في المتجر لاجىء فلسطيني هو الذي تعرّف إلى تَجَار الذي خدم بعد حرب 1948 ضابطاً في قيادة الحكم العسكري في عكا، فسلّمهما كليهما إلى الشرطة. وذاك اللاجىء الفلسطيني نفسه، مثلما سنرى لاحقاً، كان مُخبراً للاستخبارات العراقية (بيلوفيتش 2010). تَجَار الذي وصل إلى بغداد في آب / أغسطس 1950 بشخصية مستعارة كتاجر سجاد فارسي من دون أن يكون يعرف ولا حتى كلمة فارسية واحدة، سُجن لفترة طويلة، مثلما ذكرنا، بينما أُطلق سراح بن - بورات بعد مضي ساعات قليلة، وقد ادّعى أنه تعرّض للتعذيب خلال التحقيق، وأن أسنانه كُسرت - وهو ادعاء سعى نادل لدحضه: فوفقاً لرواية نادل، أُخلي سبيل بن - بورات في ظروف مثيرة للشبهات، وأنه تقمص دور شخص كُسرت أسنانه مع أنه لم تبدُ عليه أي آثار للعنف (الأسئلة 225، 226، 305، 306).
يورد نادل في رسالته وفي الاستفسارات التي عرضها أمام المحكمة جملة من الشهادات عن أن بن - بورات ألقى القنبلة على كنيس مسعودة شمطوف، وأنه سلّم أعضاء التنظيم السري الصهيوني، "الصف"، (السؤال رقم 9). لكن وفقاً لادعاء نادل، فإن دافيد بن - غوريون نفسه هو الذي خطط لعملية إلقاء القنبلة (السؤال رقم 8)، ثم أعلن دعمه لبن - بورات. وبحسب ما يقول نادل، فحين بات فساد بن – بورات معلوماً في مسألة نقل الأموال والأغراض الثمينة الخاصة بيهود العراق إلى إسرائيل، والتي جعلها بن - بورات أملاكاً خاصة به هو (السؤال رقم 9)، عرض بن – غوريون امتيازات منفعية متعددة على بعض الأشخاص في مقابل التزامهم الصمت (الأسئلة 109، 110، 111، 112). وبذلك، أضفى الشرعية بأثر رجعي على ممارسات بن - بورات. ويمضي نادل فيصف بن - بورات بأنه محتال محترف أخذ لنفسه أموال الدولة التي وضعتها وزارة الخارجية برئاسة موشيه ديان تحت تصرفه من أجل تأسيس تنظيم "ووجاك" لليهود المهاجرين من الدول العربية (WOJAC/World Organization of Jews from Arab Countries) (شنهاف 2003، ص 159 - 164).
ما فعله نادل، والذي بدأ بمقالاته المنشورة في الصحافة وانتهى بجمع المواد الأرشيفية وإرفاقها بنص تفسيري يُعرض كأداة مساعدة لاستمرار الكشف عن السرّ من جانب الباحث المستقبلي، هو فعل مزدوج يكشف السر ويكرر حضوره في الوقت ذاته، إذ يجد نادل صعوبة في الحصول على أدلة قاطعة مبنية على الوثائق بصورة مباشرة، وليس على الشهادات فقط. لقد جرى إسكات النص الذي اقترحه نادل، لكنه، على ما يبدو، وجد طريقه إلى المكتبة في جامعة ييل. والسبب في حضور السرّ بهذه الصورة المكثفة يكمن في منع نادل، في إبان تلك الفترة، بحسب ما يقول، من الاطلاع على وثائق في أرشيف الجيش الإسرائيلي، وفي حقيقة أن التقارير التي ظهرت في الصحف العراقية عن محاكمة أعضاء التنظيم السري في بغداد قد مُزّقت وأُخفيت - صفحات كاملة في بعض الأحيان - من النسخ المتوفرة في المكتبة الوطنية في القدس.
الأرشيف هو موقع مغاير التموضُّع، وقائم على الدوام خارج حيّزه ومكانه، وحتى لو كان الحفظ الأرشيفي منظماً ومرتباً، إلّا إنه فوضوي دائماً: وثيقة تلتقي بوثيقة، أرشيف يلتقي بأرشيف. لم يعد في الإمكان معرفة ما هو الشيء الذي يجب أن يكون في مكانه، لأن ليس ثمة تزامن بين الأرشيفات. لكن في لحظة ما تظهر فرصة للتعبير، مثلما هو الوضع في هذه الحالة، فالأرشيفان كلاهما - أرشيف نادل و"أرشيف الموساد" - التقيا عند استخدامهما التناظر التاريخي ذاته. فالتناظرات التاريخية تُستخدم كنوع من الاختزال السردي من أجل وضع قضية معقدة ضمن نظرة مقارِنة، فالتناظر يقوم على الافتراض أنه إذا كان حدثان اثنان مختلفان زمنياً متشابهين من زاوية واحدة، فإنهما يكونان متشابهين من زوايا أُخرى أيضاً. ومع أن التناظر ربما يشكل منفذاً لنظرة أوسع، إلّا إن استخدامه يكون في أحيان كثيرة لضرورة كتابة قصص أيديولوجية مريحة، ذلك بأن لديه قدرة كامنة على الانفجار، مثلما في التناظر بين الدين والسياسة، أو بين حدث ما وآخر، على سبيل المثال. لكن في التناظر أيضاً قدرة كامنة على كشف البُنية التي تختبىء خلف زمن الظروف ومكانها: بُنية الأحداث (العنف خارج نطاق السيادة)، وبُنية الحديث عن الأحداث. وسنرى الآن كيف يشكل التناظر، أيّاً يكن، أداة يستخدمها الطرفان - أحدهما للكشف والآخر للتغطية.
تناظر للكشف
التناظر الذي يقترحه نادل هو "القضية" التي حدثت في إسرائيل في النصف الثاني من الخمسينيات ومطلع الستينيات في أعقاب "فضيحة لافون". ففي ذلك الوقت، كان على الجمهور أن يقرر بشأن الخلاف على سؤال مَن الذي أصدر، في سنة 1954، الأمر بتشغيل شبكة تجسس إسرائيلية في مصر وبأن توكل إليها مهمة وضع العبوات الناسفة، ثم إلقاء القبض على أعضاء التنظيم السري الصهيوني الذين وضعوا العبوات الناسفة في القاهرة والإسكندرية، وسَجْن بعضهم وإعدام آخرين. في السؤال رقم 14، يعقد نادل مقارنة بين بغداد 1951 والقاهرة 1956، على الرغم من فوارق الزمان والمكان:
أ - هل تعلم أن السيد بنحاس لافون [Pinhas Lavon]، رحمه الله، وزير الدفاع السابق، قال بصورة علنية في أكثر من مرة، إن "فضيحة لافون" هي نهج مقبول، غير إنساني وغبي، وإنه بدأ في العراق؟
ب - هل صحيح أنك لم تقدم دعوى تشهير ضد بنحاس لافون رحمه الله؟
بحسب نادل، قال لافون في لجنة الخارجية والأمن: "طريقة العمل هذه لم تُبتَكر لمصر بصورة خاصة، وإنما جُرّبت قبل ذلك في العراق." ليس ثمة توثيق مكتوب يثبت هذا القول، لكنه يظهر في وثيقة خلّفها نادل. وحقيقة أن لافون عرض التناظر بين الحالتين تدل على أن ثمة إمكاناً معقولاً بأن أعمال العنف كانت ثمرة أفعال يهود محليين في مصر والعراق، من أجل خدمة المصالح الإسرائيلية. ولتعزيز التناظر، يطرح نادل احتمالاً فحواه أنه قريباً من موعد التفجيرات في بغداد، كان موجوداً فيها كل من أبراهام دار (Abraham Dar)، مبعوث "الموساد" إلى مصر الذي بنى الشبكة التي نفذت "فضيحة لافون" (السؤال رقم 26ج)، وموطكي بن تسور (Motke Ben-Tzur) وهو من قادة الشبكة (السؤال رقم 27)، وماكس (مئير) بينت (Max Bennett) عضو الشبكة الذي انتحر في سجنه في مصر بعد أن علم أن الاستخبارات العراقية تطالب بتسليمها إياه (السؤالان 29- 30). ويشير نادل أيضاً إلى أن بن - غوريون هو الذي أصدر الأمر بإغلاق ملف التحقيق العسكري الجنائي ضد بن - بورات بعد هروبه من ميدان القتال في سنة 1948، بل أمر أيضاً بإعادته إلى دورة الضباط (السؤال رقم 7). بذلك، أقام نادل تناظراً بين الإسكات الذي اعتمده بن - غوريون في قضية بن - بورات في إبان حرب 1948، وبين الإسكات الذي اعتمدته دولة إسرائيل في قضية ضلوعه في الأحداث التي وقعت في بغداد خلال سنتَي 1950 و1951. ويلقي نادل المسؤولية على بن - غوريون نفسه، بقوله: "هكذا خلق بن - غوريون لنفسه شخصاً موالياً ينفّذ كل ما يُطلَب منه" (السؤال رقم 7). ولتأكيد التناظر، يذكر نادل ضابط الاستخبارات الإسرائيلي ماكس بينت الذي كان موجوداً في بغداد خلال إلقاء القنابل، لكنه كان هو أيضاً الذي أُلقي القبض عليه في مصر بعد سقوط الشبكة التي شغلتها دولة إسرائيل هناك.
الصبغة السياسية التي اكتسبها فعل التذكير الذي قام به نادل بعد أعوام، حوّلت عمله البحثي إلى عملية تأملية تستحضر التناظر بين "فضيحة لافون" وأحداث بغداد - لكنها تمحوه في الوقت ذاته أيضاً. وحين طلب عضو الكنيست يوحنان بدر (Yohanan Bader) من لافون تفسير ادعائه، ردّ لافون قائلاً:
دكتور بدر يسأل ما إذا كان هنالك فصلٌ مشابه في العراق، ويتعين عليّ القول أنني لا أعرف تفصيلات هذا الفصل، وإنما أعرفه بصورة عامة جداً، لأنني لم أهتمّ بهذا، لكن ثمة أشخاص آخرون يمكن توجيه السؤال إليهم. أعرف بشكل عام جداً أن أموراً نُفّذت في العراق في ذلك الوقت (وأنا لا أتعهد بدقة المعلومات التي لديّ، لأنني حقاً لا أعرف أموراً دقيقة عن هذه القضية) شبيهة بتلك التي نُفّذت في مصر [....] غير أن الوضع آنذاك كان أفضل، فالحكومة الإسرائيلية نفت أي علاقة لها بهذه القضية، أي أنها اعتبرتها فِرْية [....] من المحتمل جداً أن يكون ثمة علاقة في هذا الامر ببعض الأشخاص من ذوي العلاقة بقضية مصر، لكنني لا أستطيع قول أي شيء. وحتى لو كنتُ أعرف، فإن ما أعرفه هو ربما غير دقيق، ولهذا فإنني أتحفظ منذ البداية وأقول إن ثمة تشابهاً غريباً بين طابع العمليات التي نُفذت في القاهرة والإسكندرية بعد ذلك بثلاثة أعوام تقريبا.ً[8]
إن التناظر بين الظاهرتين العنيفتين يبدو متلعثماً لأنه يستند إلى إجراء مزدوج: فهو من جهة، يقيم تشابهاً وتطابقاً بين حقلين دلاليين، ومن جهة أُخرى، يحدد الفارق بينهما. كما أن عملية الكشف والتغطية اللغوية تثير، أيضاً، أصداء "أرشيف الموساد" الذي لم يكن مكشوفاً أمام نادل الذي يشدد على تكرار الأحداث المتشابهة التي أرسلت فيها دولة إسرائيل مبعوثيها إلى دول عدوة في الشرق الأوسط في انتهاك فظ لقواعد السيادة الخاصة بها نفسها وبالقانون الدولي. وحقيقة أنه كان يمكن وقوع حدثين متشابهين، الواحد تلو الآخر، من شأنها تسليط الضوء على الفارق الأساسي والفجوة بينهما، إذ يمكن من انتهاك القواعد في الحدث الأول تعلُّم شيء ما عن الحدث الثاني، غير أنه يمكن في الوقت نفسه حظر هذا الإمكان أيضاً. والنتيجة هي أن كلا الحدثين منفصل أحدهما عن الآخر، وانعدام الانعكاس يقطع التسلسل المحتمل بينهما. إن نظرة نادل التي تأسست على الانعكاس المتأخر، توحّد أحداث سنة 1951 مع أحداث سنة 1954 في حدث إجرامي واحد مشترك، وهو انعكاس من نوع جديد، إذ لم يعد الحديث يجري عن انعكاس بين حدثين يعقب أحدهما الآخر، وإنما عن انعكاس باحث يتأمل في الحدثين معاً بعد عدة أعوام.
يعمل التناظر على المستويين الزماني والمكاني (القاهرة - بغداد): فبلاغة التناظر المكاني هي كناية، أي أنها تستبدل دالّاً معيناً بدالٍّ آخر مجاور له في الحيز، بينما بلاغة التناظر الزماني هي مجازية، أي تقوم على تشابه بين ما حدث في سنة 1951 وما جرى في سنة 1954. والمسافة في الحيز في الشرق الأوسط، كما المسافة في الزمن التاريخي، تخلقان بينهما تشابهاً ينطوي على اختلاف أيضاً، وهذا الاختلاف هو الذي يتيح الإخفاء بواسطة إبراز التشابه. ومن هذا يمكن الاستنتاج أنه على الرغم من أن الحديث هو عن صيغتين بلاغيتين لغويتين مختلفتين، فإن الشبه بينهما يخلق، من وجهة نظر نادل، أثراً مزدوجاً: نوعاً من تماثل يربط بين أحداث سنة 1951 وأحداث سنة 1954، كما أنه من نظرة علوية يتحول تناظر الاختلاف إلى تناظر تشابه أيضاً، بل حتى تطابق ينتج منه أن يظهر هذا التطابق كأنه تظاهُر ووسيلة تضليل يمكن للباحث كشفهما نقدياً إذ يستطيع، على سبيل المثال، الإشارة إلى حقيقة أن التحقيقين كليهما توصلا إلى استنتاجات معاكسة.
على ضوء ذلك، يمكن القول إن نادل وآخرين ممّن جمعوا بين أحداث سنة 1951 وأحداث سنة 1954، قد بيّنوا كيف تم تجنيد كليهما لخدمة حاجات لاهوت السيادة الإسرائيلية. ففي منظور نادل النقدي، استُخدم كلا هذين الحدثين الإجراميين لتعزيز، بل لتعريف، خطاب السيادة الإسرائيلية، كما أن العمل الحثيث الذي قام به نادل لبناء الأرشيف، والاهتمام بالباحث المستقبلي الذي سيعثر على هذا الأرشيف في مكتبة جامعة ييل، يتيحان تحديد مدى التعقيد والحنكة في البُنية السياسية التي أنشأها بواسطتهما.
تناظر التغطية
بين الشهود الإثني عشر الذين استجوبتهم لجنة التحقيق التي شكلها إيسر هرئيل في سنة 1960، كان هنالك ثلاثة من مبعوثي الموساد الإسرائيليين وتسعة من اليهود العراقيين المحليين. وقد أنهت اللجنة عملها بسرعة فائقة: عُيّنت في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1960، وقدمت استنتاجاتها في 9 كانون الأول / ديسمبر 1960، أي بعد مضي ثلاثة أسابيع فقط. أُرسلت الاستنتاجات إلى دافيد بن - غوريون الذي نقل نسخة عنها إلى مردخاي بن - بورات الذي كان هدفه تفنيد وإسكات الشائعات بشأن تورطه في إلقاء القنابل، مرة واحدة وإلى الأبد. وهذه الاستنتاجات التي برّأت بن - بورات، ظاهرياً، نُشرت لأول مرة في سنة 1996، في كتاب سيرة هذا الأخير الذاتية، وجاءت كما يلي: "لم تعثر اللجنة على أي دليل واقعي يثبت إلقاء تنظيم أو شخص يهودي، أياً يكن، القنابل. كما لم تجد اللجنة أي سبب منطقي كان من الممكن أن يدفع جسماً أو شخصاً يهودياً لإلقاء قنابل [....]" (بن - بورات 1996، ص 245).
إن خلاصات لجنة التحقيق التي امتدت على نحو مئة صفحة من "أرشيف الموساد"، ظهرت للمرة الأولى –مثلما ذكرنا - في كتاب سيرة بن - بورات الذاتية (1996، ص 242 - 340)، وقد نشر بن - بورات الخلاصات كي يبيّن أن "لجنة تحقيق موضوعية" أعفته هي أيضاً، من المسؤولية. ومن الصعب معرفة كيف قررت تلك اللجنة هوية الشهود الذين استدعتهم، غير أن هؤلاء، في معظمهم، ادّعوا أن ناشطين يهوداً هم الذين ألقوا القنابل. فعلى سبيل المثال:
- سؤال: هل صدّق السجناء أن شالوم ألقى قنابل؟
- جواب إلياهو جورجي: أعتقد ذلك. ربما يقولون كلا، لكنهم صدّقوا [....] الجميع صدّق أن يهوداً هم الذين فعلوا ذلك. لكن، مَن الذي فعل، غير معروف. وعندما حققوا معنا كان يبدو كأن يوسف خبّازة [Yusuf Khabbaza] هو الذي فعل ذلك.
- سؤال: أنت، بحسب رأيك، مؤمن تقريباً بأن القنابل أُلقيت بأيدي يهود، وأنت هنا عبّرت عن رأي بأنك لا تعلم مَن الذي أعطى الأوامر.
- جواب إلياهو جورجي: نعم (ص 250).
ثمة شهادات أُخرى أكدت هذه الشهادة:
- جورجي شاشا: في اليوم نفسه الذي ألقوا فيه القنبلة على الكنيس كنت أنا في الكنيس [....] ثم رأيتُ يوسف بَصْري المرحوم يدخل [....] لم أرَ بَصْري في الكنيس من قبل، قَط، وحين قال لي إنها المرة الأولى ربطتُ بين ما قال وما حدث [....] (ص 259).
- سالم معلم: عندما أقول قنابل، أقصد أن يهوداً ألقوها (ص 273).
- عزرا شهرباني عن كنيس مسعودة شمطوف: [....] مَن الذي ألقى لا أعرف، لكن لديّ تخمين هو أن الذين ألقوا هم أشخاص كان قصدهم التخويف وليس القتل [...] كانت تلك قنبلة تخويفية وكانت شائعة في تنظيم "الصف". ليس ثمة قنبلة كهذه لدى العراقيين (ص 300).
- سؤال: هل أنت متأكد من أنه في الوقت ذاته الذي ألقوا القنبلة على مسعودة شمطوف رأيتَ بَصْري سوية مع خبّازة؟
- جواب إيتان شيمش: لو كان ثمة اشتباه لقلتُ أنني أشتبه. بالنسبة إلى هذه النقطة قلت وعُدت وقلت أنني متأكد (ص 313).
- يتسحاق دافيد صوفير: لقد أُلقيت، من دون شك، من قِبلنا. من دون شك، أُلقيت من طرف يهود [....] بشكل عام، بَصْري أو أورن [خبّازة] لم يعتادا قط تقريباً الحضور إلى الكنيس [....] (ص 334).
- سؤال: هل تعتقد أن هذه القنبلة أثّرت في سَيْر الهجرة حقاً؟
- جواب إلياهو جورجي: نعم. أنا أقول نعم. رأيتُ التأثير.
- سؤال: [....] لماذا كان يجب أن يلقوا قنابل في الخامس من حزيران / يونيو؟ لم يكن قد بقي يهود هناك، تقريباً.
- جواب إلياهو جورجي: [....] إلقاء القنبلة في الخامس من حزيران / يونيو كان لها حساباتها بعدما ألقوا القبض على يودكا [تَجَار] في 22 أيار / مايو، فقد خشي أولئك الذين كانوا في الخارج من اتهام يودكا بإلقاء القنابل، كما أنهم رغبوا في إثبات أن لا اليهود ولا المبعوث من البلد هم الذين فعلوا ذلك [....] (ص 255).
- سؤال: هل تقصد أن الإلقاء على المقهى والكنيس ساعد على الهجرة؟
- جواب جورجي شاشا: نعم. ما من شك في هذا (ص 255).
إلياهو جورجي الذي كان بصحبة يهودا تَجَار في سجن نقرة السلمان، ثم نُقل لاحقاً إلى سجن بعقوبة في أعقاب "عملية سيناء" (أي العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956 [المترجم])، كان مالك البيت الذي أقام فيه يوسف خبّازة (الذي سُمّي "أورن"). وقد قال في إفادته:
كان أورن [خبّازة] مسبب التفجيرات وهو الذي ألقى القنابل [....] كما أن الجمهور بأكمله يدّعي أن أورن هو الذي نفّذ إلقاء القنابل [....] عندما حققوا معنا يبدو كأن يوسف خبّازة هو الذي فعل ذلك (ص 248). [....] كذلك، روى تَجَار أيضاً أنه سأل شالوم صالح مباشرة وبصراحة: "سألتُ شالوم (بحضور يوسف) هل ألقى اليهود القنابل؟ لم أسمع منه إجابة الـ 'نعم' بصورة صريحة، لكن انطباعي أنها كانت كذلك" (ص 268).
على الرغم من هذه الشهادات، فإن اللجنة لم تُبدِ أي علامات اهتمام وحب استطلاع، كما إنها لم تتوسع في التحقيق ولم تفحص الإمكانات التي طُرحت. بل في بعض الحالات، كان يسبق السؤال الموجَّه إلى الشاهد جملة اشتراطية: "ما هو رأيك أنت؟ لا تتأثر بالجمهور [....]" (ص 252). وأكثر من هذا، وباستثناء المجموعة الأولى من الشهود، والتي أُقرّت مسبقاً، لم يتم استدعاء شهود إضافيين آخرين، بل إن اللجنة في نهاية المطاف، وبعد نقاش متعجل، رفضت جميع هذه الشهادات، ولجأت إلى استخدام القياس على أحداث القاهرة للادعاء أن "القضية" شوشت ذاكرة الشهود:
فوجئت اللجنة بأنها سمعت من أغلبية الشهود لهجة اتهام لا تستند إلى أي أساس من الحقائق، كأن اليهود هم الذين ألقوا القنابل. وبعض الشهود الذين يحملون هذا الرأي اليوم، كان قد ادّعوا قبل أعوام، أن اليهود لم يُلقوا أي قنابل، أمّا رأيهم الجديد فتوصلوا إليه بناء على اعتبارات غير واضحة للجنة. فأحد الشهود، على سبيل المثال، اقتنع بأن اليهود هم الذين ألقوا القنابل عندما سمع في سنة 1954 عن قنابل ألقاها يهود في مصر [....] . وهنا يصعب على اللجنة قبول هذه الصيغة، بل إنها ترجّح الصيغة القائلة إن أيادي يهودية لم تشارك في إلقاء القنابل.
يجب قراءة هذا الادعاء جيداً: أعضاء اللجنة يرفضون ادعاء الشهود ويعزون الخطأ إلى خيالهم المبني على المقارنة المجازية مع "القضية" في مصر. وبينما يدّعي نادل أنه إزاء أحداث دامية وقعت في مصر، فإنه لم يكن مفاجئاً أن يقع مثل هذه الأحداث في بغداد أيضاً، ها هي لجنة التحقيق تقلب المنطق وتقول إنه بما أن أحداثاً دامية وقعت في مصر، فإن هذا الأمر أوجد التباساً لدى الشهود بين الحالتين. فمحضر المداولات - الذي يورده بن - بورات نفسه في كتابه - يعكس كيف رفضت اللجنة الشهادات وشطبت الحقائق بعمل تحريري بسيط وسهل. هكذا، مثلاً، حرصت اللجنة على تأكيد أن العلاقة بين القنابل والتقلبات في وتيرة الهجرة كانت محض مصادفة فقط، فذكرت: "التزامن بالمصادفة بين توقيت إلقاء القنابل الأولى، والتحول في جهوزية اليهود للهجرة."
ويجدر الانتباه إلى حقيقة أن المداولات في اللجنة وُجّهت إلى البحث في مسألة مَن هم الذين ألقوا القنابل فعلياً، ولم يتم البحث في سؤال: "مَن الذي أصدر الأمر؟" فالشهادات تبيّن أنه باستثناء بن - بورات، كان تَجَار أيضاً مطلعاً على أسرار ما يجري. غير أن مشاركة تَجَار في الأحداث هي أمر معقد، ومن الصعب عقد علاقة مباشرة بينها وبين إلقاء القنابل. فقد أوضح تَجَار لاحقاً أن الهدف كان نقل يهود العراق إلى إسرائيل لتعزيز الديموغرافيا اليهودية فيها. وفي المقابلات التي أُجريت معه، تحدث تَجَار عن المهمة وعن الاستعدادات لتنفيذها، وكيف عُيّن ضابطاً كبيراً في قيادة الحكم العسكري في عكا كي يتعلم اللغة العربية. وفي تلك الفترة، كان يعمل هناك شاب فلسطيني من الجليل موزعاً للشاي - هو نفسه اللاجىء الفلسطيني الذي سيصل إلى بغداد في فترة لاحقة، وسيتم تجنيده مخبراً لدى أجهزة الاستخبارات العراقية، وهو الذي سيتعرف إلى يهودا تَجَار الذي كان يزور مع بن بورات متجراً لبضائع متعددة في بغداد في 25 أيار / مايو 1951، وسيسلّمهما إلى الشرطة العراقية (بيلوفيتش 2010).
وفي أثناء سعيه لدحض هذه المعلومات، يكتب بن - بورات:
لست في صدد استخلاص استنتاجات من تغيير دقائق الأمور في التقارير التي قدمها تَجَار [....] لكن يجب أن نذكر أن الاثنين كليهما [يوسف بصري وشالوم صالح] كانا تحت تأثير مخدّر زودهما تَجَار به كي يسهّل عليهما قضاء الساعات الفظيعة التي سبقت تنفيذ الإعدام. كما أنني أشير إلى احتمال أن تَجَار نفسه لم يكن في حالة طبيعية [....] (بن - بورات 1996، ص 212).
وفي مقابلة لاحقة في سنة 2006، يقول تَجَار:
ليس في إمكاني اليوم إثبات ذلك، لكن بشكل غير مباشر أُقِرُّ بالخبر الذي أفاد بأن شخصاً إسرائيلياً كان المسؤول عن التفجيرات الأُخرى. ففي زنزانتي في السجن في بغداد [....] قضيت معهما [مع اليهوديين اللذين كانا على وشك الإعدام: يوسف بَصْري وشالوم صالح] الليلة الأخيرة، وسألت أحدهما، يوسف بَصْري، إن كان هو الذي ألقى القنابل. فأجاب: لم أُلقِ. سألته: ربما رفاق آخرون؟ فلاذ بالصمت. بعد ذلك بعشرة أعوام، حين أُطلِق سراحي من السجن، تحدثت مع زوجة أحد الشخصين اللذين أُعدما، فروت لي أنها سألته [إن كان هو الذي ألقى القنابل]. فأجابها إن كانت قد أُلقيت حين كانا [هو ورفيقه] في السجن، فذلك هو الدليل القاطع على أنهما ليسا اللذين ألقيا القنبلة على كنيس مسعودة شمطوف، لكنها لمّحت إلى أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه، من دون توجيهات من إسرائيل، وأنه فعل ذلك كي ينقذنا (Neslen 2006, pp. 62–63).
وفي مقالة نشرها توم سيغف في صحيفة "هآرتس" في سنة 2006، كتب أن تَجَار أكد هذه الرواية في حديث مع إيهود عين – غيل (Ehud Ein-Gil) من صحيفة "هآرتس"، والذي بحث القضية. وعندما سأله عين - غيل لماذا لم يبح بهذه المعلومات حين مَثُل أمام لجنة التحقيق التي شكلها الموساد في سنة 1960 - وهي معلومات نُشرت آنذاك في كتاب بن - بورات عن سيرته الذاتية من أجل إثبات ادعاءاته هو - رد تَجَار قائلاً: "لكل شيء وقت وموعد تحت الشمس. ففي تلك الفترة، أن تقول شيئاً من هذا القبيل لم يكن ليعجب القبيلة. لكن الظروف تغيرت منذ ذلك الحين، والقصة الآن أصبحت معروفة في البلد بين المهاجرين من العراق على الأقل" (سيغف 2006).
يعزو تَجَار انتقاله نحو "كشف الحقيقة" إلى مرور الزمن، وهي فكرة متضمنة في التسليم بين الأجيال الذي اقترحه نادل. غير أن السؤال عمّا إذا كان ضلوع بن - بورات في التفجيرات قد تم بعلم دولة إسرائيل وبتوجيه منها، بقي من دون إجابة حاسمة بصورة واضحة في نهاية المطاف. ففي طريقة عمل لجنة التحقيق يمكننا أن نجد الآلية التي توقفنا عندها: إسكات / إخفاء هوية صاحب السيادة المسؤول عن التفجيرات، وذلك من خلال استخدام آليتَي الكشف والإخفاء. فخلافاً لنادل الذي عمل بصورة حثيثة للكشف عمّا كان يعتبره الحقيقة المطلقة بشأن المسؤولين عن أعمال العنف في بغداد، عملت لجنة التحقيق بصفتها آلية معقدة، على الإخفاء والكشف اللذين يموّهان الإجراء المباشر والعقلاني الرامي إلى استيضاح الحقيقة. وطبعاً لم يكن نادل يعلم شيئاً عن حقيقة أن القياس بين أحداث سنة 1951 وأحداث سنة 1954 ظهر في استنتاجات لجنة التحقيق التابعة للموساد، نظراً إلى أن المحضر نُشر للمرة الأولى في سنة 1996 في كتاب السيرة الذاتية لبن - بورات. فقد تبيّن، طبقاً لشهادة هذا الأخير أن دافيد بن - غوريون بنفسه وضع المحضر تحت تصرف بن - بورات منذ سنة 1996، ومن المنطقي الافتراض أن هذه الوثيقة هي التي قضت على فرص نادل في دعوى التشهير. إن التلاقي بين الوثيقتين، مثل نصفَي حبة فاكهة كانا مفصولين أحدهما عن الآخر، ثم أعيد إلصاقهما لاحقاً فقط، لم يُتح استخدام القياس في المعركة من أجل الكشف عن الحقيقة.
إن عدم المقدرة على استخدام القياس كأداة لكشف الحقيقة يعيدنا إلى السؤال المعرفي الذي تثيره مسألة الأرشيفات التي استُهِلّت بها هذه المقالة. فالنصوص التي يحتوي عليها الأرشيف لا توفر المعلومات فقـط، بل تحدد أيضاً الشروط التي تتيح للأرشيف مخاطبة مَن يطّلع عليه بعد أعوام. وهذه الشروط الخاصة بقدرة الأرشيف على المخاطبة هي التي تحدد مدى صحة وصدقية الوثائق المشمولة في الأرشيف مثلما هي في اللحظة التاريخية التي يفتح بها الباحث الأرشيف.
غير أن الصراع من أجل الكشف عمّا حدث في بغداد حقاً في سنة 1951 يتغذى من أرشيفين اثنين: أرشيف نادل وأرشيف الموساد. وفي المعركة القضائية التي دارت صد نادل، تنافس أرشيفان غير متساويَين، بصورة واضحة: أرشيف نادل يقوم على عقد من العمل في البحث والتنقيب ويضمّ نحو 200 من الشهادات، بينها نحو 80 شهادة تتعلق بتفجير الكنيس؛ وفي المقابل، أرشيف صاحب السيادة الإسرائيلي الضئيل للغاية، والذي يعتمد على 12 شاهداً فقط، فضلاً عن أن المواد المتوفرة فيه تستند إلى عمل متسرع. كما أن طريقة التحقيق، ومدى شموليته وتوثيق الأسئلة التي طُرحت خلال مداولات اللجنة، لا تشير إلى شبهة من أي نوع تكن. عملياً، الحديث هنا هو عن أرشيفين كان لمَن أقامهما وصممهما مصالح متناقضة جوهرياً بصورة كلية: أرشيف نادل كان مُعدّاً لإثارة حب الاستطلاع والشبهات عبر سلسلة طويلة من محاولات التقصي، ولفتح قضايا تعمّد صاحب السيادة إخفاءها، ثم انتزاع الحقائق التي تم طمسها وتغييبها. وفي مقابل ذلك، كانت المهمة التي أُلقيت على عاتق مصممي أرشيف صاحب السيادة التصرف كهيئة قضائية تعمل من أجل حسم وإغلاق ولجم، إلى حد إلغاء السؤال المحرج عمّا حدث فعلاً في بغداد في سنة 1951.
يجب أن نتذكر أن الأرشيفين كليهما، أرشيف صاحب السيادة وأرشيف نادل أيضاً، لم يكونا منفتحَين أحدهما على الآخر، وإنما تَشَكّل كل واحد منهما على حدة، ولم يجرِ بينهما أي حوار. كما أن المصلحة التي كانت وراء عمل كل واحد منهما لم تأخذ في الحسبان ما كان يحدث لدى الآخر، وبهذا المعنى، فإن كل واحد منهما أعدّ نصوصاً لم تمارس العنف الرمزي تجاه الآخر، وإنما كان العنف الموجود في نشاطهما المستقل والمنفصل، موجهاً نحو الواقع الذي صمّماه بناء على معلومات كانت متوفرة خارجهما. لقد شكّل كل طرف صورة للواقع خاصة به، وسيتضح، بعد حين فقط، أنهما متناقضتان، ولحظة انكشاف الصدام بين الطرفين في الحيّز العام هي اللحظة التي وجّه فيها كل من الأرشيفين عنف التحقيق الذي دار على انفراد ضد الأرشيف الآخر. غير أن الصدام العنيف بين الأرشيفين لم يجرِ بين قوى متعادلة، إذ على الرغم من الضآلة والاستنتاجات التي تفتقر إلى المنطق في أرشيف صاحب السيادة، فإن حقيقة اكتسابه صلاحيته من سيادة الدولة منحته قوة هائلة أهّلته ليكون قائماً بذاته، من دون علاقة بالمحتويات التي كانت متوفرة فيه، ومبنى القوة غير المتوازي هذا هو الذي حسم ورجّح الكفة في الصراع العنيف الذي دار بين الأرشيفين. لقد هُزم نادل في الصراع ليس بسبب محتوى أرشيفه، بل بسبب ضعف موقعه في منظومة سلطة الاستقواء تحت السيادة الإسرائيلية.
في أعقاب هزيمته في الحيز العام الإسرائيلي، نقل نادل المواجهة العنيفة من محور الحيّز إلى محور الزمن، ونقل الأرشيف الغني الذي عمل على إعداده خلال عدة أعوام، من الحاضر الذي هُزم فيه إلى المستقبل. فهو عندما نقل أرشيفه إلى مكتبة ستيرلينغ في جامعة ييل، حوّل هزيمته النهائية في الحاضر إلى فرصة نجاح قد تتحقق في المستقبل. وهذه الهزيمة في الحاضر، في جيله، تضمنت منذ الآن احتمالاً لانتصار مستقبلي قد يتحقق من خلال باحثين من الأجيال اللاحقة. لقد فهم نادل أن المعركة بين القوى غير المتوازنة، والتي دارت في حاضره، هي معركة بين قوتين غير متعادلتين من العنف الرمزي، ولذلك كان نقلُ الصراع إلى المستقبل، ولا سيما نقله من الحيّز الإسرائيلي الذي كان فيه في مرتبة متدنية، إلى الحيز المحايد في جامعة ييل غير الخاضعة للسيادة الإسرائيلية، سبباً في خلق احتمال جديد له للتغلب على خصمه. نجح نادل في التقدير أنه في الزمان والحيز اللذين سيُهيّآن في المستقبل ستتآكل حالة عدم التوازي في المواجهة العنيفة بين القوتين الرمزيتين لكل واحد من الأرشيفين. فالقوى المتعارضة وغير المتوازية ستتحول إلى قوى متساوية، وربما تتغلب القوة الرمزية للأرشيف الذي بناه هو على الأرشيف الذي بناه مبعوثو السيادة الإسرائيلية. إن عملية تسليم أرشيفه إلى مكتبة جامعة ييل فتحت، من ناحيته، إمكان أن تمنح الأجيالُ المقبلة كلا الأرشيفين وزناً متساوياً، بل ربما تحسم حتى السؤال بشأن: "ما الذي حدث في بغداد في الفترة 1950 – 1951" بطريقة معاكسة لتلك التي حُسم فيها تحت السيادة الإسرائيلية. هذا هو الإمكان الذي خلقه باروخ نادل لنا نحن الباحثين الذين سنتدخل، بعد أعوام، في الصراع بين الأرشيفين، ومن هذه الزاوية، نحن نعتبر مقالتنا هذه طلقة البداية في المهمة التي أخذناها على عاتقنا: أن نساهم في حسم صراع عنيف وشرس كان فيه لحظات من الرضى والاكتفاء من إسكات أرشيف الخصم، لكن ليس أقل من ذلك - وربما أكثر - لحظات مؤثرة من ألم الهزيمة.
* النص أساساً بالعبرية، وترجمه إلى العربية أنطوان شلحت.
المراجع
بالعربية
السوداني، صادق حسن (1980). "النشاط الصهيوني في العراق 1914 – 1952". بغداد: دار الرشيد للنشر.
بالأجنبية
Giladi, Naim (1990). Discord in Zion: Conflict Between Ashkenazi and Sephardi Jews in Israel. London: Scorpion Publishing Ltd.
Giladi, Naim (1992). Ben-Gurion’s Scandals: How the Haganah and the Mossad Eliminated Jews. New York: Glilit Publishing House.
Neslen, Arthur (2006). Occupied Minds: A Journey through the Israeli Psyche. London: Pluto Press.
Shenhav, Yehouda (2006). The Arab Jews: A Postcolonial Reading of Nationalism, Religion, and Ethnicity. Stanford: Stanford University Press.
Shiblak, Abbas (2005). Iraqi Jews: A History. London: Saqi Books.
بالعبرية
أديرَم، يحزقيل (8 / 11 / 1977). "365 سؤالاً طرحها الصحافي باروخ نادل على م. بن - بورات". "يديعوت أحرونوت"، ص 4.
أطلس، يهودا (1969). "حتى حبل المشنقة: قصص التنظيم السري في العراق". تل أبيب: معرَخوت.
إيشد، حجاي (1979). "مَن أصدر الأمر: فضيحة لافون واستقالة بن - غوريون". القدس: عيدنيم.
بن - بورات، مردخاي (1996). "إلى بغداد ذهاباً وإياباً: قصة عملية عزرا ونحميا". تل أبيب: هيد أرتسي.
شنهاف، يهودا (2003). "اليهود - العرب: قومية، دين وإثنية". تل أبيب: عام عوفيد.
مئير - غليتسنشطاين، إستر (1993). "الحركة الصهيونية ويهود العراق 1941 - 1950". تل أبيب: عام عوفيد.
غات، موشيه (1989). "جالية يهودية في أزمة: الخروج من العراق 1948 - 1951". القدس: مركز زلمان شزار.
هليل، شلومو (1985). "ريح شرقية: في مهمة سرية إلى دول عربية". تل أبيب: "يديعوت أحرونوت" ووزارة الأمن.
مجلات أجنبية
Cohen, Shalom. (22/2/1978). Donnez-nous les corps de juifs et gardez leurs biens. Jeune Afrique 894.
مجلات وصحف بالعبرية
"باروخ نادل: أنا أتهم" (نيسان/أبريل 1977). "بِمَعْرَاخاه" (لسان حال الجمهور السفارادي والطوائف الشرقية)، العدد 195، ص 6 - 7، 23.
"بن - بورات يقدم دعوى تشهير ضد الصحافي باروخ نادل بمبلغ 500,000 ليرة إسرائيلية" (3 / 8 / 1977). "دفار".
بيلوفيتش، شاحَف (مخرج)، (23 / 2 / 2010). "إعدام مريح". بثّ حي على القناة 1.
سيغف، توم (2006). "قنابل في العراق". "هآرتس"، 4 / 5 / 2006.
"الصحافي نادل يقدم لائحة دفاع ضد دعوى م. بن - بورات" (9 / 9 / 1977). "دفار"، ص 4.
"عضو كنيست سابق يقدم دعوى تعويض بنصف مليون ليرة إسرائيلية ضد الصحافي نادل" (3 / 8 / 1977). "يديعوت أحرونوت".
المصادر:
[1] انظر: أرشيف باروخ نادل في مكتبة Sterling Memorial Library في جامعة ييل.
[2] قُدمت دعوى التشهير ضد نادل إلى المحكمة في آب / أغسطس 1977، وصدر قرار الحكم فيها في تشرين الثاني / نوفمبر 1981.
[3] هذه المعطيات هي استناداً إلى وثيقة نادل، وإلى استكمالات من عدة مصادر: غات 1989؛ مئير - غليتسنشطاين 1993؛ بن - بورات 1996؛ السوداني 1980؛ Shiblak 2005.
[4] الأرشيف الصهيوني، رقم 61 / 2563، من دون تاريخ.
[5] في المقابلة، وصف نادل الصهيونية بأنها "حركة مجموعة من الوصوليين النفعيين"، مضيفاً أن "ما حدث في العراق، حدث في المغرب أيضاً."
[6] أوضح بن - بورات لاحقاً سبب انتظاره وعدم تقديم الدعوى إلّا في آب / أغسطس بالقول: "بما أن توقيت النشر كان قبيل الانتخابات التي كنت أتنافس فيها ضمن قائمة مستقلة، فإنني لم أكن أرغب في إقحام هذا الموضوع في المعركة الانتخابية. وعليه، قدمت الدعوى ضد باروخ نادل في آب / أغسطس 1977" (بن - بورات 1996، ص 219).
[7] وردت صورة عن قرار الحكم في كتاب بن - بورات (1996، ص 220).
[8] إيشد 1979، ص 218- 219. وهذا المصدر لا يشير إلى موعد الإدلاء بهذه الأقوال.