شهدت الضفة الغربية بما فيها القدس خلال الفترة الماضية حالة ثورية لم تشهدها منذ سنين، وهو تطور كبير يطرح أسئلة تتعلق ببروز مجموعات مقاومة جديدة، وتنفيذ عمليات فردية جريئة، وبدور الحاضنة الشعبية ومدى مشاركتها في هذا التحول.
أسعى في هذه المقالة للإجابة عن ثلاثة أسئلة، هي: كيف تم تحليل هذه الحالة؟ وكيف نستطيع فهم هذا الواقع؟ وماذا علينا القيام به لفهمه بشكل أفضل؟ كما أسعى للإجابة عن سؤال يتعلق بالفاعلين وتموقعهم الاجتماعي والحيّزي / المكاني، وطبيعة بيئاتهم الاجتماعية، وكذلك مفارقة تشكُّل نوعين متزامنين من العوالم أو الفضاءات في الضفة الغربية، يحتفظ كل واحد منهما بنمط حياته ووعيه وخطابه وممارساته. فمن جهة، نجد تعاظم التعاطف مع المقاومة المسلحة وغير المسلحة، والمشاركة في الاحتجاجات اليومية من قطاعات شبابية واجتماعية معينة، كما نجد من جهة ثانية شيوع خطاب لا ينتمي إلى عالم المقاومة، وهو خطاب يروّج له عدد متنوع من أصحاب المصالح الرأسمالية والحكومية والدولية والمؤسساتية الفلسطينية (ما يسمى مؤسسات "المجتمع المدني")، ويضع الفرد في المركز، ويشدد على مفاهيم الإنجاز، والريادة، والتطوير الذاتي الفردي، أي "الخلاص" الفردي.
وأهدف من خلال إثارة هذه المسائل إلى تأكيد الحاجة إلى فحص بعض المسلمات الشائعة بصورة نقدية، من خلال التركيز على التناقضات والمفارقات والتوترات التي تصاحب المشهد الاجتماعي والسياسي في فلسطين عامة، والضفة الغربية خاصة.
سأتناول بداية الحالة المتمردة الثورية، وأطرح بعض الخطوط العامة للتحليل السائد، مع قلة المعطيات التي آمل بأن يوليها الباحثون اهتماماً أكبر. وما أقترحه هو وضع نقاط لأجندة بحثية من أجل تطوير معرفتنا عن الحالة الراهنة.
أول ما يتبادر إلى الذهن أسئلة على غرار: هل فعلاً لا توجد سوابق للحالة الراهنة؟ وما هو المشترك أو المختلف عن الحالات التمردية السابقة؟ إذ غالباً ما تجري المقارنة مع الانتفاضة الثانية (والأولى أيضاً أحياناً) في كل من نابلس ومخيم جنين، كحالتين بارزتين، ويتم التوقف عند بسالة المقاومين مثل كتائب شهداء الأقصى ومجموعة "فرسان الليل"، أو دور حوش العطعوط في نابلس القديمة، أو تجربة العصيان المدني في بيت ساحور مثلاً. هناك أيضا مَن يبحث في تاريخ المقاومة، ويقارن هذه الهبّة بثورة 1936 - 1939، وخصوصاً نمط التنظيم ومدى الاحتضان الاجتماعي للمقاومين.
الاعتداءات حافز للمقاومة
يرى الباحث أحمد جميل عزم أن الجديد هو نشوء نوع من التنظيم المحلي الذي يملك حاضنته الشعبية، وهو معنيّ بالدفاع عن المحيط الجغرافي لهذا التنظيم ضد الاجتياحات الإسرائيلية، وضد اعتداءات المستوطنين. وهذا النمط من العمل قريب من نمط العمل النضالي الفلسطيني في ثورة 1936 التي نشأت خلالها تشكيلات محلية، في الريف بالدرجة الأولى، لكنها، بصورة عامة، كانت تشكيلات غير مرتبطة بالأيديولوجيا أو بتنظيمات مركزية عابرة للحدود، بل كانت تنظيمات محلية قائمة على التصدي للمشروع الصهيوني.[1]
وهناك العديد من التحليلات المشابهة التي لا تأخذ في الحسبان دائماً التحولات العميقة التي حدثت في فلسطين خلال العقدين الماضيين، وبينها التحولات السريعة الجارية في دينامية المستعمَر/ المستعمِر على أرض الواقع: زيادة عدد المستوطنين (يُقدّر بمليون في الضفة الغربية والقدس)؛ تسريع مصادرة الأراضي لمصلحة المستعمرات في عدة مناطق؛ ابتداع أشكال استيطانية جديدة مثل تلك التي يُطلق عليها اسم المستعمرات الرعوية؛ زيادة اعتداءات المستوطنين على الحقول الزراعية وقلع أشجار الزيتون، والاعتداء على الماشية، وبيوت وسيارات وأملاك سكان القرى في الجوار بشكل مستمر ومتزايد. هذا كله يعني زيادة الاحتكاك بين الفلسطينيين (وخصوصاً سكان القرى)، وبين الجيش والمستوطنين، في وضع انكشاف شبه تام للعديد من القرى، وإحاطتها بالمستعمرات والحواجز والبوابات المعدنية وأبراج المراقبة التي أقيمت بالقرب من التجمعات السكانية، أو على حدودها تماماً. مثلاً: قرى بيت أُمّر في منطقة الخليل، وبيت ريما وبُرْقَة وسِلواد في منطقة رام الله، وجَبَع وبُرْقين في منطقة جنين، ودير شَرَف وبيت فُوريك وبَيْتا في منطقة نابلس، وأخيراً حُوّارة جنوبي نابلس حيث وقع حادث إعدام الشاب عمار مفلح من قرية أُوصَرين في بداية كانون الأول / ديسمبر 2022، واعتداءات ميليشيات المستوطنين على أملاك البلدة وبيوتها في نهاية شباط / فبراير 2023، فضلاً عن إغلاق الطرق ومحاصرة القرى.[2]
بعبارة أُخرى، نحن بحاجة إلى مزيد من التركيز على الجانب الديموغرافي والجيوسياسي للمشهد، وخصوصاً في مناطق الاحتكاك قرب المستعمرات. وهنا، يجب التمييز بين القرى المعزولة نسبياً، وتلك التي تقع بالقرب من الطرق الإسرائيلية الحديثة أو المدن الرئيسية أو الجدار الفاصل أو نقاط الاحتكاك الأُخرى مع الجيش أو المستوطنين. ومن اللافت ظاهرة جديدة نسبياً هي إقامة مناطق صناعية وتجارية على مداخل أو أطراف بعض المدن، مثل دير شَرف وحُوّارة في الشمال، وبيت عَوّا ودير سامِت في الجنوب. فمثلاً، فقدت حُوّارة طابعها الريفي منذ مدة، إذ تنتشر اليوم منشآت تجارية بما فيها فروع لبنوك ومطاعم في الشارع الرئيسي الذي تحيط به مبانٍ ذات طبقات متعددة يسكنها أهالي البلدة. وقد لاحظ الباحث رازي النابلسي مؤخراً خصوصية بلدة حوارة في هذا السياق، وأهمية أخذ موقعها بعين الاعتبار في فهم ما يجري.[3]
المقاومة في الأماكن الفقيرة والمكتظة
ركزت محاولات تحليلية أُخرى، وأكثر سوسيولوجية، على التحديثات أو الإبداعات التنظيمية عبر تشكل مجموعات مقاتلة في فضاءات مكتظة بالسكان مثل البلدة القديمة في نابلس، وبعض المخيمات، وأهمها مخيم جنين ذو التاريخ المقاوم. ويقول الباحث عبد الجواد عمر: "نحت الفلسطينيون في مخيم جنين وفي البلدة القديمة في نابلس وغيرها من التجمعات الصغيرة والفضاءات ذات الكثافة السكانية والمعمارية العالية، استراتيجية ساهمت في حل بعض من المعضلات [....] إذ أنتجوا فضاءات صغيرة للمقاومة تختبىء في غابات الإسمنت، بحيث لا تستطيع قوات الاحتلال أو السلطة الفلسطينية العمل دون مواجهة قوة نارية كثيفة. وقد منحت هذه الاستراتيجية القدرة لهذه المجموعات على العمل بحرّية نسبية في تلك المناطق."[4]
هذا الواقع الموجود في أكبر مخيم للاجئين في الضفة الغربية، يصفه المحلل عبد الرحمن نصار على النحو التالي: "في بَلَاطة كثافة سكانية عالية لأربعين ألف لاجىء يعيشون وسط هندسة مدنية تمثل عامل احتضان أمني جيد يحرم القوات المقتحمة حرية المناورة، لأنه يتكون من بيوت متجاورة وشوارع ضيقة تسمح بإمكانية التنقل من بيت إلى بيت من دون الحاجة إلى الخروج إلى الشوارع الرئيسية. هو أيضاً بيئة جيدة للعمل العسكري ضد الاحتلال، بالنظر إلى خروجه عن تبعية السلطة، فالعلاقة بين الفتحاويين هناك والأجهزة الأمنية علاقة شائكة وصلت إلى ذروتها في شباط / فبراير 2018، قبل أن تنفجر في 2020."[5]
وملاحظتي الأساسية هنا أنه، على الرغم من محاولات الأكاديميين والمحللين المتعددة لتحليل الوضع القائم في الضفة الغربية، فإن هناك غياباً شبه تام لعنصر أعتقد أن له أهمية في فهم ما يجري، وهو الديناميات الطبقية للحراك الجماهيري الحالي. ويتبيّن من رصد الأحداث أن زخم المواجهات والاشتباكات المسلحة وغير المسلحة، والعمليات الفردية الجريئة، وسقوط الشهداء والمصابين، والاعتقالات، وهدم البيوت، والمداهمات، أمور يتمركز كلها في مخيمات اللاجئين وفي المناطق الفقيرة والمهمشة والمكتظة في بعض المدن، وفي بعض القرى المنكشفة والمحاصرة. فمثلاً في نابلس، تركزت المواجهات مع جنود الاحتلال منذ مدة في المنطقة الشرقية حيث يقع حي المساكن الشعبية ومخيما بَلَاطة وعَسْكَر، ومقام يوسف القريب من مخيم بَلَاطة. كذلك في البلدة القديمة في مدينة الخليل، نجد أن الاحتكاك المباشر مع المستوطنين والجيش الإسرائيلي في منطقة H2 المهمشة والمحاصرة، قد ولّد عدة مواجهات منذ زمن طويل، إحداها حين اقتحم المنطقة آلاف المستوطنين وبحماية من الجيش، في تشرين الثاني / نوفمبر 2022.
هذا يعني أن أعمال المقاومة تركزت أساساً في معاقل الطبقة العاملة، وفي مناطق الاحتكاك المباشر مع الجيش والمستوطنين. ويُظهر رصد لسِيَر المقاومين الشباب (والأكبر سناً أيضاً) الذين استشهدوا أو طوردوا أو اعتقلوا في المواجهة الحالية (وربما تاريخياً أيضاً)، أن الأغلبية الساحقة منهم تنتمي إلى عائلات بروليتارية يعمل أفرادها كعمال في إسرائيل، وكعمال مهرة وغير مهرة في الضفة الغربية، أو في الأعمال الحرة البسيطة في بعض المدن وأطراف بعض القرى كعمال في معامل لتصليح وطلاء السيارات، وفي المخابز، والمتاجر، وما شابه. وتوثق سِيَر عدد لا يستهان به من المطاردين أو الشهداء أو المعتقلين انتماءهم إلى الشرطة الفلسطينية، أو إلى أحد الأجهزة الأمنية في مواقع غير رفيعة. والحالات الاستثنائية المغايرة لهذا النمط تدعم القاعدة: هناك فقط حالتان أو ثلاث خلال التمرد الراهن، والتي يمكن اعتبارها من شرائح اجتماعية أعلى، كالشهيد الطبيب في جنين، والشهيد طالب الهندسة، وابن طبيب وطبيبة في القدس، أو الأسير رجل الأعمال المقاتل في قرية تُرْمُسْعَيّا.
ومن اللافت للنظر أنه حتى في أوقات المد الوطني والتعاطف الواسع مع المقاومين وتمجيدهم، تبقى علامات التوتر قائمة بين الفئات الفقيرة ورموز الشرائح المترفة في داخل المدن، وبشكل أوضح، بين سكان المخيمات وأفراد الشرائح العليا والوسطى المدينية في الجوار. ولقد رأينا أكثر من حادث خلال العقدين الماضيين حين قام شبان من مخيمات في جوار رام الله وجنين ونابلس بأعمال تكسير وحرق لمحلات تجارية ومطاعم فاخرة، ومرات عديدة لرموز للسلطة الفلسطينية من شرطة وأجهزة أمن، كأفعال يمكن اعتبارها حالات كلاسيكية من الصراع الطبقي، بحيث يهاجم الفقراء الرموز المفترضة للثراء والسلطة.[6] وفي الآونة الأخيرة، لم تخلُ أجواء مدينة جنين، مثلاً، من توتر بين شبان من أحياء فقيرة مثل حي الهدف أو حي الألمانية من جهة، وبين أصحاب المحلات في المناطق الأوفر حظاً من الناحية المادية، من جهة أُخرى.
ومن المؤشرات الدالة على الموقع الطبقي للناشطين والمقاومين، إقدام السلطات الإسرائيلية على إلغاء مئات، وأحيانا آلاف تصاريح العمل في إسرائيل لعمال القرى والبلدات والمدن التي ينشط فيها المقاومون، والتي تعمقت فيها هذه الممارسة بشكل لافت في الأشهر الماضية. وفي عمليات موجهة أكثر، يتم سحب تصاريح العمل من أفراد عائلات العناصر المسلحة في عدة مناطق أُخرى، مثلما حدث في مدينة نابلس. وقد صرّح "منسق أعمال الحكومة في المناطق"، الميجر جنرال غسان عليان، في تشرين الأول/ أكتوبر 2022 أن "على المسلحين الذين يختبئون في قلب المناطق المأهولة بالسكان المدنيين في نابلس أن يعلموا أن هويتهم معروفة جيداً لأجهزة الأمن، وأن طريق الإرهاب الذي يختارونه سينعكس على أفراد عائلاتهم الذين لن يستطيعوا الاستمرار في كسب لقمة العيش في إسرائيل."[7]
ويتجلى الموقع الاجتماعي للمقاومين في الانتقام الإسرائيلي من أهاليهم الذين يعملون في إسرائيل، علاوة على ملاحقة العمال في أثناء محاولات العبور من ثغرات في الجدار في قرى ومدن ومخيمات قريبة من محاور الاشتباكات، ولا سيما في شمال الضفة الغربية. ومن المعروف أن أعداد العمال الفلسطينيين في إسرائيل هي في ازدياد مستمر منذ عدة أعوام، فبحسب تقرير حديث لمؤسسة "ماس"، وصلت نسبة العاملين في إسرائيل مع نهاية الربع الأول لسنة 2022، إلى 18,4% من مجمل العاملين في فلسطين، وإلى 24,5% من مجمل العاملين في الضفة الغربية.[8] ويرد في تقرير للأمم المتحدة (UNSCO) أنه بحلول الربع الثاني من سنة 2022، عمل أكثر من 200,000 عامل من الضفة الغربية في إسرائيل والمستعمرات، وهذا العدد يمثل زيادة بنسبة 50% عن سنة 2019.[9] وبحسب إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن نسبة المستخدَمين بأجر من الضفة الغربية، والذين يعملون في إسرائيل والمستعمرات، بلغت نحو 25% من مجمل المستخدمين بأجر، أي القوة العاملة ككل.[10] ووفقاً لمعطيات الإحصاء الفلسطيني، فإن 54% من مجموع المستخدَمين بأجر في فلسطين يعملون في القطاع الخاص بواقع 285,000 مستخدم بأجر من الضفة الغربية، و118,000 مستخدم بأجر من قطاع غزة، في مقابل نحو 28% يعملون في القطاع الحكومي، ونحو 18% يعملون في إسرائيل والمستعمرات.[11]
ومن انعكاسات هذا الازدياد في عدد العاملين في إسرائيل، انتقال جزء كبير من العمال غير المهرة إلى العمل في إسرائيل بدافع الفرق في الأجور، وبالتالي التسبب بنقصانها في السوق المحلية، وبارتفاع الأجور في قطاعات معينة.[12]
عاملان مختلفان
شهدت الأعوام الأخيرة شيوع خطاب نيوليبرالي، موجّه إلى الشباب بصورة خاصة، وهو خطاب لا علاقة له بحياة الشرائح الكادحة التي ترزح تحت وطأة القهر الطبقي وقهر الاحتلال. والسياق الأوسع للموضوع هو الاقتصاد السياسي في فلسطين، والذي تمت دراسته في الأعوام الأخيرة ضمن برادايم النيوليبرالية، فهناك عدد كبير من التقارير والكتب والمقالات عن التمظهرات المتنوعة للنظام النيوليبرالي في فلسطين. وقد ركزت أغلبية الكتابات على بُنية هذا النظام وتجلياته على صعيد الاقتصاد والحكم وعلاقات العمل والملكية والاستهلاك، ومعظمها من منظور نقدي، بما فيها، مثلاً، موضوع حوكمة الجامعات في عهد النيوليبرالية، وأمور عديدة أُخرى.
لكن تندر الكتابات التي تهتم بالتجسيدات الاجتماعية والثقافية، ولا سيما على مستوى الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية، والخطاب، والذات، والوعي. ومن الأسئلة المهمة التي تحتاج إلى الإجابة: ما هي الفئات الاجتماعية التي تحتضن هذا الوعي؟
أشار رجا الخالدي، في مقالة كتبها قبل أربعة أعوام، إلى أن التقدم المستمر لرأس المال الفلسطيني ذي الوجه الليبرالي، سمح بتشكيل قوى اجتماعية تعتمد مصالحها المادية، باطراد، على كل قسيمة راتب، وكل قرض عقاري، وكل صرعة استهلاكية، أكثر من اهتمامها بالتحرر الوطني الناجع.[13]
فما هي هذه القوى الاجتماعية الجديدة التي حركها وشكّلها رأس المال؟
من الواضح أن خطاب الريادة والإنجاز وتطوير الذات المرتكز على الفرد يتجلى في أفضل صوره في الطبقة الوسطى الحضرية المتعلمة والمتطلعة إلى الحراك الاجتماعي الطبقي الصاعد، وممارسات أفراد هذه الطبقة في مجالات الاستهلاك والتعليم والثقافة والترفيه، معروفة ولا حاجة إلى ذكرها.
وكمثال لتبيان التناقض بين هذين العالمين: عالم الطبقة الوسطى الحضرية وعالم المقاومين، فقد أقيم في بداية كانون الأول / ديسمبر 2022، وخلال أحد أكثر الأسابيع دموية في الضفة الغربية، مهرجان "تيدكس ميدان المنارة" في رام الله وسط دعاية قوية، وبدعم من القطاع الخاص وبمشاركة رئيس الحكومة محمد اشتيه وأفراد آخرين من السلطة الفلسطينية.[14] وللتوضيح، فإن نسخاً من هذا المهرجان عُقدت في كثير من دول العالم بترخيص من مؤسسة تيدكس (Tedix) الأميركية، تحت شعار: "الأفكار البناءة قادرة على إحداث تغيير إيجابي في حياتنا وصولاً إلى عالم أفضل."
وقد أقيم مؤتمر في رام الله تحت شعار "نحن نستحق" (We Deserve)، قدّم فيه المتحدثون سلسلة من الخطابات تخللتها عروض موسيقية وراقصة، بعناوين مثل: "كيفية التعامل مع الصدمات النفسية وتحدي المواقف الصعبة"؛ "كيف تبني إمبراطوريتك!"؛ "التشافي الذاتي ما بين العلم والروحانية"؛ "استعادة هيبة الدماغ"؛ "عليكِ أن تقعي في غرام نفسكِ أولاً."
بالعودة إلى المفارقات، نرى أن اللافت في هذه الشريحة الاجتماعية هو التناقضات التي تعيشها في حياتها اليومية. ففي مقالة كتبتُها قبل عشرة أعوام تقريباً، ركزتُ على مفارقات تعيشها الطبقة الوسطى الحضرية، حاملة المتخيل الاجتماعي الطبقي النيوليبرالي، وهذه المفارقات هي: الازدواجية، وحتى الانفصام في خطاب وممارسة الأفراد والمؤسسات، علاوة على الانفصام في الوعي بين تبنّي الخطاب النيوليبرالي المرتكز على الفرد والريادة من جهة، واللجوء إلى الخطاب الوطني المقاوم في اللحظات التي يفرض فيها الواقع الاستعماري وجوده بقوة، من جهة أُخرى. ولاحظتُ أن ما يميز المرحلة "ما بعد الأوسلوية" هو سيادة متخيل اجتماعي طبقي يقترب من أن يشكل أيديولوجيا الطبقة الوسطى في توجهها القيمي الحديث نسبياً، نحو تطوير الذات وتحقيق الإمكانات، و"التنمية الفردية"، وهي اهتمامات جديدة تركز على الفرد: الفرد الواحد المنزوع عن السياق الوطني المستعمَر.[15]
واليوم، وبعد عقد من الزمن تقريباً، وفي ضوء الانبعاث الوطني المستجد، تتضح الصورة بشكل أفضل، بحيث يمكننا رؤية الأمور بشكل أدق.
ففي ضوء الحالة الراهنة، هناك حاجة إلى فهمٍ أفضل لعدة أمور، منها: هل صحيح أن قيم الفردانية، مثلاً، أصبحت سائدة ومتجذرة أصلاً لدى الطبقة الوسطى؟ لدينا مؤشرات عديدة إلى أن تجذر هذا المتخيل ليس كاملاً، فنحن مثلاً، ما زلنا نشهد فاعلية التضامنات العائلية والمحلية وقوتها في حياة أفراد الطبقة الوسطي المدينية، وبينها اللجوء إلى الطرق العائلية والمحلية لحل النزاعات التي تكون أحياناً عنيفة ومسلحة، ذلك بأن ثمة نظاماً قضائياً غير رسمي وموازياً للنظام الرسمي، تلجأ إليه جميع الشرائح الاجتماعية، فالثقة بالنظام السياسي والمؤسسات القضائية الرسمية معدومة حتى لدى هذه الفئة. طبعاً، هناك حياة جمعية قوية في حارات بعض المدن مثل نابلس والقدس والخليل، وفي المخيمات ذات الكثافة السكانية العالية مثل مخيمات جنين وشعفاط والجلزون والدهيشة، وفي التجمعات السكانية التي تشبه المخيمات مثل كفر عقب وضاحية السلام وعناتا في القدس، غير أن كل فرد من الطبقة الوسطى هو جزء من "مجتمع" عائلي على الأقل، يلجأ إليه في الأزمات الحياتية. ويمكننا أن نضيف أنه حتى في المدينة التي تُعتبر معقل هذه الطبقة الوسطى الجديدة، وأعني رام الله، هناك شبكات عائلية قوية تربط الأفراد ذوي الأصول الريفية الحديثة، بالعائلات الأصلية. باختصار، أعتقد أن التذرير(atomization) المزعوم لم يحدث.
إن مفهوم الحراك الاجتماعي بحد ذاته أصبح بحاجة إلى المراجعة: فماذا يعني الحراك الاجتماعي للشرائح الفقيرة أو حتى الوسطى؟ إن العمل بأجر مضمون، وتزويج الأبناء والبنات، وتأمين مسكن للأبناء، والقدرة على تأمين حاجات العائلة، والتحرر من الديون، هي من الهموم اليومية لهؤلاء، وربما يشكل العمل في إسرائيل، وتأمين الحصول على تصريح عمل داخلها، طريقاً نحو الحراك الاجتماعي، لكنه حراك أكثر تواضعاً.
ومثلما هو واضح من الخطاب في الحيز العام الفلسطيني، فقد تبنّت مصطلح "الريادة" مؤسسات خاصة عديدة تعمل مع الشباب، مثل الجامعات (جامعة بيرزيت لديها وحدة الإبداع والريادة)، ومجالس البلديات، ومؤسسات التخطيط الاستراتيجي وغيرها من المؤسسات. لكن يجب الإشارة إلى أن المفهوم تم توسيعه ليصبح له بُعد وطني ومجتمعي، بحيث أُطلق عليه اسم "ريادة الأعمال الاجتماعية"، مثلما هو الأمر في خطاب مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية ذي التوجه اليساري، والذي يتحدث عن دور ريادة الأعمال الاجتماعية كمفهوم حديث في الحدّ من الفقر، وعن "أن النمـوذج التعاونـي هـو النمـوذج الأقرب إلى تعريـف منظمـات ريــادة الأعمــال الاجتماعية، ويرتبط ذلــك بشــكل أساســي بهــدف [إنشاء] التعاونيــات"، وذلك "لقدرتها علـى المـدى الطويـل علـى إحـداث تغييـرات فـي البُنيـة الاقتصادية داخــل المجتمعــات وإعــادة توزيــع المــوارد فيهــا."[16] أو مثلما ورد لدى شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، في مشروع مشترك مع جهة داعمة غربية، تحت شعار "تعزيز تأثير وأدوار القيادة للشباب الفلسطيني والشابات، لأجل مجتمعات صامدة، خضراء، عادلة."[17] ويمكن اعتبار إعادة صوغ تعريف مفهوم الريادة من طرف بعض المؤسسات ذات التوجه اليساري مؤشراً بحد ذاته إلى عدم قدرة المفهوم على استيعاب القهر الاجتماعي والوطني.
انطلاقاً ممّا سبق، فإن من الضروري إجراء مزيد من الدراسات للواقع المستجد، وتضمين البعد الطبقي في التحليل، والاهتمام بالتناقضات الاجتماعية القائمة، ووضع هذا كله في سياق النظام الاقتصادي - الاجتماعي القائم. وأعتقد أن دراسة السيرورات اليومية الصغرى، كنوع من المايكرو - سوسيولوجيا أو الإثنوغرافيا، بما فيها التمعن فيما يُكتب من مادة غنية جداً في ثنايا صفحات ومنابر التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك وغيرها، ستكون مفيدة.
ما أقترحه إذاً هو نقاط لأجندة بحثية ستغني معرفتنا بالحالة الراهنة، كي نفهم ماذا يحرك المنتفضين (الذين سمّاهم مؤخراً مقدم برنامج في راديو محلي "أولاد الناس المقهورين")[18] والجماهير الداعمة لهم من جهة، وعالم الطبقة الوسطى والسلطة من جهة أُخرى. ويتعين علينا بصورة خاصة أن نجد طرقاً لفهمٍ أفضل لمنابع وأصداء الشعور بالقهر، والظلم، والوجع، والحسرة، والفقدان.
* المقالة في الأصل ورقة قُدمت في ندوة لمؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت بتاريخ 16 كانون الأول / ديسمبر 2022.
المصادر:
[1] أحمد جميل عزم، "عرين الأسود... هل تنطلق الفصائلية الفلسطينية الثالثة؟"، "العربي الجديد" (الدوحة)، 26 تشرين الأول / أكتوبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[2] لمزيد من التفصيلات عن الحواجز، انظر تقرير" مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)"، "أكثر من 700 حاجز يتحكم في تنقّل الفلسطينيين داخل الضفة الغربية"، 8 تشرين الأول / أكتوبر 2018، في الرابط الإلكتروني.
وكمثال لقرية محاصرة، انظر: زهير دولة، " 'المُغَيِّر'.. قرية منسية وسط المستوطنات"، الإمارات اليوم" (دبي)، 22 نيسان / أبريل 2020، في الرابط الإلكتروني.
[3] رازي نابلسي، "هجوم المستوطنين على حُوّارة: أعمق من مجرد 'تقاسم أدوار' "، "حبر"، 1 آذار / مارس 2023، في الرابط الإلكتروني.
[4] عبد الجواد عمر، "من جنين إلى نابلس: انبعاث المقاومة المنظمة"، "حبر"، 25 تشرين الأول / أكتوبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[5] عبد الرحمن نصار، "كتائب المقاومة في الضفة: عندما يستفيق 'الأسد النائم' "، "الميادين"، 15 أيلول / سبتمبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[6] انظر: ليزا تراكي، "رام الله - البيرة: مجتمعات وهويات"، في: رلى أبو دحو وآخرون (تحرير)، "أمكنة صغيرة وقضايا كبيرة : ثلاثة أحياء فلسطينية في زمن الاحتلال" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2010).
وكمثال أيضاً، جرت أحداث مماثلة في جنين في سنة 2013، عقب استشهاد شاب على أيدي قوات الجيش الإسرائيلي. وعن ذلك انظر: "فصائل العمل الوطني تستنكر الاعتداء على الممتلكات العامة في جنين"، "الوسط اليوم"، 18 أيلول / سبتمبر 2013، في الرابط الإلكتروني.
وكذلك جرت أحداث في رام الله قبل ذلك في سنة 2002، تضمنت تكسيراً وحرقاً للمحلات التجارية. انظر: بسام درويش، "أي نعم.. علاقات ولا أصفى"، "الناقد"، 5 شباط / فبراير 2002، في الرابط الإلكتروني.
وأحداث في نابلس في سنة 2012. انظر: "غرفة تجارة وصناعة نابلس تستنكر الاعتداءات على الممتلكات العامة ورجال الشرطة"، موقع "دولة فلسطين – وزارة الداخلية – الشرطة الفلسطينية"، 9 أيلول / سبتمبر 2012، في الرابط الإلكتروني.
وكذلك جرت أحداث أُخرى مماثلة في الأعوام اللاحقة.
[7] محمد محسن وتد (محرر)، "الاحتلال يسحب تصاريح العمل من 164 فلسطينياً من نابلس"، "عرب 48"، 16 تشرين الأول / أكتوبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[8] "مستقبل العمالة الفلسطينية في سوق العمل الإسرائيلي - في لقاء الطاولة المستديرة الرابع لعام 2022"، "معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني / ماس"، 31 تموز / يوليو 2022، في الرابط الإلكتروني.
[9] “UNSCO Report to AHLC: Ensuring the Readiness of the Palestinian Authority for Statehood is an Urgent Priority – Press Release”, United Nations, 16/9/2022.
[10] "د. علا عوض، رئيسة الإحصاء الفلسطيني تستعرض الواقع العمالي في فلسطين لعام 2021 بمناسبة اليوم العالمي للعمال (الأول من أيار): 372 ألف عاطل عن العمل في فلسطين"، "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني"، 28 نيسان / أبريل 2022، في الرابط الإلكتروني.
[11] المصدر نفسه.
[12] "مستقبل العمالة الفلسطينية في سوق العمل الإسرائيلي..."، مصدر سبق ذكره.
[13] Raja Khalidi, “Nation and Class: Generations of Palestinian Liberation”, Rethinking Marxism, vol. 30, issue 3 (2018), pp. 368-392.
[14] انظر: "اشتيه يستعرض بعض السياسات الحكومية لمواجهة البطالة، "سوا الإخبارية"، 3 كانون الأول/ ديسمبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[15] ليزا تراكي، "المتخيل الاجتماعي الجديد في فلسطين بعد أوسلو"، "المجلة العربية لعلم الاجتماع / إضافات"، العددان 26 و27 (ربيع - صيف 2014).
[16] "المرصد يصدر تقريراً حول ريادة الأعمال الاجتماعية في فلسطين"، "مرصد / مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية"، 27 تشرين الأول / أكتوبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[17] "شبكة المنظمات الأهلية تنظم ورشة حول ربط مفاهيم الصمود بمتطلبات العمل الإنساني والتنمية"، "وكالة وطن للأنباء"، 30 تشرين الثاني / نوفمبر 2022، في الرابط الإلكتروني.
[18] برنامج "صوت البلد مع إيهاب الجريري"، من "راديو 24 اف ام"، 18 تشرين الأول / أكتوبر 2022. ويمكن الاستماع إلى هذه الحلقة في صفحة الإذاعة في موقع "فايسبوك"، في الرابط الإلكتروني.