علاقتي بالكتابة بدأت بالتطور منذ فترة الدراسة الجامعية، وما ظل يشدني حتى الآن إلى هذا العالم هو اكتشاف الإيقاع للحالة التخيلية والشعورية. وكانت تجربتي مع الإيقاع في البداية تتلخص في الإيقاعات الصوتية (كتابة النص الموسيقي).
اكتشفت عن طريق المصادفة، في أثناء عملي مع الفنان محمد سباعنة على كتابه "قوة ولادة الحلم"، أن فن (الكوميكس) يستطيع التعبير عن مستويات مختلفة من السرد الروائي. ووجدتُ فيه طريقة مختلفة للتعبير، تجسّد ثقافة العمل المشترك بين الكاتب والرسام، وبعد عدة تجارب، كنتُ متحمساً جداً لتطوير مادة تدريبية أقدّمها بشأن "كيفية كتابة قصة الكوميكس"، بالاشتراك مع الفنان محمد سباعنة، بحيث كانت المادة المقدمة للمشاركين في التدريب في مؤسسة عبد المحسن القطان خلال أربعة أيام، حافزاً كافياً للمشاركين والمشاركات لخوض التجربة.
المجموعة الأولى المشارِكة في معرض (شارع التحرير عمارة "48") واجهت منذ البداية مشكلة تطوير النصوص لغايات رسمها، فقد تم اختيار (النكبة) كموضوع للمعرض، وتحملت مسؤولية تطوير العدد الأول من النصوص والمتابعة مع الرسامين لغايات إنجازها.
أعددت 6 قصص للمعرض، 4 منها من تأليفي، وقصتان عملت على البناء المشهدي لهما. وتنوعت القصص في أسلوب الطرح، وزمان الرواية، وطبيعة الشخصيات، وطول القصة … إلخ.
واحدة من هذه القصص كانت بعنوان "لا تدخل نشرة الأخبار"، بالاشتراك مع الرسامة كرمل خليل، وتناولت العلاقة بين اللاجئ الفلسطيني ونشرة الأخبار التي تطورت بشكل معقد، منذ فقد الفلسطيني وطنه سنة 1948، فلم ينتبه إلى أن الأخبار احتلت مساحات حياته كلها، بالإضافة إلى مساحات أرضه، واستمرت في حصاره حتى احتلت غرفته بالكامل، فلم يجد ملاذاً من الأخبار إلا العودة نحو الرواية الفلسطينية.
تقول الرسامة خليل عن تجربتها منذ مشاركتها في ورشة الكوميكس: كنت أعرف الكوميكس من خلال الأفلام والكرتون وبعض المتابعات الشخصية، لكنني لم أتصور أنه في إمكاني المشاركة في ورشة خاصة. سمعتُ عن الورشة في منتدى الفنون البصرية، حين أرسل لنا أستاذنا الإعلان، فذهبتُ متحمسةً، وأحضرتُ معي دفتراً جديداً، وكان الأمر أجمل مما توقعت.
قالت إنها تعرفت خلال الورشة إلى الجوانب التقنية في البحث، وفي تأليف وتطوير السرد، ثم تصميم الشخصيات وبناء المشاهد بشكل تتابعي، وأضافت: ازدادت حماستي للأمر عندما انتقل العمل إلى مرحلة أُخرى ودخلنا مباشرة في تجربة إنتاج معرض "شارع التحرير عمارة 48".
في البداية، شعرت بقلق إزاء قدرتها على تأليف قصة مختلفة عن النكبة، وقالت إن توفّر النص المكتوب جعلها تركز على دورها كرسامة. لم تتوقع كرمل الاهتمام الذي لاقته قصتها والقصص الأُخرى في أثناء المعرض، الأمر الذي حفّزها للمشاركة في أعمال مستقبلية ورسم قصص جديدة باستخدام فن الكوميكس.
أما دانيا عمري فقد رسمت قصة أُخرى بعنوان "الإرباك الليلي"، عن فتاة خارقة تكتشف قدرتها على التواصل اللغوي مع الحيوانات الفلسطينية المهجّرة من قراها. تبدأ القصة من طفلة صغيرة يأخذها جدها في رحلة إلى أرضه التي هجّره الاحتلال منها، وبُنيت بجانب الأرض مستوطنة إسرائيلية. تلاحظ الطفلة علاقة جدها بغزال يتواجد في تلك الأرض، وبعد سنوات، يمرض جدها ويموت، فتقرر العودة إلى زيارة الأرض، وتكتشف أنها قادرة على التواصل مع الحيوانات، ثم تبدأ بتنظيم العمل الوطني بين الحيوانات في مهمة إزعاج المستوطنين طوال الليل. لقد تم تنفيذ افتتاحية القصة التي أعدت من خلال سلسلة معارك تخطط لها وتقودها الفتاة ضد قوات الاحتلال، بالتعاون مع الحيوانات.
الرسام خالد لدادوة كان قد طوّر شخصية من الورق خلال دراسته في الجامعة، لكن هوية هذه الشخصية لم تكن واضحة قبل أن تعبّر شخصيته عن ورقة الطابو في قصته، الورقة التي تضيع من صاحبها الفلسطيني، وتستمر في سعيها الدؤوب، ثم تدخل في متاهة البحث عنه، حتى تجده، ويعتقد كلاهما أن هذه الوثيقة كفيلة بإرجاع أرضه أمام القضاء الدولي، لكن مصيرها يكون التكدس بين آلاف الأوراق الأُخرى على طاولة العالم.
وضمن رؤية أُخرى، رسمت هبة حمدان قصة بعنوان "النظارة"، تبدأ من مدرسة صهيونية يتعلم فيها الطلاب اليهود، وعند تخرُّجهم، يحصلون على نظارات تستطيع رؤية "مستقبل الأمجاد الإسرائيلية"، دولة التكنولوجيا والزراعة والصناعة والصحة والتعليم. يركب الطالب جرافة تبدأ بجرف البيوت والناس، وحين يسمع أصوات ضحاياه، يشاهدهم من خلال نظارته كمجموعات من "الزومبي" وككائنات غير بشرية. حين يختلط عليه صوت طفل رضيع، ينزل من الجرافة لكي يتأكد، فتنكسر إحدى عدسات نظارته، ويرى الصورتين متجاورتين، الحقيقة والدعاية، لكنه يختار ارتكاب الجريمة بملء إرادته.
وفي قصة أُخرى رسمتها شهد الرزي بعنوان "الصمت"، روت لحظة الصمت التي عاشها الإنسان الفلسطيني منذ النكبة أمام سؤال عن موعد العودة أمام الأجيال التي ورثت الخسارة، الصمت الذي يرافق والداً وولده منذ سنة 1948، حتى يكبر الولد ويموت الأب، فيجد الولد نفسه أباً، ومطالَباً أمام ابنه الصغير بالإجابة عن سؤال مشابه، عن موعد العودة إلى البيت.
أما قصة حمزة أبو عياش، فقد اتبعت المدرسة الأميركية في تكوين شخصية البطلة الخارقة (دال- إل)، التي تظهر في المستقبل بعد مئات الأعوام، حين تتحقق المقولة الشهيرة لدافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي (الكبار يموتون والصغار ينسون). تدور أحداث القصة في زمن مُسحت فيه الذاكرة الفلسطينية تماماً، فيتحول الفلسطينيون إلى الطبقة السابعة ضمن تسلسل طبقات المجتمع الإسرائيلي الذي يعيد تدوير أجسادهم في حال إصابتهم بجروح بليغة خلال عملهم كعبيد في المصانع الإسرائيلية، أما القوة الخارقة لهذه البطلة فستكون في كفاحها لاستعادة الذاكرة الضائعة.