من بيت جبرين إلى بيت عنان: حكاية "الغزالة"
التاريخ: 
08/06/2023

"الغزالة" (الحاجة جميلة جمهور من بيت عنان) لا تهوى الحديث عن ماضيها، حاولتُ مراراً من غير جدوى، وفي النهاية، وجدت سبيلاً لجعلها تتكلم عن هجرتها من بلدتها الأصلية أم برج، مسقط رأسها، وعن حياتها وتنقُّلها من بلدة إلى أُخرى مع والديها، وعن حياتها حتى يومنا هذا، بعد أن وصلت إلى سن الثمانين.

و"غزالة" ليست كنيتها الوحيدة، وإنما تدعى في بلدة بيت عنان "إم محمد الريحاوية"، وهي كنية اكتسبتها لأنها سكنت في مخيم الخديوي في أريحا فترة من الزمن، وليس لكونها ريحاوية. جميلة هي جدتي والدة أبي، وُلدت سنة 1943 في قرية أم برج، وهي من القرى المهجّرة شمال غربي الخليل سنة 1948 في منطقة بيت جبرين. عاشت في أم برج سنوات طفولتها الأولى، وهي الابنة البكر لوالديها، اللذين كانا يعملان في التجارة في البداية، وفي تربية الأبقار في خاتمة عمرهما.

جئت بفيديو يتكلم عن تاريخ قرية أم برج، وبدأت أشاهده بين يديها، ومن هنا انطلقت بالحديث. أخذت تنظر إلى الفيديو بشغف، كأنها تبحث عن شيء ما، وخصوصاً عندما سمعت أسماء عائلات قرية أم برج، مثل الشاذلي والنشاش. ازدادت شوقاً عندما سمعت أسماء الأودية، مثل "وادي البيوضية". أخذها الحنين وهزت رأسها، قائلةً: "آه على تلك الأيام".

من النكبة إلى النكسة

خرجوا من أم برج مسقط رأسها؛ خوفاً من تكرار ما حدث لأهل قرية دير ياسين، قضاء القدس، من القتل والتهجير القسري، وانتهاك الأعراض، وهدم البيوت على ساكنيها. خرجت جدتي ووالدها وأختها جليلة إلى بلدة خاراس، قضاء الخليل. ولم يكن في ذاك الوقت ما يشجع والدها على البقاء في خاراس لقلة ساكنيها، وطبيعتها الجبلية الوعرة. فقرر والد جدتي الذهاب إلى مدينة أريحا للحاق بأهله وجيرانه، وبصورة خاصة عندما سمع أن في إمكانه إيجاد عمل في التجارة التي يهواها هناك، وأن الماء متوفرة، وأنها "مدينة خير وبركة" كما وصفتها جدتي.

لجأ والد جدتي إلى رجل يدعى البيك، وهو من ملّاكي أريحا ووجهائها، طالباً منه قطعة أرض تأويه إلى أن يتمكن من إيجاد بيت له ولعائلته. تقول جدتي "بالفعل نصبنا خيمة في تلك القطعة، واشترى أبي بقرة حمراء، وكنا نطعمها من مخلفات الملفوف المزروع في بيارات البيك آنذاك. ثم جاء خالي وقال لوالدي إن الناس في تل الخديوي (مخيم في أريحا) يتقاسمون أماكن بنوا عليها بيوتاً، فذهب وسيّج مساحة من الأرض، وبنى عليها غرفتين، وصيرة للبقرة، وكانت هذه حال أغلبية اللاجئين في الانتقال من الخيمة إلى غرف الوكالة."

أضافت جدتي بحماسة: "صار والدي يشتري البقرة تلو الأُخرى، فأصبح لديه 4 بقرات، وكنا نذهب معه لجمع الحشائش لها، لقد كانت المصدر الأساسي لدخلنا. وكانت والدتي تحلبها، بينما كنت أبيع الحليب في مدينة أريحا."

ما أكثر القصص التي تذكرها جدتي عن بيع الحليب لدار الحاج جودات، وصبري خلف، وفندق صالح عبدو. ذكرت أن الأخير تزوج 4 نساء، ولكن لم ينجب الولد المنتظر إلا بعد زواجه من الرابعة. حدثتنا عن صنع اللبنة، وعن القشطة التي كانت تعلو الحليب في أثناء غليه. كانت الحياة في أريحا من أجمل لحظات صباها.

تقول "مكثنا في أريحا عشرة أعوام، ثم جاء خالي أحمد (أبو الشوارب)، وتحدث مع أبي عن رغبته في الخروج إلى سلوان لطراوة هوائها، هرباً من الحر الريحاوي، فانتقلنا إلى سلوان، لكننا لم نستطع العيش مع البقرات التي تحتاج إلى علف، فعدنا إلى أريحا الخير والبركة."

وتضيف جدتي: "بقينا فيها إلى أن وقعت حرب 1967، هذه الحرب التي هجّرت أبي مرة ثانية، فقد أجبرته على الخروج من فلسطين للسكن في مادبا في الأردن،" وتتابع: "كاد يُقتل لدى عودته ليأخذ البقرات، فقد غطى نفسه بورق الموز كي لا يراه العسكر، ولولا لطف الله به، لكان من الأموات. لم يضع راية بيضاء على البيت كما فعلت بقية الناس الذين بقوا هناك، بل أصرّ على الهجرة."

زواج "الغزالة"

في أثناء مكوثها في أريحا، تزوجت جدتي من جدي خليل الذي خرج من بلدته بيت عنان، ذاك الرجل الأنيق، أو الـ "مؤنق" كما تصفه جدتي، فقد ذهب إلى أريحا بعد أن زوّجه أبوه الزيجة الأولى من ابنة عمه حليمة وهو في عمر الرابعة عشرة، زواج بدل، لكنه لم يلبث طويلاً حتى دبت الخلافات وترك جدي زوجته الأولى حليمة.

تعرّف جدي إلى جدتي في أريحا وخطبها، وتزوجا، وكانت الحياة صعبة بعض الشيء، وهو ما حمل جدتي على الاستمرار في توفير ما تستطيع من بيعها الحليب مع أبيها، علها تشتري عنزة، أو طعاماً تقتات به، قالت جدتي متنهدةً، والكلمات تخرج من صدرها، كأنها تستشعر مرارة العيش في ذاك الزمان.

أنجبت جدتي ابنتها الكبرى عنايات في أريحا، في سنة 1967، وفي هذه الأثناء، آثر والد جدتي "الهرب"، تاركاً خلفه البقرات، ليعتني بها أبو أحمد الأسطة (زوج عمة جدتي)، الذي ساق له البقرات عبر نهر الأردن - وتسميه جدتي "الشريعة". تحبك جدتي قصتها بكلماتها الفلاحية باللكنة الخليلية: "شرد على مادبا، التي تشبه إلى حد كبير مدينة أريحا في خضرة أرضها وسهولها، مع اختلاف كبير في طقسها البارد شتاءً، والمعتدل صيفاً."

الانتقال إلى بيت عنان: تغريبة الدنمارك

بقيت جدتي مع جدي في أريحا برهةً من الزمن، وبعدها عاد إلى مسقط رأسه بيت عنان، التي يسكن فيها حتى هذه اللحظة مع جدتي "الغزالة". سافر جدي إلى الدنمارك، آمِلاً بحياة أفضل، واعداً جدتي بأن يعمل لها "شكة ذهب"، تاركاً خلفه ابنتين.

بدأ شقاء جدتي في الحياة منذ ذلك الوقت، فأخذت على عاتقها تربية ابنتيها في بيت والدها في بيت عنان. وقررت العودة إلى ما كانت تمارسه من أعمال البيع في سنوات عيشها مع والدها، لكن هذه المرة ليس بيع الحليب، بل بيع ما كان يخرج من أراضي بيت عنان من العنب والخوخ والتين. كانت تكري (تضمن) كروم العنب من أصحابها، وتبيع العنب وتتقاسم ثمنه مناصفةً بينها وبين صاحب الأرض، علها تجد ما يسد رمق ابنتيها ويغنيها عن السؤال.

عاد جدي من الدنمارك في سنة 1970 لحضور جنازة والده، فتلقى تبليغاً من سلطات الاحتلال في تلك الزيارة، تبعه اعتقال لمدة 14 يوماً. تخبرنا جدتي أنهم عذبوه كثيراً، وأن ذلك كان صعباً عليه، وخصوصاً بعد وفاة والده، وهو ما سرّع عودته إلى الدنمارك. وكان من محاسن زيارته أن جدتي أنجبت ولداً أطلقت عليه اسم محمد، وهو والدي.

حياة الاستقلال: تكيُّف وصمود "الغزالة"

استقلت جدتي، وكانت ترى في جمعها المال حلاوةً تعوضها عن فقدها. وتقول "كنت يومياً أعدّ المال الذي أراه يزداد يوماً بعد يوم، واستمتع بذلك." كانت تتحدث عن عملها بمتعة وفرح، رأيت في عينيها القوة والعزة، وهذا يترك في النفس شعوراً بأن التعب قد يكون متعة وأُنساً، بأنها تعيش حياة طيبة ولم تمدّ يدها لأحد، حتى لأقرب الناس إليها "زوجها".

البنات تزوجن، وبقيت جدتي وولدها في بيت "على الشارع" كما تقول، كانت تنظر إلى الحياة بكل بساطة، تنظر إلى ابنها، أملها المتبقي في هذه الحياة البائسة، وبذلت كل ما في وسعها لتوفير كل طلباته ورغباته.

ناضلت جدتي كثيراً حتى أصبحت من أركان حسبة رام الله والبيرة، كانوا ينادونها "غزالة". كانت تبيع النعناع والبقدونس والحشائش كما تقول، ولا تحسب حساباً لمرور الزمان، بل تنشغل في عملها. كانت أول شخص يدخل الحسبة (السوق) وآخر شخص يخرج منها، تلقى احتراماً بالغاً من التجار، ومن المتسوقين. ووضعت كل ما جنته بين يدي والدي (ابنها) الذي حاول استثماره في تجارة العقار، وهو ما زاد ثقة جدتي به، فزوّجته، وكانت له السند، مالياً ومعنوياً، وها نحن الآن ننظر إليها كعمود من أعمدة البيت بمزاجها الجميل.

"الغزالة" في الذاكرة

ومما تجدر الإشارة إليه، أن جدتي في حياتها العملية تركت أثراً في أحفادها، فقد تم افتتاح محلات غزالة للخضار والفواكه في رام الله التحتا، تخليداً لاسم الشهرة "غزالة" لجدتهم التي علمتهم التجارة، بحكم أنهم تربوا أيتاماً بعد وفاة والدهم، وهذا ما زاد في العبء على الجدة التي كان همها أولادها، فانتقل الهم إلى أحفادها من ابنتها البكر. ولم يقتصر الأمر على هذا، فقد تم افتتاح مكتب أُطلق عليه اسم "مكتب غزالة للشحن"، في منطقة شمال غربي القدس، كل ذلك تخليداً لذكر جدتهم.

جدتي الغالية مثال رائع يُحتذى به، وأُنموذج للمعاناة التي تمثل صلف العيش الذي تعيشه العائلة الفلسطينية من لحظة خروجها من بلدها إلى ما بعد استقرارها، سواء في بلدها، أو خارجه، أثبتت قدرتها على العيش والتأقلُم في مجتمعاتها، بل صارت مثالاً لغيرها من أصحاب الهامات العاليات، ونمط حياة يعيشه كثيرون ممن هُجِّروا من ديارهم وأُخرِجوا منها بغير وجه حق.

 

المصادر والمراجع: 

  1. الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، خربة أم برج
  2. رغد سعادة؛ هديل عقيل، "إعادة إعمار قرية بيت جبرين المدمرة"، مشروع تخرُّج (2021).
  3. جميلة جمهور. مقابلة شخصية (15/5/2023).
عن المؤلف: 

عبد الرحمن محمد جمهور: طالب تمريض سنة ثالثة، جامعة بيت لحم.

انظر