وتبقى سلواد بالأغنية والتضحية
التاريخ: 
15/05/2023

 كلمةٌ إنجليزيةٌ واحدة انسابت بتحدٍ وثقة من ثغر ستي، فباتت ذكرى شبابها الأجمل والأثمن...  

مُنهكة التعب وخائرة القوى حملت ستي حفصة سلال الزيتون اليانع المقطوف من بستان والدها، مُتجهةً إلى المعصرة إلى أن اعترض طريقها وعرقل مسيرها ومسير حمارها جنودٌ بريطانيون.

قالت ستي: "أردت أن أعبر الطريق، وفجأة اقترب الجنود، فقلت لهم: توقفوا!" وهي تمد ذراعها، مُستخدمةً إحدى الكلمات الإنجليزية الشحيحة التي تعرفها.

 ضحكت وهي تسترجع شريط الذكريات، ثم عقبت:

"أقسَمَ عليّ (ابن عمي) ألا يغادر البستان معي مرة أخرى. وقال لي 'كفى، أنتِ مجنونة!'"

خُلِّد فعل جدتي المقاوم المحموم البسيط عندما أعاقت مسير الجنود البريطانيين عبر سلواد عام ١٩٤٤، وتردد صدى تصرفها في جميع أنحاء القرية.

وُلدت حفصة عبد الخالق، جدتي لأمي، في سلواد يوم ٢٠ أبريل ١٩٢٩، وهُجِّرت عام ١٩٦٢. بصفتها أكبر أجدادي الثلاثة الأحياء (جميعهم من نفس القرية) فذكرياتها عن سلواد أكثر من سواها.

تسترجع ستي حفصة عنفوان شبابها ووهج صباها، وتتقلب بين صفحات السعادة والتعاسة، مُعلقة "كانت سلواد جميلة!" وتُردف "كنا سعيدين والله."

وُلد محمود عبد الجابر، جدي لأبي، في سلواد في ٩ أيار ١٩٣٦، وأُجبر على النزوح من القرية بعد أيام قلائل من عيد ميلاده الثاني عشر. لقد أصبح جدي متعطشًا لأي صورة تُحفر في ذاكرته، إذ يقول: "لا أتذكرها تمامًا،" ولكنه يحاول أن يبرر الذكريات الغائبة، فيقول: "عشت هناك لفترة وجيزة جدًا، وسرعان ما غادرت مع إخوتي."

وُلدت نظمية الباشا، جدتي لأبي، في حيفا في ١٢ كانون الأول ١٩٤٤، وعادت عائلتها إلى سلواد عام ١٩٤٨ بعد توقع وقوع نكبة في المدينة الساحلية. أماطت جدتي اللثام عن معلومة عالقة في ذاكرتها "كانت قريتنا أكبر قرية في قضاء رام الله!"

Hafsa Abdul Khaliq (left), Nazmia AlBasha and Mahmoud Abdeljaber (right).

 

يعاني أجدادي الثلاثة من فقدان للذاكرة بدرجات متفاوتة، ولكن عند اجترارهم للذكريات المتقطعة، يظل لفلسطين النصيب الأكبر منها، مسلطين الضوء على حقيقة نزوحنا الحالي. يتخيل أجدادي بيوتهم المهجورة من خلال مشاهد متفرقة من حياتهم أثناء عام ١٩٤٨ وبعده، في حين تتجلى ذكريات ستي حفصة من خلال الغناء.

كانت ستي حفصة الابنة البكر لعائلة من المزارعين المعروفين في القرية التي أخذت تستعيد فيها أيام صباها، أحيانًا تقضيها بين أشجار الزيتون وأحايين أخرى في بساتين التين، وذلك حسب تعاقب الفصول. كان أغلب سكان القرية من المزارعين، وكانوا يعتنون بأراضيهم طوال العام، بينما كان الآخرون يغادرون القرية إلى حيفا بحثًا عن عمل.

كانت ستي حفصة "بدّاعة" في شبابها أي شاعرة بالفطرة والسليقة تتخذ الأغاني الشعبية وسيلة لإضفاء البهجة والفرحة وسرد القصص والحكايات، والبدّاعات هن النساء الفلسطينيات اللائي يمارسن منذ أمد طويل تقليد الغناء الشعبي، خاصة في حفلات الزفاف. عادة ما تقود البدّاعة النساء الأخريات في الغناء، وتحافظ على التراث وتحميه، مما يسمح للأجيال المتعاقبة بالتنعم بجمال فلسطين والاستمتاع به من خلال أغانيها التي تُغنى باللهجة المحلية، وغالبًا ما تكون مرتجلة ووليدة اللحظة.

تقول ستي: "كنا (بنات القرية) نغني ونحن متجهاتٌ إلى معصرة الزيتون... وكانت بنات قبيلة حماد وبنات قبيلة حامد يتبارين."

كان حامد وحماد وعياد الزعماء الأوائل للقبائل والمؤسسين لسلواد، ويعود أصل القرية إلى الرجال الثلاثة، إذ يتصل نسب معظم العائلات اليوم بالأخوين حامد وحماد.

تتذكر ستّي أشعة الشمس الذهبية التي كانت تخترق عرائش الكروم وتداعب عناقيد العنب في البساتين التي تُبنى فيها بيوتٌ من الحجارة خلال موسم الحصاد والقطاف، وتهدي أغاني الحب إلى الأرض التي التحفت سماءها وافترشت ترابها:

 شمالي يا هوى الديرة شمالي
 على اللي بوابهم تفتح شمالي
وأنا في وحوش البراري ندى

 

Silwad ruins (palestineremembered.org)

كبرت ستي حفصة خلال الحكم الاستعماري البريطاني، وهي في كثير من الأحيان، لا تستطيع التمييز بين الجيوش التي سارت على أرضها، إذ تتداخل ذكريات النكبة مع اشتباكات المستوطنين وعدوان المحتلين في فترة الستينيات. وبينما تروي الحكايات عن الغارات المتواصلة والإذلال العلني والإرهاب والمقاومة من داخل القرية، تنسب العنف للبريطانيين تارةً وللمحتلين الصهاينة تارةً أخرى.

تقول ستي: "كان لدينا مقاتلو حرية في القرية. كانوا يخرجون ويضربون دبابات جيش الاحتلال، ثم يعود (الجنود) في الصباح ويقتحمون بيوتنا... كانت حياة فظيعة ومُروعة (تلك السنوات)."

كان الجنود يطردون الأهالي من بيوتهم في سلواد، ويجبرونهم على الجلوس في حقول القمح لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة بينما يبحثون عن أسلحة ومقاتلين وأي من علامات المقاومة وآثارها. تغربل ستّي التربة وتنجرف، فينجرف سيل مشاعرها معها، فالبستان ما عاد يُعرَف بالحياة الجميلة التي كان يتميز بها، إذ مزقت براثن الاحتلال رباط الشعب بأرضه شر تمزيق.

عندما تستحضر ستي تلك الذكرى، يضيء خداها المُتغضنان الغائران التي حفرت الحرارة آثارها فيهما عميقًا. تؤكد ستي البالغة من العمر ٩٤ ربيعًا وخريفًا: "كانت المقاومة رائعة"، في إشارة إلى حبها الخالد لجدي الراحل.

وتواصل الغناء "... (وأنا في وحوش البراري ندى) أنزل على قلب الأحباب."

Hafsa Abdul Khaliq (top right) and her siblings.

ينحدر سيدي (جدي) محمود من أصول قديمة في سلواد في بيت تعاقبت عليه الأجيال لمدة تربو عن ٢٠٠ عام، ولكن ذكرياته عن القرية مشوشة، إذ إنه بعد أيام معدودات من يوم ميلاده الثاني عشر، طالت النكبة المدن الساحلية، ما أدى إلى تعليق المدارس في جميع أنحاء فلسطين وتعليق شباب جدي أيضًا.

لا تزال آثار الدمار وندوبها العميقة التي خلفتها النكبة عالقة في ذهن سيدي محمود، وهو ينبش في ذكرياته عن البيت الذي عمل بلا كلل أو ملل كي يبنيه بيده حجرًا حجرًا، ولكن قدمه لم تطأه أبدًا، ولم يعش فيه لحظةً، إذ اضطر للسفر إلى عمان للبحث عن عمل.

قال مُسترجعًا الذكريات: "انتقلتُ إلى عمان مع عبد القادر وعبد الله (إخوتي)، وتحتّم على (والدي) البقاء والحفاظ على أرضنا" ثم استرسل في كلامه: "استأجرنا غرفة واحدة... وكنت أعمل مقابل دينارين شهريًا."

يتذكر جدي وظيفته الأولى؛ كان محبوسًا في غرفة مظلمة كقطعة من الليل، خانقة لا تجد طريقها الشمس، يعبئ بضائع الجملة وحيدًا. بعد قضاء ثلاث سنوات في عمان، سافر إلى الكويت ليلحق بأخيه عبد القادر، إذ كانت فرص العمل أفضل في الخليج، ويُعد سفره هذا بداية دورة الهجرة التي عانى منها جدي لبقية سنوات مراهقته.

"سأرسل لهم المال بالبريد،" كانت هذه إحدى الرسائل المحدودة التي أرسلها جدي لعائلته، إذ حالت الفجوة في إلمام والديه بالقراءة والكتابة دون إرسال رسائل أكثر. يُكشف النقاب عن رواقية الرجل البالغ من العمر ٨٦ عامًا عندما يُبين تعايشه مع آلامه وفخره لمحافظته على أرض عائلته، وبنائه بيتًا جديدًا (تُرك غير مأهول) ومساهمته في تعليم إخوته الثلاثة الصغار.

عندما خطف الموت والده إثر نوبة قلبية مفاجئة، عاد سيدي محمود إلى سلواد مُتشحًا بسواد الحزن ومُثقلًا بالهموم، وفي طريق عودته للوطن، التقى بجدتي.  

Mahmoud Abdeljaber's home in Silwad.

تيتة نظمية، أصغر أجدادي الأحياء، لا تتذكر النكبة، ولا تستطيع تذكر طفولتها المبكرة في حيفا، ولذلك تحكي عن سلواد باعتبارها قرية منعزلة. كانت والدتها، التي قطنت في الناصرة، تخشى ظروف القرية بعد عام ١٩٤٨، وصارت ذكريات تيتة نظمية الأولى عن فلسطين مقتصرة على الوقت الذي تقضيه في بساتين التين التي كان يملكها والدها. عندما يندفع سيل ذكريات شبابها، تتلاشى ملامح شخصيتها المتحفظة، ويكسو ملامح وجهها السعادة والحماسة.

"كان أكبر منتج للتين المجفف (القطين) في القرية!"

تحسبًا لوقوع النكبة، أرسل والدها أموالًا من حيفا لعائلتها في سلواد لشراء أرض زراعية، وأخبرها أن التين هو "مصدر رزق الفقراء"، إذ إن فترة حصاده أسرع وموسم قطافه أطول. تحتاج أشجار الزيتون إلى ١٠ سنوات على الأقل لتنمو وتعطي إنتاجًا وفيرًا بينما تطرح أشجار التين ثمارها في غضون عامين، وهذا وقتٌ كافٍ لحماية أسرته من النكبة الوشيك حدوثها على طول الساحل. تتذكر قائلة: "يا إلهي، كانت جميلة جدًا". بعد موسم الحصاد، تعلمت تيتة نظمية التطريز الفلسطيني على يد معلمة خاصة أرسلتها لها والدتها كي تسليها في عزلتها.

كشف زواجها من سيدي محمود في سن الخامسة عشرة الواقع المرير للقرية وهي ترزح تحت وطأة الاحتلال، ما هيأهم تدريجياً للتهجير عام ١٩٦٣. كانت تيتة نظمية ممسكة بقوة بيد ابنها ذي العامين وهي تضع رضيعها في حجرها، ولكنها كانت عالقة بين عائلات أخرى من القرية في مؤخرة شاحنة قديمة. فروا إلى الحدود في جماعات، بحثًا عن ملاذ آمن في عمان مع اندلاع الحرب في الضفة الغربية. سارعت تيتة برفقة عائلات أخرى من القرية للقاء سيدي محمود، الذي ترك عمله في الكويت لاستقبال عائلته على حدود عمان.

"كان (الاحتلال متلهفًا) للتخلص منا. أرادوا إخلاء القرى... عندما احتلوا فلسطين، أرادوا تهجير الفلسطينيين لسلب أراضينا ونهبها. كانوا يتوقون لجعلنا لاجئين حتى أنهم أرسلونا إلى الأردن!"

Nazmia Albasha and Mahmoud Abdeljaber with their four children.

عند وصولها إلى الحدود الوعرة غير المعبدة، تشبثت تيتة نظمية بأبنائها وهي تجتاز لوحًا خشبيًا مُترنحًا كان يُستخدم كجسر مؤقت إلى الأردن. وصلت جدتي إلى جدي، وبدأت رحلة نزوحها ومعاناتها المستمرة.

قبل أن تُقفل بوابة ذكريات أجدادي، أخذت ستي حفصة تنادي على الوطن، وتغني له:

لا يا بلادنا لاقعد عليك حارس واصبر على الجفا تروح الفارس،
‏لا يا بلادنا لاقعد عليك بواب واصبر على الجفا تيروحو الغياب،
‏بلادي ما بحب إلا بلادي



هذا المقال نتاج عن ورشة تدريبية بعنوان "كيف تكتب قصة نكبتك؟" بتنظيم مؤسسة الدراسات الفلسطينية وقيادة لورا البسط 
لإحياء ذكرى ٧٥ عاما على النكبة. كما أنه متاح باللغة الانجليزية على موقعنا الإلكتروني وباللغة الإسبانية على الموقع الإلكتروني لشريكنا في الترجمة، El Intérprete Digital (المترجم الرقمي). أقيمت الورشة التدريبية برعاية مشتركة من منظمة النداء الفلسطيني الموحد ومركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورجتاون.

رسم آية غنمة.
ترجمة سجى العثامنة.

عن المؤلف: 

مرح عبد الجابر كاتبة وباحثة ومبدعة فلسطينية تسعى حاليًا للحصول على درجة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط في جامعة شيكاغو. يركز عملها على بناء الهوية الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة وخارجها، والحفاظ على التاريخ، والحركات الإبداعية الفلسطينية، والفضاء الفلسطيني المتخيل. تهتم مرح بلإنتاج المعرفي الذي يمكن الوصول إليه، وتبحث عن طرق مبتكرة لعولمة التعليم حول فلسطين والتي تعطي الأولوية للسردية الفلسطينية.

 
سماح فضل
أوديت ييدي ديفيد
Illustration by Aya Ghanameh.
عبد الله موسوس
Illustration by Aya Ghanameh.
زين عساف