ابتسامة أمّ ، حزن أمّ
التاريخ: 
12/05/2023
المؤلف: 

التقيت مريم الصالح للمرة الأولى في مخيم البرج الشمالي في جنوب لبنان في 19 أيار/مايو 2011. كان ذلك بعد أربعة أيام على إطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي النار، وقتل ابنها محمد البالغ من العمر 17 عاماً، خلال أحد أكبر الاحتجاجات التي شهدتها قرية مارون الراس الجنوبية قرب الحدود مع فلسطين المحتلة. كنت أرافق صحافياً لإجراء مقابلة معها، كان أيضاً صديقاً. أتذكر اتزانها في هذا اللقاء. ما زالت صورتها عالقة في ذهني: مريم، ترتدي عباءة سوداء وحجاباً أسود، تجلس على كرسي أخضر بذراعين في غرفة معيشتها. علّقت صور ابنها الشهيد وزوجها المتوفى على الجدران. كانت الغرفة تعج بأفراد العائلة والأصدقاء والغرباء. حينها، كان عمرها 43 عاماً، لكنها بدت أصغر سناً، وبالكاد ظهرت عليها التجاعيد. لكن ابتسامتها كانت أكبر سناً، معجبة بالفخر والصفاء. لم تُظهر أياً من الألم الذي يمكن أن يربطه المرء بالأم الحزينة، فقد كانت قوية بشكل غريب، قوة تبدو من العيون الداكنة، وتنتشر على وجهها اللطيف.

 

 

لم تنضم إلى المحادثة إلا بعد أن حمل صديقي كاميرته لعرض صور الشباب الذين خاطروا بالموت وهم يندفعون نحو السياج الشائك الذي يفصلهم عن وطنهم. في تلك اللحظة، قفزت مريم واقفة على قدميها، ونظرت إلى الشاشة الرقمية الصغيرة التي ربما التقطت اللحظات الأخيرة من حياة ابنها. اختفت ابتسامتها عن وجهها موقتاً، وبدا عليه الإحباط، ابنها كان غائباً عن اللقطات. يظن سكان مخيم البرج الشمالي أن محمد كان من أوائل الذين استشهدوا في ذلك اليوم برصاصة أصابت جانب صدره.

يوم الموت: لاجئون يسيرون في اتجاه الحدود الفلسطينية

كانت مريم حاضرة في التظاهرة يوم مقتل ابنها. لقد ذهبت مع ابنها الأصغر، جهاد، كانت مشاركة العديد من الناس أشبه بنزهة أكثر من كونها احتجاجاً سياسياً على الحدود. كان ذلك في 15 أيار/مايو 2011، عندما تجمهر آلاف اللاجئين الفلسطينيين على حدود فلسطين المحتلة، في لبنان والجولان السوري المحتل والضفة الغربية. ما كان من المفترض أن يكون إحياءً لذكرى النكبة، سرعان ما تحول إلى إراقة للدماء بالرصاص الإسرائيلي. قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي ما لا يقل عن 15 شخصاً يومها، أحدهم محمد. جاء هذا اليوم الاستثنائي خلال حراك الربيع العربي في أكثر من بلد من مشرق الوطن العربي إلى مغربه. وفي ذلك اليوم، تم تعليق عمل الحواجز التي عادةً ما تمنع الفلسطينيين من الوصول إلى الحدود مع بلادهم.

انطلق الفلسطينيون في لبنان إلى مارون الراس، نقلتهم إلى هناك مئات الحافلات. كان إقبالاً كبيراً متوقعاً، لكن ليس بالمستوى الذي شهدناه. عدد كبير من اللاجئين تُركوا في المخيمات المختلفة، يتحسرون، لأن عدد الحافلات المتاحة لم يكن كافياً. تم تحويل الطريق المؤدية إلى القرية اللبنانية الحدودية إلى "كاراج" على مسافة كيلومترات، حيث كانت المركبات عالقة وراء بعضها البعض، غير قادرة على التقدم أكثر من ذلك، أكمل الناس طريقهم سيراً على الأقدام، للوصول إلى التل القريب من الحدود، حيث أقيمت منصة للخطابات، أمامها مقاعد بيضاء. تم اصطفاف سلسلة من المتحدثين لأخذ المسرح، لكن كل ذلك كان غير ذي صلة بما يحدث فعلياً على الحدود. ركض عدد من الشبان والشابات في اتجاه الشريط الحدودي، ورشقوا جنود الاحتلال الذين يحتلون أرضهم بالحجارة. ليردّ هؤلاء بالرصاص الحيّ على الحجارة. أصاب الجنود الشبان والشابات، فأدت بعض الإصابات إلى الشلل والعاهات المستديمة، كما قتلوا عشرة متظاهرين في ذلك اليوم على الحدود اللبنانية فقط.

مريم

وُلدت مريم في أواخر الستينيات في مخيم للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان. كان والداها عاملين زراعيين في الأرض المحيطة بالمخيم، كانت تساعدهما بعد المدرسة، وتستمتع بالحقول وتعود إلى المنزل ليلاً للنوم فقط. تذكرت زراعة الكوسا والملفوف والحمص والأعشاب، كالبقدونس والكزبرة والنعناع والمريمية. ومع ذلك، تغيرت حياتها سنة 1982 عندما غزت إسرائيل لبنان، وفرّت مع عائلتها إلى صيدا، واستقرت في مبنى فارغ، مستخدمةً البطانيات كجدران موقتة. تركت المدرسة ولم تعد إليها قط. بعد بضعة أشهر، قرر والداها العودة إلى المخيم، لكن منزلهما كان مدمراً. وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي وصلت إلى بيروت، مخلفةً وراءها دماراً. سعت عائلة مريم للمأوى في مدرسة تابعة للأونروا في المخيم، بينما أعادت بناء منزلها ببطء، بمساعدة وكالة الأمم المتحدة. كان الجنود الإسرائيليون في كل مكان في الجنوب اللبناني، تتذكر مريم كيف تحول فناء المدرسة إلى مهبط للطائرات المروحية، فأصبح الذهاب إلى الحقول المزروعة محفوفاً بالمخاطر.

بعد ذلك بقليل، التقت مريم زوجها. بدأ الأمر كعلاقة مراهقة، لكنه تطور إلى حب طويل الأمد. كان زوجها سمير الصالح يعمل في بساتين البرتقال، ولم يوافق والداها عليه. استغرق الأمر أربع سنوات، وبتدخُّل شخصية رئيسية في المخيم، تمكنا من الخطوبة، وانتظرا ست سنوات أُخرى حتى تزوجا، كان عليهما العمل لتوفير المال لبناء منزل وتأثيثه. وفي ذلك المنزل مع الأثاث نفسه، قابلت مريم لأول مرة.

أنجبا محمد في سنة 1994، ووُلدت شقيقته سماح بعد ذلك بعام، وجهاد الأصغر في سنة 2003. وبعد سنوات قليلة، مرض سمير وخضع لعملية قلب مفتوح. توقف عن العمل في الحقول واشترى بدلاً من ذلك سيارة مستعملة ليعمل عليها سائق تاكسي. وافته المنية سنة 2010 متأثراً بنوبة قلبية. كانت سيارته قد تعطلت قبل أسبوع، ولم تتمكن الأسرة من إصلاحها. شرحت لي مريم أنها شعرت بعد وفاة زوجها بالمسؤولية تجاه الأسرة، بدأت بتنظيف المنازل لكسب الرزق. بينما تُوصم الأعمال المنزلية بالعار في المجتمع العربي، نظرت مريم في وجهي مباشرة عندما أخبرتني بذلك. أراد محمد ترك المدرسة لمساعدة والدته، لكنها رفضت. ولاحقاً، حين أثبت لها أنه يستطيع القراءة والكتابة، ترك الدراسة وأصبح يعمل "دهاناً". في أوقات فراغه، كان يلعب كرة القدم، لكنه لم ينضم إلى أي فريق، خوفاً من أن يبقيه بعيداً عن عمله.

أخبرتني مريم أنه تم تكليفها بدور منسّقة حافلة قبل تظاهرة 15 أيار/مايو. لكن محمد استقل حافلة أُخرى ليكون مع أصدقائه. كان ذلك الصباح الذي غادر فيه مع أصدقائه، آخر مرة رأته فيها والدته في قيد الحياة.

"سبحان الله، ذهب ولم يعد"

لقد استغرق الأمر مني سنوات حتى أنهي كتابة قصة مريم. كنت عاجزة عن ذلك، كيف يمكن فهم الابتسامة التي أعطتني إياها عندما قابلتها لأول مرة بعد مقتل ابنها بأربعة أيام؟ كيف تمكنت من البقاء هادئة؟ عندما قابلت مريم، كنت عزباء وطالبة. اليوم، أنا أمّ لفتاتين صغيرتين.

ألم تكن مريم تتألم؟ من أين حصلت على قوتها؟ لقد وجدت الإجابة في رواية "أعراس آمنة" لإبراهيم نصرالله، حين تشرح إحدى الشخصيات وهي أمّ:

"أتعرفين لماذا تبكي الأمهات خوفاً على أبنائهن طوال الوقت؟ (...) تبكي الواحدة منّا طوال الوقت لأنها تعرف أن هنالك لحظة آتية، ستكون فيها مضطرة لأن تخون أحزانها، حين يكون عليها أن تزغرد. ثم هل تعرفين من هو الذي يجبرنا على أن نزغرد فعلاً؟ لا ليس أهلنا وأقاربنا وجيراننا، لا ليسوا هُم، الذي يجبرنا على أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحسّ لحظة أنه هزمنا، وإن عشنا، سأذكِّرُكِ أننا سنبكي كثيراً بعد أن نتحرّر! سنبكي كل أولئك الذين كنا مضطّرين أن نزغرد في جنازاتهم، سنبكي كما نشاء، ونفرح كما نشاء، وليس حسب المواعيد التي يحدّدها هذا الذي يُطلق النار عليهم وعلينا الآن. فنحن لسنا أبطالاً، لا، لقد فكّرت طويلاً في هذا، وقلت لنفسي نحن لسنا أبطالاً، ولكننا مضطّرين أن نكون كذلك."

 

* ترجمة: أيهم السهلي.

عن المؤلف: 

برلا عيسى: باحثة في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

انظر