قررت حكومة بنيامين نتنياهو تمديد "حالة الطوارئ" في إسرائيل حتى يوم غد الجمعة، بعد أن كان الجيش قد قام يوم الثلاثاء بإخلاء آلاف الإسرائيليين الذين يعيشون على بعد أقل من 10 كيلومترات من قطاع غزة، ولجأ سكان البلدات الواقعة في "غلاف غزة" إلى الملاجئ وأُغلقت المدارس في دائرة نصف قطرها 40 كيلومتراً، وقدم وزير الحرب يوآف غالانت طلباً إلى سكرتير مجلس الوزراء يوسي فوكس للحصول على موافقة الحكومة على إجراءات لتطبيقها على المجتمعات المحلية الواقعة على بعد 80 كيلومتراً من الحدود مع قطاع غزة. وتدل هذه الإجراءات الاحترازية أن حكومة الاحتلال تنوي الاستمرار في عدوانها على قطاع غزة، وخصوصاً بعد أن أفشلت المحاولات المصرية التي بدأت منذ ظهر يوم أمس الأربعاء للتوصل إلى وقف إطلاق النار. وبينما واصل الجيش الإسرائيلي هجماته على مواقع حركة الجهاد الإسلامي، وعلى المباني السكنية في قطاع غزة، الأمر الذي تسبب في استشهاد قائد آخر في حركة الجهاد الإسلامي هو علي غالي ونحو 25 فلسطينياً، من بينهم أفراد عائلات بكاملها، وفي تضرر عشرات المنازل بصورة كاملة أو جزئية، استمرت حركة الجهاد الإسلامي، وفصائل المقاومة المتحالفة معها في إطار "غرفة العمليات المشتركة"، في إطلاق الصواريخ، التي قُدّر عددها حتى وقت كتابة هذا المقال بنحو 500 صاروخ وقذيفة، على بلدات "غلاف غزة"، وعلى مدن سديروت وعسقلان وأشدود في جنوب البلاد، بل وصل بعض هذه القذائف إلى منطقة تل أبيب التي أطلقت فيها صفارات الإنذار، ومُنعت الرحلات الجوية لفترة وجيزة من الهبوط في مطار بن غوريون الدولي أثناء إطلاق الصواريخ على منطقة تل أبيب، وطُلب من الطائرات التي كانت على وشك الهبوط الدوران خارج النطاق لعدة دقائق قبل السماح لها بالهبوط. وقد لجأ الجيش الإسرائيلي في محاولة منه للتصدي إلى هذه الصواريخ والقذائف إلى استخدام نظام الدفاع الصاروخي "مقلاع داود" للمرة الأولى، وهو نظام قادر على اعتراض الصواريخ والقذائف على مسافة 40 إلى 300 كيلومتر، فضلاً عن لجوئه المعتاد إلى نظام "القبة الحديدية"[1].
تسلسل الأحداث منذ صيف 2022
بعد "هبة القدس" في أيار/مايو 2021، ظلت الأوضاع هادئة نسبياً على مستوى المواجهة بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وجيش الاحتلال الإسرائيلي، حتى مطلع شهر آب/أغسطس 2022، عندما قامت سلطات الاحتلال بإلقاء القبض في جنين على بسام السعدي، القيادي البارز في فرع حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية المحتلة، فطالبت الحركة بإطلاق سراحه، هو وخليل عواودة، المعتقل دون توجيه اتهامات له، والذي تدهورت صحته بعد إضراب طويل عن الطعام، فسارع جيش الاحتلال إلى فرض حالة الطوارئ في بلدات "غلاف غزة"، ثم شن، في 5 من ذلك الشهر، سلسلة أولى من عمليات القصف في قطاع غزة، بذريعة "إحباط هجوم ضد المدنيين"، كانت تخطط له حركة الجهاد الإسلامي، ما أسفر عن مقتل أحد قادة الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي وهو تيسير الجعبري، وكذلك فتاة تبلغ من العمر 5 سنوات. وقد ردت حركة الجهاد بإطلاق نحو ألف صاروخ وقذيفة من دون وقوع إصابات في الجانب الإسرائيلي، فتواصل القصف الإسرائيلي على مواقع الحركة وعلى المباني السكنية، ما أدى إلى استشهاد خالد منصور، مسؤول الجهاد الإسلامي في رفح بجنوب قطاع غزة، و45 فلسطينياً، بينهم 15 طفلاً، وأصيب ثلاثمائة وستون بجروح. وانتهت تلك المواجهة، مساء يوم الأحد في 7 آب/ أغسطس، بالتوصل إلى هدنة بوساطة مصرية[2].
في أواخر الأسبوع الأول ومطلع الأسبوع الثاني من شهر نيسان/أبريل 2023، وخلال شهر رمضان، وبعد أن اقتحمت الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى بعنف لإخراج المعتكفين فيه، تم إطلاق صواريخ على إسرائيل من قطاع غزة والجنوب اللبناني وهضبة الجولان السورية، فشنت إسرائيل غارات محدودة على المواقع التي انطلقت منها هذه الصواريخ، وأعربت الدوائر الأمنية فيها عن تخوفها من إمكان قيام تصعيد متزامن في المستقبل، على قاعدة شعار وحدة الساحات" الذي ترفعه القوى المقاومة لإسرائيل واحتلالها. وفي 2 أيار/مايو 2023، أُعلن عن استشهاد الشيخ خضر عدنان، أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية المحتلة، في سجنه الإسرائيلي، وذلك بعد 86 يوماً من إضرابه عن الطعام، فردت الحركة بإطلاق نحو مئة صاروخ وقذيفة على بلدات "غلاف غزة"، من دون أن توقع إصابات بين المدنيين الإسرائيليين، فقام جيش الاحتلال بقصف بعض مواقع الحركة في قطاع غزة، في مواجهة استمرت أقل من 48 ساعة. وفي فجر يوم الثلاثاء في 9 أيار/مايو الجاري، نفذ جيش الاحتلال غارات جوية على القطاع، في إطار عملية عسكرية واسعة أطلق عليها اسم "درع وسهم"، واستهدف خلالها ثلاثة من قادة حركة الجهاد الإسلامي، هم جهاد غنّام وخليل البهتيني وطارق عز الدين، وقد استشهد في تلك الغارات، إلى جانب هؤلاء القادة الثلاثة، 12 مدنياً، بينهم 4 أطفال و4 نساء سقطوا قتلى في منازلهم[3]. فردت حركة الجهاد الإسلامي ومن تحالف معها من فصائل المقاومة في اليوم التالي على هذه الجريمة الإسرائيلية، واندلعت مواجهة ما زالت مستمرة حتى الآن.
وقد أفادت مصادر رفيعة المستوى بأن جيش الاحتلال بدأ استعداداته لهذه العملية منذ الأسبوع الماضي، وذلك بوضع خطة تصفية قيادات حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني. وكادت العملية تنطلق يوم الأحد، لكن تم إرجاؤها ليومين. وأعطت المستشارة القانونية للحكومة الإسرائيلية غالي بهراف - ميارا الضوء الأخضر للمباشرة بتنفيذ العملية من دون الحاجة إلى دعوة المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية - الأمنية ["الكابينيت"] إلى الانعقاد، بغية الحصول على موافقته[4].
أسباب هذا العدوان الإسرائيلي الجديد
اعتبر مئير بن شابات، الرئيس السابق لـ "مجلس الأمن القومي" الإسرائيلي، أن "الغرض من اغتيال قادة الجهاد الإسلامي هو تعزيز الردع الإسرائيلي الذي تآكل في الأحداث الأمنية الأخيرة، والتوضيح لأعدائنا أن إسرائيل موحدة وصارمة في الدفاع عن أمنها، على الرغم من خلافاتها الداخلية"، بينما قدّر المحلل العسكري عاموس هرئيل أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو اتخذ "قرار الاغتيال تحت ضغوط داخلية كبيرة"، وهي ضغوط غير محصورة "في حركة الاحتجاجات والأزمة السياسية الحادة التي حدثت في أعقاب خطته للانقلاب القضائي"، وإنما أيضاً في موقف المعارضة التي انتقدت "الرد المحدود" للجيش على حركة الجهاد الأسبوع الماضي، في حين أن وزراء حزب "قوة يهودية"، بزعامة إيتمار بن غفير، "قاطعوا جلسات الحكومة والتصويت في الكنيست، مطالبين بعملية هجومية"[5]. وكانت صحيفة "هآرتس" واضحة تماماً لدى توقفها عند أسباب هذا العدوان الجديد، إذ أشارت في افتتاحية عددها الصادر في 10 الشهر الجاري، بعنوان: "الاغتيالات في غزة لها علاقة بالسياسة الإسرائيلية"، إلى أن الحكومة الإسرائيلية تعرّضت، عندما ردت رداً محدوداً على قصف فصائل المقاومة في قطاع غزة إثر استشهاد الشيخ خضر عدنان، لانتقادات حادة "لِما وُصف بأنه "ردّ رخو"، وسياسة "احتواء" مشينة، وبأنها ضيّعت الفرصة لتدمير "البنية التحتية للإرهاب""، ذلك إن الوزير إيتمار بن غفير "طالب، ليس فقط بالمشاركة في الاستشارات الأمنية التي لم يُدعَ إليها، بل بالعمل بصورة عنيفة لتدمير مصطلح "احتواء" المهين، وطالب بمهاجمة قادة التنظيمات "الإرهابية"، ولم يكتفِ بن غفير، كما تابعت الافتتاحية، "بالكلام الإنشائي والخطابات، بل قاطع جلسات الكنيست والحكومة، وبهذه الطريقة هدّد الائتلاف، وربما بسقوط الحكومة التي تقترب من موعد التصويت على الميزانية". وقد أوضح تهديد بن غفير لرئيس الحكومة نتنياهو "أن "الجولة" العسكرية تتطلب تصحيحاً؛ وبناءً على ذلك، طُلب من الجيش الإسرائيلي والشاباك تقديم اقتراحات للعمل، اتُّخذ في نهايتها قرار اغتيال ثلاثة قادة كبار في الجهاد الإسلامي"[6].
وبالفعل، أبدى الوزير بن غفير، وحليفه وزير المال والوزير في وزارة الحرب بتسلئيل سموتريتش، ارتياحهما بعد تنفيذ هذه العملية، وكتب بن غفير في تغريدة نشرها في حسابه الخاص على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر": "وأخيراً آن الأوان؛ أهنئ نتنياهو على العمل الاستباقي في غزة، هذه بداية جيدة، آن الأوان لتغيير السياسة تجاه غزة"، وقررت كتلة حزبه "عوتسما يهوديت" البرلمانية العودة إلى المشاركة في التصويت إلى جانب بقية أطراف الائتلاف الحكومي، بينما صرّح الوزير سموتريتش بأن العملية جاءت "في التوقيت المناسب"، شاكراً "الجيش وقوات الأمن على التنفيذ، ورئيس الحكومة وقوات الأمن على المبادرة". كما أعلنت المعارضة الإسرائيلية تأييدها الكامل للعملية العسكرية في غزة، فكتب يائير لبيد على تويتر: "أؤيد القوى الأمنية والعملية ضد الجهاد الإسلامي في غزة،" بينما كتب رئيس المعسكر الرسمي بني غانتس: "أُثني على العملية المهمة هذه الليلة في القطاع، وعلى الحفاظ على السياسة الهجومية، ونقدم دعمنا الكامل للجيش والقوى الأمنية في العملية، ونأمل أن تتصرف الحكومة بالحزم والمسؤولية المطلوبين لاحقاً"[7].
التخوف من مشاركة "حماس" على نطاق واسع في المواجهة
أشارت الصحافة الإسرائيلية إلى التخوفات التي تبديها الدوائر الأمنية في إسرائيل من احتمال مشاركة حركة "حماس" على نطاق واسع في المواجهة الدائرة. ففي آب/أغسطس الفائت، خلال فترة حكومة لبيد - بينت، ركّز جيش الاحتلال، كما يكتب المحلل عاموس هرئيل، "على استهداف "الجهاد"، و"حماس" لم تشارك في إطلاق النار؛ هذه المرة بدأت الحملة بطريقة مشابه، لكن يمكن ألا تسمح "حماس" لنفسها مرة أُخرى بالامتناع من المشاركة"، وخصوصاً أنها سمحت في الأسبوع الماضي لحركة الجهاد "بإطلاق النار، حتى أنهما أصدرا بياناً مشتركاً صدر عن الغرفة المشتركة للفصائل الفلسطينية في غزة"[8]. أما رون بن يشاي، المحلل العسكري الآخر، فقد رأى أن السؤال الكبير هو "ما إذا كانت "حماس" ستنضم إلى تبادُل إطلاق النار، أو تمتنع، كما جرى في الحملات السابقة التي استهدفت تحديداً "الجهاد""، مضيفاً أن"حماس" شجعت الجهاد "على إطلاق القذائف بعد المواجهات في المسجد الأقصى، وبالأساس بعد "وفاة" المضرب عن الطعام في السجن، خضر عدنان، الأسبوع الماضي، حتى أن التنظيمين أصدرا بياناً مشتركاً، على الرغم من أن "حماس" اكتفت بإطلاق نار رمزي لقذائف في الجو، الهدف منها كان إطلاق صافرات الإنذار"، ليخلص إلى أن "حماس" تتصرف "كتنظيم يتحمل مسؤولية السكان في القطاع، وذلك لأنه الحاكم ومَن له السيادة على الأرض، وهذا كان المبرر للامتناع من الانضمام إلى المعركة في المرات السابقة"[9].
وختاماً، سيثبت هذا العدوان الإسرائيلي الجديد على قطاع غزة أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، وكسابقاتها، ليس لديها استراتيجية طويلة المدى بالنسبة لقطاع غزة غير شن الحرب وسفك دماء لا نهاية لها لضحايا مدنيين في معظم الحالات، ذلك إن قتل المقاتلين والقادة الفلسطينيين لا يفتح إلا الباب أمام أجيال جديدة من المناضلين المتمرسين المستعدين لحمل شعلة المقاومة، وهذا ما أشارت إليه افتتاحية صحيفة "هآرتس" المشار إليها، والتي ورد فيها: "لا يزال هناك قادة كبار في الجهاد الإسلامي؛ بعد آب/أغسطس العام الماضي، أعلن رئيس شعبة العمليات عوديد بسيوك أنه جرى القضاء على كل القيادة الأمنية في الجهاد الإسلامي بعد عملية "بزوغ الفجر"؛ يمكن التقدير، من دون تردد، أنه سيجري قريباً تعيين قادة جدد لملء صفوف الجهاد".
[1] https://www.lesechos.fr/monde/afrique-moyen-orient/israel-letat-durgence-prolonge-jusqua-vendredi-1942366;
[2] https://www.lemonde.fr/international/article/2022/08/08/a-gaza-un-cessez-le-feu-entre-le-jihad-islamique-et-israel-et-une-impasse-politique-persistante_6137452_3210.html
[3] https://www.lemonde.fr/international/article/2023/05/09/neufs-morts-dans-des-frappes-israeliennes-sur-la-bande-de-gaza_6172564_3210.html
[4] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/10-5-2023.pdf
[5] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/9-5-2023.pdf;
https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/10-5-2023.pdf
[6] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/10-5-2023.pdf
[7] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/9-5-2023.pdf
[8] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/9-5-2023.pdf
[9] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/10-5-2023.pdf