أحيت دولة إسرائيل قبل أيام، بحسب التقويم اليهودي، ذكرى مرور 75 عاماً على "استقلالها"! (استقلالها عن من؟ عن بريطانيا التي مهدت الطريق، من خلال تصريح بلفور، أمام مشروع الوطن القومي اليهودي، ووفرت له وسائل النجاح، من خلال تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين وتمليكهم أراضي مواطنيها الأصليين!!). ولوحظ أن معظم كتّاب المقالات والتعليقات التي نشرت في هذه المناسبة عبّر عن خشيته على مستقبل "الديمقراطية" في إسرائيل، على الرغم من أنها "ديمقراطية" اتنية تخص اليهود الإسرائيليين وحدهم، وتوقف عند أزمة الهوية المتفاقمة التي تشهدها إسرائيل بعد 75 عاماً على قيامها.
إسرائيل أمام أزمة هوية متفاقمة
عندما أقيمت إسرائيل في 14 أيار/مايو 1948، كانت الدولة قادرة على طمس التشققات التي برزت في بنيانها، وخصوصاً بين العلمانيين والمتدينين، وذلك من خلال تجنب إقرار دستور مكتوب والاكتفاء بعدد من قوانين أساس المرجعية، والتهرب تالياً من الإجابة عن سؤال: "يهودية" الدولة أولاً، أو "ديمقراطيتها"؟. وقد نجح "الأب المؤسس" دافيد بن غوريون آنذاك، الذي لم يكن متديناً، في الالتفاف على هذه المعضلة من خلال تغليب قضية حيوية أخرى عليها هي: "أمن البلاد"، علماً بأن الضغط الديني كان ضعيفاً، في ذلك الوقت، الأمر الذي جعل الجدل حول هذا السؤال هامشياً.وفي السابع عشر من آذار/مارس 1992، ومع مصادقة الكنيست على قانون أساس يهدف إلى "حماية كرامة الإنسان وحريته وإلى إرساء قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية ديموقراطية"، خفت حدة الجدل حول طبيعة دولة إسرائيل، لينتعش من جديد مع إقرار الكنيست في 18 تموز/ يوليو 2018، "قانون أساس: إسرائيل-الدولة القومية للشعب اليهودي"، الذي قصر حق تقرير المصير في دولة إسرائيل على "الشعب اليهودي"، وتجاهل حقوق الفلسطينيين في أرض وطنهم، مغفلاً مبادئ جامعة مثل الديمقراطية والمساواة. واليوم، وبعد 75 عاماً على قيام الدولة، وفي إطار الجدل الساخن الدائر حول الإصلاح القضائي، عاد سؤال: كيف تنظر إسرائيل إلى نفسها: هل طبيعتها اليهودية أولاً، أو طبيعتها "الديمقراطية" ليطرح نفسه بحدة، وخصوصاً مع الزيادة الحادة التي طرأت على أعداد الأرثوذكسيين المتشددين والصهيونيين الدينيين، الذين يريدون إخضاع القضاء لقانون أكثر جوهرية هو التوراة، ويعتبرون أن الدين والهوية اليهودية أهم من الحريات المدنية، وأن إسرائيل هي أولاً وقبل كل شيء دولة يهودية[1]. وعلى الرغم من أن الحكومة قررت تعليق إقرار مشروعها للإصلاح القضائي مدة شهر لإتاحة الفرصة لحوار بشأنه مع المعارضة، فإنها عازمة في الواقع على إقرار هذا الإصلاح، وتقويض صلاحيات المحكمة العليا، الأمر الذي من شأنه أن يضعف القوة المضادة الوحيدة في دولة ليس لها دستور.
"إنها أزمة دستورية، أزمة نظام، لكنها أيضاً أزمة مجتمع عميقة"، بحسب عالمة الاجتماع الإسرائيلية بيرل نيكول-هاسيد من الجامعة العبرية في القدس، التي تلاحظ أن المتظاهرين، الذين يحتجون على عزم الائتلاف الحاكم تقويض صلاحيات المحكمة العليا وتسييس القضاء، هم "سكان ليبراليون ونشطون، معظمهم من غير المتدينين، يشهدون صحوة سياسية جديدة، لا سابق لها منذ عشرين عاماً"، وفي مواجهتهم نشهد "يقظة وتحرك مجموعات راديكالية تطرح بصورة واضحة تطلعاتها بشأن المجتمع بمجمله"، مضيفة: "نحن نواجه أزمة في تحديد الأهداف السياسية والمجتمعية لدولة إسرائيل؛ ماذا يعني أن تكون إسرائيلياً اليوم؟ نحن في طريق مسدود لتحديده"[2].
الحاجة إلى دستور مكتوب
يرى بعض المحللين الإسرائيليين أن الخروج من هذه المعضلة التي تواجهها إسرائيل لن يكون ممكناً سوى عبر إقرار دستور مكتوب للدولة. فبحسب يديديا ستيرن، رئيس معهد سياسة الشعب اليهودي، الذي يشارك في المفاوضات حول الإصلاح القضائي، تواجه إسرائيل "أزمة كبيرة حول طبيعة الدولة، لكن هذه الأزمة هي أيضاً فرصة لحركة جديدة، ذلك إننا في حاجة إلى قواعد جديدة للعبة، يمكن أن يوفرها الدستور"[3]. وفي حوار أجرته صحيفة "التايمز أوف إسرائيل" في القدس مع المدعي العام ووزير العدل الكندي السابق إروين كوتلر أعرب هذا الأخير عن قناعته بأنه لن يكون هناك قضاء مستقل في إسرائيل في حال اعتماد مجموعة الإصلاحات القضائية المقترحة من الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، مقدراً أن عملية اختيار القضاة المقترحة من قبل الحكومة ستعني "تسييس تعيين القضاة"، وهو ما سيقلل من احترام القضاء المستقل وسلطة قراراته. كما عبّر عن خشيته من أن يفضي القضاء على استقلالية القضاء إلى إطلاق يد المحكمة الجنائية الدولية وتمكينها من إصدار مذكرات توقيف واعتقال بحق ضباط وجنود يزورون دولة، أو يمرون بدولة من الدول التي تعترف بسلطة المحكمة الجنائية الدولية، و"هذا من شأنه أن يضع الإسرائيليين وإسرائيل في موقف حساس للغاية". ويرى الخبير القانوني والوزير الكندي السابق أن حل هذه المشكلة يكون عبر "اعتماد دستور وميثاق للحقوق والحريات"، مستشهداً، في هذا السياق، بالتجربة التي مرت بها كندا، التي انتقلت في سنة 1982 "من ديمقراطية برلمانية إلى ديمقراطية دستورية، ومن سيادة البرلمان إلى سيادة الدستور"، ولم تعد المحكمة العليا فيها "تصدر أحكاماً في النزاعات القانونية والفيدرالية" فحسب، بل أصبحت كذلك هي "الضامنة لحقوق الإنسان"، وذلك بعد أن منحها البرلمان "سلطة حماية حقوق الإنسان في إطار الدستور وميثاق الحقوق والحريات"[4].
ينشغلون بطبيعة الدولة ويتجاهلون دورها في نكبة الفلسطينيين
بينما يعبّر كتّاب المقالات والتعليقات المشار إليها عن خشيتهم على مستقبل "الديمقراطية" في إسرائيل، يتجاهلون، في الوقت نفسه، النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني جراء قيام هذه الدولة. ولم يتوقف عند هذه النكبة ومسبباتها سوى عدد محدود جداً منهم، من بينهم الكاتب والناشط في مجال حقوق الإنسان ميكو بيليد، صاحب كتاب: "ابن الجنرال. رحلة إسرائيلي في فلسطين"، الذي أشار في مقال له، بعنوان: "75 عاماً من التلفيق والشرعية الإسرائيلية الزائفة"، إلى أنه "بعد مرور خمسة وسبعين عاماً على قرار الأمم المتحدة الكارثي بتقسيم فلسطين، تواصلت مذابح الفلسطينيين واضطهادهم على أيدي أولئك الذين يزعمون أنهم يمثلون الشعب اليهودي-وهناك دلائل على أنها ستزداد سوءاً"، وأضاف: "يدعي البعض أن الصهيونية جاءت لإنقاذ الشعب اليهودي من محرقة أخرى، وأنها تتحدث باسم اليهود العزل حتى لا يتعرضوا مرة أخرى للإبادة الجماعية مثل الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود في أوروبا على أيدي النازية؛ لكن هذه الادعاءات مجرد ذرائع لتمكين النظام الصهيوني من ممارسة قسوته ووحشيته دون قيود".
وفي تقدير ميكو بيليد، فإن ما سمح للهجمة الصهيونية على الفلسطينيين بأن تستمر حتى يومنا هذا "هو حقيقة أن الإرهاب الصهيوني قد أشيد به باعتباره بطولة، وتمّ الحفاظ على الأسطورة القائلة بأن القتلة الصهاينة هم أبطال حرروا بلادهم وشعبهم بعد ألفي عام، رغم أنه كان معروفاً للجميع أن هذه كانت كذبة". وهكذا "أضفى المجتمع الدولي الشرعية على احتلال فلسطين وتدميرها اللاحق، وإقامة نظام فصل عنصري مناهض للعرب، وعنصري مناهض للفلسطينيين وعنيف، باسم إسرائيل". واستقبل هذا المجتمع الدولي دولة إسرائيل "التي سلبت الأرض [الفلسطينية] وثرواتها"، بصفتها "فاعلاً شرعياً على المسرح العالمي".
ورأى ميكو بيليد نفسه أن إسرائيل كانت في حاجة إلى محو كل ما يرمز إلى فلسطين كي تضفي على نفسها الشرعيه: "فتعزيز مطالب إسرائيل بالأرض، كان يتطلب أن تختفي أي علامة على التاريخ والتراث الفلسطينيين"، وهكذا، شرعت إسرائيل "في حملة لتدمير المعالم التاريخية والمقابر التاريخية الفلسطينية وكل ما يذكّر بتاريخ الفلسطينيين الغني، وقامت، في المقابل، بصياغة الأسطورة الصهيونية بشأن الصلة المباشرة بين إسرائيل الحديثة وقبيلة العبرانيين القديمة الذين عاشوا في فلسطين منذ آلاف السنين". وفضلاً عن ذلك، كان وجود الفلسطينيين، في حد ذاته، يعتبر "تهديداً لإسرائيل، وخصوصاً بالنسبة لشرعيتها"، الأمر الذي جعلها تتبنى، منذ قيامها، "قوانين تجعل وجود الفلسطينيين غير شرعي ومستحيل". وبسنها قوانين وسياسات عنصرية، كانت إسرائيل "تضع قيوداً على المساحة التي يمكن للفلسطينيين العيش والعمل والدراسة فيها، وأين يمكنهم السفر، وقيّدت كمية المياه التي يمكنهم الحصول عليها والأرض التي يمكنهم زراعتها".
ويختم هذا الكاتب الإسرائيلي الشجاع مقاله بتوجيه نقد لاذع لموقف أوروبا على وجه الخصوص، التي "تاجرت مع فلسطين لقرون"، لكنها "تناستها وأهملتها، وانحازت إلى الأسطورة الصهيونية، وتعاملت مع شرعية إسرائيل ومع الأسطورة الإسرائيلية بصفتهما ديانة ثانية، لم يجرؤ أحد على الانحراف عنها خوفاً من إثارة الغضب الصهيوني"، علماً بأن إسرائيل هذه التي تقدم نفسها على أنها "معجزة" و "قصة نجاح"، ما هي، في الحقيقة، سوى "قصة سرقة ونهب"، "قصة تدمير أمة"؛ فهي، التي "تدّعي أنها جعلت الصحراء تزدهر"، سرقت "بلداً مزدهراً"، وهي التي تزعم "أنها أنشأت ملاذاً آمناً لليهود"، طوّرت "نظام فصل عنصري قاسياً تفوق قسوته وفاعليته كل الأنظمة الشبيهة الأخرى"[5].
[1] https://www.radiofrance.fr/franceinter/podcasts/geopolitique/geopolitique-du-jeudi-27-avril-2023-4623497
[2] https://www.rfi.fr/fr/moyen-orient/20230426-isra%C3%ABl-la-crise-des-75-ans
[3] https://www.lesechos.fr/monde/afrique-moyen-orient/israel-celebre-son-75e-anniversary-in-une-ambiance-pesante-1938201
[4] https://fr.timesofisrael.com/ce-qui-compte-pour-irwin-cotler-quisrael-se-dote-dune-constitution/
[5] https://www.chroniquepalestine.com/75-ans-de-fabulation-et-de-fausse-legitimite-israelienne/