في برنامجه الساخر "من الجانب الآخر مع غاي زوهار"، الذي يُبث على قناة "كان 11"، عرض الصحافي الإسرائيلي زوهار مجموعة من اللقطات التي يظهر فيها الكثيرون من قادة الاحتلال ومؤسساته الأمنية والعسكرية والسياسية، وهم يدعون إلى تأجيل القيام بخطوات عدوانية ضد الفلسطينيين إلى ما بعد شهر رمضان. ومنهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، حتى أن رئيس حزب "همحنيه همملختي" بني غانتس ناشد نتنياهو تأجيل "الإصلاحات القضائية" إلى ما بعد شهر رمضان على الأقل.
ما عرضه زوهار ليس سوى نماذج بسيطة من القلق الإسرائيلي من شهر رمضان، والذي بدأ يتضح منذ السنة الماضية 2022، كشهر متوتر أمنياً بالنسبة إلى الاحتلال. ولكثرة ما احتاط الاحتلال ومؤسساته الأمنية من شهر رمضان في ذلك العام، بدأت تظهر آراء تقول إن الإسرائيليين أصيبوا بـ"رمضان فوبيا". وإن كان هناك مسحة حقيقة في هذا القول، فالإسرائيليون باتوا ينظرون إلى شهر رمضان بقلق بالغ، ويتحسبون له. إلا إن هذا ليس كل الحقيقة، فشهر رمضان بحد ذاته لا يشكل تهديداً ولا يحمل تصعيداً. وإنما هو تعامٍ وإنكار إسرائيلي لأسباب التصعيد الحقيقية. وهو ما سنحاول إيضاحه في هذا المقال.
بداية القلق الإسرائيلي من شهر رمضان
لشهر رمضان إرث سابق لدى الاحتلال في المواجهات والحروب العسكرية، فحرب 1973 بين مصر وسورية من جهة، وإسرائيل من جهة أُخرى، وهي بحسب السردية الإسرائيلية، "الحرب الأخطر" في تاريخ إسرائيل؛ وقعت في شهر رمضان. ولذلك، تسمى في مصر بحرب "العاشر من رمضان". وفي سنة 2014، شنت إسرائيل عدواناً على قطاع غزة، بدأته قبل ذلك في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقد تزامن هذا العدوان مع شهر رمضان واستمر إلى ما بعده أيضاً.
غير أن تلك الأحداث لم تخلق لدى إسرائيل أي قلق من شهر رمضان. بينما يلاحَظ أن معركة سيف القدس وهبّتها كانت الحدث المفصلي الذي بدأ بعده صنّاع القرار في إسرائيل يبدون قلقهم وتخوفهم من شهر رمضان.
المختلف فيما حدث في سنة 2021 عما قبله، هو أن شهر رمضان كان على صلة وثيقة بالأحداث، ولا سيما في القدس والمسجد الأقصى، ولم يكن مجرد تزامُن عابر معها. ومن ناحية أُخرى، كانت المواجهات العسكرية السابقة التي تتزامن مع رمضان تجري في إطار محصور تقريباً بعيد عن العمق الإسرائيلي. ففي عدوان 2014، كان تركيز معظم الأحداث في قطاع غزة، بالإضافة إلى العمليات والصواريخ التي كانت تنطلق منها إلى الداخل. غير أنه في سنة 2021، انتقل ثقل الأحداث إلى داخل إسرائيل وإلى القدس بشكل هبّة شعبية فلسطينية متكاملة مع المعركة العسكرية- لحق بها إضراب عام انضمت إليه الضفة، وكان منع المصلّين من أراضي الـ 48 من الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء صلاة ليلة القدر أحد الأمور المركزية التي ساهمت في التصعيد حينها. ولهذه المعطيات خطورة بالغة، كونها تجري في قلب إسرائيل، ويصعب على المؤسسة الأمنية التعامل معها سريعاً.
ما يخشاه الاحتلال من نموذج رمضان 2021، هو الصدامات والمواجهات الشعبية، والعمليات الفردية، وتصاعُد الأحداث إلى درجة يمكن أن تؤدي إلى انخراط المقاومة في قطاع غزة في المشهد. وهو مشهد تبلور في شهر رمضان، من هنا بدأ التعامل مع شهر رمضان على أنه هو سبب التصعيد.
ولذلك، بدأ التركيز على شهر رمضان منذ السنة الماضية 2022 ، وعلاقته بتصاعُد الأوضاع بتأثير من تجربة رمضان 2021. وقد تصاعد خلال السنة الحالية (2023) التركيز على الشهر والاستعداد له. فمن أبرز أسباب قمة العقبة، ثم شرم الشيخ، محاولة تهدئة الأوضاع قبيل شهر رمضان. وعدا عن ذلك، فالاستعدادات الأمنية في أوجها في إسرائيل تحسباً لشهر رمضان. حتى أن بلدية القدس التابعة للاحتلال بادرت بجملة من المبادرات الهادفة إلى تهدئة الوضع في المدينة خلال الشهر، منها تزيين البلدة القديمة ومضاعفة خدمات النظافة العامة، وتقديم كوبونات طعام للعائلات العربية المحتاجة، وتنفيذ أنشطة رياضية وثقافية في المدينة، وكل ذلك في مسعى لتقليل الاحتكاك والصدامات بين الفلسطينيين وشرطة الاحتلال ومستوطنيه.
تفسيرات الاحتلال لعلاقة شهر رمضان بالتصعيد
ربما يكون الدكتور مردخاي كيدار أول مَن حاول ربط علاقة شهر رمضان بالتصعيد، في مقال منشور له في سنة 2015، بعنوان رمضان عنيف. والمقال ذاته منشور بعنوان آخر "رمضان وعلاقته بازدياد الإرهاب". ويذهب في مقاله إلى محاولة تفسير ازدياد العمليات "الجهادية"، ليس في فلسطين فحسب، بل في المنطقة كلها، وحديثه بالتحديد عن "داعش" وما شابهها من الحركات الجهادية. ففي ذلك الوقت، لم يكن يوجد قلق في إسرائيل من شهر رمضان، مع أن مقاله كُتب بعد وقت قصير من عدوان 2014 على قطاع غزة.
يرى كيدار أن الصيام، الذي يمتد لساعات طويلة، صعب في بيئة طبيعتها صحراوية، وهو ما يؤثر في سلوك الصائم ويجعله أكثر "عدوانية". وعدا عن ذلك، فشهر رمضان في التصوّر الإسلامي، بحسب قوله، هو "شهر الانتصارات والفتوحات، وهو ما يُكثر الوعاظ والأئمة فيه، تحديداً، من ترديده على مسامع الناس، ولذلك، يزداد العنف فيه بين المسلمين أنفسهم، فكيف بينهم وبين غيرهم." وهي نظرة استشراقية بحتة غير موجهة إلى الفلسطينيين وحدهم، بل إلى العرب والمسلمين كافة.
ومنذ العام الماضي، ازدادت التفسيرات الإسرائيلية لعلاقة شهر رمضان بالتصعيد. وهي تفسيرات متنوعة تتناول أسباباً غيبية ونفسية وإعلامية. ومنها، أن مدة الصوم الطويلة والامتناع من تناول الطعام والشراب، وغيرها من الأمور خلاله، تولد عصبية وغضباً وضغطاً لدى الصائم. ولذلك، فإن الأحداث العنيفة لا تنتشر داخل المجتمع الفلسطيني فقط، وإنما بين كل المسلمين الصائمين خلال شهر رمضان.
ومن التفسيرات الأُخرى، الافتراض أن الصراع في المنظور الفلسطيني هو صراع ديني، وليس سياسياً قابلاً لإيجاد تسوية. والمسلمون (الفلسطينيون) يأتون، مثلما أتى الصليبيون للقتل باسم الصليب، لقتل اليهود باسم رمضان، الذي يشكل علامة دينية فارقة، والوعاظ والأئمة في المساجد يغذّون هذه الحرب الدينية.
غير أن التفسير الإسرائيلي الأهم هو الذي يربط بعض العوامل الموضوعية بـ"التحريض" الذي تمارسه "حماس" وغيرها من فصائل المقاومة. فبحسب هذا التحليل، يتوافد عشرات آلاف المسلمين إلى المسجد الأقصى في شهر رمضان الذي أصبح يتزامن مع مناسبات وأعياد يهودية، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث احتكاكات وصدامات بين الفلسطينيين واليهود. وبحسبه أيضاً، "حماس" بدورها، تسعى لإشعال انتفاضة ثالثة وتحرّض عليها ليلاً نهاراً، وتحرّض الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس والداخل على التوجه إلى الأقصى لحمايته، لأنها تعتبر أن الأقصى في خطر، وإسرائيل تسعى للسيطرة عليه. وتفسير التحريض هو الأكثر انتشاراً، ليس فيما يتعلق بشهر رمضان والمسجد الأقصى فقط، وإنما بأي تصعيد أو موجة عمليات في الساحة الفلسطينية.
وبطبيعة الحال، ازداد القلق من شهر رمضان في السنة الحالية لأنه يأتي في جوّ من التصعيد الممتد منذ أشهر، كما أنه يأتي في وسط انشغال الاحتلال بأزمته الداخلية، على خلفية خطة الإصلاحات القضائية لحكومة نتنياهو.
هل شهر رمضان شهر تصعيد؟
في سنة 2022، بدأ الاحتلال الإسرائيلي ومؤسساته الأمنية بالحديث عن احتمالية حدوث تصعيد خلال شهر رمضان، والاستعداد له قبل حلول الشهر بعدة أشهر، بينما لم يكن هناك تحليل وتقدير فلسطيني لاحتمالية التصعيد بحجم وزخم التحليل والتقدير الإسرائيلي. وقد أثار هذا الأمر استغراباً فلسطينياً ملحوظاً، غير أن تتبّع مسار الأحداث يشير إلى أن الاحتلال كان لديه مخططات مسبقة لتسهيل اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى في عيد الفصح اليهودي الذي يصادف خلال شهر رمضان.
وقد كان الاحتلال يتحسّب لاحتمالية التصعيد لإدراكه أن اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى ستتبعه مواجهات وصدامات قد تتطور إلى تصعيد تنخرط فيه المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. ولذلك، أعلن جيش الاحتلال قبل ثلاثة أشهر من شهر رمضان عن حملة “عومير هتنوفاه“، لاحتواء التصعيد المحتمل، وتحمل هذه التسمية دلالات مرتبطة بمسار الأحداث التي كان الاحتلال يخطط لها، فهذه التسمية التي تعني “ترديد الحزمة” أو هزّها، مأخوذة من طقس تقديم القربان خلال عيد الفصح اليهودي، الذي يشير إلى أخذ اليهود حزمة من باكورة حصادهم من القمح أو الشعير، وتقديمها للكاهن ليقدمها للرب ويهزّها، أو يرددها أمامه في المسجد الأقصى، ويترافق مع هذا الطقس تقديم خروف كقربان للرب. وهو ما يترافق مع سعي المنظمات الدينية الصهيونية، التي تهدف إلى الاستيلاء على المسجد الأقصى وتحويله إلى الهيكل، لاقتحام المسجد الأقصى، وممارسة شعائرها فيه، وخاصة تقديم القربان في عيد الفصح. غير أن الجيش الإسرائيلي سرعان ما عدل عن هذه التسمية إلى "كاسر الأمواج"، لتغيّر مسار الأحداث عما كان يتوقعه.
وبالنظر إلى مجريات الأحداث في شهر رمضان الحالي، نجد أنه يتزامن أيضاً مع عيد الفصح اليهودي الذي يبدأ في 5 نيسان/أبريل، وما يرافقه من دعوات المستوطنين إلى اقتحام المسجد الأقصى. وستلي هذا العيد سلسلة من المناسبات اليهودية والإسرائيلية، وهي ذكرى المحرقة ويوم ذكرى جنود الاحتلال القتلى ويوم الاستقلال. وهي مناسبات تحتل القدس فيها مركزاً مهماً، لن تأتي جميعها في شهر رمضان بطبيعة الحال. ولكن إذا بدأ التصعيد في رمضان، فإنه سيمتد إلى ما بعده.
إذاً، الإشكالية ليست في رمضان بحد ذاته، وإنما في سياسات الاحتلال التي تستهدف الفلسطينيين ومقدساتهم، وعلاوة على ذلك، يريد الاحتلال أن يظل الفلسطينيون صامتين أمام ما يجري حولهم وعليهم.
والإشكالية أن هناك شبه إجماع لدى الاحتلال بمؤسساته المختلفة على أن سياسات الاحتلال ليست هي المشكلة. بمعنى أن اقتحام المسجد الأقصى والاستيطان والقتل والتهجير ليست مشكلات. والإجابة المباشرة عن أسباب التصعيد تكون دائماً "التحريض"، وكأن الذي يذوق الويلات تحت الاحتلال بحاجة إلى مَن يحرضه. ومن هذا المنظور، يصبح الرد على سياسات الاحتلال ومقاومتها تحريضاً يستهدف استجلاب المزيد من العنف. ومن ذلك مثلاً، الادعاء أن الأسرى أعلنوا الإضراب عن الطعام عشية شهر رمضان، قبل أن يعلّقوه، لأنهم يريدون أن يصبوا الزيت على الأوضاع المشتعلة أصلاً. من دون التطرق بتاتاً إلى سياسات بن غفير العقابية ضدهم.
ختاماً
بالنسبة إلى الفلسطينيين، لا يشكل شهر رمضان المبارك أي مبرر للتصعيد في حد ذاته، فلطالما مرت أشهر رمضان بهدوء واعتيادية مفرطة. والتصعيد الذي يحدث في رمضان وغيره هو ردة فعل شعبية على سياسات الاحتلال ووجوده أساساً. ما يحاول الاحتلال التعامي عنه هو أن سياساته وتغوّله فيها وفينا هي أبرز محفزات ردات الفعل الفلسطينية، سواء في شهر رمضان أو شهر محرم. وليس لرمضان خصوصية دون غيره من الأشهر فيما يتعلق بالتصعيد، إلا في بعض الجوانب، من قبيل تكثيف الحضور الفلسطيني (المحدود أصلاً) في القدس والمسجد الأقصى خلاله. وهذا الحضور الكثيف يجد نفسه يصطدم مع اقتحامات المسجد الأقصى، وسياسات الإبعاد الجماعي عن الحرم في أوقات محددة (كمنع الاعتكاف، وإغلاقه وتفريغه من المصلين)، أو الهجوم على الحضور الفلسطيني في القدس، وبصورة خاصة في محيط باب العامود. لذلك، من المهم ألاّ تتسرب سردية الاحتلال بشأن شهر رمضان إلى الوعي الفلسطيني، فنظنّ أن الشهر هو سبب التصعيد، وما هو إلا الاحتلال بكافة تفاصيله.