الفنان يزن أبو سلامة والبحث عن الشمس
التاريخ: 
31/03/2023
المؤلف: 

تنحني النباتات نحو الشمس، بحثاً عن الضوء، وتنمو أغصانها وفروعها في أثناء محاولتها تخطّي العقبات التي تواجهها في الطريق. في السلسلتين "أميل نحو الشمس" و"سماء أسمنتية" (2021-2022)، يسعى الفنان يزن أبو سلامة لتجاوُز الحواجز التي تحول بينه، كفلسطيني، وبين شمسه. فيهيمن قرص الشمس على أعماله، ويظهر في الخلفية المطلة على هياكل خرسانية شاحبة. ويلقي الحضور البصري الطاغي للأسمنت، المرتبط بالبنى الاستعمارية وعسكرة المشهد وكآبة البيئة الحضرية، بثقله على أعماله الفنية.

 

يزن أبو سلامة، احتقان، ٢٠٢١

 

وُلد يزن أبو سلامة في سنة 1993 في القدس. ودرس الفنون الجميلة في كلية دار الكلمة في بيت لحم. وعمل كمدرس فن في عدد من المراكز المجتمعية، وخاصة في مخيم عايدة للاجئين في بيت لحم. يؤمن أبو سلامة بأن قوة العمل تتمثل في الفكرة وبساطة تنفيذها،[1] وتشغل باله مواضيع الحرية والتحرر والغزو الأسمنتي للمشهد الفلسطيني كأحد مظاهر الاحتلال. فمنذ توقيع اتفاقيات أوسلو، أي منذ تفتحت عينا أبو سلامة على هذه الدنيا، والطبيعة الفلسطينية آخذة بالانحسار لمصلحة جغرافيا خرسانية ضيقة، تخنق ساكنيها. فالقيود التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على البناء والتوسع العمراني الفلسطيني ضمن مساحات جغرافية ضيقة، أدت إلى توسُّع عمودي وتكثيف البناء على حساب المساحات الخضراء. لم يعد في إمكان الفلسطيني التواصل مع أفقه كالسابق، وأطبق الأسمنت على البصر ومدى الرؤية.

ولربما العيش في بيت لحم، على مسافة صفر من جدار الفصل العنصري وارتطام العين المتواصل بالحواجز الخرسانية وأبراج المراقبة ونقاط التفتيش، والتقلص المطّرد للطبيعة والأماكن المفتوحة، أمور كلها أثّرت في نتاج أبو سلامة الفني، ودفعته إلى استخدامه كمحاولة مستمرة للانعتاق البصري، وهذا ما نراه واضحاً في هاتين السلسلتين.

 

يزن أبو سلامة، رغم خيالاتنا المكسورة ٢٠٢٠

 

استطاع أبو سلامة التعبير، ببراعة، عمّا يكنّه من مشاعر احتجاج وانفعال تجاه مشهد يومي لم يعد يشبهه ولا يمثله، من خلال إنجاز مساحات من الخطوط الرفيعة الطولية المتوازية بالحبر الأسود، التي تبدو بجانب بعضها البعض كـ "بار كود"، أو ترميز سري لا يفهمه أحد سواه. ونراه يمسك مسطرة ويرسم خطوطاً عمودية رفيعة متقاربة، مانحاً الإحساس بتنوع الملمس عند مجاورته كتلاً لونية أو شكلية أُخرى. والمتتبع لأعماله يرى أنه مع الوقت، طوّع الحبر وسيطر عليه، حتى صار يشكل بصمته الفنية. واعتماده هذه التقنية يعود إلى بداياته الأولى، حين لم تتوفر ميزانية لديه كطالب لشراء ما يحتاج إليه من ألوان الزيت والأكريليك.[2]  

 

يزن أبو سلامة، صندوق هدية (٢٠٢٢)

 

تمعن خطوطه الطولية في تأكيد الأجواء الخرسانية الاستعمارية المتمثلة في جدار الفصل العنصري المرتفع وأبراج المراقبة والحواجز الأسمنتية العسكرية من جهة، أما من الجهة المقابلة، فيقدم مشاهد من مبانٍ أسمنتية متلاصقة ومحصورة ومختنقة ذات نوافذ صغيرة. ونرى الأبراج والمباني في لوحاته ترتفع وتتلاصق، وتتمدد عمودياً لاستغلال المساحة الضيقة، تماماً كما في الواقع. ويذهب أبعد من ذلك، عندما يضع هذه المدن والأحياء الخرسانية ذات الألوان البائسة في صناديق كرتونية، كأنه يعبّر عن رغبة دفينة في مخيلته في التخلص منها.

ولكنه يترك هذه الصناديق الممتلئة بالعمارات الأسمنتية مفتوحة جزئياً من الأعلى، كما لو أنه يتيح الفرصة لها للخروج من الصندوق والانتقال إلى مشهد آخر غير مشهده. وفي أعمال أُخرى يحفر لها مكاناً في الأرض، كأنه قبر، ويضعها فيه، كما في "مدينة مدفونة". وهو بذلك لا يحذفها من أمامه فحسب، بل يفسح كذلك مساحة جديدة للمشهد الطبيعي الذي يحب. ثم يعود ليبني علاقة ما بين ملامس وألوان الصناديق الكرتونية، أو الحفر والأرض من جهة، وما بين قرص الشمس في السماء، في مواجهة والتقاء مع جدار الفصل العنصري، وكأنه يخلق نوعاً من الحوار ما بين جميع هذه العناصر، المتشابهة منها والمتنافرة.

 

يزن أبو سلامة، مدينة مدفونة ٢٠٢١

 

للشمس في لوحات أبو سلامة أهمية خاصة، ويظهر قرصها المشتعل في معظم أعماله. ينجح من خلال الألوان الصارخة في التشديد على ثقل الشمس وإبرازها في موازاة شحوبة الأسمنت وثقله النفسي، وكأن لسان حاله يقول إن الشمس باقية والهياكل الأسمنتية لا محال زائلة. على الرغم من كون الشمس مصدراً للضوء ورمزاً للحرية، فإن حرارتها الشديدة قاتلة. يستخدم أبو سلامة أشكالاً دائرية بسيطة وألواناً برتقالية جريئة ليقدم شموساً هائلة تسيطر على بعض الأعمال. وتهيمن تلك الأجرام السماوية الدائرية الضخمة وتستأثر بالمساحة وتحتوي البصر. في أحد الأعمال مثلاً، تبدو الشمس ككرة نارية ملتهبة ضخمة تتدحرج على المشهد الطبيعي في اتجاه حقل من شجر الزيتون. وعلى الرغم من تعدُّد التمثيلات، فإن النقطة المحورية الثابتة في جميع تلك الأعمال هي السعي نحو الحرية في مشهد يمتلئ بتناقضات المشهد الطبيعي الحر والأسمنتي الذي يسلب تلك الحرية.

 

يزن أبو سلامة، مشهد من نافذة بيتي (٢٠٢٢)

 

يستخدم أبو سلامة في خلفيات أعماله ألواناً برتقالية صارخة، أو زرقاء قاتمة، ليُبرز غابات المباني المتلاصقة، وينفّذها من خلال عدد من الوسائط، مثل الورق والكرتون والأسمنت والخشب ومكعبات الليغو والحصى والأسلاك. ويخلق من خلال هذا الدمج نوعاً من التباين في اللون والملمس والوزن. فالمساحات المغطاة بالألوان الصارخة بطبيعة الحال، تشكل وزناً أكبر من خطوط الحبر الرفيعة المتوازية التي تعكس ثقلاً نفسياً، وتعطي تأثيراً رمادياً كئيباً.

نرى في بعض أعمال أبو سلامة رموزاً من رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، ليصبح مسعاه في الوصول إلى الشمس في هاتين السلسلتين تحديداً، كأنه محاولة لدقّ الجدران الخرسانية، كصرخة مشروعة من أجل تحقيق العدالة، وتترك لدينا، كمشاهدين، إحساساً بضرورة هدم الحواجز التي تقف بيننا وبين شموسنا.

 

[1]https://www.youtube.com/watch?v=BUjYYGvUwuA

[2]https://www.youtube.com/watch?v=BUjYYGvUwuA

عن المؤلف: 

رنا عناني: كاتبة وباحثة في الفنون البصرية والثقافة من رام الله ومحررة الموقع الإلكتروني في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

انظر