عدسة جورج نعمة: تأريخ اللجوء الفلسطيني
التاريخ: 
27/03/2023

استوقفني قبل أشهر فيلم بعنوان "استذكار الرحلة: الطريق إلى البقعة"، يبدأ هذا الفيلم بإحدى غرف المقر الرئيسي للأونروا في قطاع غزة. في المشهد، رجل يشرح لفتاة عن بعض الصور الأرشيفية للأونروا، ويعرّفها بمواقع التقاطها. في الفيلم بعض الصور المعروفة للنكبة، وهو أمر أثار لديّ مجموعة من الأسئلة عن مصدرها.

لقد تفاجأت ببعض الصور التاريخية التي انتشرت على الإنترنت على أنها صور التُقطت في النكبة، وردت إلى الفيلم، وهي صور للمخيمات بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967. أفهم أن عدداً من تلك اللقطات استُخدم للدلالة على ما حلّ بالشعب الفلسطيني، لكن ذلك لا يمنع من البحث خلف تلك اللقطات، وخلف مُصوّرها. وبعض اللقطات المعروفة مأخوذ في الأردن، في مخيم البقعة تحديداً.

 

المصور جورج نعمة

 

في مشاهد الفيلم التالية، نرى الرجل نفسه، وهو المصور جورج نعمة، يتجول في مخيم البقعة، ويقابل أشخاصاً وعائلات تستقبله بالأحضان. يُفهم من السياق أن نعمة صوّر هؤلاء قبل أعوام عديدة.

بحثت عن معلومات إضافية عن جورج نعمة، لكنني لم أجد، فعدت إلى موقع أرشيف الأونروا، ووجدت العديد من الصور والأفلام التي تحمل اسمه. تواصلت مع الأونروا في لبنان، لأطلب معلومات الاتصال به لإجراء حوار معه لـ "مدونة مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، وبعد يوم أو يومين، حصلت على المطلوب. 

من الحاجة إلى الشغف 

يبلغ نعمة من العمر 79 عاماً، أمضى جلّها في الأونروا، متنقلاً بين المخيمات لالتقاط الصور الفوتوغرافية وتصوير الأفلام. التقينا عبر تقنية "زووم"، فالرجل يقيم بأوروبا منذ أعوام طويلة.

بدأ اللقاء بحديث تمهيدي عن التصوير. فعاد نعمة إلى سنة 1960، حينها، كان عمره 16 عاماً، وانضم إلى الأونروا، عبر خاله جاك دافو الذي كان يعمل فيها، بعد تخرُّجه من فرنسا: "لم أكمل تعليمي بعد الثانوية. كان هناك صعوبات حياتية، وبدأت العمل باكراً، وما جعلني أتجه نحو التصوير حاجة الوكالة، في حينه، إلى شخص تقني يعمل في طباعة الصورة، فبدأت العمل مدة أسبوعين، وصودف أن الشخص الذي كان يعمل في هذا الموقع تركه، وبسبب وجودي مكانه موقتاً، طُلب مني البقاء في هذا الموقع."

لم يكن نعمة في ذلك الوقت مشغوفاً بهذا العمل، لكن: "مع مشاهدة الصور، بدأت أتعرّف إلى مفهوم الصورة والانطباعات التي يمكن أن تُحدثها الصور، ولذلك، في بداية ستينيات القرن الماضي، انخرطت في دورة تصوير بالمراسلة مع مدرسة أميركية هي "Famous Photographers School" في نيويورك، وبقيت فيها أربعة أعوام، كانت دورة مكثفة، غطت مجالات مختلفة من أنواع التصوير، وحصلت على شهادتها سنة 1966." كانت البداية الحقيقية لنعمة مع الأونروا بعد هذه الدورة، فصار يتلقى تكليفات للتصوير في أماكن عمل الأونروا الخمسة "زرت كل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين والأردن وسورية ولبنان، لتغطية شؤون متعلقة باللاجئين الفلسطينيين، والتقطت العديد من الصور في المخيمات القائمة منذ النكبة سنة 1948، والمخيمات التي أقيمت بعد سنة 1967."

 

جورج نعمة خلال العمل

 

أصبح نعمة مشغوفاً بمهنته الجديدة، وأصبحت الصور بالنسبة إليه تحمل قيمة كبرى، "فتغطية حياة الإنسان الفلسطيني في أماكن وجوده، بمعاناته وظروفه الصعبة في المخيمات، قيمة بحد ذاتها، عدا عن الأهداف المؤسساتية للصور، كمشاهدة الدول المانحة للظروف التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني في المخيمات، وكذلك الخدمات التي تمولها هذه الدول." 

تجربة طوّرتها الظروف 

بالإضافة إلى عمله في الأونروا، عمل كمصور حر، للعديد من وسائل الإعلام الأجنبية حتى سنة 1970، وفي ذلك الوقت أيضاً، تعلّم التصوير السينمائي، فعمل لصالح قنوات أجنبية، ولا سيما مع تطور الأحداث في لبنان، ووجود منظمة التحرير الفلسطينية فيه، حيث زاد نشاط الإعلام الأجنبي في لبنان.

ويشرح نعمة أنه مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، "انتقلت الأونروا إلى عمّان، وأنا انتقلت معها لمدة سنة أو سنة ونصف. وخلال وجودي هناك، قررت في سنة 1976 الذهاب إلى إنكلترا لدراسة التصوير السينمائي في ′National Film and Television School′ وبقيت هناك سنة، تعلمت فيها عمل الأفلام الوثائقية، وعدت إلى عمّان، ثم إلى بيروت، وبسبب الحرب الأهلية والظروف الأمنية في لبنان، عادت الأونروا لتنتقل إلى فيينا في سنة 1977، فانتقلت معها أيضاً." 

لقطات في الذاكرة والحياة 

يتذكر نعمة خلال اللقاء، الذي لم تخفت فيه ابتسامته، زياراته المتكررة إلى المخيمات الفلسطينية، ويتذكر معها ظروف العمل التي رافقته، فيقول: "كان العمل في بعض المخيمات سهلاً، ولم أكن أواجه تحديات كبيرة، فكان بوسعي العمل بحُرية، وهذا ما جرى في مخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن، حيث كان يتطلب الأمر بضع أوراق روتينية لإنجازه، بينما لم يكن بالسهولة ذاتها في مخيمات سورية ولبنان. كنا ندخل إلى المخيم في سيارات الأونروا، برفقة مدير المخيم، لكن ما كان يجري في الغالب، أن الناس كانوا ينظرون إلى شخص يحمل كاميرا سينمائية في المخيم بعين الشك، وهذا كان يعيق العمل أحياناً، أو لا يسهّله على الأقل."

 

مخيم البقعة بعد الثلج 1969، من مجموعة الأونروا - أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تصوير جورج نعمة

 

مع ذلك، يجد نعمة نفسه منغمساً في لحظات لا يمكن أن ينساها، كما يقول، "لعل أكثر اللقطات تأثيراً فيّ حتى اليوم، تلك التي التقطتها في مخيم شاتيلا، عقب المجزرة، ربما كنت أول مصور يدخل إلى المخيم، لا يمكنني نسيان تلك المشاهد التي تُظهر بربرية ووحشية وقسوة الإنسان. في المقابل، هناك اللقطات التي صورتها في الضفة الغربية، مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حينها، كنت هناك، وصورت لقطات كثيرة، وهذه المشاهد جعلتني أرى كيف يمكن للإنسان أن يصمد، على الرغم من المعاناة والصعوبات والتحديات التي يعيشها، فيكون قراره أن يحيا ويستمر، تلك المشاهد واللقطات علمتني أن هذا الشعب سيبقى موجوداً وصامداً، على الرغم مما يمرّ به منذ أكثر من سبعين عاماً." 

أرشيف الأونروا يؤرخ

الصور التي التقطها نعمة، سواء في صبرا وشاتيلا، أو في انتفاضة الحجارة، تعود حقوقها إلى الأونروا، إذ كانت الوكالة الخاصة باللاجئين الفلسطينيين، كما يوضح نعمة، "معنية بتغطية تلك الأحداث التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني، لأنها جزء من تاريخه،" ومثلها بقية التغطيات التي قام بها هو وزملاؤه في قسم التصوير في الوكالة، في المخيمات التي أقيمت بعد النكبة وإنشاء الأونروا، أو بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، وبقية المراحل التاريخية التي مرّ بها الشعب الفلسطيني.

 

هؤلاء الفلسطينيون هم من بين عشرات الآلاف الذين هجروا إلى غرب الأردن في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية في حزيران يونيو 1967. الحقوق محفوظة للأونروا

 

يلفت نعمة إلى أهمية الصور والأفلام التي أنتجتها الأونروا، لِما لها من قيمة تاريخية، فهو يذكر أن: "التغطيات التي قمت بها على سبيل المثال، يمكن من خلالها رصد تاريخ الناس والأحداث التي مروا بها. صورت في سنة 1967 نزوح الآلاف من الضفة إلى الأردن، وإقامتهم بمخيمات في الأغوار، وصورت هؤلاء في سنة 1969، حين اضطروا أيضاً إلى تغيير أماكنهم، بسبب المعارك التي جرت." يغرق نعمة أكثر في ذاكرته، مستعيناً بما شاهد وصوّر: "شاهدت وصورت مخيم البقعة، القريب من عمّان، حين كان خياماً، ولاحقاً شاهدته وصورته حين بدأ بالتحول إلى وحدات سكنية صغيرة، كما عدت وشاهدته وصورته حين ارتفعت فيه المباني التي تطاول بعضها، تلك الصور التي التقطناها أنا وزملائي، تؤرخ حياة المخيمات وتطوُّرها." 

حياة اللاجئ في لحظة

ما إن يضغط المصور على زر الكاميرا، حتى يتوقف الزمن عند لحظة معينة، فتبقى خالدة إلى الأبد، إلى أن يعود أحدهم، ويبحث عن واقع تلك اللحظة، وما الذي آلت إليه. وهذا ما حدث مع نعمة الذي صور لاجئاً فلسطينياً اسمه هاشم في مخيم البقعة سنة 1969: "لجأ هاشم إلى الأردن ومعه 3 أولاد، وأذكر أنه في سنة 1969، تساقط الثلج بغزارة في الأردن، وهاشم، مثل غيره من اللاجئين، كان يريد إطعام أولاده، لم تكن الظروف سهلة عليه، فأنشأ ′تخشيبة′ صغيرة، ليصنع ويبيع الفلافل في المخيم، فأمّن له ولعائلته دخلاً بسيطاً، ساعده، مع ما كانت تقدمه الأونروا من مساعدات.

 

أطفال في الطين في مخيم البقعة للطوارئ، من مجموعة الأونروا 1972، تصوير جورج نعمة

 

صورت تلك اللحظات من حياة هاشم. عدت بعد أعوام إلى المخيم وبحثت عنه، فوجدت أنه انتقل مع عائلته إلى إحدى الوحدات السكنية في المخيم، وبعد أعوام أُخرى عدت، فصار يسكن في بيت من طبقتين، ومنذ سبعة أعوام زرته، وقد استطال سكنه إلى أربع طبقات، يسكنها أولاده الذين تزوجوا، أما تخشيبة الفلافل، فأصبحت مطعماً كبيراً في المخيم، له أبواب أربعة، كل هذه التطورات وثّقتها بالصور. فالصورة تحكي قصة وتاريخاً لشخص ما، أو قضية ما." ليس هاشم وحده، بل هناك العديد من القصص التي يوردها نعمة من عدسته وذاكرته التي عاشها بين اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، فهناك ربحي الذي صوّره نعمة وهو يدرس سنة 1971، وعاد ليلتقيه في مخيم البقعة أيضاً، كما نشاهده في فيلم الأونروا "استذكار الرحلة.. الطريق إلى البقعة"، وهو يرحب بنعمة، ويذهب وإياه إلى بيت والدته التي كان قد التقط لها صورة مع ابنها أيضاً سنة 1971: "عرفت ربحي في المخيم، كان صغيراً يبرع بلعبة كرة القدم، قلت له مرة بأن يهتم بدراسته أكثر، بعد سنوات تخرّج ربحي، وعمل مدرّساً في الوكالة، وترقّى ليصبح مدير مدرسة، وهو الآن متقاعد." 

 

ربحي بين صديقين من لاجئي فلسطين يدرسون على مصباح كيروسين في مخيم البقعة ، الأردن. من مجموعة الأونروا - أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1973 تصوير جورج نعمة

الصورة أيقونة

بعض الصور التي التقطها جورج نعمة وغيره من مصوّري الأونروا وغيرها، خلال تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، صارت أيقونية، وتُستخدم للدلالة على أسى "النكبة". بعض تلك الصور، استُخدم خارج الحالة الرمزية، فدلل به باحث أو صحافي على ذكرى النكبة، وفي بعض المنشورات وُضعت تعليقات لتلك الصور للدلالة على الحدث (النكبة)، من دون توخّي الدقة، وهو ما يؤثر في وقت ما في صحة الرواية. يعتبر نعمة أن "تصحيح هذا الخطأ اليوم صعب جداً، أو حتى غير ممكن، فبعض الصور والفيديوهات ضاعت معلوماته الأصلية لدى المصدر، وهي اليوم منتشرة بكثافة عبر الإنترنت، وتُستخدم بمعلومات خاطئة، إلا حين استخدامها كرمز،" ويوضح نعمة أن مشروع رقمنة صور وفيديوهات الوكالة الذي عمل عليه منذ عشرة أعوام، بعد أن طلبت منه الأونروا التعاون معها من أجله: "ساعد بشكل كبير على حل هذه المشكلة،" فالمشروع أدى إلى رقمنة الصور والفيديوهات والأفلام لدى الأونروا، التي توضح في موقعها الإلكتروني أنه "يتضمن أكثر من 430,000 صورة سلبية، ونحو 10,000 صورة مطبوعة، إلى جانب 85,000 شريحة عرض، و75 فيلماً، بالإضافة إلى 730 شريط فيديو". وتشير الوكالة إلى أن "اليونسكو" أدرجته في سنة 2009، "باعتباره جزءاً من ذاكرة العالم، وهو الأمر الذي يشكل اعترافاً بقيمته التاريخية."[1]

 

[1] انظر الرابط الإلكتروني.

عن المؤلف: 

أيهم السهلي: صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت.