حكايات من قاع المدينة
التاريخ: 
17/03/2023
المؤلف: 

تهدف منار حسن – المحاضِرة في جامعة بئر السبع – في هذه الدراسة إلى استعادة الحراك النسائي في مدن فلسطين الكبرى قبل سنة 1948 من خلال استقراء مواد بحثية ومصادر منشورة وغير منشورة، لتعويض غياب الأرشيف المنظم الموازي لأرشيف الدولة العبرية ومؤسساتها. وقد اعتمدت المؤلفة على عدة مصادر بديلة في هذا المجال: منها سيَر ومذكرات عالجت وضع المرأة، ومصادر صحافية انتدابية، أهمها جريدة فلسطين والدفاع، ولقاءات مع جيل عايش النكبة، أو فترة ما بعد النكبة مع مَن لجأْن إلى الأردن ولبنان والضفة الغربية.

 

 

 في عملية منهجية سمّتها "إعادة بناء فسيفساء المدن المنسية"، وهي أيضاً قراءة جندرية لنكبة فلسطين، تستعيد المؤلفة من خلالها قراءة نقدية مثيرة للوحتين للفنانيْن إسماعيل شموط وتمام الأكحل، تُظهر منار حسن فيها التباس الموقف النوستالجي من استعادة مجتمع ما قبل النكبة. ففي لوحة "الفردوس المفقود" لإسماعيل شموط، يستعيد الفنان فلسطين كقرية مثالية ترقص فيها العرائس حول شجر الزيتون (أو ربما البرتقال) في مشهد رعوي نوستالجي. بينما نرى في جدارية تمام الأكحل "يافا عروس البحر" (التي اختارتها المؤلفة كغلاف لكتابها) ظهور المدينة الساحلية بملاعبها وبياراتها ومقاهيها وحاراتها وعالم البهجة واللعب على شاطىء البحر. تقول منار حسن: "قياساً بالموتيفات الريفية التي برزت لدى شموط طرحت الأكحل في أعمالها موتيفات حضرية بالذات. وهذا فارق مهم لأن العلاقات الحضرية أُقصيت عن الذاكرة الجمعية وعن التاريخ المتداول."

 

تمام الأكحل: جدارية"يافا عروس البحر"

 

استخدام المؤلفة المقابلات مع معاصري أحداث الفترة الانتدابية سمح لها بالغوص في استكشاف حيّزات حضرية لم تظهر في كرونولوجيا التطور الحضري في دراسات عديدة بشأن المدن الفلسطينية، وفي معالجة دور المرأة وموقعها في أحداث النكبة نفسها. منها مثلاً نبذة عن نشاط جمعية زهرة الاقحوان السرية (صفحة 154)، والتي نشطت في نهاية سنة 1947 وبداية سنة 1948 كوحدة مقاومة نسائية، وهي معرفة كانت مقتصرة حتى الآن على إفادات الشقيقتين مهيبة خورشيد وأختها ناريمان، بالإضافة إلى أخبار متفرقة ظهرت، حينها، في جريدة فلسطين (21/5/1948) وفي جريدة الدفاع. ونرى هنا إفادات نساء معاصرات للحركة، مثل تقرير سهام الدباغ وأختها لطيفة عن علاقتهما بالأخوات خورشيد ونضالاتهن – (وهي بدورها مادة مصدرها أرشيف الباحثة فيحاء عبد الهادي). صحيح أن هذه الإضافات جزئية ومشوبة بنسبة من الخطأ الاسترجاعي، وربما بشيء من المبالغة، إلاّ أنها تضيف بعداً حيادياً لظاهرة كانت حتى الآن أقرب إلى التبجُّح الدعائي.

ومن هذه الإضاءات أيضاً اكتشاف منار حسن لجمعية التضامن النسائي (1942) كامتداد لجمعية " أخوة الحرية "، والتي انضم إليها عدد من الوطنيات، مثل مريم زعرور ولولي أبو الهدى وأسمى طوبي، بهدف "تعزيز مكانة العائلة وبناء مجتمع صحي على الطراز الحديث،" وترى المؤلفة أن هذا التجمع كان تجمعاً مناهضاً لاتحاد النساء العربيات في القدس – جاء بدعم بريطاني، وهدف إلى تعبئة النساء العربيات لمصلحة المجهود الحربي البريطاني وتطوُّر "أُمة معاصرة موالية للمصالح البريطانية" (صفحة 98-99).

اعتمدت المؤلفة في تحليلها للمعطيات على رؤيا هيتروتوبية نسائية. والهيتروتوبيا هي مصطلح طوّره ميشيل فوكو للحديث عن المشهد الحضري الذي يحوي ممارسات وسلوكيات غير نمطية، نجدها في المستشفيات والسجون والمقابر والمتاحف. تتجلى هذه المعالجة في الفصلين الثالث والرابع، وفي رأيي، هما لبّ الكتاب المستمد من رسالة الدكتوراه للمؤلفة، ونجد فيهما مساهمات نظرية وفكرية أضافت بعداً نوعياً إلى الكتاب، على الرغم من بعض مآخذي عليه الآتي ذكرها.

وتركز هنا منار حسن على الحضور النسائي في الفضاءات الحضرية "الأُخرى" التي اجتاحتها في الفترة الانتدابية في ميادين العمل، والسياسة والصحافة والنوادي. نرى هذه الفضاءات الأُخرى في احتفاءات النبي روبين جنوبي يافا، وهي نشاطات تجري في حيّز خارج المكان في "قطيعة كاملة"  (لماذآ كاملة؟) مع الزمن "التقليدي المعتاد"، تسمية المؤلفة حيّزاً "هيتروتوبياً علمانياً" لأن الحضور النسائي المختلط كسر نمط الطقوس الذكورية المعتادة. ونرى هذا الحيّز أيضاً في عالم "الجناكي"، وهو عالم النساء العاملات في الغناء والعزف والرقص في مناسبات الأعراس والمهرجانات الشعبية من أمثال النبي روبين (صفحة 242).

من الفضاءات الأُخرى التي تعالجها المؤلفة عالم الاستقبالات النسائية المحظور على الرجال، والذي كان يلعب دوراً مهماً في خلق حيّز حميمي للوجدان الطبقي النسائي – ومنه نبتت (في نظر المؤلفة) نواة الحركة النسائية البورجوازية في فترة الانتداب.

الجانب الهيتروتوبي الآخر الذي عالجته المؤلفة بجرأة هو عالم الإتجار بالجنس والبغاء الذي "تخصصت" فيه مدن الموانئ – يافا وحيفا. وهي ظاهرة تعززت خلال فترة الثلاثينيات والاربعينيات بوجود هجرة كبيرة للعمالة الوافدة من سورية ولبنان للعمل في مدن الساحل، وتميزت بوجود مستمر للبحارة والجنود المنقطعين عن الحياة الجنسية العادية. وتعتمد منار حسن هنا على تقارير دائرة الصحة الانتدابية، وعلى ريبورتاجات الصحف المحلية التي وصفت يافا بالمدينة "المتخمة بالفجور"، وهي مركز الدعارة الرئيسي في فلسطين (صفحة 235)، ولعله الوجه الآخر ليافا عروس فلسطين!

لديّ بعض الملاحظات الانتقادية لكتاب "المغيبات"، أرجو أن تسمح لي صاحبة هذا الكتاب الممتع بالتعبير عنها.

أولاً، ظهرت هذه الأطروحة التي تم صوغ الكتاب فيها سنة 2008 (جامعة تل أبيب)، ولم يتم نشر الكتاب حتى أواخر سنة 2022. خلال الأربعة عشر عاماً المنصرمة، لم تقم المؤلفة بأي تحديث للمخطوطة، وخصوصاً أن كمّاً كبيراً من الدراسات تم إنجازه بشأن الحركة النسائية خلال فترة الانتداب، كان لا شك في أنه سيعدَّل بعد الأحكام والاستنتاجات التي قامت بها المؤلفة.

ثانياً، في الفصل الثاني الذي يعالج تاريخ الحركة النسائية، هنالك اعتماد شبه كامل (نحو 30 إحالة) على مصدر واحد فقط ،هو دراسة إيلين فلايشمان عن نساء فلسطين الانتدابية – ذلك على الرغم من انتقاد المؤلفة لفلايشمان، بصفتها تعاني جرّاء "منظور لا تاريخي – فهي [أي فلايشمان]، في رأي المؤلفة، لا تفسر لماذا ظهرت هذه الجمعيات في تلك الفترة، ولم تظهر في فترات تاريخية سابقة"، تقصد الجمعيات الخيرية – هذا على الرغم من أن المؤلفة لم تورد تفسيراً مقنعاً لهذا النقص في معالجتها السردية. وكان في إمكانها الاستفادة من مصادر أولية تاريخية، بالإضافة إلى إنتاج فلايشمان المهم – مثلاً كتاب " متيل مغنم" عن تاريخ الحركة النسائية في فترة الانتداب.

على الرغم من هذه النواقص، فإن كتاب منار حسن يشكل إضافة مهمة إلى معرفتنا عن التحولات في النسيج الاجتماعي لفلسطين الانتدابية وإضاءة أصلية على جوانب خفية من أوضاع النساء المغيبات في الحيّز العام والحيّز الخاص، وبصورة خاصة في العالم السفلي- الذي تسميه سهير التل "قاع المدينة".