سلوان: إرادة صمود في مواجهة سياسة السلب
نبذة مختصرة: 

تعرضت قرية سلوان المقدسية، ولا تزال، لحملة استيطان واسعة استُخدمت فيها جميع الأدوات الاستيطانية الصهيونية والإحلال الديموغرافي. وبسبب النمو السكاني الفلسطيني من جهة، ونهب الأرض من جهة ثانية، تحولت البلدة إلى أحياء فقر وعشوائيات، لكن ذلك لم يفتّ من عضد سكانها الذين صمدوا في بيوتهم.

النص الكامل: 

مقدمة

شهد حي الشيخ جراح في القدس في سنتَي 2021 و2022، تغطية إعلامية بسبب مواجهة سكانه الفلسطينيين المحاولات الإسرائيلية لاقتلاعهم من منازلهم، واستعمار ذلك الجزء من الحي. وهناك أسباب متعددة لبروز استعمار الشيخ جرّاح في الإعلام المحلي والعالمي، أهمها أن القضية ترتبط بشكل مباشر بحق العودة، وأن ما يجري هو تهجير لسكانه من اللاجئين الفلسطينيين للمرة الثانية بعدما كانوا قد لجأوا إليه بعد نكبة 1948، كما أن تكدس المؤسسات الأجنبية والقنصليات في حي الشيخ جرّاح جعل قضية الحي تصل إلى الآفاق، وربما يكون الوضع الطبقي والثقافي لسكان الحي أحد أسباب القدرة على إعلاء الصوت وتنظيم الاحتجاجات الجاذبة للإعلام. لكننا لن نخوض هنا في موضوع حي الشيخ جرّاح، فقد سبق أن عالجناه بتوسع في مقالة سابقة نُشرت على صفحات هذه المجلة.[1]

سنحاول في هذه الدراسة عرض ما عاشته وتعيشه قرية سلوان منذ عقود، إذ لا يمكن فهم ما يدور في هذه القرية بمعزل عن الصورة الشاملة ومعركة البقاء التي تدور رحاها بلا هوادة في جميع أنحاء القدس القديمة وفي خارج أسوارها. وبالتأكيد، فإن الأمر يتعلق بصورة واسعة أيضاً بهوية المدينة وتاريخها ومظهرها الحضاري، وبالتالي تحديد مستقبلها. إن قرية سلوان تلخص آليات السيطرة على الحيز كلها، وجميع الأدوات المستخدمة في السيطرة على السكان وتحديد أعدادهم، وتكشف بشكل واضح عن معركة الوجود بين السكان الأصليين وقوة الاحتلال المسلحة بأدوات ليس من السهل حصرها، والتي جرى نسجها ما قبل الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1967 وما بعده، الأمر الذي أكسبه خبرة فريدة في تحقيق أهدافه الاستعمارية.

سنحاول في هذه الدراسة رسم صورة عامة لسلوان بمختلف تقسيماتها، والتركيز على دوافع وآليات الاستعمار الاستيطاني فيها، وأثر ذلك في سلوان من جهة، وفي القدس عامة من جهة ثانية. 

سلوان وأحياؤها

سلوان هو اسم القرية الأقرب إلى أسوار القدس القديمة من الجهة الجنوبية والشرقية، وبشكل أساسي يمكن القول إنها تشكل جزءاً مهماً من تاريخ القدس العتيقة (الموقع الأثري / تلة الضهور) والقدس القديمة المسورة، وفيها تقع أطلال القدس العتيقة. ونشأت قرية سلوان بسبب وجود نبع عين سلوان، المصدر المائي الوحيد في القدس، مستفيدة من تدفق المياه في الوادي لري المزروعات على طرفَي الوادي، وبُنيت مباني القرية على السفح الغربي لتلة رأس العمود التي لا تبعد أكثر من 400 متر هوائي عن السور الشرقي للبلدة القديمة، وهذه التلة تُعتبر السفح الجنوبي الغربي لجبل الزيتون الشهير والمقدس المشرف على البلدة القديمة من جهة الشرق. وقد ذكر المؤرخون والجغرافيون العرب سلوان على أنها "محلة" في ربض القدس منذ القرن العاشر للميلاد، وهذا بالتأكيد ليس تاريخاً لإنشاء سلوان، لكنه يؤكد أنها كانت في حينه قرية معتبرة.

أمّا أراضي قرية سلوان فتلاصقت مع أسوار القدس القديمة من الجهتين الشرقية والجنوبية، وامتدت شرقاً إلى حدود العيزرية وأبو ديس، وامتلكت أراضي تصل إلى ما خلفهما شرقاً في اتجاه طريق أريحا. أمّا من الجهة الجنوبية، فقد امتدت أراضي سلوان إلى السفوح الشمالية لجبل المكبر، ووصلت غرباً إلى السفوح الشرقية لجبل النبي داود (جبل صهيون)، كما أنها تقع على السفوح الجنوبية الشرقية لجبل الزيتون، وكان جزءاً مهماً من أراضيها، وخصوصاً وادي حلوة، يقع داخل أسوار القدس البيزنطية. واستمر الأمر كذلك منذ القرن الخامس للميلاد وصولاً إلى نهايات الفترة الفاطمية (القرن الحادي عشر للميلاد)، حين جرى اختصار مساحات المدينة المسورة لتصل إلى مساحتها الحالية تقريباً، ولتتحول المناطق التي أُخرجت خارج الأسوار إلى أراضٍ زراعية تابعة لقرية سلوان.

في سنة 1596 سكنت 60 أسرة في سلوان،[2] وبلغ عدد سكانها في سنة 1870 نحو 92 أسرة،[3] ومع نهاية القرن التاسع عشر وصل عدد السكان إلى 1000 نسمة تقريباً. وفي إحصاء الانتداب البريطاني لسنة 1922 يظهر أن عدد سكان  سلوان ارتفع إلى 1901 نسمة.[4] وتتوالى الزيادة السكانية بشكل مطّرد، إذ يظهر أن عدد سكانها وصل في سنة 1931 إلى 2968 نسمة يسكنون في 630 منزلاً.[5] وفي إحصاء سنة 1945 وصل عدد سكانها إلى 3820 نسمة.[6]

 

سلوان في سنة 1873، لقطة لجزء من مجسّم القدس الذي أعده ستيفان إليش (Stephan Illes)، والمعروض حالياً في متحف القلعة في القدس.[7]

 

بقيت سلوان قرية جميلة تتشكل من صفوف من البيوت متموضعة على الصفائح الصخرية المتدرجة (الكونتورات) على سفح الجبل، وذلك خارج حدود بلدية القدس الانتدابية، واستمر الوضع هكذا إلى حين تم ضمها إلى بلدية القدس الأردنية في سنة 1961. ونمت سلوان بشكل سريع بعد خروج الأحياء خارج أسوار البلدة القديمة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين زاد عدد سكان القدس بشكل كبير، الأمر الذي أدى إلى اكتظاظ البلدة القديمة بالسكان، وبالتالي إلى بروز مبانٍ جديدة في مختلف أراضي سلوان، وانتقال سكان من القدس المسورة إلى مناطق أُخرى من سلوان، وخصوصاً الثوري ورأس العمود، لكن أيضاً في اتجاه وادي حلوة وحي بطن الهوى. وتسارع الأمر بصورة ملموسة أيضاً حين أصبحت سلوان جزءاً من بلدية القدس الكبرى.

وعلى الرغم من التوسع الذي شهدته سلوان خلال فترة الانتداب البريطاني، مثلما ظهر في الإحصاءات السكانية، فإن الزيادة السكانية الكبيرة، وتسارع عملية البناء في سلوان، حدثا بعد سنة 1967، حين جرت مصادرة الأراضي في القدس كلها، وحُصرت التجمعات السكانية في مناطق محددة، وهو ما زاد في الضغط على سلوان القريبة جداً من القدس القديمة، بحيث لم تبقَ أراضٍ فارغة فيها، واختفت بالتدريج جميع الأراضي الزراعية، وخصوصاً البساتين التي كانت تقع إلى جنوبي البلدة القديمة "البستان"، ونمت أغلبية الأحياء المشكّلة لسلوان بطريقة عشوائية من دون بُنى تحتية ولا تخطيط، وفي ظروف اجتماعية واقتصادية غاية في التعقيد. ويمكن بالعين المجردة، وبمجرد التجوال بين أزقة أحياء سلوان التوصل إلى نتيجة أن معظم المباني السكنية فيها غير صالح للسكن، وأن المباني مكتظة جداً ومحصورة في أماكن ضيقة متراكب بعضها فوق بعض، وبشكل يفتقر إلى الحد الأدنى من شروط السكن الصحي. إن سكان سلوان، في معظمهم، يعيشون تحت خط الفقر، وتسود في أحيائهم أمراض الفقر المعروفة كافة. ويسكن سلوان اليوم، في مختلف أقسامها، نحو 60,000 نسمة على أقل تقدير، وهذا الرقم ناتج من جمع أرقام السكان في جميع التجمعات السكانية التي تُعتبر تاريخياً مكونة لسلوان، وهي بهذا الرقم يمكن اعتبارها واحدة من المدن المشكّلة للشطر الشرقي من القدس.

تُعدّ سلوان اليوم جزءاً لا يتجزأ من أحياء القدس، بل تُعتبر الخاصرة الجنوبية للقدس القديمة، ولا سيما أنها تجاور الجدار الجنوبي للمسجد الأقصى. وقد تعرضت هذه القرية، وما زالت، لهجمة استيطانية شرسة، نظراً إلى موقعها المهم المحتضن للبلدة القديمة من الجهة الجنوبية والشرقية، ولاحتضانها موقع الآثار القديمة في القدس العتيقة، تلك المنطقة التي أُطلق عليها تضليلاً اسم "مدينة داود"، فضلاً عن أنها تُعتبر المكون الأساسي لما يسمى "الحوض المقدس".

 

أجزاء من سلوان والمخططات الإسرائيلية لها

المصدر: بمكوم (Bimkom).

 

يأخذ الاستيطان في سلوان أشكالاً متنوعة تلخص في حقيقة الأمر استيطان فلسطين كلها، أكان ذلك قبل سنة 1948 أم بعدها، إذ لم تبقَ طريقة رئيسية أو فرعية للسيطرة على العقارات والأراضي، ولم يبقَ قانون استعماري لتعزيز هذه السيطرة وسحب الأراضي من تحت أقدام أصحابها، إلّا واستُخدما في سلوان.

وسنحاول فيما يلي، وباختصار، عرض مختلف مناطق سلوان، بناء على المسميات المحلية لكل مكون (حي)، مع التركيز على ما يدور فيه من نشاطات استيطانية، علماً بأن كل مكون بحاجة إلى دراسة خاصة، فالعرض هنا هدفه أساساً إعطاء صورة شاملة. أمّا تحديد الحدود الجغرافية لكل مكون، فلن يشغلنا كثيراً، وسيتم طرحه بصورة عامة، وذلك لعدم وجود حدود مرسّمة لكل مكون. وبسبب غياب الدراسات التفصيلية السابقة، فإن المؤلف سيعتمد أيضاً على ذكرياته الغنية عن سلوان، فهو سكنها فترة من حياته قبل سنة 1967 وبعدها. 

1 - حي وادي حلوة

يقع هذا الحي جنوبي سور القدس القديمة، ويبدأ خارج باب المغاربة (باب المدينة)، ويمتد جنوباً ليصل إلى ما يُعرف الآن بحي البستان. أمّا شرقاً فيصل إلى وادي ستنا مريم (قدرون / النار / جهنم)، وغرباً يحدّه جبل النبي داود (جبل صهيون). وحتى سنة 1967 امتدت عدة عشرات من البيوت على طرفَي الوادي،[8] بعضها يقع على السفح الغربي لجبل النبي داود، ولم يبلغ عدد سكانه 200 نسمة، بينما احتلت الأراضي الزراعية المساحة الأكبر من الحي. وبناء على هذا التحديد للحي، يمكن القول إن موقع القدس القديم (الموقع الأثري)، وعين سلوان وبركتها، هي مكونات أساسية في تشكيل الحي، ومن هنا جاءت الأهمية التاريخية والرمزية لحي وادي حلوة.

يُقدَّر عدد سكان وادي حلوة اليوم بنحو 6000 نسمة،[9] والأغلبية الساحقة من بيوته بُنيت من دون ترخيص، نظراً إلى إيقاف إصدار التراخيص لها منذ فترة الانتداب البريطاني، إلّا ما ندر، إذ وُضعت مخططات لتحويل تلك المنطقة من القدس إلى حدائق طبيعية وأثرية،[10] وهو ما زال مستمراً حتى اليوم. وعلى الرغم من المخططات البريطانية والأردنية والإسرائيلية كلها، فإن الحي استمر في النمو بشكل مطّرد، مثلما رأينا في الإحصاءات السكانية، كما أن سكان القدس فرضوا واقعاً على الأرض، بغضّ النظر عن "المخططات الرسمية". وخلال فترة الانتداب البريطاني وبعدها، كان الحي جذاباً لالتصاقه بالقدس القديمة، وعدم حاجة السكان إلى مواصلات للوصول إلى المدينة المسورة التي شكلت مركز الحياة، لهم. وفي الحي يمكن سماع أصوات آذان المسجد الأقصى وبوضوح تام. أمّا اليوم، ونتيجة ما سبق كله، فإن المباني شرعت تتكدس في جميع الأرجاء، وباتت علامات العشوائيات والفقر تطغى على أنحاء الحي كلها، فضلاً عن أنه يفتقر إلى مواقف للسيارات، وإلى البُنى التحتية الأساسية، ولم يعد هناك مساحات فارغة بين الأبنية، بل باتت التشويهات البصرية تظهر في مبانيه كافة.

وظهر الاهتمام بحي وادي حلوة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين بدأت مدارس الآثار التوراتية الغربية بالبحث عن القدس العتيقة في سبيل ربط القدس بالرواية التوراتية، فأُطلق على أطلال سلوان (تلة الضهور / تل أوفل) تسمية "مدينة داود"، وذاع صيت هذا التل الأثري بحيث لم تتوقف التنقيبات فيه، والتي أخذت الشكل الأكثر تنظيماً منذ سنة 1923، من طرف المختصين والهواة المسكونين بالرواية التوراتية وآثارها.[11] وما زالت هذه التنقيبات جارية حتى اليوم، وتمتد من السور الجنوبي للمسجد الأقصى، وهي استمرار للحفريات التي تجري في المكان الذي يحتوي على أطلال دار الإمارة الأموية،[12] مروراً بالتنقيبات الواسعة فيما يُعرف بموقف حافلات وادي حلوة[13] (ما يسمى إسرائيلياً موقف غفعاتي)،[14] وصولاً إلى بركة سلوان ومحيطها. أمّا من الناحية الشرقية فتمتد منطقة التنقيبات حتى وادي ستنا مريم (قدرون)، ويمر تحت شارع وادي الربابة ومبانيه النفق الذي حُفر من بركة عين سلوان وصولاً إلى داخل الأسوار.[15]

وأُنشىء إلى الجنوب من المسجد الأقصى مركز دعوي صهيوني كبير يزوره نحو نصف مليون زائر سنوياً، معظمهم من الإسرائيليين، وهو يعرض أفلاماً ويقدم مجسمات تُظهر التاريخ اليهودي للمنطقة، بغضّ النظر عن نتائج التنقيبات التي لا تتفق والرواية المطروحة في هذا المركز، علماً بأن جمعية إلعاد[16] الاستيطانية هي المكلفة بإدارة الموقع كافة. ويُعتبر هذا الموقع "الحديقة" الطبيعية أو الأثرية الوحيدة التي تديرها جمعية غير حكومية في فلسطين كلها، بينما تقوم سلطة الحدائق الوطنية الإسرائيلية بإدارة سائر الحدائق، أكانت في القدس أم في غيرها. وجمعية إلعاد هي الممول الأساسي للتنقيبات التي جرت في المنطقة المذكورة، بما في ذلك حفر النفق أسفل وادي حلوة. وليس الهدف هنا مناقشة التناقض الكبير بين نتائج التنقيبات الأثرية والرواية النصية التوراتية، إذ بات هناك شبه إجماع بين الباحثين الجديين، وبينهم أعداد كبيرة من المؤرخين والأثريين الإسرائيليين، على أن الفرق شاسع بين ما يبوح به علم الآثار وما تذكره النصوص المقدسة.

 

النفق المزدوج أسفل حي وادي حلوة

 

اعتمدت محاولات السيطرة الإسرائيلية على وادي حلوة الذي يسمى إسرائيلياً "عير دافيد" أي "مدينة داود" على مجموعة من القوائم، وذلك باستخدام تشريعات وأساليب متنوعة: أولاً، السيطرة على المواقع الأثرية وهي تل سلوان الأثري، وعين وبركة سلوان ومحيطهما الواسع، وموقف السيارات المذكور وامتداده حتى المسجد الأقصى شمالاً، والنفق الذي جرى حفره تحت وادي حلوة،[17] وهي جميعاً وُضعت تحت إدارة جمعية إلعاد الاستيطانية التي تشكل "حكومة محلية" في مناطق سيطرتها، وهو أمر غير مقبول حتى لعدد كبير من الأثريين الإسرائيليين؛ ثانياً، اعتبار منطقة وادي حلوة كلها "حديقة قومية"، والتي تضم أجزاء أُخرى من سلوان، مثلما سيمر بنا فيما بعد؛ ثالثاً، اعتبارها أملاكاً يهودية قبل سنة 1948، إذ وُجدت عدة عقارات ينطبق عليها التعريف الإسرائيلي، وبالتالي نُقلت هذه العقارات إلى جمعية إلعاد الاستيطانية؛ رابعاً، شراء أو السيطرة على العقارات عبر السماسرة وتزوير الوثائق والبحث عن أي ثغرات قانونية أو مشكلات اجتماعية تزعزع ملكية العقار للفلسطينيين، وبالتالي تتم السيطرة على هذا العقار باستخدام محامين متفرغين لدى جمعية إلعاد الاستيطانية، مهمتهم الوحيدة هي البحث عن آليات للسيطرة على العقارات في وادي حلوة؛ خامساً، اعتبارها أملاك غائبين فلسطينيين من الذين لم يكونوا في أثناء حرب حزيران / يونيو 1967 في القدس. ويُذكر أن هناك كثيراً من العقارات التي ينطبق عليها هذا التعريف، أكان ملّاكها يملكون العقار كله أو جزءاً منه، أم كانوا يقطنون خارج فلسطين أو حتى خارج "حدود بلدية القدس"، بحسب التحديد الإسرائيلي. وقد مكّنت هذه الآليات كلها، أذرع الاحتلال الإسرائيلي المتعددة من السيطرة على عدد كبير من العقارات في وادي حلوة.

وسيتغير المظهر الثقافي للجزء الشمالي من وادي حلوة، بعد تنفيذ بناء القطار المعلق (cable car) الذي حصل على التراخيص الإسرائيلية كلها، وهذا المشروع الآن في المراحل الأخيرة من التخطيط، ولا يُعلم متى سيتم الشروع في تنفيذه، بعد أن أعطت محكمة العدل العليا الإسرائيلية الضوء الأخضر لتنفيذه بتاريخ 15 / 5 / 2022، رافضة بذلك جميع الاعتراضات التي قُدمت ضد المشروع.[18]

ولا يُعرف عدد العقارات التي استطاعت جمعية إلعاد السيطرة عليها وتسجيلها باسمها على وجه اليقين في وادي حلوة، لأنه لا يتم إعلان كل صفقة تتم، بل إن قضية عقار ما ربما تظهر بعد أعوام طويلة، ذلك بأن الجمعية تُبقي الساكنين الفلسطينيين في العقار من دون تغيير في وضعهم لعدة أعوام، ومن دون أن يعرفوا أنه جرى السيطرة على العقار. وفي "الوقت الملائم" تعلن جمعية إلعاد السيطرة على العقار، ثم يتم إجلاء السكان بقوة الشرطة، فلا يتبقّى لهم بعد ذلك سوى التوجه إلى المحاكم الإسرائيلية لإثبات عدم صحة سيطرة إلعاد على عقارهم، وهي محاكمات تمتد أعواماً طويلة جداً، وبتكاليف باهظة، ونادراً ما تنتهي لمصلحة الفلسطينيين. واليوم يُقدّر عدد المستوطنين اليهود في وادي حلوة بنحو 350 مستوطناً يشكلون ثلث مجموع المستوطنين تقريباً في مختلف أنحاء سلوان.

 

صورة جوية تُظهر حي وادي حلوة وأماكن الحفريات، والسيطرة على الأرض. ولا تشمل السيطرة على تلة سلوان الأثرية

المصدر: Emek Shaveh

 

آخر قضايا وادي حلوة اتضحت يوم الثلاثاء الموافق فيه 27 / 12 / 2022، ففي أثناء الانشغال بأعياد الميلاد والتحضير لاستقبال السنة الجديدة، انقضّت مجموعة من المستوطنين من جمعية إلعاد على قطعة أرض تسمى "أرض الحمرا"، وتقع مباشرة إلى الجنوب الغربي من بركة سلوان. وتبلغ مساحة الأرض المذكورة أربعة دونمات وتُعتبر جزءاً من مشهد عين سلوان، إذ ضمت بركاً تعود إلى الفترة البيزنطية، وكانت تُستعمل للاستشفاء بناء على معجزة السيد المسيح التي جرت على يديه في الموقع، وهو اعتقاد استمر في التراث الإسلامي المحلي. وتعود ملكية الأرض إلى بطريركية الروم الأرثوذكس التي أجّرتها منذ سنة 1931 إلى عائلة سُمرين السلوانية التي ظلت تزرعها بريّها من مياه عين سلوان، على الرغم من النشاطات الأثرية المكثفة فيها وفي محيطها. وتبدو هذه الأرض اليوم بأشجار التين والرمان الوارفة كبقعة خضراء وحيدة محاطة بالبنايات من مختلف الجهات. ولم يتضح بعد ما إذا كانت هذه الأرض جزءاً من صفقة تمت بين بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس وجمعية إلعاد الاستيطانية، وما هو الشكل "القانوني" الذي استُخدم في نقل العقار، لكن نشبت حركة احتجاج من سكان الحي عقب السيطرة على أرض الحمرا، وذلك كجزء من الحراك الدائم في سلوان. وربما نعود إلى مناقشة هذه القضية في مقالة لاحقة، وذلك حين يزول غبارها وتتضح أبعادها كافة.

 

أرض الحمرا، وتظهر فيها علاقتها بالبلدة القديمة

المصدر: " RTعربي".

 

 2 - وادي الربابة

يُعتبر وادي الربابة الامتداد الطبيعي لوادي ماميلا الذي يبدأ عند مقبرة ماميلا الكائنة إلى الغرب من باب الخليل في الشطر الغربي المحتل منذ سنة 1948. وهذا الوادي يستمر على امتداد السور الغربي للبلدة القديمة، مشكّلاً أولاً بركة السلطان الضخمة، ثم يتجه شرقاً بانحدار شديد عند ما يسمى "جورة العناب" حيث يصبح اسمه "وادي الربابة" (Valley of Hinnom). ويقع قسم من الجزء الغربي من وادي الربابة ضمن ما يسمى المنطقة الحرام (no-man’s land)، وذلك بناء على اتفاقية الهدنة الموقّعة مع الأردن في سنة 1949، أمّا الجزء الأساسي من الوادي، وصولاً إلى حي البستان في الجنوب الشرقي، فاحتُل في حزيران / يونيو 1967. ويحدّ وادي الربابة من الجنوب حي الثوري (جزء من سلوان)، ويحدّه من الجهة الشمالية كل من جبل النبي داود (جبل صهيون) وحي وادي حلوة.

وادي الربابة ذو تركيبة جيولوجية جميلة، فهو يقع بين جرفين صخريين، وينحدر بحدة في اتجاه الجنوب الشرقي، وكان حتى وقت قريب مزارع زيتون لسكان سلوان. ويمكن مشاهدة معظم أشجاره حتى اليوم، على الرغم من عدم السماح لأصحاب المزارع بالعناية بها، بل جرى تحويلها إلى أشجار برية لأن شجر الزيتون يرفض الاختفاء، ومع ذلك فإن أصحاب هذه المزارع يقطفون الزيتون كل عام في ظل قمع قوات الاحتلال ومستوطنيه.[19] ويتصل وادي الربابة بنضارة خضاره مع البساتين (حي البستان حالياً)، وكان بسبب جماله متنفساً (منتزهاً) طبيعياً لسكان وادي حلوة وحي الثوري، ولسكان القدس عامة. وعلى الطرف الشمالي للوادي، هناك بعض المنازل الفلسطينية المطلة عليه، والتي تتبع وادي حلوة، لكنها أقرب جغرافياً إلى وادي الربابة.

اشتهر الوادي في العصور القديمة كمقابر لسكان القدس، إذ استُغلت المغاور الطبيعية فيه لدفن الموتى، كما أضيف إليه عبر العصور مزيد من المغاور التي حفرها الإنسان. وتعود القبور إلى عصور متنوعة تمتد من الفترة الرومانية حتى الفترة المملوكية، الأمر الذي سهّل على سلطة الآثار الإسرائيلية السيطرة على جزء مهم من الوادي وإعلانه موقعاً أثرياً.

وعلى الطرف الشمالي للوادي، هناك مقبرة يهودية صغيرة أعيد ترميم قبورها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ومُدّت إلى مساحة أكبر كثيراً من حجمها الأصلي. كما زُرعت مقابر (وهمية!) إضافية فيها للسيطرة على مزيد من الأراضي، ولمنع سكان المنطقة القريبة من التمدد عمرانياً، بل أصبحت منازلهم مهددة على اعتبار أنها بُنيت بالقرب من موقع أثري ومن مقبرة يهودية، فكثير من المباني المذكورة يواجه أخطاراً متعددة وتهديداً دائماً بهدمه أو السيطرة عليه.

أمّا الطرف الجنوبي الشرقي للوادي فيضم ديراً للروم الأرثوذكس يسمى دير القديس أونوفريوس (Monastery of Aceldama or Akeldama, also Saint Onuphrius Monastery)، الذي بُني في سنة 1874 على أنقاض كنيسة بيزنطية تعود إلى القرن الرابع الميلادي.

 

وادي الربابة في سنة 1940 تقريباً، ويظهر إلى اليسار الدير وفوقه حي الثوري، وإلى اليمين حي النبي داود

المصدر: مجموعة ماتسون، مكتبة الكونغرس.

 

ولتسهيل السيطرة على أرضي وادي الربابة، أعلنت الحكومة الإسرائيلية هذه الأراضي أملاك غائبين، مستندة في ذلك إلى أن بعض الملّاك، وهم أقلية على كل حال، كانوا غائبين عن القدس في سنة 1967. أمّا بقية أراضي الوادي، والتي لم يكن ممكناً إعلانها أملاك غائبين لوجود ملّاكها الذين يمتلكون أوراقاً تثبت ملكيتهم للأرض، فجرت مصادرتها بحجة أنها أراضٍ خضراء تشكل جزءاً من حديقة وطنية مزمع إنشاؤها كحزام للقدس القديمة وكجزء من الحوض المقدس،[20] وقد صدر قرار مصادرتها عن بلدية القدس الإسرائيلية في سنة 2018، وشمل قرار المصادرة 60 دونماً. ولا يمكن النظر إلى هذا القرار بمعزل عن سائر أدوات السيطرة التي سنسردها تباعاً، لكن من المهم النظر إلى وادي الربابة كجزء من السيطرة على المشهد الثقافي، وتهميش الوجود الفلسطيني بقدر الإمكان إلى حد التلاشي أمام تسخير أدوات سيطرة ضخمة على المشهد كافة.

يفصل وادي الربابة بين حي وادي حلوة وحي الثوري، ويمنع بالتالي التواصل العمراني والحضري بين الحيين، فهو يشكل حاجزاً أمام الحركة الطبيعية لسكان المنطقة، كما أن استعماله من طرف الفلسطينيين كمنتزه بات ضئيلاً جداً، إذ جرى تحويل جزء من المباني الفلسطينية التي تقع أعلى الوادي من الجهة الغربية، وكانت جزءاً من المنطقة الحرام بعد سنة 1948، إلى نادٍ للسينما (Cinematic) للإسرائيليين، علاوة على زرع مستعمرة بين الوادي وحي الثوري، وربطها بالوادي بشارع مباشر. وتقوم جمعية إلعاد أيضاً، بالاشتراك مع سلطة الحدائق الإسرائيلية، بتنظيم دورات عن "الزراعة التوراتية" في الوادي بأدواتها ونباتاتها المتنوعة، فَبَنَتا في الموقع طابوناً، وعرضتا أدوات إنتاج زراعية، وشكلتا المنطقة مثلما كانت عليه "افتراضياً" قبل 2000 عام مستعملتَين خيالاً واسعاً. ولهذا، أحيطت منطقة معتبرة من الوادي لهذا الغرض، وفُصلت بدرابزين معدني بحيث أصبحت بالتدريج متحفاً توراتياً في الهواء الطلق، وذلك في محاولة لتشجيع الزوار الإسرائيليين على القدوم إلى الموقع وتهويد مختلف مظاهره. ويمكن للزائر اليوم أن يشاهد بشكل كلي أبعاد السيطرة على وادي الربابة، وتحويله إلى موقع للرواية التوراتية، وذلك بالتكامل مع المواقع المذكورة في وادي حلوة، ومع عدة مناطق من البلدة القديمة ومحيطها. وبلغ مجموع ما بُني من متاحف على هذه الشاكلة في القدس ومحيطها العشرات، وكلها تقريباً يهدف إلى إثبات وجود تراث يهودي في القدس قبل 2000 عام. 

3 - حي البستان

يقع هذا الحي إلى الجنوب الشرقي من وادي الربابة، وإلى الشرق من بركة عين سلوان، وهو جزء من وادي ستنا مريم (وادي قدرون). وحتى ثمانينيات القرن العشرين، كان عبارة عن بستان ضخم يضم أشجار تين باسقة ترتفع عالياً مروية من مياه عين سلوان، وبين أشجار التين برزت أشجار الرمان، كما زُرع كثير من الخضروات مثل الفجل والبصل والبقدونس والنعناع والبقوليات. وقد اعتاش كثير من عائلات سلوان من بساتينها، وشكلت منتوجاتهم جزءاً من السلة الغذائية الطازجة لمدينة القدس.

بدأت بوادر الأزمة السكنية في القدس منذ سبعينيات القرن العشرين، حين صودرت مساحات شاسعة من أراضي المدينة، وفقدت أغلبية الأحياء، بما فيها سلوان، الأراضي المحيطة بها، فانحصر التوسع الفلسطيني داخل الفراغات المتوفرة داخل هذه الأحياء. وهنا بدأت البساتين تختفي بالتدريج لتحل محلها مبانٍ عشوائية. وكلما زادت أزمة القدس السكنية، زاد إحلال المباني مكان أشجار التين، وبحلول تسعينيات القرن العشرين كان البستان قد اختفى، وحل محله حي كامل الأركان، طبعاً من دون تراخيص ولا تخطيط أو بُنى تحتية. وزاد الحي اكتظاظاً بمرور الوقت، وارتفع بعض المباني إلى طبقتَين وأكثر، وذلك تبعاً لنمو العائلات القاطنة فيه، ووصل عدد المنازل إلى نحو 90 منزلاً، ويُعتقد أن عدد سكان الحي تجاوز الآن 1200 نسمة، وبعضهم يصل بالرقم إلى 1500 نسمة تقريباً.

وقد استعملت السلطات الإسرائيلية آلية مختلفة للسيطرة على هذا الحي، فاخترعت فكرة أن الموقع كان "حديقة" للملك داود في القرن العاشر قبل الميلاد، وأنه سُمي "وادي الملوك"، وبالتالي لا بد من إعادة هذا الحيز الجغرافي إلى حديقة متخيلة مثلما كانت عليه في تلك الحقبة الزمنية التي لم يثبت وجودها أصلاً. وجميع هذه الإجراءات التي قامت وتقوم بها سلطات الاحتلال تأتي ضمن ما تُطلق عليه اسم مشروع "الحوض المقدس" الذي يهدف إلى مصادرة أراضٍ في وادي الربابة في بلدة سلوان وحيَّي البستان ووادي حلوة ومنطقة طنطور فرعون والمقابر اليهودية على سفوح جبل الزيتون.

ومع أن الحي نما كلياً في ظل السيطرة الإسرائيلية الكاملة على القدس، وتحت نظر بلديتها وأجهزتها المتنوعة، إلّا إن أول ردة فعل إسرائيلية على وجود الحي ظهرت في سنة 1995، حين قامت لجنة التوجيه لتطوير السياحة في القدس (The Jerusalem Tourist Development Steering Committee)، بنشر مخطط لإقامة متحف مفتوح في موقع الحي، وذلك احتفالاً بمرور 3000 عام على تاريخ مدينة القدس. وبناء عليه، حُضّرت النسخة الأولى من المخطط في سنة 2000، ونُشرت في سنة 2004، وبناء على ذلك أصدر مهندس البلدية الإسرائيلية أمراً يقضي بهدم "البناء غير القانوني" في "وادي الملوك" (هكذا)، وتبع ذلك في العام التالي قيام البلدية بتوزيع أومر الهدم على العائلات القاطنة بالحي، وتمكنت من هدم بيتَين.

 

حي البستان، أسفل الصورة في الوادي، وعلى يساره حي بطن الهوى

 

لم يقف سكان الحي ساكتين أمام هذه الهجمة عليهم، فنظموا مجموعة من الاحتجاجات، وشكلوا حالة شعبية استقطبت اهتماماً وتضامناً واسعين على المستويين المحلي والدولي، فخضعت بلدية القدس للضغوط، وقامت بتأجيل تنفيذ بقية أوامر الهدم، على أن يقوم السكان بترتيب أوضاعهم القانونية. لذلك، وتجاوباً مع هذه "اللعبة"، قدم سكان الحي مخططاً هيكلياً بحسب الأصول التخطيطية المتبعة في تأهيل الأحياء، مستثمرين في ذلك مبالغ طائلة، إلّا إن مقترحهم رُفض في سنة 2009، وأصرت لجنة التخطيط اللوائية على أن الحي يجب أن يكون منطقة مفتوحة خالية من المباني، نظراً إلى قيمته التاريخية والثقافية. واقترحت البلدية على سكان الحي أن يتركوا منازلهم، وأنها ستساعدهم في توفير مبانٍ لهم في منطقة بيت حنينا، غير أن سكان حي البستان رفضوا ذلك العرض وأصروا على بقائهم في حيّهم.

وأمام تمسّك السكان بموقفهم، واستمرارهم في الاعتصام في خيمة أقاموها في الحي، وتوافد المتضامنين معهم من كل مكان، وتواصل التقارير الإخبارية عن قصتهم في الإعلام المحلي والدولي، قامت بلدية القدس في سنة 2010 بتعديل مخططها، بحيث عرضت على السكان الإبقاء على 66 منزلاً بعد تأهيلها، وهي التي تقع في الجهة الشرقية من الحي، على أن تهدم 22 منزلاً[21] تقام على أنقاضها حديقة وورش للفنانين ودكاكين لبيع الهدايا التذكارية ومقاهٍ. ردّ السكان على هذا المخطط بتقديم مخطط بديل، إلّا إنه رُفض في سنة 2011. هدأ الحي، لكن النشاطات الاحتجاجية لم تتوقف سوى في سنة 2017، حين قامت بلدية القدس بتوزيع أوامر هدم لخمسة مبانٍ، وحضّرت 28 أمر هدم أُخرى لم تقم بتوزيعها، خوفاً من ردة فعل واسعة النطاق، وكي تتمكن من قضم الأراضي أولاً بأول في جميع أحياء القدس، ومن دون جلبة كبيرة.[22]

 

حي البستان وعلاقته بسائر أحياء سلوان ومن ضمنها وادي حلوة. وفي هذه الخريطة تظهر سيطرة المستوطنين على المباني في وادي حلوة، ومن ضمن ذلك المواقع الأثرية

المصدر: الأمم المتحدة، أوتشا.

 

لم تنتهِ قصة حي البستان حتى اليوم، إذ إن خيمة الاعتصام ما زالت قائمة على الرغم من هدمها عشرات المرات، وسكان الحي لا يزالون ينظمون نشاطات احتجاجية خاصة كل يوم جمعة، بحيث تحولت خيمتهم إلى مركز ثقافي تنظَّم فيه شتى أنواع النشاطات، ويتجمع داخله السكان في السراء والضراء، وهم الذين ما زالوا متمسكين ببيوتهم ويرفضون العروض التي تقدَّم إليهم بالخفاء وبالعلن، مثبتين بذلك جدوى النضال الجماهيري والمقاومة الشعبية في حماية القدس من مطامع الاحتلال. 

4 - حي بطن الهوى

يقع حي بطن الهوى على السفح الجنوبي الشرقي لرأس العمود إلى الشرق من حي البستان، وهو جزء لا يتجزأ من سلوان، ويُعتبر جزءاً من الحي المعروف بـ "الحارة الوسطى". وكان موقع هذا الحي في القرن التاسع عشر جزءاً من الأراضي الزراعية لسكان سلوان، واستُعمل على الأغلب مراعي لماشيتهم، وقد تناثر فيه بعض البيوت التي تعود إلى أهالي سلوان.

 

مستعمرة يهود اليمن في سنة 1890 تقريباً

المصدر: Public Domain

 

حضر إلى القدس في سنة 1881 مجموعة من يهود اليمن بلغت نحو 30 عائلة من مدينة صنعاء مدفوعين أساساً بدوافع دينية مسيانية، ولم يكن في ذهنهم على الأغلب أي من الدوافع الصهيونية المبكرة. وعند وصولهم إلى القدس، بعد رحلة استمرت ستة أشهر، لم يستقبلهم يهود القدس لدوافع عنصرية، إذ إن مظهرهم مختلف حتى عن اليهود الشرقيين (السفارديم)، علاوة على أن لغتهم العربية بعيدة عن الفهم حتى على اليهود الشرقيين. ويبدو أن مظاهر الفقر كانت غالبة عليهم، فلم يجدوا لهم مكاناً في حارة اليهود في القدس القديمة، بل يظهر أنهم طُردوا منها، إذ شكك رجال الدين اليهود في يهوديتهم أصلاً نظراً إلى اختلاف طقوسهم عمّا هو معروف لدى الطوائف اليهودية الشرقية والغربية. وقد وجد بعض هؤلاء ملجأ له في سفوح بطن الهوى حيث انتشرت المغاور الطبيعية وبعض القبور الصخرية القديمة، فسكنوا فيها، ورحّب بهم سكان سلوان. وظهر هذا الترحيب في رسالة كتبها بالعبرية أحد أبناء هذه المجموعة اليمنية في سنة 1940، يشكر فيها الجيران الطيبين من الفلسطينيين الذين حموا أفراد تلك المجموعة خلال أحداث 1929.[23] أمّا بقية المجموعة فاستقرت بالقرب من يافا.

تمثلت المرحلة الثانية من الحياة البائسة لهؤلاء، في قيام أثرياء يهود بشراء[24] خمس دونمات لإنشاء حي لهم في بطن الهوى، فأنشأوا عليها مساكن تستوعب 45 عائلة، لكل عائلة غرفة واحدة، وذلك خلال الفترة 1885 – 1891.[25] وفي نهاية القرن التاسع عشر وصل عدد الجالية اليمنية في الحي إلى نحو 200 نسمة عاشوا في اكتظاظ شديد وفي ظل أوضاع صعبة، بل إن بعضهم استمر في العيش في المغاور، معتمداً على إحضار المياه من عين سلوان. وأطلق اليهود في حينه على هذه المساكن بالعبرية "كفار هشيلواح" (Kfar Hashiloach)، أي قرية سلوان، لكن سادت بين السكان تسمية "الحي اليمني" أو "قرية اليمن". وعلى الرغم من هذا الاستيطان المبكر، فإن أي مشكلة لم تقع بينهم وبين سائر سكان سلوان، وإنما تعايشوا بسلام نسبي، غير أن انتفاضة البراق في سنة 1929 جعلت الشرطة الانتدابية تُجلي اليهود من الحي، لكن بعد عودة الهدوء عاد بعضهم إلى بيوتهم. وعندما اندلعت الثورة الكبرى (1936 - 1939) هاجر مَن تبقّى من يهود اليمن إلى أحياء القدس الغربية، وهو ما حدث بأمر من شرطة الانتداب للحدّ من الاحتكاك المباشر، وذلك على الرغم من احتجاج سكان سلوان على الإجلاء، وإبداء استعدادهم لحماية جيرانهم من اليمنيين.

من المهم التذكير بأن وضع مباني حي اليمن في أربعينيات القرن العشرين، كان في حالة مزرية، كما أن الجزء الأكبر كان آيلاً للسقوط، ولذلك قامت اللجنة اليهودية السفاردية المكلفة بإدارة حي اليمن، بتأجير ما تبقّى من أطلال الحي للفلسطيني كايد جلاجل لثلاثة أعوام، وذلك في سنة 1946. لكن النكبة وقعت قبل انتهاء العقد، فقام جلاجل بدوره بتأجير أو بيع ما تبقّى من المباني لعائلات فلسطينية، ثم طوت أحداث النكبة القضية حتى سنة 1967، بعد أن سُجّلت أملاك اليهود كلها لدى الحارس الأردني لأملاك العدو، ومن ضمنها "حي اليمن"، من دون التدقيق في ملكية الأرض.[26] وهناك روايات محلية تذكر أن عدداً من البيوت انتقل ملكيته بالبيع إلى الفلسطينيين، وأن بعض اليهود اليمنيين باع بيوته عقب أحداث سنة 1929.[27]

بعد الانتهاء من بناء يهود اليمن مبانيهم المذكورة خلال الفترة 1885 - 1891، انتشرت أيضاً مبانٍ للفلسطينيين في المنطقة نفسها تقريباً، وتوسعت بشكل كبير بعد سنة 1948، حين سكنت عائلات فلسطينية في مباني يهود اليمن. غير أن البناء الفلسطيني انتشر وتوسع في سفح الجبل كله، واصلاً بين رأس العمود والجذر التاريخي لسلوان في منطقة البستان وما يُعرف أيضاً ببئر الأيوب الذي يقع إلى الشرق من حي البستان. وزادت النشاطات العمرانية الفلسطينية بشكل كبير في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته بسبب أزمة السكن المستشرية في القدس، تماماً مثل سائر الأحياء المحيطة، بل مثل أحياء الشطر الشرقي من القدس كافة. واختفت بالتدريج مباني يهود اليمن بسبب تهالكها أصلاً، وبسبب التوسع العمودي والأفقي فيها وفي المنطقة المحيطة بها، حتى بات من الصعب تشخيص بقاياها. ويبدو الحي اليوم عبارة عن كتل من الأسمنت العشوائي، بحيث تلاصقت المباني بعضها ببعض، وانعدمت بصورة متدرجة الفراغات بين المباني، وساد الفقر الشديد وأمراضه بين السكان، علماً بأن الوصول إلى معظم حي بطن الهوى لا يتم إلّا عبر الأقدام، إذ يستحيل وصول السيارات.

ظهرت البوادر الأولى لقضية حي بطن الهوى في سنة 1970، حين نُقلت صلاحيات الحارس الأردني لأملاك العدو في "شرقي القدس" (The Jordanian Custodian of Enemy Property) إلى الحارس العام الإسرائيلي للأملاك (Israeli General Custodian) الذي تحددت مهمته باستعادة أملاك اليهود إلى أصحابها من اليهود، الأمر الذي أسس لأغلبية مطالبات اليهود باستعادة أملاكهم في معظم أنحاء الشطر الشرقي من المدينة، بما فيها البلدة القديمة ووادي حلوة والشيخ جرّاح ورأس العمود وغيرها من الأحياء القريبة والبعيدة عن البلدة القديمة. لكن لم تتم أي إجراءات بهذا الشأن قبل سنة 2000، كما لم يُشمل ورثة يهود اليمن في حقّ استعادة الأملاك حتى اليوم.

وجاءت الخطوة الثانية عندما عُيّن أعضاء من جمعية عطيرت كوهنيم (Ateret Cohanim) الاستيطانية في سنة 2002 كأمناء على صندوق بنفنستي (Benvenisti Trust)[28] الذي ادعى ملكية 5,2 دونمات في بطن الهوى، والتي ضمت مساكن يهود اليمن. وبهذه الخطوة، انتقلت المسألة إلى مرحلة جديدة من المطالبة بأملاك إلى تحويلها إلى قضية استيطانية، إذ جرى في السنة نفسها تقديم طلبات من طرف عطيرت كوهنيم، إلى المحكمة الإسرائيلية لإجلاء العائلات الفلسطينية من الحي.

لم ينتظر سكان الحي طويلاً بعد معرفتهم بتحريك القضايا في المحكمة، فتقدموا في سنة 2018 بدعوى ضد إجلائهم من المكان، مستندين إلى أن "الملكية اليمنية" هي للمباني وليس للأرض، وأن المباني اختفت وبقيت الأرض، ولذلك لا يحقّ لجمعية عطيرت كوهنيم انتزاعهم من بيوتهم. وأقرّت المحكمة بأن قيام القيّم الإسرائيلي على أملاك الغائبين، عند قيامه بنقل الوصاية إلى صندوق بنفنستي، لم يدرس ملكية الأرض بحسب القانون العثماني بشكل وافٍ، كما أنه لم يأخذ مصير المباني بعين الاعتبار. لكن محكمة العدل العليا الإسرائيلية رفضت طلب العائلات الفلسطينية، ومهدت الطريق لجمعية عطيرت كوهنيم من أجل الاستمرار في تقديم دعاوى إجلاء ما مجموعه 81 عائلة فلسطينية يصل عدد أفرادها مجتمعين إلى نحو 436 نسمة. واستطاعت عطيرت كوهنيم استصدار قرار إجلاء من المحكمة في حقّ 18 عائلة، على الرغم من وجود كثير من عدم الدقة في تحديد موقع الأرض وحدودها، ومن الضبابية بشأن ملكية الأرض و"قانونية" تحويل "الوصاية" إلى عطيرت كوهنيم، وعدم وجود مطالبين من ورثة يهود اليمن، غير أن المحاكم الإسرائيلية ما زالت تصدر قرارات الإجلاء.

ولا يزال الوضع سجالاً بين سكان الحي من الفلسطينيين، والأجهزة الإسرائيلية الرسمية والاستيطانية التي تقدّم مرة إغراءات مالية إلى السكان، ومرة أُخرى تهددهم بأوامر الإجلاء. ولم يتم حتى الآن السيطرة على هذا الجزء من الحي الضخم، غير أن سكان الحي كلهم باتوا يعانون جرّاء أوضاع نفسية صعبة، لأن سيف الإجلاء موضوع على رقاب عدد كبير من سكان الحي الذين بسبب فقرهم لا يملكون بدائل سكنية. وفضلاً عن ذلك، يتم إزعاج سكان الحي ككل بتنظيم مسيرات استيطانية داخل الحي، بما تمثله من استفزاز لمشاعر السكان، الأمر الذي يؤدي إلى كثير من المواجهات الدموية واعتقال أغلبية شباب الحي وأطفاله خلال الأعوام الماضية، وإصدار أحكام جائرة ضدهم، بما في ذلك الحبس المنزلي لأعداد كبيرة من أطفال الحي الذين لم تتجاوز أعمارهم 12 عاماً.[29]

 

حي بطن الهوى، المباني المهددة بالإخلاء

المصدر: Ir-Amim

 

5 - رأس العمود

يقع حي رأس العمود على تلة تُعتبر من المنحدرات الجنوبية الغربية لجبل الزيتون، ويحدّه من الغرب المقبرة اليهودية وحي بطن الهوى (الحارة الوسطى)، ومن الجنوب حي وادي قدوم (من أراضي سلوان)، ومن الشرق أبو ديس، أمّا من الشمال فيحدّه جبل الزيتون والطريق الذي يربط بالقدس القديمة صوب باب الأسباط. ولا يبعد الحي كثيراً عن مواقع تاريخية ودينية مثل كنيسة الجسمانية وكنيسة قبر السيدة العذراء، ولا يبعد أكثر من 300م هوائي عن أسوار البلدة القديمة، ومن الصعب تحديد حدود هذا الحي، لكنه على أغلب الاحتمالات يمتد شرقاً حتى حدود أبو ديس (جدار الفصل العنصري)، حتى لو أن هناك إمكاناً لتقسيمه أيضاً إلى عدة أقسام بناء على المسميات المحلية لكل حي.

وبقي الحي خارج حدود بلدية القدس حتى ستينيات القرن العشرين، حين قام الأردن بضمه إلى القدس. وحتى سنة 1967، سكن الحي أهالي سلوان إلى جانب أعداد كبيرة من سكان القدس الذي شيدوا المباني في الحي كله، على اعتبار أنه يقع قريباً من القدس، وأنه مرتفع يوفر مناخاً ملائماً، ويقع على الطريق الواصل بين القدس وأريحا، ثم إلى عمّان، الأمر الذي يضيف مزيداً من القيمة إلى الحي. وأكثر ما يميزه الإطلالة الجميلة والواضحة على البلدة القديمة كلها، ولا سيما قبّة الصخرة. وكان حي رأس العمود، حتى ثمانينيات القرن العشرين، حياً للطبقة الوسطى، وخصوصاً تلك القطعة منه المسماة "الشياح"، والتي انتشر فيها ما يشبه القصور قبل سنة 1967.

تطور الحي بالطريقة والمظهر ذاتهما اللذين أصابا سائر أحياء المدينة، إذ بدأت الفراغات والحدائق الداخلية تزول بالتدريج، واجتاحته العشوائيات، وزاد الضغط عليه بفعل محاصرته عبر توسيع المقبرة اليهودية من جهتين، هذا عدا إعلان عدة مناطق كمواقع أثرية. وأخيراً خسر الحي مركزيته، فبعد أن كان رابطاً بين القدس وقراها الشرقية العيزرية وأبو ديس والسواحرة، وبعد أن كان الطريق الرئيسية إلى أريحا والأغوار والأردن، فإن جدار الفصل العنصري عزله وحوّله إلى آخر الأحياء الشرقية للقدس، الأمر الذي زاد في تدهور أوضاعه وانكفائه وتهميشه.

في مركز رأس العمود، وفي نقطة مشرفة بشكل مباشر على المسجد الأقصى، أُنشئت مستعمرة يهودية في سنة 2003، وهي السنة التي سكنت خلالها في المستعمرة أول عائلة يهودية، وسُميت هذه المستعمرة معاليه هزيتيم (Ma'ale HaZeitim)، وهي تتشكل من 90 وحدة سكنية يقطنها نحو 250 مستوطناً. وتماماً في الجهة المقابلة لهذه المستعمرة، كان يقع مركز الشرطة الذي بُني في فترة الإدارة الأردنية، وكان يفصل بينهما شارع، فقامت السلطات الإسرائيلية بتسليمه إلى المستوطنين في سنة 2008، بعد أن بنت مقراً جديداً للشرطة إلى الشرق من جبل الزيتون في المنطقة المعروفة "E1". وسُمي مقر الشرطة "معالوت دافيد" (Ma’alot David)، وذلك بعد تحويله إلى مستعمرة، وبعد بناء مزيد من المباني حوله، وهذه المستعمرة تضم 23 وحدة سكنية، علاوة على كنيسَين ومكتبة ومدرسة دينية وقاعة متعددة الأغراض.

وفي هذا الموقع، تم استخدام حجة أن الأرض تعود إلى ملكية يهودية قبل سنة 1948، حين جرى اقتناء (الحقيقة استئجار) الأرض لتحويلها إلى مقبرة يهودية،[30] كي تتواصل مع المقبرة اليهودية القديمة. وعلى كل حال، فإن موضوع هذه الأرض وملكيتها أو عدمه وما هي الاستخدامات المسموح بها بناء على عقد الإيجار، هي مسألة فيها وجهات نظر "قانونية" معقدة لا تسمح لنا هذه المراجعة بالدخول في تفصيلاتها.[31] وفي سنة 1990 نقل الحارس الإسرائيلي لأملاك الغائبين "ملكية الأرض" إلى الثري اليهودي الأميركي، وأحد الداعمين الرئيسيين للاستيطان في القدس، إيرفينغ موسكوفيتش (Irving Moskowitz)[32] الذي نقل الأرض إلى جمعية عطيرت كوهنيم الاستيطانية التي شيدت المستعمرة. غير أن هذه الأخيرة لم تكتفِ بذلك، فهناك محاولات دائمة لتوسيعها على حساب الأملاك الفلسطينية المحيطة بها.[33] وفي قصة هذه المستعمرة، يظهر تواطؤ حزمة كاملة من الأذرع الإسرائيلية، حكومية وغير حكومية، مدعومة بمنظومة قانونية كاملة ومتكاملة، تهدف إلى تعزيز الاستيطان اليهودي في قلب الأحياء الفلسطينية في القدس.

لقد أثّرت هذه المستعمرة جوهرياً في التواصل الحضري في قلب حي رأس العمود، وخلقت نقطة توتر دائمة، إذ أحيطت، مثلما هي العادة في المستعمرات التي تقع داخل أحشاء الأحياء الفلسطينية، بأسوار عالية وكاميرات مراقبة وأعداد من الحراس المدججين بالأسلحة، كما تُعتبر نقطة عدم استقرار للسكان الفلسطينيين المحيطين بها من جميع الجهات، إذ تقع فيها بشكل دوري المواجهات بين المستوطنين وسكان الحي، غير أن سرد تاريخ هذه المواجهات يحتاج إلى سجل طويل. ونجحت هذه المستعمرة في خلق أوضاع صعبة لنحو 20,000 فلسطيني يعيشون في منطقة رأس العمود، فهي نقطة توتر دائم، لأن المستوطنين يتظاهرون دائماً، تحت حماية الشرطة الإسرائيلية، ويقيمون الاحتفالات الدائمة لإزعاج السكان الفلسطينيين من أجل إرغامهم على الرحيل، لكن الذي حدث هو أن عدد الفلسطينيين، ولأسباب يطول شرحها، زاد بشكل كبير في محيط المستعمرة. 

6 – سائر أحياء سلوان

على الرغم من عدم تعرّض سائر أحياء سلوان الكبيرة، مثل حي عين اللوزة والثوري ووادي قدوم، للاستيطان المباشر، فإن هذه الأحياء خسرت كثيراً من أراضيها، وخصوصاً تحت مسمى "أراضٍ خضراء". فوادي قدوم مثلاً تأثر بتشييد جدار الفصل العنصري بينه وبين أبو ديس والسواحرة، الأمر الذي أدى إلى فقدانه كثيراً من الأراضي التي مُنع البناء فيها لقربها من الجدار، بينما تأثرت عين اللوزة لوقوعها بين بطن الهوى وحي البستان، ولتوفُّر مؤشرات كبيرة إلى نهم استيطاني فيها، كما أن عدداً كبيراً من مبانيها بات عرضة للهدم بحجة عدم الترخيص. أمّا حي الثوري فخسر أراضيه الفارغة كلها، الواقعة إلى الجنوب من الحي، والتي تفصل بينه وبين جبل المكبر، لأن هذه الأراضي أُعلنت منطقة خضراء، بينما توسعت من الجهة الغربية للحي مستعمرة تلبيوت الشرقية، علاوة على توسع تلبيوت الأصلية[34] على حساب حي الثوري بعد سنة 1967. وبالتالي فَقَدَ حي الثوري أراضيه الواقعة على الجهة الغربية، وهو ما أدى إلى انكفاء الحي داخلياً، فتراكمت المباني بشكل عشوائي، وبات مظهرها ربما هو الأسوأ في القدس كلها، وأضحى هذا الحي ينافس في ذلك مخيم شعفاط، إذ أصبحا يتشابهان في المظهر. 

الخاتمة

حقل ألغام كبير ينتظر الأملاك الفلسطينية شرقي القدس، ربما يؤدي إلى تغيير المعادلات القائمة حالياً. فقد قررت حكومة الاحتلال الإسرائيلي في سنة 2018 تنفيذ ما سمّته "مشروع تسوية الأراضي وتسجيل الحقوق في شرقي القدس". وقد يبدو المشروع للوهلة الأولى مهماً لحماية حقوق الملّاك ومنع المنازعات وحماية الأملاك قانونياً، وهو كذلك في أي مكان في العالم، لكن في حالة القدس، هو حقّ يراد به باطل، لأن المقادسة سيواجهون أربع مشكلات مركزية، في حال تنفيذ هذا المشروع: أولاً، أن عدداً من الملّاك هم من الغائبين بحكم التعريف الإسرائيلي، لكن عائلات هؤلاء المُلّاك استمروا، بحكم القوانين الاجتماعية والأعراف السائدة، في استعمال العقارات المشمولة ضمن أملاك الغائبين، وسيواجَه هؤلاء بواقع قانوني يحرمهم من عقاراتهم تلك عند تسجيلها؛ ثانياً، أن كثيراً من العقارات لم يُقسم منذ عقود بين الملّاك (الورثة) أيضاً بناء على العرف السائد، وبعض الأملاك يمتلكه عشرات من الأشخاص بعضهم يُعتبر من الغائبين بموجب التعريف الإسرائيلي، وبالتالي سيصبح قيّم أملاك الغائبين الإسرائيلي شريكاً في هذه العقارات، الأمر الذي يجعلنا نعرف، مثلما رأينا سابقاً، مصير مثل هذه العقارات؛ ثالثاً، صعوبة إثبات الملكيات العقارية عبر الأوراق الثبوتية، ذلك بأن سكان المدينة لم يشتهروا بحفظهم للوثائق، وخصوصاً أن كثيراً من العقارات التي تعود ملكيتها إلى بعض العائلات منذ قرون، أضاع أصحابها أوراقهم الثبوتية خلال النكبة ؛ رابعاً، أن كثيراً من الأراضي، ولا سيما في الأحياء التي كانت في الماضي قرى مثل بيت حنينا وشعفاط والسواحرة وصور باهر، كانت مشاعاً، ولم يجرِ تقسيمها بين العائلات بشكل رسمي، الأمر الذي ستتخذه السلطات الإسرائيلية مدخلاً إلى اعتبارها أملاك دولة.

استناداً إلى هذا كله، يمكن الحديث عن اتجاهَين أساسيين يسودان الآن: الأول هو نمو واضح في قدرات حركة الاستيطان مشكل من مجموعة متكاملة من الأذرع الحكومية والجمعيات الاستيطانية والمنظومة القانونية الإسرائيلية، وبقدرات مالية ضخمة، تحاول جاهدة الاستيلاء على أي عقار في القدس، وخصوصاً في البلدة القديمة ومحيطها، أي ما يُعرف بـ "الحوض المقدس".[35] أمّا الاتجاه الثاني فيتمثل في زيادة التحدي الفلسطيني دفاعاً عن العقارات، ولدينا في تجربة الشيخ جرّاح وحي البستان خير مثال لذلك، وكذلك في القدس القديمة ومحيطها كلها، حيث اختمرت التجربة وازدادت الحركات الجماهرية جرأة واتساعاً، علاوة على أن هذه الحركة أصبحت أكثر وعياً بالألاعيب "القانونية" الإسرائيلية كافة.

 

المصادر:

[1] نظمي الجعبة، "حي الشيخ جرّاح ومعركة البقاء"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 127 (صيف 2021)، ص 34 - 66.

انظر أيضاً: أحمد أمارة، "الاستيطان في أحياء القدس (البلدة القديمة وسلوان والشيخ جرّاح)" (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار، 2022)، ص 130 - 151.

[2] Wolf-Dieter Hütteroth and Kamal Abdulfattah, Historical Geography of Palestine, Transjordan, and Southern Syria in the Late 16th century (Erlangen: Palm und Enke, 1977), p. 11.

[3] Albert Socin, “Alphabetishces Verzeichniss von Ortschaften des Paschalik Jerusalem”, Zeitschrift des Deutschen Palästina-Vereins (ZDPV), vol. II (1879), p. 161.

[4] John Bernard Barron, Palestine: Report and General Abstracts on the Census of 1922 (Jerusalem: The Greek Convent Press, 1923), p. 14.

[5] Eric Mills, Census of Palestine 1931: Population of Villages, Towns and Administrative Areas (Jerusalem: The Greek Convent and Goldberg Presses, 1932), p. 43.

[6] Government of Palestine, Village Statistics April 1945 (Jerusalem: Department of Statistics, 1945), p. 25.

[7] بشأن هذا المجسم، انظر:

 Rehav Rubin, “Stephan Illes and His 3d Model-Map of Jerusalem (1873)”, The Cartographic Journal, vol. 44, issue 1 (2007), pp. 71-79.

[8] وادي حلوة عبارة عن الامتداد الجنوبي للوادي الذي يبدأ أسفل باب العمود ويسمى طريق الواد داخل البلدة القديمة، وذلك على امتداد الجدار الغربي للمسجد الأقصى.

[9] انظر "مركز معلومات وادي حلوة – سلوان" (“Wadi Hilweh Information Center-Silwan”) في الرابط الإلكتروني.

[10] Nazmi Jubeh, "Patrick Geddes: Luminary or Prophet of Demonic Planning”, Jerusalem Quarterly, vol. 80 (Winter 2019), pp. 23-40.

[11] بشأن تاريخ التنقيبات الأثرية في تلة سلوان الأثرية، انظر:

 Katharina Galor and Hanswulf Bloedhorn, The Archaeology of Jerusalem: From the Origins to the Ottomans (New Haven; London: Yale University Press, 2013), pp. 1-9; Klaus Bieberstein, A Brief History of Jerusalem: From the Earliest Settlement to the Destruction of the City in 70 AD (Wiesbaden: Harrassowitz Verlag, 2017), pp. 8-16.

[12] أُنشىء متحف دعوي آخر في موقع أطلال دار الإمارة الأموية، واسمه مركز دافيدسون. وبشأن هذا المركز، انظر:

Yousef al-Natsheh, “The Digital Temple Mount”, Jerusalem Quarterly File, vol. 19 (October 2003), pp. 53-58.

ولمزيد عن مركز دافيدسون، انظر الرابط الإلكتروني.

[13] كانت قطعة الأرض هذه، والتي يملكها أهالي سلوان، تُستعمل أرضاً زراعية حتى سنة 1967، وقد حولتها بلدية الاحتلال إلى موقف للسيارات والحافلات لزوار حائط البراق. وفي سنة 2003 نقلت البلدية أمور إدارة هذه الأرض إلى جمعية إلعاد الاستيطانية التي قامت بتمويل التنقيبات الأثرية في الموقع، بهدف بناء مشروع استيطاني كبير عُرف باسم "كيدم" (Kedem)، وهو مشروع مر بالعديد من مراحل الموافقات البيروقراطية، ويهدف إلى تشييد مبنى ضخم من عدة طبقات، مكون من قاعات متعددة الأغراض ومواقف للسيارات ومعارض متنوعة للرواية التوراتية، علماً بأنه لا يبعد سوى أمتار معدودات عن السور التاريخي للبلدة القديمة. وبشأن قطعة الأرض هذه والحفريات والمشروع المزمع إقامته عليها، انظر تقرير جمعية "عيمق شفيه":

 “Position Paper: Kedem Compound”, “Emek Shaveh”, 5/11/2013.

[14] أُطلق هذا الاسم في سنة 1981 على اسم أهم الوحدات العسكرية الإسرائيلية.

[15] بشأن النفق، انظر: نظمي الجعبة، "تحويل مجاري القدس الرومانية إلى (درب الحجّاج): مسعى يميني صهيوني وإفنجيلي جديد لتزوير التاريخ"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 126 (ربيع 2021)، ص 57 - 72. وانظر أيضاً:

The Disputed Tunnel in Silwan Inaugurated with American Support”, “Peace Now”, 30/6/2019.

[16] تُعرف أيضاً باسم “Ir David Foundation”، وتموّلها تبرعات هائلة من أثرياء يهود أميركيين، ومن شركات وهمية مسجلة في دول كاريبية معروفة بغسيل الأموال وجزر فيرجين البريطانية، وبعض هذه الشركات مسجل باسم الثري اليهود الروسي (يحمل أيضاً الجنسية الإسرائيلية) رومان أبروموفيتش. وبشأن هذه الجمعية الاستيطانية ونشاطاتها الاستيطانية والأثرية في سلوان، انظر الدراسة المهمة:

 “Settlement Under the Guise of Tourism: The Elad Settler Organization in Silwan”, “Peace Now”, 12 October 2020. 

ويمكن مشاهدة الفيلم الوثائقي الممتاز (مدته نصف ساعة) عن حي وادي حلوة ومشاريع جمعية إلعاد وتمويلها وأهدافها، والذي أعدّه فريق من "بي. بي. سي." بالعربية، في الرابط الإلكتروني.

[17] أدى الحفر تحت منازل وادي حلوة إلى أضرار كبيرة في عدد من المنازل، وبعضها واجه خطر الانهيار. انظر تقرير عيمق شفيه لسنة 2020:

Fissures and Cracks: Damage to Homes in the Wadi Hilweh Neighborhood of Silwan”, “Emek Shaveh”, 18/3/2020.

[18] بشأن مشروع القطار المعلق المار فوق حي وادي حلوة، انظر:

Position Paper: The Cable Car Project to the Old City of Jerusalem”, “The Arab Center for Alternative Planning”, October 2020.

كما يمكن العودة إلى دراسة عيمق شفيه:

The Cable Car to the Old City: Who Gains and Who Loses?”, “Emek Shaveh”, January 2019.

[19] انظر على سبيل المثال تقرير مواجهات قطف الزيتون في: "أهالي وادي الربابة يقطفون ثمار الزيتون لحمايتها من المستوطنين"، شبكة "شهاب الإخبارية" الإلكترونية، 7 تشرين الأول / أكتوبر 2022.

وانظر أيضاً: جمان أبو عرفة، "سرقة الزيتون وافتتاح جسر معلّق.. هجمات إسرائيلية متصاعدة في وادي الربابة"، "الجزيرة نت"، 10/10/2022.

[20] بشأن ما يسمى الحدائق القومية في القدس واستخدامها كأداة للسيطرة على الأراضي وتهجير الفلسطينيين، بما تتضمنه من خرائط توضيحية، انظر دراسة منظمة بمكوم:

From Public to National: National Parks in East Jerusalem”, “Bimkom”, 2012, 

[21] هذا يعني أن مجموع المنازل المهددة يبلغ 88 منزلاً بحسب تعريف بلدية القدس الإسرائيلية.

[22] بشأن حي البستان والمخططات الإسرائيلية المتعددة، انظر:

The Giant’s Garden: The ‘King’s Garden’ Plan in Al-Bustan: The Municipality Plan and its Consequences for the Risidents of the Al-Bustan Neighborhood in Silwan and for a Future Political Solution”, “Ir-Amim”, May 2012, ; “Al-Bustan Neighborhood-Garden of the King”, “B’Tselem, 16 September 2014.

وعن النشاطات الجماهيرية والإعلامية التي نظمها سكان الحي والمتضامنون معهم، انظر مجموعة من التقارير في موقع "عرب 48"، في الرابط الإلكتروني.

[23] بشأن محتوى هذه الرسالة، انظر:

Silwan/ City of David: Letter from Yemenite Jews”, “Emek Shaveh”, 29 July 2013.

[24] ليس من الواضح تماماً ما إذا قاموا بشراء الأرض أم إنهم حصلوا عليها كهدية من السلطات العثمانية، فالأرض كانت مصنفة "ميري"، ولا يجوز بيعها أصلاً بموجب القوانين العثمانية. وتبقى هذه المسألة القانونية ضبابية بالتأكيد (ليس بالنسبة إلى القانون الإسرائيلي)، غير أنه تم تسجيلها (المباني فقط!) كوقف لليهود السفارديم في المحكمة الشرعية في القدس في نهاية القرن التاسع عشر.

[25] ساهمت منظمات سويدية وأميركية مسيحية في مساعدة يهود اليمن الذي استقروا في القدس. انظر:

Yaakov Ariel and Ruth Kark, “Messianism, Holiness, Charisma, and Community: The American-Swedish Colony in Jerusalem, 1881–1933”, Church History, vol. 65, no. 4 (December 1996), p. 645.

[26] انظر التفصيلات والتوثيق الدقيق لجميع الوثائق القانونية ذات العلاقة بالحي منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى سنة 1948، في: أمارة، مصدر سبق ذكره، ص 117 - 121.

[27] لم يتسنَّ لي البحث في هذه المسألة، ولم أستطع الحصول على أي وثائق ذات علاقة.

[28] نسبة إلى شخص اسمه موشون بن بنيستا، الذي كان رئيساً لطائفة اليهود السفارديم في القدس في نهاية القرن التاسع عشر، وهو الذي حصل على إذن بناء من السلطات العثمانية لبناء مساكن يهود اليمن.

[29] بشأن قضية بطن الهوى، انظر:

Joint Urgent Appeal to the United Nations Special Procedures on Forced Evictions in East Jerusalem”, “The Palestinian Human Rights Organization Council”, 10 March 2021;

Batn al-Hawa Neighborhood, Silwan: The Next Target for ‘Judaization’ of East Jerusalem”, “B’Tselem”, 11 December 2016.

[30] استأجرت عائلة الغول السلوانية قطعة الأرض منذ نهاية القرن التاسع عشر، واستمرت في استعمالها حتى بداية المشروع الاستيطاني.

[31] انظر بعض التفصيلات القانونية في تقرير:

Ras Al Amoud Neighborhood: A Hot Spot in Occupied East Jerusalem”, “Monitoring Israeli Colonization Activities in the Palestinian Territories”, 23 June 2003.

 

[32] يؤمن موسكوفيتش بضرورة خلق أغلبية يهودية في الأحياء العربية في القدس، وقد سخّر جزءاً مهماً من ثروته الهائلة لتحقيق هذا الهدف، وارتبط بمعظم الحركات الاستيطانية، ومن ذلك الحركات التي تهدف إلى إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.

[33] انظر على سبيل المثال:

Nir Hasson, “Settler Group Takes Over Three East Jerusalem Buildings, Expanding Jewish Enclave”, Haaretz, 8 April 2021.

[34] حي فلسطيني ثري وقع تحت الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1948.

[35] لمزيد عن هذه المنظومة وبشكل تفصيلي، بما فيها الجمعيات الاستيطانية والأدوات التي تُستخدم في السيطرة على العقارات، وخصوصاً الأدوات القانونية، انظر: أمارة، مصدر سبق ذكره.

السيرة الشخصية: 

نظمي الجعبة: أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت.