تعمد الشركات والمنصات الرقمية الكبرى، في الأعوام الأخيرة، إلى حجب المحتوى الفلسطيني ذي الصلة بالانتهاكات الإسرائيلية من تطبيقاتها، وذلك في سياق الحرب التي تشنّها إسرائيل بهدف طمس السردية الفلسطينية، وقمع حرية التعبير عن الرأي، وتجريم لغة الفلسطينيين ونشاطهم في الفضاء الافتراضي.
في ربيع سنة 2021، أطلقت الناشطة المقدسية منى الكرد في حي الشيخ جرّاح المهدد بالتهجير القسري، هاشتاغ "#أنقذوا_حي_الشيخ_جراح"، ضمن حملة عبر منصات التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على قضية تهجير عائلتها وعائلات أُخرى في الحي، ومحاولات المستوطنين المستمرة للاستيلاء على منزلها ومنازل أهالي الحي الآخرين.
وفي ذروة التفاعل مع القضية عمد تطبيق إنستغرام إلى تقييد حساب منى الكرد ومنعها من البثّ. ولم يتوقف الأمر عند الكرد، فقد مُنع في الفترة نفسها صحافيون وناشطون ومؤثرون فلسطينيون من رفع منشورات وقصص، ووُضعت قيود على منشوراتهم ومُنعوا من البثّ المباشر على التطبيق، في ظل ذروة النشر لمتابعة الأحداث الميدانية ونقل حقيقة اعتداء الاحتلال الإسرائيلي على القدس والمسجد الأقصى والعدوان على غزة، عبر التفاعل على المنصات المتنوعة، وإطلاق الوسوم والحملات الرقمية لدعم صمود أهالي الحي، فضلاً عن استخدام لغة خطاب تتلاءم مع الرأي العام العالمي، الأمر الذي جعل قضية حي الشيخ جرّاح تتصدر قضايا الرأي العام العالمية.
تُعدّ إجراءات إنستغرام حالة واحدة ضمن محاولات مستمرة وممنهجة تقوم بها منصات التواصل الاجتماعي لقمع المحتوى الفلسطيني الرقمي. فقد بـدأت شـركات منصـات التواصـل الاجتماعـي، في أغلبية المرات، واعتباراً من أيار / مايـو 2021 بإزالـة المحتـوى الفلسـطيني مـن المنصات، من دون تقديم أي أسباب أو مبررات واضحة. ونعتقد في "مركز حملة"، بحسب رصدنا لمجريات إجراءات تلك المنصات، أنها مرتبطـة بنشاط وحـدة "السـايبر" التابعـة لـوزارة العـدل الإسرائيلية، والتي قدّمت بلاغات بشأن آلاف الحالات لشركات التواصل الاجتماعي في الأعوام الماضية، من دون أي إجراءات قانونية تسند ما تزعم الوحدة الإسرائيلية أنها انتهاكات.
في تشرين الأول / أكتوبر 2021، نشر موقع "ذي إنترسيبت" (The Intercept)، وهو مؤسسة إخبارية أميركية غير ربحية معروفة، تقريراً شاملاً[1] كشف لأول مرة عن القائمة السوداء السرية لشركة فايسبوك، والتي تضم آلاف "الأفراد والمنظمات الخطرين"، وتقيّد وتمنع آلياً وفوراً ما ينشره هؤلاء، ومن ضمن اللائحة منظمات وشخصيات فلسطينية، وجمعيات خيرية (55 اسماً بين 4000 اسم).
تناول التقرير سياسة فايسبوك عالمياً، لكنه أشار بوضوح إلى أن "قائمة الأفراد والمنظمات الذين يعتبرهم فايسبوك خطرين قد تكون أداة فظّة للغاية، ويمكن استخدامها بعدم كفاءة من طرف المشرفين على فايسبوك، إذ حذف موقع فايسبوك، في أيار / مايو 2021، مجموعة متنوعة من المنشورات لفلسطينيين حاولوا توثيق عنف الدولة الإسرائيلية في المسجد الأقصى، ثالث أقدس موقع في الإسلام، لأن موظفي الشركة ظنوا خطأ أن [المسجد الأقصى] هو نفسه منظمة 'كتائب شهداء الأقصى' الموجودة ضمن القائمة."
هذه القائمة هي نموذج واضح للانتهاك المضاعف: انتهاك الشركات والمنصات الرقمية للتغطية الفلسطينية عن الانتهاكات الإسرائيلية في حقّ الشعب الفلسطيني، وكذلك الانتهاك عبر الآليات "التقنية" المستخدمة لطمس السردية وقمع حرية التعبير عن الرأي وتجريم لغة الفلسطينيين ونشاطهم.
ويثير التقرير عدة أسئلة ذات أهمية قصوى لفهمنا ديناميات الحيّز الإعلامي الرقمي: فهل حذف المحتوى الفلسطيني هو نتيجة "عدم فاعلية" بعض المشرفين، أم إنه نتيجة تعاون وثيق بين شركات مواقع التواصل الاجتماعي العالمية وإسرائيل؟ وما هو حجم ظاهرة حذف المحتوى الفلسطيني ومنع التعبير عن الرأي في مواقع التواصل؟ وكيف تتمكن إسرائيل من فرض سياستها على شركات عالمية، وإضافة شخصيات وكيانات فلسطينية وعربية إلى القوائم السوداء؟ وما هي الآليات التي تعمل بها إسرائيل في هذا السياق؟ وهل هناك ما يمكن فعله لتوسيع مساحة التعبير عن الرأي للفلسطينيين في الحيّز الرقمي الذي أضحى حيّزاً مهماً في الصراع؟
انتهاكات الحيّز الرقمي بالأرقام
منذ أن بدأت شبكة الإنترنت تتشكل كحيّز إعلامي في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، فإنها لم تسلم من معارك الحرب على السردية التي خاضتها إسرائيل ضد المواقع والمدونات والمنتديات التي اتهمتها إسرائيل بالإرهاب وحاولت إزالتها بشتى الطرق. لكن يمكننا الإشارة إلى كثافة رقابة شركات التواصل الاجتماعي على المحتوى الفلسطيني، والتي تصاعدت بالتزامن مع اندلاع الهبّة الفلسطينية في تشرين الأول / أكتوبر 2015، إذ تحولت خلال تلك الهبّة منصات وشبكات التواصل الاجتماعي إلى حيّز نشيط استخدمه الفلسطينيون على نطاق واسع من أجل إيصال روايتهم، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان بالصوت والصورة والبثّ المباشر للعالم كافة.
بدأت الانتهاكات الرقمية في حقّ المحتوى الفلسطيني بالتصاعد مع موجة عمليات الطعن الفردية في الضفة الغربية والقدس المحتلة في سنة 2016، إذ استُهدف نحو 200 صفحة وحساب فلسطيني،[2] وارتفعت نسبة الانتهاكات في سنة 2017 في موقعَي يوتيوب وفايسبوك بصورة خاصة لتصل إلى 280 انتهاكاً متنوعاً شملت: حظر النشر، وإغلاق حسابات، وحذف صفحات. وفي سنة 2018، تصاعدت الانتهاكات وبلغت نحو 500 انتهاك توزعت بين حظر حسابات، وحذف محتوى وإغلاق صفحات، وكان للصحافيين النصيب الأكبر من هذه الانتهاكات التي تركزت في موقع فايسبوك أكثر من سائر المواقع والمنصات.[3]
وشهدت سنة 2019 ارتفاعاً واضحاً آخر في استهداف المحتوى الفلسطيني، ورُصد أكثر من 1000 انتهاك لحقوق الفلسطينيين الرقمية، واحتل فايسبوك المرتبة الأولى بين مواقع التواصل، مع 950 انتهاكاً شملت إزالة صفحات وحسابات شخصية أو تجميدها أو حظرها. وكان بين هذه المصطلحات المحظورة التي يتم التعامل معها على أنها تدعو إلى التحريض كلمات مثل: "حماس"؛ الجهاد؛ شهيد؛ القسام؛ السرايا؛ حزب الله، وهي قائمة تطول لتشمل مفردات مثل: أسرى، وفدائي.[4]
وفي مجال رصد الانتهاكات، وثّق "مركز حملة" 1200 انتهاك خلال سنة 2021، في العديد من منصات التواصل الاجتماعي، تضمنت إغلاق وحذف حسابات وصفحات، وحظر النشر والبث المباشر وإزالة محتوى، وتضييق الوصول والمتابعة وقيود نشر، وحظر أرقام عبر مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي.[5] وسجلت الانتهاكات الرقمية تصاعداً مقلقاً خلال هبّة أيار / مايو 2021، فقد وثّق "مركز حملة" 500 بلاغ عن انتهاك الحقوق الرقمية الفلسطينية في الفترة 6 - 19 أيار / مايو 2021 وحدها، الأمر الذي يشير إلى ازدياد ملحوظ في رقابة وسائل التواصل الاجتماعي على الخطاب السياسي الفلسطيني خلال تصاعد الأزمات، إذ أُزيل خلال هذه الفترة جزء كبير من المحتوى الفلسطيني من المنصات، على غرار تعليق حسابات وإغلاق حسابات أُخرى، فضلاً عن تقليل الوصول، وغيرها من القيود والانتهاكات.
وحدة "السايبر" تطلب وفايسبوك تستجيب
تشير المعطيات أعلاه بشأن الانتهاكات الرقمية إلى عمل منهجي تقوم به المؤسسة الإسرائيلية مع موقع فايسبوك وسائر شركات منصات التواصل الاجتماعي. فما هي الآليات التي تستخدمها إسرائيل في هذا المجال؟
في سنة 2015، أُنشئت وحدة "السايبر الإسرائيلية"، وهي وحدة مراقبة على الإنترنت تعمل ضمن النيابة الإسرائيلية، وهي مسؤولة عن العلاقة مع وسائل التواصل الاجتماعي من أجل فرض رقابة على المحتوى على مواقعها الإلكترونية، ومن دون أي إجراء قانوني أو منح المستخدمين المستهدفين الحقّ في أن يُسمع صوتهم في القرار الذي يتم تنفيذه، غالباً، من دون علم المستخدمين.
أُنشئت وحدة "السايبر" أساساً للعمل في ثلاثة مجالات رئيسية تتضمن مجال جرائم السايبر والإنترنت: جمع المعلومات الإلكترونية، بما في ذلك جرائم الكمبيوتر والأدلة الرقمية والتنصت وبيانات الاتصالات؛ إدارة القضايا الجنائية في مجال جرائم الكمبيوتر والمعلومات كالاحتيال، والتزوير، والقمار، والتحرش الجنسي؛ تنفيذ تدابير إنفاذ بديلة لمنع الأضرار الناجمة عن الأنشطة المحظورة في الفضاء الإلكتروني، بما في ذلك أنشطة إزالة المحتوى المسيء، وتصفية نتائج البحث، وإزالة مستخدمي الإنترنت الذين يشاركون في أنشطة محظورة كالتشهير، وانتهاك الخصوصية، وظواهر مثل التنمّر الإلكتروني.[6]
وفي حين أن الغرض المعلن من وحدة السايبر هو توفير الحماية ضد الضرر الذي يلحق بسلامة الشخص أو أمنه، فإن معظم نشاط الوحدة كان موجهاً ضد المنشورات التي زُعم أنها تدعم "منظمة إرهابية"، أو تسعى للتحريض. لذلك، وجدت المحكمة العليا، أن عمل الوحدة في هذه الحالات قانوني، وبناء على ذلك، اعترفت شركة فايسبوك بأنها استجابت لنحو 90% من طلبات وحدة السايبر الإسرائيلية من أجل حذف منشورات وحسابات فلسطينية، بينما تضمنت نسبة 1% من هذه المنشورات محتوى يتعلق بالتحريض على العنصرية، أو انتهاكات الخصوصية، أو قانون الفيديو المتعلق بقانون منع التحرش الجنسي، وانتهاك حقوق النشر وإعلان خدمات الدعارة، وغيرها من مجالات عمل الوحدة.
إن معظم شكاوى الوحدة يتم قبوله ويُحذف المحتوى الخاص به، إذ جرى كلياً، أو جزئياً، إزالة 76,5% من المنشورات: ففي سنة 2017 بُلِّغ عن 12,351 منشوراً حُذف 88% منها؛ في سنة 2018 جرى تقديم بلاغات عن 14,283 منشوراً حُذف نحو 92% منها؛ في سنة 2019، قُدِّم 19,606 بلاغات ضد منشورات حُذف نحو 90% منها.[7]
كذلك، كشفت البيانات الموجزة التي نشرها مكتب المدعي العام في سنة 2020، أنه في سنة 2020 فُتحت 144 قضية جنائية في وحدة السايبر التي تتعامل مع الجرائم التي حدثت في الفضاء عبر الإنترنت، مقارنة بسنة 2019 التي فُتح فيها 57 قضية فقط، وسنة 2016 التي لم يُفتح فيها إلّا 16 حالة فقط. وقد تناولت 7% من القضايا الجنائية شبهات في ارتكاب مخالفات أمنية في سنة 2020، بينما اعتبرت 5% من القضايا الجنائية أن ثمة تحريضاً.[8] هذه البيانات تتعلق بمسار العمل القسري، أمّا في المسار التطوعي، فتشير البيانات إلى وجود نشاط مفرط في سياق جرائم التحريض والإرهاب لا يتلاءم مع نسبة لوائح الاتهام الخاصة بتلك الجرائم. وتدل تلك الوقائع على أن معظم الإحالات في هذا المسار يتعلق بمنشورات منظمات تعرّفها الحكومة الإسرائيلية بأنها منظمات إرهابية، أو منظمات محرضة على الإرهاب أو العنف.
لا توجد معلومات متاحة عن طبيعة المحتوى المطلوب إزالته من طرف وحدة السايبر، ولذلك يُزال المحتوى من دون شفافية، أو إجراء قانوني البتّة، ومن دون إطار عمل يعطي المستخدمين إمكان الدفاع عن أنفسهم ضد الادعاء بأن منشوراتهم غير قانونية أو تستدعي إزالتها.
أحد نماذج التعاون بين وحدة السايبر والمنصات الرقمية يتجسد في حذف فايسبوك صفحة شبكة القسطل الإخبارية من موقعها، من دون أي إنذار مسبق، وذلك بعد أن غطت الشبكة بكثافة وبشكل متواصل أحداث اقتحام المسجد الأقصى، ووثّقت اعتداءات الاحتلال على المصلين والمعتكفين في أحداث اقتحام المسجد الأقصى وممارسات الاحتلال الإسرائيلي. واعتبرت "القسطل" أن الحذف تم بطلب من الاحتلال الإسرائيلي لإخفاء جرائمه في حقّ الفلسطينيين، مع الإشارة إلى محاولات الاحتلال الممنهجة والمستمرة لتغييب صوت القدس خاصة، وجرائمه في فلسطين عامة.[9] ويُذكر أنه بعد ضغط فلسطيني ودولي جرت إعادة الصفحة.
ولا تقتصر الجهود الإسرائيلية في محاربة المحتوى الفلسطيني في وسائل التواصل الاجتماعي على عمل وحدة السايبر، بل قامت الوزارات والجهات الرسمية الإسرائيلية ببناء مؤسسات و"مجتمعات رقمية" مثل "آكت آي إل" (Act.IL)[10] التي تأسست بالتعاون بين وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، وجامعة رايخمان والمجلس الأميركي / الإسرائيلي وجهات صهيونية أُخرى، و"4 آي إل" (4IL)[11] التي أسستها وزارة الخارجية الإسرائيلية بهدف تنظيم وتعظيم عملية تقديم الشكاوى "الشعبية" من طرف آلاف الناس والمتابعين الذين يتصرفون كذباب إلكتروني، ويقومون بعمليات تبليغ جماعية ضد المحتوى الفلسطيني، لإجبار شبكات التواصل على حذفه.
التشريعات القانونية الإسرائيلية للانتهاكات الرقمية
لا تكتفي المؤسسة الإسرائيلية بعمل وحدة السايبر، فهي تعمل على سنّ تشريعات وقوانين بعضها اكتمل، والآخر لم يكتمل بعد، وجميعها يصبّ في إطار التضييق على المحتوى الفلسطيني. وفي هذا السياق، صادقت اللجنة الوزارية للتشريعات التابعة للحكومة الإسرائيلية، في نهاية كانون الأول / ديسمبر 2021، على "مشروع قانون فايسبوك المجدد" الذي يعود إلى سنة 2015 لمنع ما تسميه "التحريض الفلسطيني" على شبكات التواصل، بهدف ضمان انصياع تلك المنصات لرغباتها، الأمر الذي يشكل تهديداً خطراً للحقّ في حرية الرأي والتعبير، وفي نشر المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية عبر الإنترنت.
إن "قانون فايسبوك" يمكّن الحكومة الإسرائيلية من حجب المواقع وإجبار الشركات على أن تحذف من الإنترنت أي مضمون تراه غير ملائم، وخصوصاً في منصات التواصل الاجتماعي، ويمنحها صلاحية ملاحقة أصحاب هذه المضامين والمنشورات بدعوى "ارتكاب مخالفة جنائية" أو "الدعوة إلى التحريض"، أو تشكيل خطر "على أمن إسرائيل أو أشخاص فيها"، وتجبر شركات شبكات التواصل، والمواقع الإلكترونية، على الامتثال لممارساتها ومطالبها المنصوص عليها قانوناً. أضف إلى ذلك أن المصطلحات المعتمدة في القانون فضفاضة وضبابية من وجهة النظر الإسرائيلية، كمصطلح "المساس بأمن الدولة" "والإرهاب"، وتجريم التوثيق الفلسطيني للانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل في حقّ الفلسطينيين، الأمر الذي يتعارض مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، ويفتح المجال أمام انتهاك الحقّ في حرية التعبير والنقد وفضح جرائم الاحتلال.
تتيح تلك القوانين للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتبُّع أنشـطة المسـتخدمين وملاحقتهـم وسـجن بعضهـم بنـاء علـى تعبيرهـم عـن آرائهم ومواقفهم، إلى جانب استخدام تقنيـة الـذكاء الاصطناعـي للتعـرف إلى "المهاجميـن المحتمليـن"، الأمر الذي تلازم مع العديد مـن عمليـات الاعتقـال والاسـتدعاء والملاحقـة، بنـاء علـى رصـد لمحتـوى ناقـد لسياسـات الاحتـلال، أو نشـر صـور الشـهداء أو الأسـرى الذين يتـم تصنيفهـم علـى أنهـم "مشـكوك فيهم" من خلال تكنولوجيا "الشرطة التنبؤية".
ولا تقتصر هـذه الملاحقـة علـى الحسـابات الخاصـة بالفصائـل والقـوى السياسـية الرســمية الفلســطينية، بل إنها تمتد لتشمل الحســابات الشــخصية. والأمثلة في هذا الإطار كثيرة أبرزها قضية الشاعرة دارين طاطور التي اعتقلتها إسرائيل في سنة 2015، بسبب نشرها قصيدة ضد الاحتلال بعنوان "قاوم يا شعبي" في مواقع التواصل الاجتماعي، فاتُّهمت بالتحريض على العنف والإرهاب، وتأييد منظمة إرهابية، واستمرت محاكمتها ثلاثة أعوام متتالية، وانتهت القضية بالحكم عليها بالسجن خمسة أشهر.
مثل آخر هو اعتقال إسرائيل الشيخ كمال الخطيب اعتماداً على منشورات وتصريحات تتعلق بهبّة القدس والأقصى وأحداث الشيخ جرّاح، وعلى تغريدات له عبر صفحته في فايسبوك تتعلق بالاحتجاجات التي شهدتها بلدات الداخل الفلسطيني واعتداءات عصابات المستوطنين على العرب في يافا واللد.[12] وكذلك اعتقال القيادي في حركة أبناء البلد رجا إغبارية، في مدينة أم الفحم في الداخل، بسبب منشورات على شبكة التواصل الاجتماعي زعمت إسرائيل أنها تحرّض على العنف والإرهاب، وتؤيد منظمات إرهابية. وقد جاء اعتقاله بعد مراقبة سرية لتحركاته عبر الشبكة العنكبوتية.[13]
وضُمن التشريعات والقوانين التي تهدف إلى محاربة الرواية الفلسطينية، اقترحت اللجنة الوزارية الإسرائيلية للتشريع قانوناً يمنع تصوير أو توثيق جرائم جنود الاحتلال الإسرائيلي، ويقترح عقوبات شديدة على مَن يخالفه. وجاء في اقتراح القانون أن "مَن يصور شريطاً أو يلتقط صوراً أو يسجل جنوداً أثناء قيامهم بوظيفتهم، بهدف زعزعة معنويات الجنود والمواطنين، ستكون عقوبته السجن مدة 5 سنوات، أمّا إذا كان ذلك بهدف المسّ بأمن الدولة فإن العقوبة تكون 10 سنوات." فضلاً عن "اقتراح بـ 'منع نشر مضامين التصوير أو التسجيل في الشبكات الاجتماعية أو في الإعلام الممأسس' "،[14] بتبرير هو توفير "الظروف المثلى" للجنود كي يقوموا بواجبهم من دون الخشية من قيام أي ناشط أو منظمة بنشر صورهم، وذلك في مسعى لـ "إسكات النقد الموجه إلى الاحتلال"، وبشكل أساسي لمنع منظمات حقوق الإنسان من توثيق عمليات الجيش في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة.[15]
انحياز ورقابة غير متوازنة
على النقيض تماماً من السياسات التي تتّبعها الشركات في حذف المحتوى الفلسطيني وانتهاك حرية الفلسطينيين في التعبير عن الرأي، يتمتع الإسرائيليون عبر منصات التواصل الاجتماعي بحرّية مطلقة في نشر ما يريدون بشأن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بما في ذلك منشورات تتضمن دعوات صريحة وواضحة إلى قتل الفلسطينيين. كما أن الشــركات الرقمية وتحديــداً "ميتا" (Meta) بمنصاتها كلها، لا تتعامــل مــع المحتــوى الإسرائيلي بالكيفيــة ذاتهــا، إذ إنها في أغلبية الحالات لا تحذف العبــارات العنصريــة والمحرضــة علــى العنــف في حقّ الفلســطينيين، ولا تتطرق إليها، ومن هذه العبارات: "الموت لفلسطين"؛ "يجب إبادة الناس في غزة بالمبيدات"؛ "كل مسلم إرهابي ميت"؛ "كاهانيست [كاهاني] فخور"، حتى إن بعضاً من هذه الدعوات يُنشر باللغة العربية وعلى مرأى القائمين على منصات التواصل، وذلك من دون أي قيود أو شروط أو محاولات للحدّ من محتوى الكراهية والتحريض. وهكذا، نجد أن خوارزميـات المنصـات الرقميـة منحـازة تمامـاً إلى الطرف الإسرائيلي، وتراقــب بصورة أساسية المنصات الإعلامية الفلسطينية.
إذاً، من الواضح أن شركات التكنولوجيا العملاقة تتعامل مع المحتويَين الفلسطيني والإسرائيلي بطريقة متباينة، وبالتالي لا يمكن اعتبارها منصات محايدة، فهي شركات تجارية تسعى وراء أكبر قدر ممكن من الأرباح، ومن أجل تحقيق ذلك، فإنها تحتاج إلى أن تعمل داخل السوق، وبالتالي لديها حاجة إلى الطرف المسيطر أو الحكومي. وكان واضحاً جداً خلال الأعوام الماضية، دور منصات التواصل الاجتماعي في طمس الرواية الفلسطينية والمحتوى الفلسطيني ومحاربته من خلال فرض الرقابة عليه وتقييده، أو إزالته بشكل كامل، وذلك بسبب ضغوط إسرائيلية على إدارات هذه المنصة، وبحجة المحتوى التحريضي والتطرف والعنف ضد إسرائيل.
إن سياسات شبكات التواصل في ملاحقة المحتوى الفلسطيني تؤثر في مستوى حرية التعبير لدى الفلسطينيين، وفي مدى مشاركتهم في الحياة السياسية، الأمر الذي يشكل تهديداً واضحاً للحقوق الرقمية الفلسطينية على مختلف شبكات التواصل الاجتماعي، وعلى طريقة تلقّي المواطنين للمعلومات، وإمكان الوصول إلى العديد من الشبكات الإخبارية الفلسطينية على هذه المنصات، كما يمنعهم من نقل جرائم الاحتلال الإسرائيلي وأخبارهم وقصصهم إلى العالم، ويحرمهم من سردية فلسطينية واضحة يتمكنون من خلالها من مخاطبة العالم.
والتجربة الفلسطينية ليست فريدة، فعلاقات القوة على أرض الواقع تستنسخ نفسها في الحيّز الافتراضي كذلك، إذ نرى أن شبكات التواصل الاجتماعي التي تسعى دائماً للربح، تميل إلى الحكومات (ويشمل ذلك الأنظمة القمعية أيضاً)، وتلائم نفسها مع سياسات الحكومات التي تستغل بدورها تلك الشبكات، وتدرب مؤسساتها وكوادرها الرسمية وشبه الرسمية على العمل على إخفاء سردية ومضمون الجهة المستهدفة وإعلاء سرديتها. وهذا لا يحدث مع الفلسطينيين فحسب، بل مع الكشميريين والروهينغا أيضاً، ومجموعات أُخرى مقموعة في العالم كافة.
ما العمل؟
أمام أهمية الحيّز الرقمي كحيز إعلامي سياسي في صناعة الرأي العام وصوغ الوعي وتعميم السردية، وفي مقابل الجانب الإسرائيلي المنظم وقدرته على التأثير في شركات وسائل التواصل الاجتماعي، ونشاطه الدبلوماسي الرقمي الدائم والتكامل بين الرسمي والشعبي الإسرائيليين، فإننا، وللأسف، نشهد غياب عمل فلسطيني جاد لتعزيز الدبلوماسية الرقمية الفلسطينية، وغياب أي تنسيق بين الشعبي والرسمي ومع مؤسسات العمل الأهلي والجامعات، للقيام بنضال موحد في الحيّز الرقمي يحمي المحتوى الفلسطيني، ويقدم الحقيقة، ويدافع عن الحقوق، ويزيد في التضامن، ويضاعف من الضغط على سلطات الاحتلال، ويتصدى للتحريض والتشويه.
ما يمكننا فعله الآن هو رفع مستوى التنسيق، وتدريب الكوادر الناشطة رقمياً، من الفلسطينيين والمتضامين من جميع أنحاء فلسطين والعالم، وتعزيز انخراطهم وقدرتهم على إنتاج ونشر محتوى ذي جودة بلغات عديدة، ذلك بأن عملاً كهذا سيكون له أثر هائل في قضيتنا، ليس في الحيّز الرقمي فحسب، بل في مستويات تشكيل الوعي والمواقف لدى الجمهور وصنّاع القرار في العالم كافة أيضاً.
ويتعين علينا أيضاً أن نبني تحالفات محلية وإقليمية ودولية، سواء رسمية أو شعبية، للضغط المتواصل على شبكات التواصل الاجتماعي، ودفعها إلى تغيير سياستها التمييزية، وإلى أن تعي بأن هناك ما تخسره على المستوى الاقتصادي والسمعة إذا ما استمرت في سياستها التمييزية نفسها. وهنا تظهر أهمية تكامل الأدوار على المستوى الفلسطيني بين مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية والجهة الرسمية الفلسطينية، إلى جانب تجنيد العامل الإقليمي، فاللغة العربية هي ثالث لغة مستعملة على منصة فايسبوك. كذلك، علينا تجنيد حركة التضامن الدولية، ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية، والتعامل بجدية أكبر مع المسارات القضائية، لتحدي هذه السياسات داخل أروقة المحاكم الأميركية والأوروبية، وفي المؤسسات الأممية.
المصادر:
[1] Sam Biddle, “Revealed: Facebook’s Secret Blacklist of ‘Dangerous Individuals and Organizations’”, The Intercept, October 12, 2021,
[2] سامي عبد الرحمن، "فيسبوك.. تاريخ من محاربة المحتوى الفلسطيني تثبّته 'القائمة السوداء'"، "شبكة نون بوست"، 18 / 10 / 2021.
[3] انظر بيان صحافي صادر في سنة 2019، على صفحة "صدى سوشال" في موقع فايسبوك، يتناول الانتهاكات الرقمية لسنة 2018، في الرابط الإلكتروني.
[4] يوسف أبو وطفة، "'فيسبوك' يطارد المحتوى الفلسطيني بخوارزميات خاصة"، "العربي الجديد"، 3 تشرين الأول / أكتوبر 2019.
[5] أحمد قاضي، "هاشتاغ فلسطين: تصاعد انتهاكات الحقوق الرقمية الفلسطينية خلال عام 2021"، مراجعة وتحرير منى شتية، "مركز حملة"، 11 / 1 / 2022.
[6] "حول وحدة السايبر"، وزارة العدل الإسرائيلية / النيابة العامة للدولة، 25 / 7 / 2019.
[7] "مشروع قانون 'فايسبوك' الإسرائيلي لمنع التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي: المزيد من تقييد المحتوى الفلسطيني"، لجنة دعم الصحافيين (JSC)، 21 / 4 / 2022.
[8] المصدر نفسه.
[9] "'فيسبوك' يحذف صفحة شبكة 'القسطل' بعد تغطيتها اقتحام المسجد الأقصى"، "العربي الجديد"، 16 نيسان / أبريل 2022.
[10] بشأن "آكت آي إل"، انظر موقع الموسوعة الإلكترونية، "ويكيبيديا"، في الرابط الإلكتروني.
[11] الموقع الرسمي لهذا المجتمع الرقمي على الرابط الإلكتروني.
[12] محمد وتد، "تمديد اعتقال الشيخ كمال الخطيب والنيابة العامة الإسرائيلية تتهمه بدعم 'الإرهاب' "، "الجزيرة نت"، 27 أيار / مايو2021.
[13] "تمديد اعتقال القيادي في حركة أبناء البلد رجا إغبارية"، "بوابة الهدف الإخبارية"، 2 تشرين الأول / أكتوبر 2018.
[14] "اقتراح قانون يمنع تصوير جنود الاحتلال"، موقع "عرب 48"، 24 / 5 / 2018.
[15] أسامة الغساني، "هآرتس: 'قانون منع التصوير' لحماية الجنود الإسرائيليين مرتكبي المخالفات ضد الفلسطينيين"، "وكالة الأناضول"، 27 / 5 / 2018.