دخل قطاعا التعليم والصحة الفلسطينييْن في أزمة حادة، يشاركهما في الأزمة قطاعات أُخرى، كالمحامين والمهندسين والصحافيين، أما العاملون في القطاع العام، فقد جرى تحييدهم منذ شُطبت نقابتهم بقرار حكومي. الأزمة الاقتصادية الحادة تطال المجتمع المدني الفلسطيني في معظمه، وتشمل جميع مفاصل الخدمة الوطنية، وبفعل الأزمة المتفاقمة، أصبحت حياة الناس غير محتملة. الأزمة متلازمة مع احتلال ينكر الحقوق الطبيعية والمدنية للشعب الفلسطيني، ويفرض عليه حكماً عسكريا،ً وينهب، أو يسيطر على الموارد-الأرض والماء والغاز وغير ذلك. عوامل خارجية أُخرى فاقمت الأزمة، كجائحة كورونا والحرب الأوكرانية الروسية، وتقليص الدعم المالي العربي والدولي، والقرصنة الإسرائيلية لأموال المقاصة، واستمرار حصار قطاع غزة.
العوامل الداخلية أكثر أهمية في التخفيف من الأزمة وحلها، أو في مفاقمتها. فلم تتمكن الحكومة، ولا القيادة الفلسطينية، من إيجاد الحلول الملائمة للأزمة، سواء من خلال تعريف المواطن بأسبابها ووضع خطط طوارئ لحلول، أو عبر مبادرات تطوير الموارد وقلب كل حجر داخل وخارج فلسطين، بحثاً عن حلول، بما في ذلك متابعة قرارات الدعم العربية الواجبة، وإعادة برمجة سلّم الأولويات، والخروج من إسار بيروقراطية تعزل الحكومة عن هموم المواطنين وحاجاتهم الأساسية. منذ ثلاثة أعوام، أخفقت الحكومة في الإيفاء برواتب كاملة لقطاعيْ الصحة والتعليم الحيوييْن، فضلاً عن القطاع العام، وعندما ترافق الإخفاق مع موجات غلاء وارتفاع أسعار، شهد المجتمع تدهوراً معيشياً غير مسبوق. ولم تستطع الحكومة إقناع العاملين والعاملات بأنها عملت اللازم لحل الأزمة، وهو ما ولّد أزمة ثقة عميقة جعلت جميع الاتفاقات المبرمة والتعهدات محطّ شك. عندما تستنفد أي حكومة جهودها في حل أزمات مواطنيها، ولا يقتنع مواطنوها بتلك الجهود والمحاولات، فمن الطبيعي أن تغيّر أساليبها وأولوياتها، بما في ذلك الاستقالة وإتاحة المجال أمام طاقم جديد يتولى مهمة إنقاذ الوضع واعتماد خطة جديدة.
للأسف، كررت الحكومة خطابها بشأن الأزمة ودور العوامل الخارجية، وبصورة خاصة دور الاحتلال، ورفعت شعار الوحدة ضد الاحتلال. متجاوزةً حقيقة أن الصمود في مواجهة الاحتلال وإفشال مخططاته يتطلب تنمية داخلية تبدأ بإيجاد الحلول للأزمات، إذ لا يمكن الفصل بين مقاومة الاحتلال والصمود أمام استباحته الحقوق، وبين حرية المواطنين وبناء المجتمع المعافى المتحرر من القيود والكوابح الداخلية، بمعزل عن مجتمع تسوده الديمقراطية وحُكم القانون. الحكومة تغفل حقيقة أن الاستجابة لمطالب المحتجين المشروعة تقوي المجتمع وتجعله قادراً على الصمود وإفشال مشاريع دولة الاحتلال ومحاولات تركيع الشعب الفلسطيني.
لقد دفعت الأزمة نقابات واتحادات التعليم والصحة والمحامين والمهندسين والصحافيين إلى الاحتجاج عبر الإضراب وتعليق العمل جزئياً وكلياً، وكان إضراب المعلمين منذ أربعين يوماً هو الأكثر حضوراً وتأثيراً بسبب تعطُّل العملية التعليمية في سائر مدارس الضفة الغربية. ولم تنجح الاتفاقات التي أبرمتها الحكومة مع النقابات في وقف احتجاجات المعلمين، بما في ذلك الاتفاق الأخير يوم 9/3 مع 5 نقابات، والذي نصّ على صرف 5% من العلاوات للمعلمين والمهندسين والمهن الصحية، و10% من العلاوات للأطباء، على أن يتم توثيق بقية النسب في قسيمة الراتب، وصرفها فور توفُّر الأموال. هذا الاتفاق لم يقنع المعلمين بوقف الإضراب واستئناف العملية التعليمية، فواصل المعلمون إضرابهم واحتجاجهم، كما أن الاتفاق لا يشمل قطاع المحامين. وعلى الرغم من استصدار المحكمة الإدارية العليا قراراً يقضي بوقف الإضراب المفتوح عن العمل في المدارس الحكومية، وما ينطوي عليه من التهديد بالإرغام، فإن المعلمين واصلوا إضرابهم واحتجاجاتهم، وهو ما يشير إلى عمق الأزمة وفقدان الثقة بتعهدات الحكومة.
اكتفت الحكومة بالاتفاق مع اتحاد المعلمين الذي أثبتت الأزمة أن علاقته بالحراك ضعيفة، ولا يستطيع التعبير عن أكثرية المعلمين. ولم تقدم الحكومة خطة طوارئ تسعى لبناء المقومات المادية للاتفاقات. واكتفى رئيس الحكومة محمد اشتية بقطع وعود بقروض جديدة من البنوك، مع أن هذا البند استُنفذ، كما يشير معظم التقديرات. إن أزمات عميقة بهذا المستوى لا تُحلّ بتوقيع اتفاقات وقطع المزيد من الوعود، يكفي ربط تنفيذ الزيادة بجملة تقول-فور توفُّر الأموال-للشك في التنفيذ.
الحراكات المجتمعية المطلبية ظاهرة صحية في كل المجتمعات، وهي ليست جديدة في المجتمع الفلسطيني، لكنها شهدت حالة من التراجع بسبب غياب النضال الاجتماعي والمطلبي عن برامج التنظيمات السياسية، ويعود هذا التراجع إلى ضعف النقابات والاتحادات التي تخضع في الغالب لسيطرة التنظيمات السياسية وحساباتها الفئوية الضيقة. فقد سبق للمعلمين أن نظّموا حراكاً مطلبياً واسعاً في سنة 2016، بقيادة معلمين من خارج اتحاد المعلمين الذي كان على هامش الحراك، آنذاك، حقق المعلمون مطلبهم برفع الرواتب، لكنهم لم يقرنوا ذلك المطلب بإيجاد جسم نقابي منتخب يعبّر عن مصالحهم. ولم تطرح قيادة الحراك قضايا التعليم-كالمناهج والسياسات-التي تقيّد العقول وتضع المعلمين في حالة استلاب، وفي موقع دوني. خلافاً لذلك، عززت السلطة جهاز سيطرة وتحكُّم من داخل مؤسسة التربية والتعليم، وجرت معاقبة قيادة الحراك وعزلها عن الجسم العريض للمعلمين، وتم تكريس اتحاد معلمين مُوالٍ للسلطة.
يبدو أن حراك المعلمين الحالي استخلص الدرس بإصرار قيادته على وجود نقابة مهنية معبّرة عن مصالح المعلمين. غير أن هذا المطلب لا يتحقق بالاتفاق مع الحكومة وبموافقتها، بل يأتي كمحصلة لوعي ونضال نقابي سياسي ديمقراطي، وثيق الصلة بمهمة إصلاح نظام التعليم ونقله من نظام تحكُّم وسيطرة إلى رافعة للتحرر الوطني والاجتماعي. لهذا، فإن المعركة الديمقراطية والمطلبية طويلة، إذ لا يمكن تحقيق المطالب مرة واحدة، ولا يمكن تجاهُل الترابط بين تحسين شروط المعلم الاقتصادية وتطوير دوره المهني، وبين إصلاح التعليم والانتماء إلى ثقافة تحرُّر ديمقراطي ووجود نقابة ديمقراطية منتخبة.
قد تقبل النقابات تحقيق مطالب أقل، وتواصل نضالها من أجل استكمال ما لم يتحقق، ضمن موازنة الضرر الذي يلحق بالقطاعات التي تمثلها النقابات، والفائدة التي تحققها القطاعات التي تمارس الإضراب والاحتجاج، وبصورة خاصة عندما نكون بصدد العملية التعليمية. صحيح أن الحكومة تتحمل المسؤولية الأساسية عن الأضرار، إلا إن النقابات لا تستطيع تجاهُل الحدود التي يمكن أن تمضي بها في مجال تأخير امتحان الثانوية العامة على سبيل المثال، وفي شلل التعليم. هل يمكن استثناء طلاب الثانوية العامة من الإضراب بعد ما ينوف عن أربعين يوماً من التوقف؟ ما يهم إبداء حساسية تجمع بين مصلحة المحتجين والنقابات من جهة، ومصلحة قطاعات المجتمع التي يمثلونها من الجهة الأُخرى. لقد قدمت نقابة المحامين نموذجاً مهماً من التعامل مع قضايا المواطنين في أثناء إضرابها، وهي النقابة التي حققت إنجازات كبيرة في دفاعها عن القانون، وبصورة خاصة نجاحها في إلغاء 4 قرارات بقانون-مراسيم رئاسية-قالت النقابة أنها مسّت بحقوق المواطنين الأساسية، وتناقضت مع القانون الأساسي والمعايير الدولية. وما يهم هو أجسام نقابية ديمقراطية متجددة لمواصلة الإصلاح والتغيير وتحقيق المطالب المحقة. وما يهم أكثر مشاركة قطاع غزة في النضال المطلبي، فمن غير المفهوم عدم مشاركة المعلمين والأطباء والمحامين والمهندسين في قطاع غزة في الإضراب والاحتجاجات، وهم يعيشون الأزمات ذاتها، وبمستوى أشد. إن منعهم من المشاركة يطرح المسألة الديمقراطية في قطاع غزة ودور سلطة "حماس" في قمع الحريات ومنع إجراء انتخابات للاتحادات والنقابات والمجالس البلدية والقروية والجامعات، في الوقت الذي تشارك في الانتخابات التي تجري في الضفة الغربية، وفي الاحتجاجات والإضرابات، وتطالب بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية. هل يجوز تكريس الانقسام في البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني الواحد ومواءمته مع الانقسام السياسي بين السلطتين؟ بالقطع لا، ولا يمكن الحديث عن جسم نقابي واحتجاجات مطلبية في الضفة، بمعزل عن امتدادها لتشمل قطاع غزة، وإذا كانت حركة "حماس" تمنع ذلك، وإذا كانت التنظيمات السياسية تتجاهل ذلك، فإن قيادة الاحتجاجات مطالَبة بطرح هذه القضية والعمل على معالجتها قبل تكريس الانقسام من تحت.