تُعتبر الذاكرة صراعاً مفتوحاً بين الفلسطينيين المسلوبة أرضهم، وإسرائيل التي سلبت الأرض وتسعى لمحو ذاكرتهم. تتناول هذه المقالة ذاكرة الفلسطينيين الفردية والجماعية من خلال مشروعين، أحدهما للأونروا، والثاني للأستاذ في جامعة بيرزيت عبد الرحيم الشيخ.
اطّلعت مؤخراً، وبمحض المصادفة، على مشروعين أحدهما مشروع وَرَقِي عن اللاجئين الفلسطينيين خاصة، والثاني غير وَرَقِي عن الفلسطينيين عامة.
المشروع الورقي عبارة عن مشروع ضخم عنوانه "مشروع أرشفة الملفات العائلية للاجئي فلسطين" تنفذه "دائرة الإغاثة والخدمات الاجتماعية / قسم الاستحقاق والتسجيل" في وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى "الأونروا"، ويهدف إلى رقمنة سجلاتها للاجئين الفلسطينيين في مناطق عملها الخمس، وما تسلمته من سجلات الصليب الأحمر الدولي قبل بدء عمل الأونروا، والذي من فوائده تسجيل جزء من تاريخ اللاجئين ذات الصلة بعمل الأونروا، وربط العائلات عبر أشجار عائلية تمتد من الجد إلى الأحفاد على مدى خمسة أجيال، وتحفيز مَن لم يُسجل نفسه أو يُسجل أبناءه إلى التسجيل، وخصوصاً أن العمل يجري على إنشاء منصة إلكترونية تهتم بهذا الشأن.
المشروع الثاني مشروع فردي يعمل عليه الدكتور عبد الرحيم الشيخ، الأستاذ في جامعة بيرزيت، والزميل في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ويدرس ما يطلِق عليه تعبير "المقبرة الفلسطينية الحيّة". وقد تفاجأت خلال مرافقتي له إلى مقبرة مدينة صور في الجنوب اللبناني حيث قبر مشترك لجدي ووالدي وشقيقي، وقبور كثير من أقاربي، أن المتوفين من الأجيال الخمسة التي يتناولها مشروع الأونروا، تُكتب على شواهد قبورهم أمكنة ولادتهم أو بلدهم الأصلي، أي القرية أو البلدة أو المدينة الفلسطينية التي هُجّر الأجداد والآباء منها؛ وهنا استوعبت عمق مفهوم "المقبرة الحيّة" لعبد الرحيم الشيخ.
رقمنه التاريخ وإنضاج الذاكرة
في الطبقة الثانية في بيت الأمم المتحدة (الإسكوا) في وسط بيروت، تجتمع خلية نحل مكونة من 25 شاباً وشابة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ومن مدراء أجانب، يتعاملون مع مئات الآلاف من الوثائق المتعلقة بيوميات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ لجوء الأجداد والآباء، وصولاً إلى الأبناء والأحفاد في حاضرنا، هي عبارة عن بطاقات تسجيل ومواد داعمة مخزنة في خزائن الأونروا، وهي من أصل 30 مليون وثيقة من مختلف مناطق عمل الأونروا.
زرت المكان حيث تنكبّ الشابات والشبان على العمل، برفقة الزميلة في مؤسسة الدراسات الفلسطينية بيرلا عيسى، وكان في استقبالنا رئيسة قسم تسجيل اللاجئين والأهلية في الأونروا، فاليريا سيتوريللي، التي شرحت لنا أن الأونروا، منذ إنشائها، كانت تنظم ملفات عائلية للاجئين الفلسطينيين المسجلين لديها، وتحدّثها من أجل التحقق من وضع اللاجئين وأهليتهم لتلقّي الخدمات التي تقدمها الوكالة.
وتقول سيتوريللي، وهي من الجنسية الإيطالية، إنه تم رقمنة نحو 20 مليون من هذه الوثائق في أوائل سنوات الألفين، وإنها خُزّنت إلكترونيا في نظام معلومات تسجيل اللاجئين الحالي، غير أن 10 ملايين مستند إضافية لا يزال يتعين مسحها ضوئياً.
وتلخص سيتوريللي هدف مشروع الأرشفة الإلكترونية بـ:
رقمنة جميع الوثائق التاريخية لعائلات لاجئي فلسطين بشكل منهجي، ثم مراجعتها وتصنيفها بدقة وحفظها في مكان آمن لتخزين البيانات؛
إنشاء أشجار عائلات لجميع لاجئي فلسطين، تمتد حتى خمسة أجيال من سنة 1948 حتى اليوم، وتخزينها في نظام معلومات تسجيل اللاجئين الحالي؛
توفير إمكان للاجئين الفلسطينيين المهتمين برؤية أشجار أُسرهم، بالوصول إلى الوثائق الرقمية المتعلقة بتاريخ عائلاتهم.
ولن يكون إنجاز الرقمنة نهاية المشروع، إذ تعمل الأونروا على إنشاء مجلس استشاري للبحوث من أكاديميين فلسطينيين وعرب ودوليين، لدعم إنتاج بحث موحد متعدد التخصصات بشأن النكبة وتاريخ لاجئي فلسطين اللذين توضحهما هذه الملفات، وكذلك إنشاء إطار عمل خاص من أجل إتاحة هذه المعلومات الثرية لأغراض البحث مع الحرص على خصوصية المعلومات، وذلك عبر العمل على إنشاء بنية مخصصة لحماية البيانات ودعم الخصوصية. ومن المتوقع أن يكون للأرشيف الإلكتروني واجهة تعرض نظرة عامة مجمعة عن أماكن المنشأ، والأرقام ومسارات الحياة لأولئك الذين نزحوا في سنة 1948، ولأحفادهم حتى جيلهم الخامس، والذين لا يزال الحل العادل والدائم لهم معلقاً.
تاريخ على شواهد
خلال تجوالنا في مقبرة صور الإسلامية حيث دُفن لاجئون فلسطينيون من سكان المدينة ومن مخيم البصّ الذي لا مقبرة فيه، إلى جانب لبنانيين، سُنّة وشيعة، لفتني أن قبور السنّة تقع بين جهتَي المقبرة حيث قبور للبنانيين شيعة، وأن قبور لاجئين فلسطينيين بعضها موجود مع قبور السنّة اللبنانيين، وبعضها الآخر مع قبور الشيعة اللبنانيين، ولا فواصل عازلة على أساس قومي أو طائفي. ولولا معرفتي المسبقة بانتماء العائلات الطائفي في صور من أسمائها، لما عرفت السنّي من الشيعي، لكن للفلسطينيين في المقبرة علامات تميزهم، إذ يُكتب على شواهد قبورهم اسم القرية أو البلدة أو المدينة الفلسطينية التي ينتمون إليها، فتجد قبوراً لفلسطينيين من قرية، أو بلدة، أو مدينة ما: البصّة، أو الزيب، أو النهر، أو عكا، أو حيفا، إلخ، موجودة ضمن مجموعة واحدة.
كذلك يمكن رؤية الأجيال الخمسة التي يعمل مشروع الأونروا عليها؛ فهناك مَن توفي مباشرة بعد نكبة 1948، وهناك قبور لمتوفين حديثاً، كباراً وأطفالاً؛ وكل شواهد قبورهم تدل على أنهم فلسطينيو الجنسية.
في المقبرة أيضاً، يمكننا العودة إلى تاريخ العلاقة بين لبنان وفلسطين. فأحد سدنة المقبرة لبناني / فلسطيني؛ أصله لبناني، لكن جده ووالده عاشا في فلسطين، وبعد النكبة عادت العائلة إلى لبنان واستعادت الجنسية اللبنانية، لكنها تسجلت كعائلة لاجئة في سجلات الأونروا واستفادت من الخدمات، وأن السادن درس في مدارس الأونروا، وأخبرني أن والدي، المدرس لأكثر من 35 عاماً، كان أستاذه. واللافت أنه قبل أن نتعارف، كان يتحدث اللكنة اللبنانية، وبعد ذلك أصبحت لكنته فلسطينية.
أعادني السادن إلى سيرة عائلتي. فجدي الشيعي من قرية رامية إحدى قرى جبل عامل، وأقاربه من آل الجمل السنّة كانوا من سكان لبونة قرب الناقورة قبل أن يهجروها ويلجأوا إلى بلدة البصّة في الجليل الغربي هرباً من ملاحقة الفرنسيين. فخلال الحرب العالمية الأولى هاجر جدي مع إخوته الثلاثة إلى الأرجنتين التي بقي فيها اثنان منهم، بينما عاد جدي وأحد أشقائه إلى رامية. وبما أنه لم يكن هناك أي إمكان لاستثمار ما جلباه من أموال معهما، فإنهما اختارا أن يذهبا إلى البصّة حيث استثمرا أموالهما؛ جدي في شراء البساتين، وشقيقه في التجارة.[1]
وبلّغتني جارة لعائلتي عندما كنا نسكن في مدينة صور، وهي من عائلة زيدان، أنها كانت تعمل مع عشرات الأشخاص من الجنوب اللبناني في بساتين جدي، وأنها كانت تصطحب والدي معها على الدابة (الحمار)، كونه كان أصغر منها عمراً بالطبع.
والشريط الحدودي الذي رسمه سايكس وبيكو بين فلسطين ولبنان، كانت قراه وبلداته قبل الترسيم مثار عداوات في أيام العثمانيين بين مشايخ جبل عامل وأمراء الجليل، فتارة تنتقل البلدات والقرى، ومنها البصة، إلى حكم الأمراء، وطوراً إلى حكم المشايخ.
وبعد الاحتلال الغربي لأراضي السلطنة، وترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين، ونمو الاقتصاد الفلسطيني أكثر من توأمه اللبناني، كان لبنانيو الجنوب ممّن يملكون مالاً، يذهبون إلى فلسطين للاستثمار، أمّا مَن لم يكن يملك سوى قوة عمله فقط، فكان يعمل أجيراً، علماً بأن ذلك لم يقتصر على لبنانيي الجنوب، إذ كانت الهجرة الاقتصادية إلى فلسطين تشمل مختلف أرجاء لبنان وطوائفه. فالسوق الفلسطينية كانت تستوعب قدراً كبيراً من الصادرات اللبنانية، بينما كان لبنان مكاناً يلجأ إليه أغنياء فلسطين للسياحة، والجامعة الأميركية في بيروت صرحاً تعليمياً يستقطب أبناء الطبقات الميسورة للدراسة. وعن ذلك تقول جيهان صفير إن "أبناء النخبة العربية في فلسطين" كانوا "يستأجرون شققاً في رأس بيروت ويدرسون في الجامعة الأميركية"، و"خلال الأعوام العشرة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، كانت فلسطين السوق الرئيسية للمنتوجات اللبنانية، إذ كانت تستهلك 50% تقريباً من مجموع الصادرات"، كما أنه "في سنة 1947، كان الفلسطينيون يمثلون 50% من عدد السياح، وكانوا يستأجرون الفيلات في المنتجعات الجبلية والشقق في بيروت، كما كانت الفنادق في صوفر وعاليه وبحمدون تمتلىء بهم."[2]
إنه تاريخ مشترك جزّأه الاستعمار الغربي، لكن المقبرة استعادته من خلال القبور المتداخلة (فلسطينية / لبنانية، وشيعية / سنية)، كما أن الجولة فيها نشطت ذكريات الماضي القريب.
هذه الذكريات كلها استعادتها المقبرة الإسلامية في صور، فماذا عن المقبرة المسيحية؟
قبل مرافقتي عبد الرحيم الشيخ إلى المقبرة، كنت أعرف أن كثيراً من العائلات الفلسطينية المسيحية، وخصوصاً من بلدة البصة، عاشت في صور، مثل عائلة شمّاس التي أسس رأسها المربي سليم شمّاس مدرسة الاتحاد، وقد درست عاماً واحداً فيها، وهي لا تزال قائمة حتى اليوم وتديرها اثنتان من بناته، وكذلك عائلة الخوري، وكانوا جيراننا في مدينة صور، وهم كذلك من العائلات المتعلمة التي اشتغلت في حقل التربية والتعليم، ولا أزال أذكر منهم الأستاذ أسعد الخوري ناظر مدرسة الاتحاد، والأستاذ كمال الخوري مدير مدرسة الكاثوليك في صور، ورئيس جمعية الشبان المسيحية، وكنّا في صغرنا نمارس نشاطات ثقافية ورياضية في النادي التابع للجمعية المجاور لمسكننا.
في مقبرة المسيحيين، تبدو الذاكرة الفلسطينية أقل حماسة ممّا هو الأمر عليه في المقبرة الإسلامية. بضعة قبور متهالكة كُتب عليها مكان ولادة المتوفي، أي بلدة البصّة في فلسطين، وأضرحة جديدة كُتب عليها الأسماء فقط، لكن مَن يعرف أسماء العائلات المسيحية الفلسطينية، مثل الشمّاس والخوري ومُندُس، يستطيع تمييزها. وربما سبب عدم الاهتمام بقبور الفلسطينيين المسيحيين، أن معظم المسيحيين الفلسطينيين غادر المدينة؛ بعد اجتياح 1982، وخصوصاً بعد حرب المخيمات 1985، ليس إلى مطارح أُخرى في لبنان، وإنما بعيداً نحو كندا وأستراليا والولايات المتحدة، مثلهم فعل المسيحيون الفلسطينيون في مناطق أُخرى في لبنان.
رافقتنا في جولة المقبرة المسيحية زوجة السادن، والتي يبدو أنها هي النشطة التي تعرف تفصيلات المقبرة. وفي البداية كانت زوجة السادن تنكر معرفتها بفلسطينيين مدفونين في المقبرة، ثم بدأت تُخرج من فمها معلومات تعرفها، فتقول هذا القبر لمتوفى من البصّ (تقصد البصّة طبعاً، وليس مخيم البصّ، أو محلة البصّ في صور)، وتدلنا على قبور الفقراء الجماعية وهي تحمل أرقاماً وليس أسماء، لتصل لاحقاً إلى الاعتراف بأن عائلة زوجها فلسطينية الأصل، وأنها حصلت على الجنسية اللبنانية بعد اللجوء إلى لبنان. وربما كان سبب إخفاء المرأة هوية زوجها الأصلية بداية، هو عدم معرفتها أننا فلسطينِيَين، لكنها بعد معرفة هويتنا، اطمأنت وباحت بما كانت تخبئ.
ذاكرة فردية / جماعية حيّة
تلك الذاكرة المخزنة على شواهد القبور، والتي تُبقيها حيّة، قد تكون مضللة، إذ ليس بالضرورة أن يعرف الجيل الرابع، أو الخامس من الفلسطينيين، قيمة تلك الذاكرة المستقاة من شواهد القبور. قلت إن بين القبور قبراً مشتركاً لجدي ووالدي وشقيقي المتوفى قبل نحو عام، وقد أوصى نجل شقيقي على شاهد القبر، لكنه نسي أن يضيف اسم جدي، واكتفى بتسجيل اسمَي والدي وشقيقي؛ ومع أن هذا الأمر ربما لا يتعدى سوى سهو ارتكبه نجل شقيقي الراحل، إلّا إنه قد يحمل أيضاً كارثة تهاوي الذاكرة وتلاشيها لاحقاً.
غير أن ذاكرة المقبرة تظل حيّة، وزيارتها تعيد بعضاً من يومياتنا المنسية: فهناك، زرت قبور أقارب والدتي من عائلة الجمل، الذين أعرفهم واحداً واحداً، وربطتني مع أبنائهم ليس قرابة عائلية فقط، بل صداقة سكن، ومدرسة، و"شيطنة" مراهقة؛ وهناك أيضاً استعدت كثيراً من الذكريات وأنا أتجول بين القبور وأقرأ أسماء المتوفين على الشواهد: فرحاً، ومشكلات عائلية، وأيام حرب، وقصفاً إسرائيلياً كان كثيفاً عندما كنت أعيش في صور بين سنتَي 1977 و1978.
أمّا ذاكرة الورق ففيها كثير من الربط بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، وخصوصاً من خلال المشروع الرائد للأونروا، الذي يُتيح لمَن انفصل لسبب أو آخر عن تاريخ عائلته، أن يستعيد بعضاً منه.
زميلتي بيرلا بلّغتني أنها حتى عمر الـ 22 لم تكن تعرف أنها فلسطينية، كون والديها حازا الجنسية اللبنانية وسافرا إلى خارج لبنان حيث حصلا أيضاً على جنسيات أجنبية، ولأن مكان سكن العائلة في بيروت كان في جزئها المسيحي حيث لم يكن الوالدان يتحدثان عن أصلهما، وكان الأبناء يعيشون على أنهم لبنانيين.
بدأت رحلة بيرلا في البحث عن الجذور من خلال بطاقة هوية والدها المسجل عليها أنه وُلد في حيفا.. وحيفا في فلسطين، ومن هنا توسع البحث حتى وصلت إلى مشروع الأونروا السابق الذكر، وقد تمكنت من خلال اطِّلاعها على سجل عائلتها في الأونروا أن تكتشف كثيراً من المعلومات التي لم تكن تعرفها من قبل.
توضح سيتوريللي، أن الوثائق التي يعمل فريق العمل الفلسطيني عليها، وهم من الشباب صغار السن، مكّنتهم من التعرف إلى جزء من تاريخ عائلاتهم، من خلال البحث بينها عن سجلات عائلاتهم، الأمر الذي يمكن تعميمه على أي فلسطيني يريد التعرف إلى هذا الجزء من تاريخه، إذ إن المعلومات ستكون متاحة على المنصة المزمع إنشاؤها، مع الحفاظ على الخصوصية، من خلال ضوابط سيتم وضعها.
وحتى مَن هم مثلي، الذين يعرفون تاريخ عائلاتهم، فإن بعض التفصيلات يُكمل دائرة المعرفة، مثل التاريخ الذي أُزيل فيه اسم والدي عن وثائق التسجيل التي كانت تضمه مع والده ووالدته عندما تزوج، وكم كان عمره حينها، وتاريخ نيله وظيفة مدرس في مدارس الأونروا، وأول مرتب تقاضاه من الوكالة، والذي يُعتبر رقماً كبيراً نسبة إلى مستوى الدخل الفردي في لبنان في خمسينيات القرن الماضي، الأمر الذي برر لي سبب امتلاكه سيارة في أوائل الستينيات، وامتلاكنا جهاز تلفزيون أواسط الستينيات. وها أنا الآن أتذكر كيف كان الجيران يتقاطرون على منزلنا لمشاهدة مسلسل "أبو ملحم"، الشهير في ستينيات القرن الماضي، وكيف كان والدي ينقل التلفزيون إلى شرفة المنزل الكبيرة حيث كان الجيران يفترشون الأرض.
هكذا أعاد الورق وشواهد القبور كثيراً جداً من الذكريات المتصلة مباشرة بها، أو تلك التي تداعت من خارجها، كأن حياتي تمر وأنا اكتب هذه السطور مثل شريط سينمائي، فـ "الذاكرة"، وفق عزمي بشارة "مثل العقل فردية وليست جماعية. لكنها، أيضاً، كاللغة اجتماعية لا فردانية. للذاكرة مضمون اجتماعي. وفي السياق الاجتماعي أو السياسي – الاجتماعي تتفرد الذاكرة الفردية. ولكي يتجاوز مفهوم 'الذاكرة الجماعية' مجرد التدليل على وجود سياق اجتماعي يجب أن تتوفر 'الجماعة'Gemeinschft Community، عندما تكون الذاكرة الاجتماعية ذاكرة الجماعة، وليست مجرد تدليل على وجود سياق اجتماعي لأي ذاكرة."[3]
المصادر:
[1] للمزيد عن حكاية عائلتي، انظر: أنيس محسن، "البصّة كما أراها في حكايات والدي"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 94 (ربيع 2013)، ص 168 – 181.
[2] للمزيد انظر: جيهان صفير، "العرب الفلسطينيون في لبنان: نشوء مفهوم 'العدو الداخلي' "، في محمد علي الخالدي (تحرير)، "تجليات الهوية: الواقع المعاش للاجئين الفلسطينيين في لبنان" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2010)، ص 17 – 39.
[3] عزمي بشارة، "في الذاكرة والتاريخ"، "الكرمل"، العدد 50 (1997)، ص 45.