الاستجابة الفلسطينية ومسار التحرر
نبذة مختصرة: 

يحتدم الصراع في فلسطين بالترافق مع التوجهات الفاشية لحكومة نتنياهو للقضاء على أي إمكان لبناء دولة فلسطينية، الأمر الذي يقتضي إعادة صوغ العلاقات الفلسطينية الداخلية، والفلسطينية مع الخارج، لمواجهة تلك الفاشية.

النص الكامل: 

رأى 52% من عيّنة استطلاعية إسرائيلية في سنة 2022، أن التهديد الفلسطيني هو أول وأهم التهديدات التي تواجهها دولة الاحتلال. وبيّن الاستطلاع السنوي الذي يجريه مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، أن مصدر التهديد الأساسي هو "أعمال العنف" التي يمارسها الفلسطينيون مقارنة بالتهديدات التي تمثلها إيران، والتي حصلت على ما نسبته 24%، بينما حصلت تهديدات حزب الله وسورية على ما نسبته 10% من العيّنة الاستطلاعية.[1]

لم يأتِ هذا الخوف الإسرائيلي من فراغ، وإنما جاء نتيجة احتدام الصراع اليومي بين شعب واحتلال، والذي يُظهره حجمُ الخسائر البشرية والمادية، وأعمالُ القمع والإرهاب المضاعفة في سنة 2022، الناجمتان عن الاستباحة الإسرائيلية للأراضي والحقوق الإنسانية والمدنية الفلسطينية، والتي يقابلها مقاومة عنيفة واحتجاجات شعبية فلسطينية متصاعدة.  واعتبر مكتب الأمم المتحدة أن هذه السنة هي الأكثر دموية في فلسطين.[2]

يقول الكاتب الإسرائيلي آفي يسخاروف: "ما لاحظه الجانب الإسرائيلي منذ وقت طويل، هو أن المئات أو الآلاف من الشبان الفلسطينيين لا يخافون من الموت، أو الإصابة بجروح، خلال مواجهاتهم مع إسرائيل." ويضيف أن "وتيرة الحوادث والمعارك ترتفع بصورة لم نعرفها في الأعوام الأخيرة. والحافز لدى الشباب الفلسطيني على محاربة الجانب الإسرائيلي يرتفع أيضاً، ولا يبدو أن شيئاً في الأفق السياسي أو الأمني يمكنه أن يغيّر هذا التوجه." ويتابع: "الحافز المحلي موجود من دون مساعدة خارجية. كل العناصر التي يمكن أن تدل على استمرار التصعيد موجودة وتزداد: الدين - أي الحرم القدسي قبيل شهر رمضان الذي سيبدأ بعد شهر ونصف الشهر، والوضع على الأرض - المواجهات المتواصلة والمتزايدة بين الفلسطينيين والمستوطنين في شتى أنحاء الضفة الغربية، والدم - أي العدد الكبير من الإصابات. كل هذه العناصر تشكل برميلاً من البارود نجلس فوقه في هذه الأيام، من دون أفق للتهدئة."[3]

قد يُفهم من هذا العرض أن ثمة نزاعاً بين مجموعتين سكانيتين تختلط فيه الأسباب والمسؤوليات، لكن في الواقع نجد المستعمرون الإسرائيليون يعملون على حسم السيطرة بتصفية حقوق شعب والاستيلاء الكامل على أرضه وإخضاعه بالقوة، وفي الجهة الأُخرى يتصدى الشعب لهذا المشروع وأدواته.

وفي سياق متصل، يقول الكاتب الإسرائيلي ميخائيل بريزون أنه منذ 55 سنة هناك في إسرائيل إدمان "على الشرّ والنهب والسيادة والعنف"، وأنه "لا يوجد أيضاً تحرر من حكم المهووسين بالدين والشوفينيين والزعران إلّا عن طريق كارثة، والدليل خراب الهيكل وكارثة بار كوزيفا." ويضيف: "لن يكون لدينا هذه المرة يوم قيامة دراماتيكي، بل تفكك تدريجي إلى أن تصبح إسرائيل مكاناً لا يرغب شخص متحضر في العيش فيه، إلى درجة أن المتشائمين والمتطرفين والشوفينيين والمختلين عقلياً هم الذين سيبقون فيها ويحكمونها إلى أن تتلاشى."[4]

وهكذا، فإن حكومة نتنياهو التي استقوت بالكهانيين وعتاة رموز التعصب الديني والقومي والفاشية الاستيطانية، وقدمت برنامجاً يتلخص بفرض السيطرة على "أرض إسرائيل الكاملة"، بدءاً بضم زاحف معزز بقمع أشد وبعقوبات جماعية وقرصنة مالية من دافع الضرائب الفلسطيني، اصطدمت منذ البدء بتطبيق برامجها بمقاومة واحتجاجات فلسطينية واسعة، كما اصطدم "انقلابها على القضاء" باحتجاجات إسرائيلية مفتوحة وغير مسبوقة، وبمعارضة دولية كان من شأنها أن تفرض عزلة على حكومة نتنياهو.

غير أن التعايش الدولي التاريخي مع دولة فوق القانون ومع انتهاكاتها وجرائمها، ولا سيما من طرف الولايات المتحدة، جعل الإدارة الأميركية تبلور نوعاً من التفاهم مع نتنياهو والقيادة الفلسطينية يتضمن خفضاً للتوتر والحيلولة دون الانفجار. لقد قبلت إدارة بايدن بالفاشية العنصرية الكهانية وأسبغت عليها نوعاً من الشرعية، في مقابل رتوش وتعديلات طفيفة على سياساتها العنصرية الكولونيالية. وإزاء ذلك جرى سحب مشروع قرار كان معداً للتصويت عليه في مجلس الأمن الدولي يطالب إسرائيل بوقف فوري وكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في مقابل خفض عناصر التوتر من جانب حكومة نتنياهو / بن غفير، وذلك لتفادي الفيتو الأميركي الذي سيضع إدارة بايدن في موقع الدفاع المحموم عن الاحتلال الإسرائيلي في الوقت الذي تُعدّ العدّة لبلورة موقف دولي ضد الاحتلال الروسي لأوكرانيا.

وخفض التوتر كان يعني وقف أو تخفيف أعمال القتل التي يمارسها جيش الاحتلال والمستوطنون، كما يعني وقف اقتحامات المسجد الأقصى والعقوبات الجماعية في مدينة القدس، وتجميد الاستيطان، ووقف المعركة ضد الأسرى، ووقف اقتحام المخيمات والمدن، ووقف الضغوط الاقتصادية. لكن ماذا كانت النتيجة؟

لم تمضِ بضعة أيام على التفاهم الأميركي مع نتنياهو ومحمود عباس (أبو مازن) حتى عادت جرائم القتل الميداني، فارتكبت قوات الاحتلال جريمة بشعة في مدينة نابلس في 22 شباط / فبراير 2023، راح ضحيتها 11 شهيداً بينهم شهيدان من المسنّين، وجرى تشريع 9 بؤر استيطانية واستصدار قرار ببناء 7000 وحدة استيطانية في مستعمرات الضفة الغربية والقدس المحتلة، وفق ما كشفت صحيفة "هآرتس"،[5] ونفّذ 314 مستوطناً اقتحامات للمسجد الأقصى، وأدى العشرات منهم الصلوات الجماعية والعلنية فيه، وأعلنت منظمات وجماعات "الهيكل" عزمها على تنفيذ اقتحامات جماعية للأقصى في مطلع كل شهر عبري.[6] وإلى جانب هذا كله، شددت قوات الاحتلال قيودها على المقدسيين عبر حواجز أمنية مكثفة داخل المدينة واعتقلت عشرات المقدسيين وهدمت 19 منزلاً، بينما صعّدت حكومة نتنياهو من سياسة التضييق على الأسرى أخذاً بخطة بن غفير الرامية إلى سلبهم جميع المكتسبات التي انتزعوها بنضالهم الطويل، وهي لا تزال مستمرة في قرصنة أموال الضرائب وممارسة سياسة الخنق الاقتصادي وسياسة تصعيد التوتر ومفاقمته، خلافاً للتفاهمات والوعود الأميركية، كأن الطرف المطالب بخفض التوتر هو الشعب الفلسطيني. غير أن الخفض الإسرائيلي لا يتحقق إلّا عبر الخضوع أو التعايش الفلسطيني مع خطة بن غفير / سميتريتش التي أشار اليها المحلل للشؤون العسكرية رون بن يشاي بالقول: "إلى جانب الأهداف المعلنة للانقلاب القضائي، فإنه يهدف، بصورة خفية، إلى وضع أساس قانوني يسمح بعمليتين سياسيتين من شأنهما تغيير وجه دولة إسرائيل وطرق حياتنا بصورة لا رجوع عنها"، لافتاً إلى أن "العملية الأولى هي الضم الجارف لكل المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر، من دون إعطاء المواطنة للفلسطينيين سكان الضفة الغربية."[7] أو كما يقول عاموس هرئيل إنه "الانقلاب النظامي الذي يقوده نتنياهو بدعم متحمس من سموتريتش وبن غفير. من ناحيتهم الوضع النهائي المطلوب هو تدمير حكم السلطة الفلسطينية إلى جانب إعادة احتلال مناطق 'أ' (نتيجة للمواجهة العسكرية التي ستحدث). وإذا تم أثناء ذلك إخلاء بضع مئات الآلاف من الفلسطينيين، فإنهم لن يعتبروا ذلك كارثة."[8]

لا شك في أن الحكومة الإسرائيلية في سباق مع الزمن لتثبيت نظام أبارتهايد استعماري على جثة الحقوق الفلسطينية المشروعة والمعرّفة بقرارات الشرعية والقانون الدوليين، وهي بذلك مرشحة لإشعال النيران لا إخمادها. فهذه الحكومة متمسكة بتشريع 77 بؤرة استيطانية وتوسيع جميع المستعمرات القائمة، ولا يوجد خلاف بين نتنياهو والكاهانيين إلّا لجهة المناورة والتلاعب اللذين اشتهر بهما نتنياهو، كأن يتم تشريع البؤر الـ 77 مرة واحدة، أو يتحقق ذلك على مراحل.

ميزة الحكومة الجديدة أنها تفتح معركتين في وقت واحد: معركة داخلية للسيطرة على القضاء والإفلات من المساءلة والمحاسبة بمستوى غير مسبوق، ومعركة مع الشعب الفلسطيني هدفها تصفية حقوقه وشطبه من الخرائط السياسية إلى غير رجعة.

قد تجد جهات فلسطينية عُليا مصلحة في تشكيل غطاء لحسم الصراع وتصفية القضية بهذا الشكل الإرغامي العنصري، علماً بأنه قبل صعود الكاهانية ومشاركتها في الحكم، وجدت فئات، أو شرائح فلسطينية، أن لها مصلحة في بقاء الوضع الراهن من دون حل، وفي الوقت نفسه معارضة البحث عن مسار بديل لا يقبل به شركاء إقليميون (مصر والأردن)، ولا تقبل به الإدارة الأميركية، ولا سيما أن المسار البديل يستدعي تغييراً في وظائف السلطة وفي بُنيتها المتهالكة. أمّا الآن فإن هناك مصلحة فلسطينية مشتركة في معارضة أهداف حكومة نتنياهو والكاهانيين الجدد، وإفشالها، مثلما جرى عندما طُرحت صفقة القرن فتقاطعت المصالح والتقت على هدف رفضها وإفشالها. وفي حالتَي صفقة القرن ومشروع تحالف نتنياهو والكاهانية الجديدة، فإن أي اصطفاف فلسطيني مع أهدافهما، يضع أصحابه في تناقض حاد مع السواد الأعظم من الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها.

نشهد الآن محاولة أميركية / إقليمية لخفض التوتر وإبقاء الأوضاع من دون حسم، أي من دون ضم، الأمر الذي يتقاطع أيضاً مع موقف المعارضة الإسرائيلية (معسكر لبيد / غانس)، لكن يبدو أن المحاولة الأميركية تعرضت لانتكاسة بعد جريمة قتل 11 مقاوماً ومواطناً وإصابة 100 مواطن بجروح في مدينة نابلس. غير أن إدارة بايدن قد تنجح في تذليل معارضة مثلما نجحت في دفع السلطة إلى المشاركة في الاجتماع الأمني في العقبة / الأردن، وهو نجاح يعني الحفاظ على مسار أوسلو المتعايش مع الزحف الاستيطاني والاستمرار في تقويض مقومات الحل السياسي المقبول والمضي في التفكك السياسي والتنظيمي داخل المعسكر الفلسطيني. وفي الواقع، فإن المحاولات الرسمية الفلسطينية في متابعة ملفات محكمتَي العدل والجنايات الدوليتين، ووقف أو تجميد التنسيق الأمني، والاستمرار في دعم الأسرى وعائلات الشهداء والجرحى، تصطدم بضغوط أميركية وإقليمية وبالضغوط الإسرائيلية التي ترقى إلى مستوى عقوبات. وغالباً ما تستجيب السلطة بشكل أو بآخر لتلك الضغوط، لكن من دون الاستجابة لمطلب وقف دعم الأسرى وأُسر الشهداء. والاستجابة هنا تجعل القرار السياسي الفلسطيني غير مستقل، وتجعل الوحدة الوطنية لإسقاط مشروع حكومة نتنياهو والكاهانيين متعذرة، إلّا إن حل هذا التناقض لا يجري بمعزل عن ضغط شعبي منظم ومتواصل. والشيء نفسه ينطبق على حركة "حماس" وقوى المعارضة على اختلاف مسمياتها، سواء لجهة إبرام تهدئة تفصل قطاع غزة عن الضفة وتُبقي على وحدة الساحات مجرد شعار، أو لجهة الدخول في حرب مواجهة غير متكافئة تُلحق أفدح الأضرار والخسائر بالقطاع أو بمدن نابلس وجنين وبالطاقة الثورية والوطنية للظاهرة الشبابية المسلحة والالتفاف الشعبي من حولها، وتحوّل المقاومة إلى شعار وطقس مقدس بمعزل عن أهداف محددة يصار إلى تحقيقها وتحولها عن قواعد الاشتباك الناظمة لعملية التحرر.

طُرح أخيراً العصيان المدني في مدينة القدس فاستجاب المواطنون جزئياً، لكن ما لبث أن توقف الأخذ به لأنه اقتصر على مدينة القدس وحدها، وجاء بصيغة دعوة باسم القوى الوطنية بمعزل عن أدوات وآليات ومقومات. فالجبهة الشعبية أطلقت دعوة إلى خلق تيار أو ائتلاف تكون مهمته إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة، وفرض الاتفاق الوطني على الكل الفلسطيني، ومواجهة التحديات الصهيونية. واعتبر نائب الأمين العام للجبهة الشعبية جميل مزهر أن الكفاح المسلح الشامل سيبقى خيار الشعب الفلسطيني وإرادته لمواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني، داعياً إلى تشكيل جبهة مقاومة موحدة. إنها شعارات عامة من نوع كفاح مسلح شامل، وتيار لإنهاء الانقسام، ووحدة الساحات، والتنافس على تأييد كل عملية فردية ضد المحتلين وكل تصدٍّ مسلح للاقتحامات الإسرائيلية، وهي تُطرح من دون رؤية أو خطة أو مهمات برنامجية ملموسة، ومن دون تفادي الأخطاء، والخسائر غير الاضطرارية.

تتكرر الأساليب الفوقية المنعزلة عن النضال من تحت، ويتكرر الارتجال في ظل استعداد شبابي ومزاج عام ثوري تجسّدا في استجابة آلاف الشبان والمواطنين لنداء المقاومة في مدن نابلس وغزة والخليل ورام الله وطولكرم وغيرها، للاحتجاج على مجزرة نابلس والانتصار لمقاوميها.

إن صناعة صمود، ومقاومة المشروع التصفوي الحاضر وإفشال أهدافه، ووضع القضية الفلسطينية على مسار التحرر الوطني، تستدعي الانتقال من سياسة ردات الأفعال والارتجال والعفوية إلى خطة سياسية يتشارك في تحقيق أهدافها كل مَن لديه مصلحة في ذلك. والمشاركة الميدانية والنجاح في إنجاز الأهداف يضعا حداً للانقسام والصراع على السلطة، وعلى الفلسطينيين أن يتفقوا على مهمات ويخوضون معارك محددة، منها على سبيل المثال:

1 - الاتحاد الفلسطيني على هدف سياسي مركزي واحد هو إنهاء الاحتلال لأراضي 1967 وإقامة دولة مستقلة، والالتزام بحل قضية اللاجئين، واعتبار قرارات الأمم المتحدة بشأن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بأنها الحد الأدنى المقبول به والعنصر المشترك مع دول وشعوب العالم بما في ذلك الدول والشعوب العربية، والتوجه إلى محكمتَي العدل والجنايات في إسناد التحرر وتقرير المصير، وفي مواجهة الاستيطان والنهب والتدمير، وفي الدفاع عن الحقوق المدنية.

2 - صدّ الزحف الاستيطاني والبؤر الاستيطانية القديمة والجديدة، وتحويل المعركة ضد الاستيطان وبؤره إلى معركة جماهيرية منظمة يشارك فيها الجميع، وتتضمن مقاطعة العمل في المستعمرات والمشاريع التابعة لها، ومقاطعة شاملة للمستوطنين وسلعهم.

3 - تفعيل مقاطعة إسرائيل في العالم العربي، وخصوصاً في الدول التي أبرمت الاتفاقيات الأبراهيمية، وذلك رداً على جرائم الحرب والقمع الدموي والعقوبات الجماعية والاستيلاء على الأراضي والاستيطان والتطهير العرقي الذي تمارسه دولة الاحتلال، والتوقف عن إقامة علاقات تحالف وتعاون أمني واقتصادي عربي - إسرائيلي، وعن التطبيع السياسي والثقافي مع الدولة المحتلة، في الوقت الذي تستمر الاستباحة الإسرائيلية للأراضي والحقوق المدنية والإنسانية الفلسطينية. لكن للأسف بات إفلات إسرائيل من العقاب ومكافأتها يتم أيضاً عبر البوابة العربية، وهنا يجب مصارحة الدول الشقيقة بعدم التزامها بميثاق جامعة الدول العربية وقرارات القمم العربية بشأن القضية الفلسطينية في الأعوام الأخيرة.

4 – تعزيز معركة الإفراج عن جثامين ما ينوف على 100 شهيد، إذ ما زالت دولة الاحتلال تحتجزهم في البرادات منذ سنة 2015 حتى اليوم، كما أنها تحتجز رفات 256 شهيداً في مقابر الأرقام منذ سنة 1967، وهذا الحجز الإسرائيلي لجثامين المقاومين ورفاتهم يندرج ضمن الضغوط النفسية والمعنوية على أهالي المقاومين وعلى الشعب الفلسطيني. ويكتسب تحرير الجثامين والرفات قيمة معنوية ورمزية هائلة، ولذلك فإن المطلوب هو تحويل حملة الإفراج عن تلك الرموز النضالية إلى حملة شعبية مطلبية وقانونية مستمرة ومتصاعدة داخل فلسطين وخارجها إلى أن يتم تحريرهم.

5 – التصدي لمحاولات دولة الاحتلال شيطنة الشهداء والجرحى والأسرى باعتبارهم إرهابيين، سواء عبر اقتطاع جميع التحويلات المالية المستحقة لهم من أموال المقاصة ودافع الضرائب الفلسطيني، أو من خلال سلب الأسرى المكتسبات التي انتزعوها بنضالهم العنيد والطويل، ذلك بأن كسر إرادة الأسرى، وتجريدهم من حقوقهم، هما أحد أهم بنود برنامج حكومة نتنياهو والكاهنية الجديدة، والذي يقابلهما اعتزاز الشعب الفلسطيني بالأسرى باعتبارهم عنواناً للتحرر والكرامة الوطنية وتقرير المصير. إن النضال على جبهة الأسرى يحتل أهمية كبيرة ويأتي عبر التمسك بحقّهم وبحقّ الشهداء والجرحى غير القابل للتصرف، والذي يرتبط بمشروعية النضال ضد الاحتلال، وبمشروعية حقوقهم المنصوص عليها في القانون الدولي، وهو أمر يستدعي خوض المعركة من أجل وقف الإجراءات الفاشية في حقّهم داخل السجون وخارجها، بما في ذلك وقف الإجراءات العنصرية ضد أسرى القدس ومناطق 48، وذلك باستخدام السلاح القانوني عبر التوجه إلى المحكمة الدولية، وعبر الاحتجاجات الجماهيرية الفلسطينية وامتداداتها العربية والدولية.

6 – التوقف عن الصراع على السلطة، والعمل على تعزيز دورها المفترض بها إزاء الشعب الفلسطيني، إذ في الوقت الذي تخوض دولة الاحتلال معركة ضد السلطة عبر الخنق الاقتصادي الذي أفضى إلى تأزم قطاعَي الصحة والتعليم واضطرار العاملين إلى خوض نضالات مطلبية مشروعة، تبدو السلطة عاجزة عن تأمين الحماية للمواطنين الذين هم عرضة للعدوان ولأعمال قتل واعتقال يومي من طرف قوات الاحتلال والمستوطنين، كما تبدو عاجزة عن إجراء أي إصلاح أو تطوير في بُنيتها الإدارية البيروقراطية، بل إنها باتت عرضة لنزع ما تبقّى من صلاحياتها لمصلحة الإدارة المدنية الإسرائيلية، وأضحت عاجزة عن حفظ النظام العام وتأمين الرواتب الكاملة لموظفيها. وفي هذا الواقع تظهر السلطة الفلسطينية في موقع العاجز والفاقد لمبرر الوجود في نظر قطاعات واسعة ومتزايدة من المواطنين، وخصوصاً أن دولة الاحتلال شرعت تغلق جميع الأبواب أمام الحل السياسي، وتجعل من اعتدال السلطة ضرباً من الجنون، وتضعها على حافة انهيار وتساومها على الانصياع لسياسة الأمر الواقع في مقابل الاستمرار في قيد الحياة. أمّا الإدارة الأميركية وشركاء إقليميون آخرون، فباتوا يسارعون إلى المحافظة على سلطة ملتزمة بمسار أوسلو من طرف واحد. وفي الجانب الفلسطيني، لا يكفي محاولة وراثة السلطة من دون تغيير الوظائف والأدوار والمقومات، ولا سيما أن ما يحدث مع سلطة "حماس" في قطاع غزة يسير في الاتجاه الذي سارت فيه سلطة "فتح".

إن اعتماد مسار بديل من المفترض أن يتضمن دفع السلطة إلى وقف التنسيق الأمني، ووقف العمل باتفاق أوسلو، ومتابعة قضايا المحكمتين الجنائية والعدل الدوليتين، والبحث الجدي عن حلول لقطاعَي التعليم والصحة، وإصلاح بُنيتها المشوهة.

 

المصادر:

[1] عليان الهندي، "في استطلاع سنوي إسرائيلي: الخطر الفلسطيني يتفوق على ما عداه"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، 13 / 2 / 2023.

[2] تشير التقارير إلى سقوط 230 شهيداً، و9335 جريحاً، واعتقال 6500 فلسطيني، وهدم 833 مبنى، واقتلاع وإتلاف 13,130 شجرة، و793 اعتداء نفذه المستوطنون، وفي مقابل ذلك نفّذ الفلسطينيون 7200 عمل مقاوم قُتل خلالها 31 إسرائيلياً، وأصيب 500 بجروح.

وقد واصلت إسرائيل اعتداءاتها على الفلسطينيين في مطلع السنة الجارية، وبلغ عدد الشهداء 65 شهيداً، حتى 24 شباط / فبراير 2023.

للمزيد انظر: عبد الباسط خلف، "فلسطين 2022: عام صعب حافل بالأحداث"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 133 (شتاء 2023)، ص 86 – 114.

وانظر أيضاً: عوض الرجوب، "2022 عام الشهداء والمقاومة وشيرين أبو عاقلة.. هذه أبرز ملفات فلسطين المفتوحة في 2023"، "الجزيرة نت"، 25 / 12 / 2022.

وانظر كذلك: "استشهاد شاب فلسطيني متأثراً بإصابته برصاص قوات الاحتلال"، "الراية" (الدوحة / قطر)، 24 شباط / فبراير 2023.

[3] آفي يسخاروف، "لا يخافون الموت في مواجهة الجيش الإسرائيلي"، "الأيام" (رام الله)، 28 / 1 / 2023، نقلاً عن "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية.

[4] "كاتبٌ إسرائيلي يرسم سيناريو الزوال: الكيان وصل لمرحلة التدمير ويتفكك تدريجياً"، "سما الإخبارية"، 9 شباط / فبراير 2023.

[5] "المصادقة على بناء 3 آلاف وحدة استيطانية و4 آلاف أُخرى اليوم"، "سما الإخبارية"، 23 شباط / فبراير 2023.

[6] "صلوات علنية وجماعية للمستوطنين في الأقصى"، "معاً"، 22 / 2 / 2023.

[7] "يديعوت: رعب حقيقي بعد الانقلاب القضائي.. لا يبقى أمام الفلسطينيين سوى ثلاثة خيارات"، "سما الإخبارية"، 21 شباط / فبراير 2023.

[8] عاموس هرئيل، "حماس تشخّص ضعفاً إسرائيلياً وتبلور استراتيجية 'تفجيرية'"، "الأيام" (رام الله)، 18 / 2 / 2023، نقلاً عن "هآرتس" الإسرائيلية.

 

السيرة الشخصية: 

مهند عبد الحميد: كاتب وصحافي فلسطيني.