شابت العلاقة التركية-الروسية في سورية بعض العثرات، لكن البلدين يتفقان على كثير من الملفات ذات الصلة. ويبدو أن مستقبل سورية مرتبط بشكل أو آخر بمستقبل الرجلين القويين في بلديهما.
استرعى الاجتماع في موسكو بين وزيرَي الدفاع ورئيسَي الاستخبارات السوري والتركي، في الأيام الأخيرة من سنة 2022، انتباه المراقبين الدوليين بشكل استثنائي. فقد حظي هذا اللقاء بتغطية غير مسبوقة في وسائل الإعلام الدولية، كما أن هذه العلاقة الثلاثية الظاهرة بين روسيا وتركيا وسورية أثارت اهتماماً أكاديمياً لما تنطوي عليه من خصوصية. والواقع أنه مع النشاط السياسي الأخير للإمارات العربية المتحدة، والذي أطلق حركة دبلوماسية مكثفة لإيران التي، على ما يبدو، لديها مصالح مكتسبة على المسرح السوري، ومع الوجود العسكري للولايات المتحدة الأميركية التي تضطلع بدور التمويل والصمام الأمني لقوات سورية الديمقراطية (قسد) الكردية، وللإدارة الذاتية لشمال وشمال شرق سورية، فإن المعادلة السياسية والعسكرية المتعلقة بسورية هي أكثر تشابكاً وتعقيداً ممّا يوحي به ظاهر العلاقة المثلثة بين روسيا وتركيا وسورية.
ومع ذلك، فإن المبادرة التي ترعاها موسكو لإحداث تقارب بين أنقرة ودمشق، والتي قد تبشّر بذوبان الجليد بين الرجلين القويين في بلديَهما: رجب طيب أردوغان وبشار الأسد، بمباركة من فلاديمير بوتين، تستحق تدقيقاً خاصاً فيها من أجل الحصول على رؤية أوضح إلى المستقبل القريب في الشرق الأوسط، وإلى توازن القوى الجديد الذي يذهب أبعد من المنطقة، والذي قد ينتج من حقبة جديدة تلي الحرب في أوكرانيا التي انفجرت في شباط / فبراير 2022.
في كتابي: "تركيا العثمانية الجديدة: ملحمة يورو آسيوية"،[1] وتحت العنوان الفرعي: "سورية: الخطوة الأولى على رقعة الشطرنج العثمانية الجديدة" (“Syria: The First Move on the Neo-Ottomanist Chessboard”)، كتبتُ:
دخلت السلطنة العثمانية إلى الشرق الأوسط ممّا يُعرف حالياً بسورية وسيطرت عليها وصولاً إلى اليمن، وذلك خلال حُكم السلطان سليم الأول في سنة 1516. ومكنّ الاستحواذ على مكة والمدينة، وهما المكانان الأكثر قُدسية في الإسلام، السلاطين العثمانيين من حمل لقب الخليفة. وعلى مدى أربعة عقود، بقي الشرق الأوسط عثمانياً إلى أن جرى تقسيمه بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. وفي مطلع القرن الواحد والعشرين، عادت سورية لتكون منصة انطلاق لعودة القوة التركية إلى المنطقة، وإن يكن من خلال "القوة الناعمة". فمنذ سنة 2016، مارست العثمانية الجديدة التركية، نشاطاً عسكرياً في سورية، ذلك بأن الشرق الأوسط، بالنسبة إلى تركيا، يبدأ من سورية. وهذه الخطوة عكست أيضاً تركيز القوة المتنامي [في تركيا] بين يدَي أردوغان.
ولاحظتُ كذلك أن الحملات العسكرية التركية في سورية، والتي بدأت بعد الانقلاب المثير للجدل [في تركيا] في 15 تموز / يوليو 2016، لم تكن لتحدث من دون ضوء أخضر، وحتى تعاون روسي.
وقد احتاجت تركيا إلى دعم روسيا عقب إنهائها نهج "القوة الناعمة" في الشرق الأوسط العربي، والذي حمل عنوان "صفر مشكلات مع الجيران"، وبعد انتقالها إلى سياسة خارجية حازمة وناشطة ومنقّحة دخلت حيز التنفيذ في سورية.
وقلبت الحرب في سورية العلاقات التركية مع الولايات المتحدة رأساً على عقب. فقد وضعت إدارة أوباما أولويتها في محاربة "داعش"، قبل إزاحة النظام، الأمر الذي أثار استياء حكومة أردوغان في تركيا التي نظرت إلى [تنظيم] "الدولة الإسلامية"، من خلال عدسات مذهبية غير معلَنة، كتجلٍّ للغضب السُّني في المنطقة؛ ومع أن تركيا هي طرف في الائتلاف المناهض لـ "داعش" بقيادة الولايات المتحدة، إلّا إنها لم تقدّم دعماً قوياً وملموساً لهذا الائتلاف. فأنقرة، على الرغم من قربها من أرض المعركة السورية حيث أحرز "داعش" تقدماً، لم تفتح قاعدة إنجيرليك الجوية أمام استخدام طائرات التحالف، بل على العكس، فإن تركيا اكتسبت سمعة في الصحافة الدولية على أنها "الطريق السريع للجهادية"، كونها توفر الدعم للمقاتلين السلفيين بشكل أساسي، وبينهم مقاتلو "داعش" في سورية.
ومع رفض مساعيها لعضوية الاتحاد الأوروبي من طرف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بصورة أساسية، ونسبياً من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومع التناقض الذي عاشته مع فرنسا شيراك وألمانيا شرودر مع حلول نهاية العقد الأول من القرن الجديد، تشجعت تركيا أردوغان على استعراض قوتها في المنطقة، مستفيدة من التحولات التكتونية التي جاء بها "الربيع العربي" إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي شهدت تغير أنظمة وصعود "الإخوان المسلمين" في مصر وليبيا وتونس. ويمكن بثقة تقييم "الربيع العربي" على أنه منعطف لمراجعة تركية للسياسة الدولية، وتحولها من قوة مؤيدة للوضع القائم (الستاتيكو) إلى أُخرى تغييرية، جنباً إلى جنب مع روسيا والصين على المستوى العالمي.
لكن حين بدأت رياح "الربيع العربي" تعصف فوق سورية، الجوار المحاذي لتركيا ونقطة دخولها التاريخية والجيوسياسية إلى الشرق الأوسط، تغيرت جذرياً سياسة تركيا القائمة على النأي بالنفس مدفوعة بالمتغيرات الجذرية لدى جيرانها المباشرين، بل إنها أولت المعارضة السورية رعايتها. فالمجلس الوطني السوري الذي يمتلك فيه "الإخوان المسلمون" السوريون وزناً كبيراً، تأسس في إستانبول في آب / أغسطس 2013، واستضافته تركيا.
وقد أشرتُ في كتابي السابق "المهمة التركية المستحيلة: الحرب والسلام مع الأكراد"،[2] إلى صلات النظام التركي بـ "الإخوان المسلمين" في سورية. ففي مطلع نيسان / أبريل 2011 رافقتُ وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو في زيارة لدمشق حيث كان له لأكثر من ثلاث ساعات لقاء منفرد مع بشار الأسد من أجل نزع فتيل الأزمة في سورية، واقترح داود أوغلو أن يضم بشار "الإخوان المسلمين" إلى الحكومة. علاوة على ذلك، نقلتُ في كتابي نص محادثتي مع المساعِدة الرئاسية السورية بثينة شعبان التي انتقدت تركيا بشدة – من دون كثير من الإنصاف–على وقوع حمام الدم في سورية. وقلتُ: "فاجأَتْني بملاحظة أنه في الواقع لم تكن تلك المرة الأولى التي يُقدَّم فيها مثل ذاك الاقتراح؛ فقبل أن يكون هناك أي مشكلات في سورية، وحين كانت العلاقات التركية-السورية تتسم بالدفء، قدّم طيب أردوغان العرض نفسه إلى بشار الأسد في حلب، في اجتماع كانت شعبان حاضرة فيه أيضاً."
لقد تحوّل الاضطراب في سورية إلى حرب أهلية مدمرة بين الأفرقاء السوريين الأساسيين، ثم إلى حرب بالوكالة بين القوى الدولية والإقليمية انطلقت في منتصف آذار / مارس 2011.
وأياً تكن الجوانب الغامضة والخفايا التي تلفّ علاقتهما، فإن أردوغان سعى لعزل صديقه السابق بشار الأسد في الربع الأخير من سنة 2011، بل إنه تعهّد بأن يؤدي صلاة الجمعة في المسجد الكبير في دمشق (المسجد الأموي) عند الإطاحة ببشار الأسد.
المسألة الكردية والاستراتيجيا التركية
كانت سنتا 2014 و2015 حاسمَتَين في تغيير مجمل حسابات تركيا الاستراتيجية، وكانتا سنتَين مهمتين كذلك في انعكاس تأثير التطورات في حقل السياسة المحلية التركية في سياستها الخارجية، والذي ظهر عبر التحول نحو السلطوية وحكم الفرد، وانتهاج سياسة خارجية أكثر حزماً، بل سياسة معسكرة، بما يتنافى مع النهج الديمقراطي لتركيا، وإن كان أساساً لا يخلو من العيوب. وكانت القوة المحركة لهذا التغيير هي المسألة الكردية في تركيا المستمرة منذ أعوام بلا حل.
كانت تركيا تشعر بخيبة أمل جرّاء عدم استجابة أوباما لنداءاتها من أجل إقامة منطقة آمنة محمية أميركياً في سورية، الأمر الذي كان بمثابة وصفة لسقوط النظام في دمشق. فواشنطن، في نظر تركيا، لم تُثبت ترددها حيال إقامة منطقة آمنة فحسب، بل إنها تراجعت أيضاً عن التدخل العسكري على الرغم من "الخطوط الحمر" التي كان قد أعلنها أوباما فيما يتعلق باستخدام نظام دمشق الأسلحة الكيميائية، والذي خرقه النظام في آب / أغسطس 2013 في هجومه على الغوطة، وامتنعت من استخدام قوتها العسكرية، خلافاً لما وعدَتْ به عند انتهاك "خطوطها الحمر". كما أنها عوضاً عن ذلك، اتفقت مع روسيا على إزالة الأسلحة الكيميائية السورية معتمدة فقط على تعهدات موسكو. وتحولت خيبة الأمل التركية من واشنطن إلى كابوس تمثّل في التعاون العسكري الأميركي مع "حزب الاتحاد الديمقراطي" و"وحدات حماية الشعب"، وهما الفصيلان السوريان الكرديان المتصلان بالمنظمة الكردية التركية "حزب العمال الكردستاني"، وذلك في مواجهة "داعش" في كوباني (عين العرب) على الحدود التركية السورية.
تغيرت الأولويات في سورية لدى الشريكَين في حلف شمال الأطلسي: بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كانت الأولوية سحق تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) وليس إطاحة نظام دمشق؛ أمّا تركيا التي تراجعت قليلاً عن أولوية إطاحة النظام، فإن أولويتها تحولت في اتجاه منع ظهور كيان حكم ذاتي كردي على طول الحدود مع سورية.
إن الدعم العسكري الأميركي في تشرين الأول / أكتوبر 2014 للمقاتلين الأكراد المدافعين عن كوباني، البلدة السورية الكردية الحدودية التي كانت محاصرة من طرف "داعش"، أحيا مجدداً الهلع التركي من قيام الحليف الأقوى في حلف شمال الأطلسي بتشجيع التطلعات الكردية التي كانت بدأت مع الحرب الأميركية على نظام صدّام، والتي انتهت بقيام عراق فيديرالي في سنة 2003، وهو أمر أطلقَ النزعات الكامنة، لكن القوية، المناهضة للولايات المتحدة وللغرب في السياسة والمجتمع التركيَّين.
ومع انسحاب نظام دمشق في تموز / يوليو 2012 من المناطق الكردية الآهلة في شمال سورية، فيما يسمى الكانتونات الثلاثة الواقعة على الحدود الطويلة مع تركيا، والمتاخمة للمناطق ذات الأغلبية السكانية الكردية في جنوب شرق تركيا، حدث انتقال سريع وغير دموي إلى إدارة كردية ذاتية، رحّب بها "حزب العمال الكردستاني" باعتبارها تحقيقاً لـ "ثورة روجافا"؛ وروجافا تعني غرب أو غربية بالكردية، والمقصود "كردستان الغربية".
مثّل نشوء الكيان الكردي ذي الحكم الذاتي في شمال سورية، في سنة 2014، والواقع تحت سيطرة الفصيلين الكرديين السوريين "حزب الاتحاد الديمقراطي" (تأسس في سنة 2003 كفرغ سوري لحزب العمال الكردستاني التركي) و"وحدات حماية الشعب" التابعة له، تهديداً بالنسبة إلى تركيا. فخلافاً للوضع القائم في كردستان العراق حيث يسيطر خصما "حزب العمال الكردستاني"، أي "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة البارزاني و"الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة طالباني، فإن نشوء الكيان الكردي في سورية، تحت سيطرة حلفاء "حزب العمال الكردستاني"، يحمل في نظر أنقرة عواقب حتمية بالنسبة إلى المسألة الكردية في تركيا.
فمن وجهة نظر عسكرية بحتة، اعتبرت أنقرة أن ذلك يمثل كسباً وعمقاً استراتيجياً لـ "حزب العمال الكردستاني". والأهم من ذلك أن الإدارة الذاتية الكردية المتصلة بـ "حزب العمال الكردستاني" في الجوار القريب، والمدعومة والمسلحة والمحمية من الولايات المتحدة، يعتبرها أردوغان وحلفاؤه الجدد في "الدولة العميقة" التركية، تهديداً وجودياً.
إن التطورات الدراماتيكية، وانعطاف الأحداث في أرض المعركة السورية، تركا أثراً مهماً في إنهاء المفاوضات مع "حزب العمال الكردستاني"، وبكلمات أُخرى، في إنهاء "عملية السلام"، وفي تحوّل أردوغان في اتجاه التحالف مع القوميين الأتراك والانتقال نحو نظام سُلطوي.
لقد جعل الحكم الكردي الذاتي في سورية، واحتمال توحد كردي في الشرق الأوسط، مفاوضات السلام غير قابلة للعيش بعد الآن بالنسبة إلى النظام التركي. فنشوء الحكم الذاتي الكردي إلى جانب الحدود التركية، ترك تركيا من دون سياسة ملموسة فيما يتعلق بمسألتها الكردية، ودفعها إلى العودة إلى نهجها التقليدي لحل المشكلة بالوسائل العسكرية عبر الحرب.
فشلت مساعي أردوغان في الحفاظ على الأكثرية البرلمانية في الانتخابات التي جرت في 5 حزيران / يونيو 2015، والتي كان يحتاج إليها لتغيير الدستور وتحويل النظام البرلماني إلى نظام رئاسي يضمن "حُكم الرجل الواحد"، والتي شهدت أيضاً فوزاً معتبراً لـ "حزب الشعوب الديمقراطي" الكردي بنسبة تجاوزت عتبة الـ 10% الضرورية للتمثل في البرلمان، وحصد فيها 13% من الأصوات.
والجدير ذكره أنه بعد أسبوعين فقط من تلك الانتخابات، سقطت بلدة تل أبيض السورية الحدودية في يد "حزب الاتحاد الديمقراطي" و"وحدات حماية الشعب" الكرديَّين، وبذلك تم الحفاظ على ممر كردي في توسع مستمر من القامشلي في شمال شرق سورية إلى عفرين في الطرف الشمالي الغربي للبلد قرب البحر الأبيض المتوسط. كما أُوحي بنشوء حزام كردي يتصل بالمتوسط ويفصل تركيا عن الشرق الأوسط العربي، في تطور جلب أكثر الكوابيس حدّة بالنسبة إلى المؤسسة الأمنية التركية.
وفي تصريح ذي أهمية استراتيجية قصوى، ويمكن تقييمه بأثر رجعي، حتى لو عدنا إلى ما كان الوضع عليه في 26 كانون الثاني / يناير 2015، كان أردوغان واضحاً في التعبير عن الآفاق التركية الاستراتيجية، وكذلك في تقديم مشاعر المؤسسة الأمنية التركية، وبمعنى آخر "الدولة العميقة" في تركيا. وجاء في حديث أردوغان إلى مجموعة من الصحافيين:
[مشيراً إلى شمال سورية] ماذا سيحدث هناك؟ الذي سيحدث هو تماماً ما حدَث في العراق. لا نريد تكرار ما حدث في العراق. ما الذي أعنيه؟ شمال العراق... الآن سيولد شمال سورية! لا يمكننا القبول بذلك... فبعد شمال العراق، سنكون أمام شمال سورية. مثل هذه التطورات سيتسبب بمشكلات كبيرة في المستقبل. هناك بُعد إضافي لهذا كله، ومن المهم أن نقول أننا نرى تنفيذاً لترتيب جديد في عفرين، كوباني، والقامشلي.
تركيا احتاجت إلى روسيا في سورية
لم يكن في إمكان تركيا الدخول إلى الأرض السورية حيث يحتمي الأكراد بمظلة الحماية الأميركية، إلّا بالتواطؤ مع روسيا وبالشراكة معها، وهو ما حدث في سنة 2016.
فالتدخل العسكري الروسي في النزاع السوري كان قد بدأ في أيلول / سبتمبر 2015 بطلب من نظام دمشق، وشمل بداية التدخل عبر غارات جوية روسية على مواقع المعارضة السورية المسلحة التي كان معظمها تحت رعاية تركيا ودعمها. وانتشرت الطائرات الروسية في قاعدة حمَيْميم الجوية، واستُخدمت أساساً ضد أهداف في الشمال الغربي السوري، كما نشرت روسيا صواريخ النظام الدفاعي الجوي "أس 400"، الأمر الذي أتاح سيطرة على المجال الجوي السوري.
ومثّل التدخل الروسي في سورية ذريعة لموسكو في سعيها لاستعادة وضع القوة العالمية الذي كانت تتوق إليه بعد انحلال الاتحاد السوفياتي، والذي وصفه فلاديمير بوتين في سنة 2005 بأنه "الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين." وبعد ذلك بسنتَين (2007)، وفي مؤتمر ميونيخ للأمن، هاجم بوتين علناً النظام الأحادي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وكان دفعُ روسيا النظام العالمي إلى الاتجاه نحو تعدد الأقطاب جلياً، ووفرت الحرب في سورية الأرضية اللازمة لروسيا لتلك الغاية. وبهذا المعنى، تكون سورية ساهمت في صعود مراجعة السياسات وتغييرها في روسيا وتركيا على حد سواء.
كانت تركيا وروسيا في البداية على طرفَي نقيض في النزاع السوري، وفي أعقاب إسقاط تركيا لطائرة روسية على الحدود في تشرين الثاني / نوفمبر 2015، بدا البلدان لبرهة كأنهما يتجهان إلى تصعيد خطر. لكن في سنة 2016، تغير هذا كله، فتركيا كانت محبطة من العملية العسكرية الأميركية الكردية في سورية، كما أنه في ظل عقوبات روسية عليها، وعزلة عن جارتها الجنوبية مع وجود عسكري لجارتها الشمالية القوية (روسيا)، اضطر أردوغان إلى تنفيذ ما طلبه بوتين، وقدّم في حزيران / يونيو 2016 اعتذاراً علنياً من روسيا. وبعد ذلك بشهر، ومع حدوث الانقلاب الفاشل في تركيا، ساند بوتين (وإيران) أردوغان الذي بقي يشتبه في كون الولايات المتحدة والغرب خلف الانقلاب، أو أنهما داعمان له.
وبعد شهر تقريباً، في آب / أغسطس 2016، تحركت تركيا عسكرياً نحو سورية، وهو أمر كان مستحيلاً من دون تأييد روسي.
فقد سمحت روسيا لتركيا بالتدخل في سورية، وفي المقابل، قدمت تركيا حلب، مثلما أرادت روسيا، إلى النظام في دمشق الذي استعاد بذلك أكثر مدن سوريا كثافة سكانية، والمعقل السُّني للثورة السورية، وفق تعريف المعارضة، بينما أحكمت روسيا قبضتها على سورية.
وفي أكثر الكتب أهمية وشمولاً حتى الآن، والتي تتناول الدور التركي في النزاع السوري، وتحت "عنوان حرب أردوغان، صراع رجل قوي في الداخل وفي سورية"،[3] كتبت مديرة برنامج تركيا في "معهد الشرق الأوسط" في واشنطن، غونول تول:
انعطاف أردوغان كان دراماتيكياً. ففي أقل من عام، انتقلت أنقرة من كونها الداعم الأساسي للمقاومة في حلب في وجه الأسد إلى مساعدة الأسد على استعادة "قلب الثورة.." أقر أردوغان بدور تركيا في استيلاء النظام على حلب... وقال إن بوتين طلب مساعدته في إقناع جبهة النصرة.. في الانسحاب من حلب.. هذه التطورات أظهرت أن أنقرة سمحت بسقوط حلب في مقابل ضوء أخصر من دمشق وموسكو لمهاجمة الأكراد.
في سنة 2016 احتاج بوتين إلى مساعدة أردوغان ليستعيد بشار الأسد حلب، وفي سنتَي 2022 و2023 احتاج أردوغان إلى مساعدة بوتين للتقارب مع
الزعيم السوري لأنه يتجه نحو انتخابات حاسمة حيث بقاؤه في الحكم على المحك فيها، ذلك بأن وجود نحو أربعة ملايين لاجىء سوري في تركيا أوجد ضغطاً هائلاً ربما يكلّفه نصراً انتخابياً. لقد احتاج إلى تطبيع العلاقة مع النظام السوري للتعامل مع المشكلة وإيجاد أرضية مشتركة لإنهاء الحكم الذاتي في شمال سورية.
لقد حظيت تركيا بموافقة روسية على كل توغل عسكري قامت به بنجاح في شمال سورية خلال سنوات 2016 و2018 و2019، كما سيطرت عسكرياً على محافظة إدلب في شمال غرب سورية على الحدود مع محافظة هاتاي التركية الجنوبية (المعروفة سابقاً في سورية تحت الانتداب الفرنسي باسم لواء الإسكندرون).
وفي شباط / فبراير 2020 اقتربت تركيا وروسيا من حافة تصعيد عسكري خطر بعد استهداف الطيران الحربي الروسي جنوداً أتراكاً ومقتل 34 منهم. وامتنعت تركيا من تحميل روسيا المسؤولية عن وقوع هذه الحصيلة الثقيلة، بل لامت بدلاً من ذلك النظام السوري، ووجهت هجوماً قوياً بطائرات من دون طيار على القوات المسلحة السورية موقِعة خسائر كبيرة في صفوفها. وأثبت الدفاع الجوي الروسي عدم قدرته على منع الطائرات التركية من دون طيار من قصف حليف روسيا.
وهكذا فإن التعاون بين أنقرة وموسكو في سورية بعد المواجهة في إدلب، أعاد التعاون بين أردوغان وبوتين من خلال زيارة الأول للعاصمة الروسية بعد تلك المواجهة بقليل.
خصائص العلاقة التركية-الروسية
تتشابك تركيا وروسيا على رقعة جيوسياسية أكبر كثيراً من سورية، وهو تشابك يمتد من ليبيا إلى جنوب القوقاز. وبخلاف الرؤية الشائعة بأن العلاقة تصبّ في مصلحة روسيا على حساب تركيا، فإن روسيا ليست في موقع يؤهلها لمنع تركيا من مدّ قوتها نحو حديقتها الخلفية، حتى في جنوب القوقاز، مثلما أظهرت حرب الـ 44 يوماً في إقليم ناغورنو-كاراباخ في سنة 2020، ذلك بأن التعاون هو الطابع الطاغي على الرغم من المنافسة والصعوبات الموروثة بين الجانبين. وقد لاحظ إيغور ديلانو (Igor Delanoë) ذلك بدقة في مقالته: "روسيا وتركيا، صديقتان أم عدوتان؟"،[4] فكتب:
يملك البلدان الخبرة الكافية لإبرام صفقة تقوم على التسويات والتفاهم. فقبولهما بمجالات النفوذ، والفتور الأوروبي حيال مسائل استراتيجية في البحر الأبيض المتوسط، وامتناع الولايات المتحدة من الخوض في مغامرات عسكرية جديدة أمور تمنحهما مساحة إضافية للمناورة والوصول إلى حل يتسع لمصالحهما معاً.
يمكن وصف العلاقة التركية-الروسية، وخصوصاً على المسرح السوري، بأفضل شكل على أنها "تعاون تنافسي" أو "تعاون عدائي". وفي هذا السياق، قدّم الخبير الأميركي البارز في الشؤون التركية، نيكولاس دانفورث (Nicholas Danforth)، في مقالته: "وجهات نظر: ماذا استفادت تركيا من حرب أرمينيا وأذربيجان؟"[5] الملاحظة الدقيقة التالية عن الصعود التركي في البعد الجيوسياسي لجنوب القوقاز، أو لنقل في جوار روسيا المباشر في الجمهوريات المستقلة المنبثقة من الاتحاد السوفياتي:
حتى حين قوَّضت مكاسب أنقرة حلفاء روسيا، فإن موسكو قبلت-لا بل رحّبت-بالتدخل التركي لإضعاف النفوذ الأميركي والأوروبي في سورية وليبيا. وقد أوجدت تلك التدخلات ديناميات تعاون تنافسي يميز حالياً العلاقات التركية-الروسية. فمن خلال دعمهما أطرافاً متناقضة في نزاعات بالوكالة، ثم العمل معاً للتفاوض على حلول لها، فإن موسكو وأنقرة كسبتا معاً نفوذاً على حساب اللاعبين الغربيين.
وكان للمحلل التركي / الكردي غوني يلديز (Güney Yıldız) رأي مماثل عن الطبيعة الفريدة للعلاقة التركية-الروسية، كتبه في مقالته عن: "التعاون العدائي التركي-الروسي في سورية وليبيا وناغورني وناغورنو-كاراباخ"،[6] إذ قال:
لقد أكدت أنقرة استعدادها للتصرف باستقلالية عن حلفائها الغربيين، وحتى في تعارض مباشر معهم، بينما بَنَت علاقتها مع روسيا، والتي هي في الوقت نفسه علاقة تعاونية وتنافسية.
التشابهات بين أردوغان وبوتين
تحمل العلاقة التركية-الروسية البصمات الجلية للرجلين القويين في بلديهما رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، فتشابههما والروابط التي أرسياها معاً لهما دور فائق الأهمية، ومن المشكوك فيه بقوة أن تأخذ العلاقة التركية-الروسية من دونهما الشكل الذي اتخذته في سورية وفي أي مكان آخر.
وشرح الخبير الروسي المعروف أندريه كورتونوف (Andrey Kortunov)، المدير العام للمجلس الروسي للعلاقات الدولية، خصائص العلاقة التركية-الروسية، معيداً إياها إلى التشابه بين بوتين وأردوغان، فقال في مقابلة مع معهد "مونتنيو" (Institut Montaigne) الفرنسي في 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020:[7]
هناك عدد من المتوازيات الواضحة بين الاثنين: فرجب طيب أردوغان، مثل فلاديمير بوتين، ليس مفتوناً بالمبادىء الغربية الليبرالية، والاثنان أصيبا بخيبة أمل من تجربة بلديهما في التعاون مع أوروبا... وحقيقة أن لدى الاثنين عقائد شبه متطابقة، ويتصرفان بطريقة متشابهة، ويحملان بوضوح الرؤية نفسها إلى العالم الحديث وإلى أين يتجه، يجب أن تساهم في التقريب بين موسكو وأنقرة. وأكثر من ذلك، فإن روسيا وتركيا، وبموضوعية، تملكان كثيراً من المصالح المتلاقية، فالبلدان يُكمل بعضهما البعض بنجاح في عدد من المجالات: من الطاقة إلى السياحة، من النقل واللوجستيات إلى تعديلات التقنيات العسكرية، إلخ.
علاوة على ذلك، فإن تركيا تعتمد بوضوح في حساباتها للسياسة الخارجية على عالم متعدد الأقطاب تكون روسيا والصين فيه رمزَين مهمين بقدر أوروبا والولايات المتحدة. وهذا الموقف التركي قدّمه علناً في مناسبات متعددة الناطق باسم أردوغان، وكان آخرها مقابلة متلفزة في تشرين الأول / أكتوبر 2022. وقد أضفى أردوغان نفسه ضمناً الشرعية على حجج بوتين فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وإن يكن أجرى صفقات عسكرية مع الأوكرانيين ولم يعترف رسمياً بالضم الروسي للقرم. وهو تحدث إلى الصحافيين في 12 تشرين الثاني / نوفمبر 2022 وقال:
إن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يهاجم روسيا من دون حدود. ومن الطبيعي الآن أن تبني روسيا مقاومة في وجه تلك الهجمات.
وتفيد المؤشرات كلها بأن التعاون الروسي-التركي سيبقى ويستمر على المسرح السوري، إلّا إذا غادر أحد القائدين، أو الاثنان معاً، مسرح الأحداث.
* مقالة خاصة بـ ''مجلة الدراسات الفلسطينية''، بعنوان:
“Turkey and Russia: Odd Partners in Syria”.
ترجمة: سوسن أبو ظهر.
المصادر:
[1] Cengiz Çandar, Turkey’s Neo-Ottomanist Moment: A Eurasianist Odyssey (London: Transnational Press, 2021).
[2] Cengiz Çandar, Turkey’s Mission Impossible: War and Peace with the Kurds (Washington: Lexington Books, 2020).
[3] Gonul Tol, Erdoğan’s War: A Strongman’s Struggle at Home and in Syria (London: Hurst & Company, 2022).
[4] Igor Delanoë, “Russia and Turkey, Friends or Enemies?”, Le Monde Diplomatique, 8 December 2020.
[5] Nicholas Danforth, “Perspectives: What did Turkey Gain from the Armenia-Azerbaijan War?”, “Eurasianet”, 11 December 2020.
[6] Güney Yıldız, “Turkish-Russian Adversarial Collaboration in Syria, Libya, and Nagorno-Karabakh”, “SWP’s Comment”, 24/3/2021.
[7] “Shaky Bridges Between Russia, Turkey and the EU: Three Questions to Andrey Kortunov”, “Institut Montaigne”, 2 November 2020.