تعقيب على كتاب "المغيبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948"، للمؤلفة منار حسن
التاريخ: 
03/03/2023
المؤلف: 

ينضم هذا الكتاب إلى غيره من الأدبيات التي تركّزت على دراسة المدينة الفلسطينية قبل احتلالها. تكثّف الاهتمام بالدراسات الفلسطينية على المدن الفلسطينية في العشرين عاماً الماضية، كمحاولة لتصويب عملية التأريخ الفلسطينية. فعلى مدار أعوام طويلة بعد النكبة، تم تغييب المدينة وسكانها عن الرواية الفلسطينية. وكما تحاجج منار في خاتمة كتابها أنه وبسبب الطابع الجغرافي الاستلابي للصراع، تغلّبت ذاكرة القرية واستخدام الديكور والوعي الريفيّين كمصدر أساسي في تخيُّل الماضي الفلسطيني. "فتجمدت الذاكرة الرسمية وألقت بظل النسيان السياسي على المدينة."

في حين ركّز العديد من الدراسات على الجوانب السياسية والاقتصادية وبعض الجوانب الاجتماعية لتطور المدن الفلسطينية منذ القرن الثامن عشر – نذكر على سبيل المثال الكتب عن يافا: محمود يزبك، حسن إبراهيم سعيد؛ كتاب إسبير منيّر حول اللد؛ وعن حيفا كتب كلٌّ من جوني منصور ومي صيقلي؛ كتب متعددة المؤلفين عن القدس من تحرير سليم تماري وعصام نصار ومجدي المالكي؛ بالإضافة إلى كتب عن شخصيات سياسية مدينية، مثل مذكرات رشيد الحاج إبراهيم، يستحضر كتاب المغيبات تاريخ المدينة الاجتماعي، من وجهة نظر النساء.

في الإمكان الادعاء أن كتاب منار يتفاعل مع الفكرة السيسيولوجية القائلة إن المدينة أبعد بكثير من المقاييس الجامدة والمجردة التي تميزها، مثل الحيّز المبني والمميزات الديموغرافية، بل هي منتوج اجتماعي ناتج من تفاعلات بين عدة عوامل. وأن المدينة فضاء وموقع للتبادل ومسرح للصراعات والتفاوض بشأن تشكيل وشكل المدينة، وأيضاً بشأن تشكيل تعبيرات جماعية سياسية، للنساء دور كبير ومهم فيه.

ينضم مجهود منار البحثي إلى المدرسة النسوية النقدية، والتي تطلق هي عليها اسم "نموذج العالم الثالث". وتركّز هذه المدرسة التي تبحث العلاقة بين المدينة والجندر في مجالات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية، أو الدراسات الثقافية.

وترى هذه المدرسة، كما تحاجج منار في الكتاب، أن المدينة عنصر باعث على التغيير في كل ما يتعلق بالعلاقات الجندرية، وترى أن للمدينة مهمة اجتماعية تاريخية، وهي عنصر مشجع  ومحرر. من خلال هذا الادعاء، ينتقد الكتاب بعض الأدبيات النسوية التي تدّعي أن هناك "علاقة عضوية" بين نمو الحركات والمنظمات النسائية في الدول الكولونيالية، وبين النهضة القومية. فتدّعي منار أن تجاهُل هذه المدارس لظهور المنظمات النسائية في مراحل ما قبل الدول الكولونيالية في العالم، يتجاهل أيضاً الدور المركزي لمسار التحضر ومساهمته في ظهور وتمكين هاتين الظاهرتين (النهضة القومية والحركات النسائية والنسوية).

على الرغم من غياب الأرشيف المنظم، فإن منار تثبت لنا أنه بكثير من الجهد والتصميم، وأيضاً بكثير من التفكير الإبداعي خارج الصندوق، يمكن لبحث معمّق ومتأنٍّ، يعتمد على مصادر متعددة، أو كما تسميها هي "شذرات من مصادر بديلة"، مثل الجرائد وأرشيف "جماعة الذاكرة" - مقابلات مع رجال ونساء، مذكرات وسيَر شخصية، وأيضاً محفزات بصرية من صور ولوحات فنية، أن يرسم لنا ملامح صورة حية وديناميكية لسكان المدن في المجتمع الفلسطيني، هؤلاء الذين تم تغييبهم عن التاريخ الرسمي.

تأخذنا منار في فصول الكتاب إلى رحلة تنشّط الخيال، تصف فيه التحولات التي طرأت على المدن الفلسطينية في جوانبها المختلفة؛ الحيّز، الاقتصاد، الثقافة والترفيه، وأيضاً السياسة، من خلال تجربة وتحولات طرأت على تجربة النساء المعاشة ودورهن ومساهمتهن في بناء مدينتهن. ومن خلال محاولتها "استعادة المقصي"، تستحضر في الكتاب مدناً لم تلقَ الاهتمام الكافي بعد في الأدبيات الفلسطينية. فإلى جانب يافا وحيفا والقدس، يستحضر الكتاب، من خلال النساء الفلسطينيات وتجاربهن، أيضاً مدينة الرملة وطبرية وبيسان.

يدّعي الكتاب أن الحيز الحضري الآخذ في التشكل والنمو، كان حلبة مركزية لصراعات وتفاعلات اقتصادية وسياسية واجتماعية، ساهمت جدليتها، كما جاء، في تغيير صلات وعلاقات اجتماعية جديدة ومنظومة قيمية وثقافية جديدة، والتي بدورها، مكّنت من نشوء بديل معين من منظومة القيم التقليدية البطريركية، ومن ضمنها العلاقات الجندرية ومكانة المرأة.

 لا تغفل منار العوامل المختلفة التي ساهمت في نمو الحيز الحضري في فلسطين، وعلى الرغم من تركيزها الأكبر على وصف السيرورات الاجتماعية الداخلية، فإنها تلمّح أحياناً إلى دور الاستعمار البريطاني، وأيضاً إلى دور تغلغل الرأسمالية في التغييرات الاقتصادية السياسية التي جرت في فلسطين. وكيف ساهمت هذه التدخلات في تمكين الطبقتين الوسطى والرفيعة، ومن ضمنها نساء هاتين الطبقتين، وهن اللواتي أخذن القسط الأكبر من الكتاب.

لا تكتفي منار بإضافة تجارب النساء في المدن لتصويب عملية كتابة التاريخ الاجتماعي الحضري. بل تعتمد بالأساس على قراءة نسوية، تستند ابستمولوجيا إلى قناعة بأن النساء هن فاعلات ناشطات في التاريخ، يساهم فعلهن في استهلاك المدينة، ولكن أيضاً في استخدامها. انتزعت النساء الفلسطينيات "حقهن في المدينة"، وساهمن أيضاً في تصميمها وإعادة هيكلتها، فبحسب الأمثلة المدعّمة بالتفاصيل والبينات في الكتاب، ناضلت النساء من أجل حقهن في حضور ناشط وفاعل في النوادي في الحيز الحضري، وذلك من خلال احتجاجهن، عبر رسائل إلى الصحف، عن تغييبهن عن حضور نشاطات ثقافية عامة.

الكتاب غني جداً بالأمثلة، ويصلح استعماله مجازياً كلائحة اتهام، مسنودة بالبينات المحكّمة، تقدم للمحكمة في حق كل مَن غيّب المدينة الفلسطينية وسكانها عن الخطابات التاريخية المهيمنة. لكن أهمية الكتاب تتعدى الانتصار للرواية والسردية التاريخية الفلسطينية. فالأمثلة الكثيرة تسلط الضوء أيضاً على فكر وممارسة نسوية أصلية (Genuine) يمكن الادعاء أن محوها من السردية الرسمية ساهم في إعاقة تراكمية لإنتاج المعرفة النسوية في فلسطين والمنطقة. وقد سبّب تغييب هذه الممارسات، في رأيي، إعاقة الخطاب النسوي الفلسطيني وتراجُعه ما بعد النكبة. فالأمثلة الكثيرة الواردة في الكتاب تدل على مسارات نسوية غُيبت، فأعيدَ بناؤها ما بعد النكبة، كأنها لم تكن موجودة في السابق أصلاً.

فمثلاً، ممارسات النساء في تلك الفترة تميّزت بتحدّيها للفصل الإشكالي بين الخاص والعام، وهو نقاش برز على السطح بين النسويات في تسعينيات القرن المنصرم. نجد هذه الممارسات في ممارسة مهنة الخياطة وتصميم الأزياء التي حولّت غرفاً في البيوت إلى مصالح تجارية. ونجد أن نساء المدن ما قبل النكبة، سبقننا إلى بلورة فضاءات هيتروتوبية نسائية، كما كان في حلقات الاستقبال، التي حولت البيوت إلى مسرح للنقاشات السياسية والاجتماعية، وكيف ساهمت هذه الفضاءات في بلورة الخطاب النسوي الفلسطيني. ولولا التغييب، لربما راكمنا معارفنا الفكرية بشأن الإنتاجات الثقافية والفنية النسوية على مَن سبقنا إليه من فنانات تشكيليات قبل النكبة.

لهذا الكتاب أهمية تتعدى الماضي، أي المساهمة في كتابة التاريخ الفلسطيني، وتتعدى الحاضر، أي مراكمة معرفة نسوية فلسطينية، وأيضاً في فهم دور ومساهمة النشاط النسوي والكويري في إعادة مسار التمدن الفلسطيني في اللحظة الراهنة. ففي نظري، هو يساهم في تخيُّل مستقبل مغاير لفلسطين والمنطقة. أولاً: في موضعة المدن الفلسطينية في شبكة علاقاتها مع محيطها العربي والدور التبادلي لهذا الامتداد على بناء الحضرية في فلسطين وفي المنطقة. وثانياً: في استحضار دور النسويات الفلسطينيات ومشاركتهن في الحركة النسوية العربية، وذلك من خلال مشاركتهن في الكتابة النسوية والسياسية في الصحف، أو من خلال المشاركة في المؤتمرات القطرية. وكل هذا يستفز ويحفّز التفكير في فكرة أن على النضال الفلسطيني والتحرر من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الاستناد إلى رؤية تحررية سياسية واجتماعية، أوسع من تلك التي تفرضها حدود المخيال السياسي المحصور في إطار زمنية 1948. مخيال سياسي يشمل الحرية والتحرر لجميع بنات وأبناء المنطقة.

بالإضافة إلى ذلك، يطرح هذا الكتاب أسئلة عن التجربة الحسية ودورها في بناء وإعادة بناء الذاكرة الجمعية. فكما تكتب منار في مقدمتها، كانت تجربة والدتها المدينية، والمختلفة كل الاختلاف عن تجربتها هي في المدن ما بعد النكبة، عاملاً مستفزاً لكتابة هذا الكتاب. فعلى الرغم من غياب وتغييب البيّنات التاريخية، فإن تجربة الوالدة وذاكرتها الحضرية الحسية صمدت ونجحت في تحويلها إلى محرّك ودافع لمنار إلى كتابة هذا الكتاب.

في حين يركّز هذا الكتاب، كما جاء سابقاً، على الطبقة الوسطى والعليا من المجتمع المديني، يحضر وإن كان أقل كثافة أيضاً، تأثير مسار التحضّر في بنات الطبقة الدنيا وفرص العمل التي أتاحها هذا المسار من الإمكانات لتوفير فرص للاستقلالية الاقتصادية وحرية الحركة والتنقل، مثلاً في الانخراط في الفنون الشعبية، مثل في حالة الجناكي.

مع هذا، تبرز أيضاً في هذا الكتاب النزعة السائدة في دراسات أُخرى بشأن المدن الفلسطينية عن التركيز على ازدهار المجتمع الفلسطيني وتطوّره الحداثي المتجسد في المدينة. وعلى الرغم من محاولات تغطي هذه النزعة، اذ نجد فيها تطرُّقاً أيضاً إلى بعض الظواهر القمعية والاستغلالية في المدن، فإن هذه المحاولة تبقى محدودة.

يستفز هذا الكتاب الكثير من الأسئلة، ويحفّزعلى إجراء أبحاث مستقبلية بشأن المدينة ومسارات التمدن في منطقتنا. من بين هذه الموضوعات التي ما زالت مغيّبة عن الدراسات وعن الذاكرة الجمعية، الجوانب السلبية للمدينة والصراعات الطبقية وتأريخ للطبقات المهمشة في المدن. وأيضاً النساء من الطبقات المهمشة والنساء في الحركات الإسلامية والعلاقة التبادلية بين القرى والمدن، وأيضاً شبكة العلاقات أو غيابها بين النساء الفلسطينيات والنساء العربيات-اليهوديات، وأيضاً مع النساء اليهوديات من المستوطِنات، ما قبل النكبة.

وكي لا نقع في فخ قولبة النساء في أطر جوهرانية، إيجابية في أغلبيتها، من الضروري الالتفات أيضاً إلى تعقيدات المجال السياسي في تلك الحقبة، وانعكاس هذا على نشاط النساء السياسي-الوطني. نذكر على سبيل المثال، إقامة مؤسسات نسائية جاءت لخدمة السلطات الكولونيالية البريطانية، كما هي حال جمعية التضامن النسائي التي يذكرها الكتاب، والتي أقيمت في بداية الأمر، وإن اختلف دورها لاحقاً، بمبادرة بريطانية، وكانت الغاية منها دفع شريحة الموظفين، من نساء ورجال، إلى التعاون مع الكولونيالية كشرط للوصول إلى مجتمع حديث.

 

* نص المداخلة التي قدمتها همت الزعبي في ندوة إطلاق كتاب "المغيّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في مركز خليل السكاكيني الثقافي في 21 شباط/فبراير 2023.

عن المؤلف: 

همّت زعبي: حائزة على شهادة دكتوراه في العلوم الاجتماعية، وتقيم حالياً ببرلين، في إطار زمالة ما بعد الدكتوراه في برنامج دراسات أوروبا في الشرق الأوسط، الشرق الأوسط في أوروبا (EUME).