عندما لا تستطيع إسرائيل سرقة الماء، تُغرقك فيها
التاريخ: 
20/02/2023
المؤلف: 

اعتاد أهالي جنوب فلسطين استقبال مَطَرَةِ "الصليب" في أواسط شهر أيلول/سبتمبر من كل عام، إذا كان هطول الأمطار في ذلك التوقيت إيذاناً بانتهاء الحَرّ وبدء موسم الخريف وجني الزيتون والبلح. قيل إنها سُمِّيَت بالصليب لأن القديسة هيلانة عثرت على "الصليب المُكَرَّم"، أي الصليب الذي صُلِب عليه السيد المسيح، ولتمييزه من بين ثلاثة صلبان وجدتها في جبل الجلجثة في القدس، أشار عليها المطران مكاريوس بوضع ميِّتٍ على الصليب، ولما قام الميت بعد أن وُضع على الصليب المكرم، رفع مكاريوس الصليب، فانهمر المطر من السماء.[1] لكن الواضح أن تاريخ 27 أيلول/سبتمبر كان عيداً زراعياً قبل الأديان الإبراهيمية.

أياً كان أصل التسمية، فبَدء هطول المطر في أيلول/سبتمبر من خصائص مناخ البحر الأبيض المتوسط. لكن التغير المناخي الذي أخذت وطأته تزداد شدة منذ أواخر التسعينيات، جعل المطر يتأخر حتى شهر كانون الأول/ديسمبر، وأحياناً إلى كانون الثاني/يناير.

 

 

قبل تغير المناخ، غير التطهير العرقي، الذي يمارسه نظام إسرائيل الصهيوني منذ النكبة، التوزيع السكاني في فلسطين، فأمسى قضاء غزة-الذي كان يتربع على 1111,5 كم2 قبل النكبة-قطاعاً حُشِرَ فيه سكانه الـ 80,000 مع 200,000 لاجئ فلسطيني طردتهم المنظمات الإرهابية الصهيونية من وسط البلاد وجنوبها.[2]
وبعد عبث الصهيونية بالتوزيع السكاني وبالحيز المكاني-العمراني، راحت تعبث بالطبيعة نفسها، بدءاً بينابيع المياه والأودية، وصولاً إلى مشاريع السيطرة على الموارد المائية التي كانت -ولا تزال-جزءاً من المشروع الصهيوني نفسه، فقد تأسست شركة "ميكوروت" لتسيير الموارد المائية سنة 1937،[3] وذلك بغرض توفير مياه الشرب والري للمستوطنات الصهيونية في شمال فلسطين.[4] وبعد النكبة، قامت ميكوروت بمضاعفة قُطر الأنبوب القادم من منبع نهر العوجا في رأس العين الذي يزود القدس الغربية -وهي حيز عمراني بُني فوق عدة قرى فلسطينية غربي القدس، هُجّرت ودُمرت خلال النكبة، بالإضافة إلى بعض التجمعات اليهودية التي بُنِيت قرب القدس قبل النكبة-ليضخ 27 ألف متر مكعب سنوياً، ثم مشروع أنبوب نهر العوجا-النقب سنة 1955، ثم مشروع "الناقل القطري" سنة 1964، الذي تضخ من خلاله إسرائيل مياه بحيرة طبرية نحو المستعمرات الصهيونية في كل البلد.[5]

وقد شهد الخريف الخامس والسبعين بعد النكبة "صليباً" رذاذه قليل، لكن قطرات المطر لم تصل إلا قبل بضعة أسابيع، وبصحبة ريح قوية، حيث ضرب منخفض جوي وسط فلسطين وجنوبها، فهطلت على قطاع غزة أمطار غزيرة بلا توقف لمدة أربعة أيام، وهو ما أسفر عن فيضانات هي الأولى في نوعها منذ عقود، فلم تعد المياه للجريان في أودية القطاع الجافة فحسب، بل إن وادي السَّلقا شهد فيضاناً عارماً اكتسح أحياء ومزارع كاملة، وخرَّب كل ما في طريقه، وأودى بحياة شخص واحد في دير البلح، بعد أن فتحت إسرائيل الخزانات الثلاثة المقامة على مجراه الذي غزاه البناء العشوائي. وتخترق قطاع غزة أربعة أودية هي:

  • وادي غزة الذي ينبع من جبال الخليل وجبل البَقَّار في النقب، ويصب في البحر الأبيض المتوسط بين مخيم النصيرات للاجئين ومدينة الزهراء.
  • وادي السَّلْقا الذي يبدأ مجراه شرقي دير البلح وراء السياج الفاصل بقليل، ويمتد إلى وَهدَة في أراضي بلدة دير البلح وسط القطاع.
  • وادي الحليب "وادي بيت حانون" الذي يبدأ مجراه بعد السياج الفاصل شرقي منطقة المنطار، فيخترق القطاع، ثم يتجه شمالاً، عابراً بلدة بيت حانون، ثم يخترق السياج الفاصل مرة أُخرى ليرفد وادي الحِسِي الذي يتجه بعد ذلك ليصب في البحر الأبيض المتوسط.
  • وادي الدوح، وهو رافد صغير لوادي الحِسِي، يبدأ مجراه شرقي بيت حانون خلف السياج الفاصل، ثم يتوجه غرباً داخل السياج بقليل قبل أن يتجه شمالاً ليلتقي بوادي الحسي قرب قرية دِمْرِة التي بنى الصهاينة على أنقاضها "كيبوتس إيرز".

تشبه هذه الأودية كافة أودية جنوب فلسطين، فهي جافة في أغلب أيام السنة، باستثناء بعض الوهدات والبرك الطبيعية، وما بينها وبعدها من أجزاء المجرى التي يسيل فيها الماء بوتائر منخفضة، ولا تتدفق فيها المياه بشدة إلا في موسم الأمطار. وعلى مجرى كلٍّ منها ما يروي جزءاً من المشهد الفلسطيني؛ فهذا وادي غزة أكبر أودية فلسطين، إذ تبلغ مساحة حوضه نحو 3,500 كلم2، وهو الأطول أيضاً، إذ يمتد مجراه على مسافة 80 كلم، من جبل البَقَّار في النقب حتى البحر الأبيض المتوسط. لكن وراء المنظر البائس لمصبّه المترع بالمياه العادمة يوجد منظر آخر في الأراضي التي احتلتها إسرائيل سنة 1948، فقد بنت إسرائيل على طول الوادي وروافده العديدة زهاء 33 خزاناً، بالإضافة إلى 14 حوضاً لمعالجة المياه بالأكسدة على وادي المَشَّاش، وهو رافد فرعي لوادي غزة يمرّ جنوبي مدينة بئر السبع.

 

 

وفي سنة 1996، قام "الصندوق القومي الإسرائيلي"-المعروف تاريخياً بالصندوق القومي اليهودي-بتمويل من جهات أميركية وأسترالية، بتوسعة ثلاثة خزانات على وادي غزة تقع في منطقة أم عرقوب في مضارب عرب أبو غليون/الجراوين-الواقعة على مسافة 14 كلم تقريباً إلى الجنوب الشرقي من قطاع غزة -لتصبح سعتها 7 ملايين متر مكعب. وقد سُجِّل أعلى معدل لفيضان زادي غزة بـ 759 متراً مكعباً في الثانية، وهو معدل ضخم إذا ما علمنا بأن معدل تدفّق عين لَدَّان، التي ترفد نهر الأردن في أقصى شمال فلسطين في قرية خان الدوير، يبلغ ثمانية أمتار مكعبة فقط.[6]

ومع استشعار خطر التغيّر المناخي وشحّ المياه، شرع الصندوق القومي الإسرائيلي في بناء خزانات على جميع الأودية في فلسطين، تجاوز عددها اليوم الـ 230 خزاناً،[7] كما أنجز في سنة 1989 مشروع "الخط الثالث" الذي يضخ 100 مليون متر مكعب إلى النقب، كما أقام على الجزء المحتل من أراضي بيت حانون سنة 1948 خزاناً للري الزراعي على مساحة 40 دونماً بسعة 1,5 مليون متر مكعب. ويحتجز الخزان مياه وادي الدوح، ويستقبل 140 مليون متر مكعب من المياه العادمة المعالَجة. وثمة خزان آخر يحتجز مياه وادي الحليب.

هكذا يحرم نظام الأبارتهايد الإسرائيلي مليوني فلسطيني في قطاع غزة حقهم في المياه، ويحولها إلى نقمة، وإمعاناً في السادية، يمنعهم من الحصول على ما يلزم من مواد لإنشاء محطات لتحلية مياه البحر. وتصبح الأمور أكثر تعقيداً عندما تسود الفوضى وينعدم التخطيط الحضري، ويسوء اختيار الأولويات لدى السلطة الحاكمة في القطاع. وليس الحال بأحسن منه في الضفة الغربية، وإلى أن يتحسن الحال، علينا أن ننبش في عقول الناشئة، بحثاً عن "عِلمٍ مُكَرَّمٍ". 

 

[1]https://ar.jerusalem-patriarchate.info/2011/09?print=print-search

[2]https://www.palquest.org/ar/highlight/21235/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%A6%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%82%D8%B7%D8%A7%D8%B9-%D8%BA%D8%B2%D8%A9

[3]https://www.gov.il/ar/Departments/General/mekorot_water

[4]https://www.mekorot.co.il/our-history/

[5]المصدر نفسه.

[6]https://www.kkl.org.il/parks_and_forests/besor_stream/

[7]https://www.kkl.org.il/education/features/water/water-reservoirs-in-israel/

عن المؤلف: 

مصعب بشير: مترجم فلسطيني وسجين سياسي سابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي، يقيم بإسبانيا.