"كنيسة المهد في بيت لحم، أقدم كنائس فلسطين: دراسة في العمارة والفنون والتاريخ والتراث" لنظمي الجُعبة
التاريخ: 
15/02/2023
المؤلف: 

أتاح لنا نظمي الجُعبة زيارة كنيسة المهد، ونحن نقرأ صفحات المجلد الأنيق الصادر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بعنوان "كنيسة المهد في بيت لحم – أقدم كنائس فلسطين – دراسة في العمارة والفنون والتاريخ والتراث" (393 صفحة).. وفي هذه الإتاحة، جال بنا، نحن القرّاء البعيدون بالجسد، والساكنون بالروح في أرجائها، فتلمّسنا جدرانها، وأعمدتها، وأبهرتنا الفسيفساء والزخارف، والكثير منها هو الأقدم من هذه الفنون في العالم. وأعادنا الجُعبة (أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت في فلسطين وجامعة توبنغن في ألمانيا، ومؤرخ وأثري ومترجم، وله مؤلفات عديدة) إلى عبق التاريخ وفصوله، ومراحل وعهود مرت على فلسطين وتركت ما تركته، ونالت ما أخذته، بانتظار يوم تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي. وأيضاً، أضفى بسرديته المُنسابة لتاريخ الكنيسة، على أرواحنا روحانية التأمل والخشوع ونحن ندخل مغارة المهد، حيث كانت ولادة السيدة العذراء مريم لرسول المحبة السيد المسيح، إذ إن  كنيسة المهد حافظت على عمارتها الأساسية منذ القرن السادس للميلاد حتى يومنا هذا من دون تغيير، "وهي مسألة تدعو بالتأكيد إلى العجب" – كما يقول المؤلف.

أمدّنا الجُعبة برمق كبير من الأمل بعد إعادة ترميم الكنيسة بالكامل (إلا من بعد نواقص كما ذكر)، فاستعادت بهذا رونقها وبهجة زهوها. هذا الترميم الذي استغرق عشرة أعوام، بتكليف من الرئاسة الفلسطينية (اتُّخذ القرار سنة 2008، وبدأ العمل سنة 2013، وانتهى في كانون الأول/ديسمبر 2022)، لا يزال ينتظر إعلان موعد التدشين، لكن المجلد/الكتاب بين أيدينا كان تمهيداً لهذا الاحتفال بهذه التحفة المعمارية، مع التنويه بأناقة ضفتيْ الغلاف، وروعة الصور ووضوحها، ودقة المعلومات، وبالعقلية التي تستند إلى العلمية، وإلى منهج تاريخي واضح.

يتضمن المجلد/الكتاب عشرة فصول (يتناول الفصل العاشر المغاور والمباني المحيطة بالكنيسة)، ومقدمة وكلمة ختامية وملحق الترميم ومراجع بالعربية والأجنبية وروابط إلكترونية، وجدولاً بأهم التواريخ والأحداث المرتبطة بكنيسة المهد، والتي وضع حجر أساسها وبناها الإمبراطور البيزنطي قسطنطين وأمه هيلانة (القديسة لاحقاً)، وذلك في الفترة 328 - 329 ميلادي، واكتمل بنيانها في سنة 333، وتم تدشينها رسمياً في احتفال في عيد الميلاد في سنة 339 (وتزامنت مع بنائهما كنيسة القيامة في القدس). أما البناء الثاني للكنيسة، فقام به الإمبراطور البيزنطي جستنيان، فكان ما بين سنة 543 وسنة 550 م، بعد أن هدمها وحرقها  السامريون خلال احتجاجات قاموا بها في سنة 529.

وبعيداً عن تواريخ العهود والشعوب التي احتلت فلسطين، سنكتفي هنا بذكر تلك المحطات التي تشكل، وبالتفصيل، عناوين منفردة لكل فصل من فصول الكتاب، وفيه عرض لأحداث التاريخ، ومجموعة من النصوص التاريخية ذات العلاقة بكنيسة المهد وما رافقها من أوضاع ثقافية واجتماعية وحروب وحالات ترميم وخلافات بين أبناء الطوائف المسيحية المشرفة على إدارة الكنيسة وكيفية إيجاد الحلول لهذه الخلافات التي تركت في أحيان كثيرة آثارها في ترميم الكنيسة وإنقاذها من التلف. يتناول الفصل الأول تاريخ بيت لحم، وولادة السيد المسيح فيها، ثم ينتقل المؤلف إلى تاريخ البحث والتوثيق العلمي للكنيسة، ثم مرحلة قسطنطين الذي أمر ببناء الكنيسة التي بقيت رابضة فوق مغارة الميلاد مدة قرنين، فمرحلة جوستنيان ، حين أعيد بناؤها فوق أرضية كنيسة قسطنطين، وهو ما أكدته "الطرق الإلكترونية للفحوصات" (ص85).. أما في الفترة العربية الإسلامية المبكرة وحتى سقوطها بيد الفرنجة (635-1099م)، فقد أشار إلى مكانة كنيسة المهد في التراث الإسلامي، والعهدة العمرية بين الخليفة عمر بن الخطاب والبطريرك صفرونيوس، والحفاظ على الكنائس المسيحية، باستثناء ما جرى في فترة الحاكم بأمر الله  الفاطمي. وقد حفلت الكنيسة بزخارف نادرة –كما يصف- في فترة الفرنجة (1099 -1187)، وهو ما ترك تبعات كثيرة على كيفية استعمال الكنيسة وحقوق الطوائف  (بعد أن كانت تحت سيطرة الروم الأرثوذكس)، وعلى مظهرها الخارجي والداخلي، بما  يتلائم مع سيطرة اللاتين الجديدة.

وتحت عنوان" كنيسة المهد في الفترتين الأيوبية والمملوكية (1187 -1517م)"، يتناول استعادة الروم الأرثوذكس السيطرة على الكنيسة. وقد جرت بعض أعمال الترميم فيها، لكنها فقدت الكثير من رونقها في نهاية الفترة المملوكية (كبقية مدن فلسطين) بسبب "ضعف نظام المماليك وانتشار الفساد، وتراجُع مداخيلهم بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح"، وما رافق تلك الفترة من الكوارث الطبيعية والأمراض المعدية (ص 191). في هذه الفترة، شهدت الكنيسة نقوشاً مكتوبة باللغتين العربية والأرمنية، إلى جانب اللاتينية. كما شهدت زيارة عالم اللاهوت السويسري فيليكس فابري بين سنتيْ 1483 و1484م، وكتب نصه "الطويل المشوق، وما تضمنه من معلومات عن بيت لحم والكنيسة" (النص منشور شبه كامل من ص 204 إلى ص 214 مع تعليق الجُعبة، وكما فعل في نقاشه لكل النصوص الواردة).

شهدت الكنيسة في  الفترة العثمانية حالاً ما بين السيطرة والترميم، والفرمانات لترميم الكنيسة، والاستفادة من صراعات الطوائف المسيحية لإدارة الكنيسة وامتدادات هذه الصراعات على صعيد الدول الداعمة لهذه الطائفة وتلك، وتدخلات روسيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والنمسا ودول أُخرى "وتحتوي سجلات المحكمة الشرعية في القدس على عدد هائل من هذه المنازعات التي فصلت فيها المحكمة طوال الفترة العثمانية، وهي موثقة توثيقاً جيداً وتُعتبر ذخيرة معرفية من الطراز الأول" (ص220). أما في فترة الانتداب البريطاني، فقد تراوح ما بين الترميم المتواضع والتناقضات الدبلوماسية، وذلك استناداً إلى سجلات دائرة الآثار في حكومة فلسطين الانتدابية، وهذه "إضافة مهمة لفهم التطورات التي طرأت خلال فترة الانتداب على الكنيسة من جهة، وعلى العلاقات بين الطوائف المسيحية صاحبة الحقوق التاريخية من جهة أُخرى" (ص4).

في المجلد/الكتاب توصيف لكل حجارة كنيسة المهد، وقاعاتها، والبئر، وجرن عمادة الطفل يسوع، والسقوف، والمنحنيات والأخشاب، والأبواب، وكلها بأجمل وأدق كلمات الوصف والجمال، وما حملته من تزيين وتنقيش يبهر العين والروح.

عن المؤلف: 

منى سكرية: صحافية لبنانية.

press here