الغضب ممنوع: عن محاولة اغتيال الغضب الفلسطيني
التاريخ: 
02/02/2023
المؤلف: 

قادني مقال أودري لورد، "مقال الغضب"، والذي تحدثت فيه عن غضب السوداوات في الولايات المتحدة الأميركية المعبَّر عنه في اللغة والشعر ضد العنصرية، وكيفية تعامل النساء البيضاوات واستيائهن من محاولات التعبير تلك،[1] إلى التفكير في السياسات الإسرائيلية ضدنا كفلسطينيين، ومحاولتها استعمار عواطفنا ومصادرتها؛ فتطال منظومة السيطرة والتحكم الإسرائيلية المشاعر التي تنتابنا على وسائل التواصل الاجتماعي، سواء أكانت غضباً أم فرحاً، وليس هذا فحسب، بل تدفعنا أيضاً إلى الاعتذار عنها وتعاقبنا عليها بأعنف أدوات القمع.

قد يظن البعض أن هناك مبالغة، لكني أورد هنا ثلاثة أمثلة، وأعرج فيما يلي على منظومة "الذئب الأزرق" كي أبرهن محاولات إسرائيل استعمار غضبنا وإطفاءه، مع التأكيد أن الغضب المقصود بهذه السطور هو الغضب غير المترجم إلى فعل، وهو الأكثر انتشاراً.

دأبت الدول الاستعمارية والاستبدادية إلى استخدام العنف في مواجهة الشعوب المُستَعمرة، وتجلى ذلك في قمع المسيرات وجميع أنواع الاحتجاجات، وبما أن إسرائيل هي إحدى هذه الدول، أدرجت هذه الفعاليات ضمن النشاطات المحظورة بحسب قانون الطوارئ العسكري الإسرائيلي، إذ تحولت المشاركة فيها إلى سبب للاعتقال والزج في السجن. وأصبح القمع، وتحديداً مؤخراً، يصل إلى حد استخدام الرصاص المتفجر ضد رافع علم أو يافطة كُتب عليها شعار مناهض للاستعمار، في محاولة لاغتيال الغضب الداخلي للفلسطينيين، وبهدف تحويلهم إلى قطع من المطاط لا تستجيب للظلم الذي يحدث من حولها.

في صورة أكثر وضوحاً لاغتيال الغضب، تنتهج إدارة السجون الإسرائيلية استراتيجيا "العقاب والثواب" في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين؛ ففي اللحظة التي يحاول فيها الأسرى التعبير عن غضبهم، سواء من خلال خطبة الجمعة مثلاً، أو من خلال الامتناع من استقبال وجبات الطعام والإضراب عنه، أو حتى عند الطرق على أبواب الزنازين، يتم تعنيفهم وقمعهم، بداية من الحرمان من أبسط الحقوق الأساسية، مثل الزيارة أو إدخال الملابس، مروراً بمنعهم من الخروج من الزنازين (الفورة) واحتجازهم داخلها فترة قد تزيد على الأسبوع أو أكثر، وليس انتهاء بالاعتداء عليهم بالضرب المبرح بالهراوات والصعق الكهربائي وخنقهم بالغاز المسيل للدموع.

بتاريخ 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، كشف صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن منظومة مراقبة يتبعها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين باستخدام أنظمة التعرف على الوجه عبر جمع صور عشوائية عن طريق التقاطها على الهواتف المحمولة الخاصة بالجنود في أثناء تنقلهم من مكان إلى آخر. وأصبحت صور آلاف الفلسطينيين، بينهم أطفال وكبار السن، مخزنة في نظام يقوم بمراجعة الصور الملتقطة على الهواتف المحمولة ملحقة بمعلومات شخصية إضافية تتضمن قاعدة بيانات "Wolf Pack"،[2] عُرفت لاحقاً باسم "الذئب الأزرق"، وهي إحدى الآليات التي تتيح للجنود تنميط الفلسطينيين الذين يشكون في أنهم قد يشكلون "خطراً أمنياً". ومن شأن هذه الإجراءات أن تعزز شعور الملاحقة في ذهن المواطن الفلسطيني، وتوحي أنه تحت العين الإسرائيلية التي لا تنام، الأمر الذي يؤثر سلباً في سلوكه وأفعاله وأقواله، بل حتى في مشاعره وطريقة التعبير عنها، والتي أضحى يقمعها بنفسه.

بالتزامن مع اندلاع هبّة السكاكين عام 2015، بدأت إسرائيل تنظر إلى منصات التواصل الاجتماعي، ولا سيما منصة فيسبوك، بشيء من القلق كون كثيرين من منفذي العمليات قد لمّحوا إلى نياتهم غير العلنية من خلالها.[3] والأهم من هذا كله أن الآلية الإسرائيلية تعاملت مع التفاعل والتعبير عن الرأي، وضمنه الغضب، وسط مختلف شرائح المجتمع إزاء هذه الأحداث، باعتبار المنشور سبباً كافياً للاعتقال تحت مبرر "التحريض"، ثم خصصت وحدة مراقبة تهتم بكل ما يكتبه الفلسطينيون على مواقع التواصل الاجتماعي.[4]

تستند المحاكم الإسرائيلية لدى إدانتها سكان القدس والأراضي المحتلة عام 1948، بتهمة التحريض والنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى المادة 144 (ب) و(د) من قانون العقوبات لعام 1977، المعنون "التحريض على العنف والإرهاب"، أمّا في الضفة الغربية فتستند المحاكم العسكرية في قراراتها ضد الفلسطينيين بدعوى "التحريض" إلى المواد 251 و199 (ج) من الأمر العسكري لتعليمات الأمن (النسخة الموحدة) "يهودا والسامرة" رقم 1651 لعام 2009.[5]

عند النظر في لوائح الاتهام المتعلقة بهذا الشأن، يجد القارئ أن المصطلحات المستخدمة تتسم بأنها فضفاضة وحمّالة لكثير من المعاني والأوجه، بحيث يُمنح القاضي والنيابة صلاحية واسعة لتأويل هذه المصطلحات وتفسيرها وتصنيف العديد من المنشورات، كصورة الشهيد، أو نعيه، والأغنية الوطنية، بل حتى الآية القرآنية الداعية إلى الجهاد، تحت بند التحريض.[6]

وفي هذا الصدد تقول مؤسسة الضمير إن المحاكم الإسرائيلية بدأت تنتهج سياسة الإدانة بتهم التحريض منذ كانون الأول/ديسمبر 2014، بدواعي الحجج الأمنية الملحة. وبالعودة إلى الملفات القانونية، يُلاحظ أن المحكمة بدأت بإصدار أحكام بالسجن الفعلي من 6 أشهر إلى 24 شهراً، بالإضافة إلى غرامات عالية. وغالباً ما تعتبر المحاكم أن كل منشور يشكل مخالفة.[7]

ويأتي هذا في وقت لا تنفك فيه سياسات شركة فيسبوك الأميركية أيضاً تقيّد المحتوى الفلسطيني المقاوم والتعبوي، وتحذف صفحات الصحافيين والكُتّاب وغيرها، بعد تفعيل ضغوط إسرائيلية بهذا الصدد، وهو ما كشفت عنه صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية.[8]

إن الغاية الأولى من وجود الأنظمة الأمنية التكنولوجية الإسرائيلية وتطويرها هي تعزيز الشعور بالمراقبة لدى الفلسطيني في كل وقت وحين، والتحكم بحياته، وترسيخ فكرة عجزه أمام إسرائيل. وكلما توسعت دائرة الاستهداف كانت عملية السيطرة والتحكم أشمل وأكثر نجاعة، ذلك بأن الفلسطيني، من وجهة نظر الإسرائيلي، مستباح في كل شيء.

يمكننا القول إن تعبير الفلسطيني عن غضبه أصبح أمراً مقلقاً لإسرائيل، وتهمة توظفها ضده المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية للسيطرة عليه بكل الوسائل والطرق المتاحة.

 

[1]  لمزيد من التفصيل انظر: "أودري لورد: تحويل الصمت إلى لغة وعمل"، ترجمة: رحاب شعبان، 6/12/2019.

[2]  "الجيش الإسرائيلي يفعّل منظومة التعرف على الوجه"، "هآرتس" (بالعبرية)، لمزيد من التفصيل انظر:

https://cutt.us/cYNK8

https://cutt.us/5DQPX

[3] ا "التحريض وراء موجة العمليات"، القناة 12 الإسرائيلية (بالعبرية).

[4] معهد إسرائيل للديمقراطية، "قانون الفيسبوك يجب أن يغير الاتجاه" (بالعبرية).

[5] مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، "الاعتقالات على خلفية ʾالتحريضʿ على مواقع التواصل الاجتماعي وسياسات حكومة الاحتلال...ʾفيسبوكʿ...نموذجاً"، 7/1/2019.

[6] مؤسسة الضمير، مصدر سبق ذكره.

[7]  المصدر نفسه.

[8] "الفيسبوك أزال 95% من المحتوى التحريضي"، "يديعوت أحرونوت" (بالعبرية).

 

عن المؤلف: 

ياسر مناع: طالب ماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت.