أيّ بحث في الفكر والبرامج اليسارية للتنظيمات التي تتبنى الفكر الماركسي التقليدي والحداثي، سيجد صاحبه أهدافاً وشعارات تتمحور حول العدالة الاجتماعية بأكثر مفاهيمها تحرراً وإنسانية، كإنهاء استغلال الإنسان للإنسان وتحوُّل الملكية الخاصة إلى ملكية مشتركة، وتحقيق مساواة بين السواد الأعظم من البشر، بمعزل عن انتماءاتهم العرقية والقومية وأجناسهم، وكإزالة لكل أشكال التمييز، والانتصار لحقوق الإنسان.
وإذا كان هدف العدالة الاجتماعية يُعتبر في عداد الأهداف الاستراتيجية البعيدة، أو الأهداف المطلقة، والبعض يسميها يوتوبيا، غير أن هدف تحقيق العدالة بمضمونها التحرري، لا يزال يصلح كناظم ومرجعية لتحقيق مستويات من العدالة وبناء المقومات في الطريق إلى التحرر الاجتماعي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتحرر الوطني والخلاص من احتلال كولونيالي جشع يواصل تفكيك المجتمع الفلسطيني وتقويض كل محاولات بناء تشكيلة اقتصادية اجتماعية مستقلة عن علاقات التبعية، حيث يتمركز الصراع في هذا البلد، وربما في هذه المنطقة، حول إقامة قاعدة مادية للتحرر الوطني والاجتماعي، أو منعها وإحباطها.
عند النظر إلى الواقع الفلسطيني وخرائطه الاجتماعية وتحولاته، سنتعرف إلى واقع ومكانة اليسار، وتحديداً إخفاقه في بناء الحامل الاجتماعي للتحرر الوطني والاجتماعي، وفي امتلاك فكر تحرري ناقد نابض بالحياة. هذا يستدعي التوقف عند الوقائع والتحولات والمعوقات، والبحث عن بقع ضوء، وعن طريق للتدخل والتغيير المنشود. وحيث لا يمكن فصل التحررالوطني عن النضال الاجتماعي الذي يستهدف إزالة الظلم والاضطهاد والتمييز وتقييد العقول. لنتعرف إلى واقع العامل الذاتي، بصفته قوة صانعة للتحرر وبناء المجتمع المتحرر.
أولاً: واقع الطبقة العاملة الشائك، الموزعة بين عمال لدى سلطات الاحتلال في الداخل الإسرائيلي، وفي مستعمرات الضفة والقدس، ولدى القطاعين الخاص والعام الفلسطينييْن. فقد بلغ عدد العاملين في إسرائيل 171 ألف عامل و 27 ألف عامل في المستعمرات.[1] وبلغ عدد العاملين في السوق المحلية في الضفة والقطاع 953 ألف عامل وعاملة. وبحسب النسب، 60.8% في الضفة و25% في قطاع غزة و14.1% داخل اسرائيل والمستعمرات [2]
تشكل الطبقة العاملة، موضوعياً، ركناً أساسياً من أركان التحرر الوطني والاجتماعي ، لكن هذه الطبقة غير مستقلة، ويتم تحييدها عن عملية التحرر الوطني والاجتماعي، بل يتم وضعها في مصلحة الاحتلال، من خلال المساهمة في بناء المستوطنات وطرقها وجدارها والعمل في مشاريعها الصناعية والزراعية، فضلاً عن استغلالها كأيدٍ عاملة رخيصة في إسرائيل في مجال الأعمال الشاقة، كالبناء، وبحقوق أقل بكثير من حقوق العمال الإسرائيليين. ويتم استغلال عمال القطاع الخاص من أصحاب العمل الفلسطينيين، فقد تبين أن "40% من العاملين بأجر في القطاع الخاص يتقاضون أجراً أقل من الحد الأدنى للأجور، وهو 1880 شيكل، وثلثهم يعمل من دون عقود عمل."[3] إلى جانب ذلك، لا توجد مؤسسة ضمان اجتماعي، وقد أفشل القطاع الخاص محاولة تشكيلها، مستخدماً العمال الذين يعملون تحت رحمة شروطه المجحفة، وبمشاركة اتحادات ونقابات عمالية منفصلة عن الجسم العمالي. النقابات لا تخوض معارك جادة دفاعاً عن حقوق العمال، ولا تبحث عن بدائل من عمال المستوطنات. أما العاملون في القطاع العام فيعانون جرّاء فساد إداري وحقوق مقلصة في قطاعيْ التعليم والصحة، وبطالة مقنعة، في ظل بنية بيروقراطية غير كفؤة تستند إلى الواسطة والمحسوبية والزبائنية في الوزارات الأُخرى. إن كل حديث عن التحرر الوطني والاجتماعي في غياب الطبقة العاملة، التي تُعَد أهم الروافع، يبقى مجرد خطاب ممجوج.
ثانياً: قطاع الفلاحين والعاملين في الأرض
الاحتلال الإسرائيلي تسبب بتفكيك طبقة الفلاحين، من خلال السيطرة على الأراضي وبناء المستعمرات عليها، مروراً بالسيطرة على الموارد الطبيعية، وتحويل أجزاء اساسية من الفلاحين والعمال في الأرض إلى عمال داخل إسرائيل وفي المستعمرات. ويستمر خنق الفلاحين بتوسيع المستعمرات ونشر البؤر الاستيطانية ومنعهم من فلاحة أراضيهم في 60% من أراضي الضفة. وكان من شأن ذلك تعريض الاقتصاد الزراعي لتدمير منهجي، في ظل غياب بديل اقتصادي محلي، باستثناء بعض المبادرات من مجموعات من المزارعين. ما حدث ويحدث مع الفلاحين والعمال الزراعيين من شأنه زعزعة رافعة أُخرى من روافع المشاركة في التحرر الوطني والاجتماعي.
ثالثاً: إخضاع نصف المجتمع وطغيان السيطرة الذكورية
- بلغت نسبة مشاركة النساء الفلسطينيات في سوق العمل 19%، وهي نسبة متدنية. ونسبة البطالة في صفوف النساء تبلغ 43% في مقابل 22% في صفوف الرجال.[4] وأكثرية النساء محرومة من الإرث.
- المشاركة النسوية في مواقع صنع القرار والحياة العامة ضعيفة، وأحياناً تأتي من باب الدعاية للخارج، والمانحين تحديداً . النساء يشكلن11% من عضوية المجلس الوطني، و5% من المجلس المركزي، وارتفعت النسبة في دورة 2022 بقرار إلى 23%، وتخلو اللجنة التنفيذية من عضوية النساء بعد استقالة حنان عشراوي، ولا توجد امرأة واحدة رئيسة في بلديات المدن، ويوجد 3% في رئاسة المجالس القروية ، و13% من أعضاء مجلس الوزراء. و11% سفيرات[5] ، و1% في إدارة مجلس الغرف التجارية والصناعية والزراعية، وصفر نساء في الكتائب المسلحة..
- القوانين المعمول بها في الأراضي الفلسطينية تميز ضد النساء، وبصورة خاصة في قانونيْ الأحوال الشخصية والعقوبات المنحازيْن ضد النساء، على قاعدة أن الولاية للرجال، وتُعتبر منظومة العادات والتقاليد المحافظة والعشائرية، والمدعومة بالتزمت الديني، من أهم المعوقات أمام تطوّر القوانين وثقافة التحرر الاجتماعي والمساواة ، هذه المنظومة، التي تستند إلى قوى اجتماعية داخل السلطة والتنظيمات وخارجها، تخوض معارك ضد كل محاولة لتطوير وضع النساء، وتفرض التراجع عنها، كما تفرض التراجع العملي عندما يحدث ذلك.
لا يمكن تحرُّر مجتمع في ظل علاقات إخضاع نصفه الآخر المكوّن من النساء. ولا شك في أن علاقات السيطرة الداخلية لا تنفصل عن علاقات السيطرة الخارجية الاستعمارية. فإنهاء السيطرة الخارجية للاحتلال يرتبط أوثق ارتباط بانفكاك علاقات السيطرة الداخلية، ذلك بأن الحرية والمساواة والديمقراطية يصنعها أحرار وديمقراطيون من مكوني المجتمع. وهي مصلحة متبادلة وضرورية.
رابعاً: ضعف قدرة التنظيمات اليسارية على إنتاج فكر تحرري يجيب عن الأسئلة الإشكالية بشأن تحولات المجتمع الرجعية وسيادة فكر وثقافة رجعييْن، كإغفال المضمون الاجتماعي وإبداء نوع من التعايش والحيادية في أحسن الأحوال إزاء تغلغُل الفكر الرجعي الذي تجلى في العداء للعلمانية والحداثة والتنوير والعقلانية، وفي توظيف الدين، بنسخته الوهابية المتزمتة، كأداة سيطرة على المجتمع، باستخدام أسلحة التكفير والتحريم والترهيب والابتزاز، وإقحام الدين في الكتب المدرسية وسياسات التعليم في سياق استخدام التعليم كأداة من أدوات السيطرة على الأجيال الشابة، حدث ذلك ويحدث بتواطؤ وصمت من منظمة التحرير وفصائلها، بما في ذلك التنظيمات اليسارية. وبهذا، فقد تجاوز الفكر الرجعي السائد شعار الثورة البورجوازية الذي دعا إلى فصل الدين عن الدولة. وترجم ذلك عملياً. ومن مظاهر الفكر الرجعي أيضاً استبدال الهوية الوطنية الجامعة بهويات فرعية، كالهوية الدينية والعشائرية والعائلية والجهوية، والحد من الحريات العامة والخاصة، والتراجع عن التعدد الديني والثقافي الذي كان سائداً في المجتمع الفلسطيني لفترات طويلة. للأسف، اليسار لم يشق طريق التحرر الاجتماعي، بل لم يعمل على إزالة القيود المكبِّلة للعقل، ولم يقاوم التحولات الرجعية، وكان ذلك نتيجة منطقية لتغييب هويته الفكرية تغييباً مسّ بجوهر دوره الاجتماعي والسياسي والثقافي.
روافع أساسية معطلة هي – الطبقة العاملة وطبقة الفلاحين ونصف المجتمع من النساء –وطبقة وسطى عاطلة عن المبادرة. غياب الحامل الاجتماعي وغياب فكر التحرير ، هذا الغياب المزدوج يضع سؤال التغيير على سكة الاشتباك، عبر مبادرات تفعيل وحراكات نضالية وعمليات بناء، من خلال حراكات اجتماعية نابعة من مصالح المتضررين في صفوف النساء والعمال والفلاحين والمثقفين الثوريين. مبادرات التطوير تبدأ بإنتاج المعرفة والفكر التحرري الذي يُعتبر رافعة رابعة هي الأهم. التحرر الاجتماعي يحتاج إلى رؤى وبرامج ومهمات، وإلى فكر تحرري صريح يشتبك مع الفكر الرجعي المتغلغل في تلك الطبقات، ويواكب الفكر التحرري على صعيد كوني. ويحتاج إلى هوية فكرية يسارية غير ملتبسة، تجاهر بالعلمانية والتنوير والحداثة والتقدم والمساواة، وتحارب الفساد وعلاقات التبعية. ويحتاج إلى نقابات معبّرة ومدافعة عن مصالح العمال، وإلى مؤسسة ضمان اجتماعي مستقلة عن السلطة والقطاع الخاص، وتعاونيات زراعية تعتمد على توليد الموارد من داخل المجتمع، ومنابر إعلامية تنتزع الحق في حرية التعبير والنقد، وتطرح قضايا التعليم التحرري، وتعيد النظر في المناهج، وفي منظومة القوانين البالية. ومبادرات التغيير والتطوير تطرح مقاومة وطنية للاحتلال وثيقة الصلة بالمشاركة الشعبية والبناء، بعيداً عن الاستخدام الخارجي والداخلي، والعسكرة التي حولت المجتمع إلى متفرجين ومصفّقين .إن مستوى الانخراط في هذه العناوين، ومستوى الإنجاز والتغيير المترتب على إشراك الطبقات الشعبية، صاحبة المصلحة الأساسية في التحرر، يعني وجود برنامج اجتماعي يعني بناء حامل اجتماعي للتحرر، يعني مبرر وجود اليسار.
[1]مسح القوى العاملة 2022، الجهاز المركزي للإحصاء؛ ملاحظة: لا يُحتسب عدد العمال من دون تصاريح، وقد يصل عدد العاملين الإجمالي في الضفة والقطاع والقدس إلى مليون ونصف المليون، انظر الرابط الإلكتروني.
[2] الأيدي العاملة الفلسطينية في السوق الإسرائيلي، انظر الرابط الإلكتروني.
[3]مسح القوى العاملة، مصدر سبق ذكره.
[4]المصدر نفسه.
[5] أوضاع المرأة، على الرابط الإلكتروني.