"مَن يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً"، هذا ما قاله درويش.
رواية "أرض قديمة جديدة" لتيودور هرتسل، المنظّر الأبرز للصهيونية، تُجري مقارنةً بين سنة 1902، وهي السنة التي لم تكن ظهرت فيها معالم الدولة، وبين سنة 1923 التي اكتملت فيها معالم الدولة وقامت، عبر إظهار الشيفرات الأساسية الكامنة في عمق الفكر الصهيوني، بشأن مفهمة العلاقة ما بين المكان والسكان الأصليين، ومفهمة الرؤية اليهودية لهذه الدولة، باعتبار أن نظرتهم تمثّل إرادتهم في تحقيق ما عجزت الدول الغربية الأوروبية عن تحقيقه. إذ تُظهر الرواية أن الحيز الفلسطيني متخلف وبعيد كل البعد عن الحداثة. فقد حاولت في هذه الورقة إظهار بعض اللمحات المتعلقة بالمخيال الاستعماري للمدن العربية، وذلك وفقاً لرواية "أرض قديمة جديدة".
ثمة حاجة ماسة إلى قراءة وتحليل رواية "أرض قديمة جديدة"، وذلك لعدة أسباب، تكمن أولاً في إعادة الرواية صوغ السؤال الجدلي والإشكالي، وهو أيهما يسبق ويشكّل الآخر، وذلك الواقع أم الأيديولوجيا؟ وثانياً إظهار الرواية للصراع القائم على أساس ثنائية الأرض والسكان، عبر محو الفلسطيني ونفيه، بما يتوافق مع سياسة الاستعمار الاستيطاني. وثالثاً إبراز دور الخيال في الرواية، نظراً إلى كونه مادة للمحاكمة هنا، باعتباره منتوجاً سياسياً بامتياز ومطرحاً للتواطؤ "علينا".
بادئ ذي بدء، ولكونها رواية، يجب أن يغلب عليها الطابع الأدبي كما يغلب على معظم الروايات المنشورة، لكنني رأيت أنها رواية استعمارية طوباوية، ويمكن تصنيفها بأنها بيان سياسي. فهي تحاكي طبقات مختلفة من الزمن والعالم. "المنفى اليهودي" و"الوطن، أرض الآباء"، والمجتمع المسحوق في الشتات والآخر اليوتوبي، أي بمعنى زمن "الشتات والفقد" وزمن "العودة".
تروي هذه الرواية قصة شاب يهودي مثقف يدعى"الدكتور فريدريك"، غرق في اليأس والكآبة، بسبب زواج حبيبته من رجل يهودي أرستقراطي، وذات يوم، عندما كان في أحد مقاهي ڤينا التي اعتاد الجلوس فيها مع رفاقه، ووحدها المقاهي بقيت سنداً له، وقعت بين يديه صحيفة، فلفت نظره إعلان من"نو بودي"، والمغزى منه أنه يطلب شاباً بائساً ومحبطاً، على استعداد لتجربة حياتية تكاد تكون الأخيرة، وبعيداً عن العالم. فحسم فريدريك أمره، وأرسل إلى صاحب الإعلان، وكان ذلك الرجل مسيحياً بورجوازياً، يدعى"كينغزكورت". والأخير كانت حالته المحبطة لا تختلف عن فريدريك بشيء، فقد أصابه اليأس والهمّ من البشرية جمعاء، ووجد في العزلة في مكان ناءٍ لم نعرف موقعه طوال الرواية، مع فريدريك، والذي اعتبر أفضل خيار للخروج من الزمان والمكان إلى مكان مجهول. ثم العودة إلى البلاد لرؤية التطور الذي حدث في المكان "البور"، المنطقة الصحراوية الخالية، وبحق سكان المكان، "رشيد بك" من جهة، ويهود المنافي والشتات، "وفقاً لمصطلحات هرتسل". ففكرة الأرض البور فكرة مهمة ومركزية في كل الخطاب الصهيوني المتعلق بالمكان.
بالتالي، هنا تكمن رؤية هرتسل المتناقضة لوضع اليهود في المنافي في أوروبا (فقراء، قانطون، بائسون)، وقد أظهر في بداية الرواية انتحار اثنين من أصدقاء فريدريك، في المقابل، فإن قدومهم إلى أرض الآباء سيجعل الأرض البور تزدهر، وستجعل من اليهودي الخاضع الضعيف سيداً وصاحب "سيادة"، على الرغم من عدم إشارة هرتسل إلى مصطلح السيادة بصراحة، لكننا نستطيع فهمها من صورة البلد وتطورها وجمالها لاحقاً. ثم تتوالى بعد ذلك حلقات قبض الزمن على مصائر مختلفة في الرواية، بل ومآلات المكان نفسه، يكون فيها اليهودي أكثر إرادة.
يافا والقدس
يبدأ التسلسل الزمني للأحداث عندما يزور فريدريك وكينغزكورت أرض آباء فريدريك، قبل دخولهما في عالم العزلة الطوعية. بعدها تعج صفحات الرواية بمشاهد التخلف والعفن والانحطاط والعوز والعدم والقذارة في هذه الأرض، أي العجوز فلسطين، كما وصفوها أكثر من مرة. فالقدس، وكما ذُكرت في صفحات عديدة من الرواية، وعن زيارتين مفترضتين قام بهما بطل الرواية الصهيونية "الدكتور فريدريك"، و"المسيحي كينغز كورت"، اللذين زارا القدس قبيل تأسيس الدولة، وحتى قبل سيطرة الحركة الصهيونية على فلسطين، ثم بعد عشرين عاماً من سيطرتها، مع تخفّي هرتسل وراءهما، الذي زار القدس للمرة الأولى في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. لكنه توفي قبل رؤية ما فعلته الحركة الصهيونية فعلياً في فلسطين. وبالتالي، فإن رؤية القدس الأولى في الرواية تكاد تكون رؤية هرتسل نفسه، والرؤية الثانية هي الرؤية التي تخيلها وحلم بها. كما يصف هرتسل الإهمال المدقع الذي كان في يافا، فالأروقة ممتلئة بالروائح الكريهة والقذرة، وفي كل الأماكن، وأينما تلتفت الأنظار، لا يوجد سوى الفقر، والعرب الجياع، والأتراك الفقراء، ويهود متقاعسين كسالى، والحقول بدت كأن النار التهمتها، حتى أراضي السهل، فكلّها مستنقعات ورمال، وقرى عربية يقطنها الفقراء، وأولاد عراة يلعبون في الشوارع.
والقدس لم تختلف عن يافا بشيء، فقد دخلا القدس في النهار حتى ظهرت لهما أقل جمالاً من الليل، فبانت طبقات الطحالب التي تفترش الأرض، والروائح الكريهة، ومزيج من الأشخاص البائسين: صياح الباعة المتجولين، ومتسولون في معظم الأزقة الضيقة، وأولاد جياع، وتظهر القدس هنا فاقدةً لسحرها وباتت "الأرض الخراب"، بسبب ما فعله بها العرب، وتم التطرّق إليهم في الرواية كأفراد، لا كمجموعة. "التعامل مع الفلسطيني كان قائماً عبر نفيه وتغييبه عن الرواية"، فالفلسطيني بالنسبة إلى هرتسل متخلف وغير مثقف. كان هرتسل ينظر إلى الشرق من منظور غربي استعماري، فتصوّر إقامة الدولة اليهودية على شاكلة نموذج دولة غربية علمانية، ولاحقاً اشتراكية، والتي ستحقق ما عجزت الدول الغربية عن تحقيقه، على الرغم من وجود الكمّ الهائل من المفكرين الغربيين في أوروبا. فلا حضور للشرقي، تصوُّر هرتسل لهذه البلاد مبنيّ في خياله كالتطور في أوروبا.
تحوّل في الجلد اليهودي
يحمل كلٌّ من فريدريك و كينغزكورت أمتعتهما، وقد دقت ساعة الصفر بالنسبة إليهما للبدء بعالم العزلة. تطول هذه العزلة مدة 21عاماً، حتى يصحو كلٌّ منهما من سبات أهل الكهف، وقد غطى الشيب رأس كينغزكورت، وغطت الخيوط الفضية صدغيْ فريدريك. 21 عاماً، زمن كفيل بكسر الرتابة في بقعة أُخرى، بل بصناعة مشهدية جديدة تنسف العدم في محله. في سنة 1923، يكتشف كلاهما أن ثمة جلداً تبدّل من حولهم، أي جلد اليهودي الذي تحول، من عالة داخل قاموس الاضطهاد المنفوي إلى أن أصبح رأس المال المنتج في المجتمع الجديد، "مجتمع أصبح قائماً على العدالة الاجتماعية وثقافة التسامح بين الأديان". يعود هرتسل إلى وصف المدن، ففي سنة 1923 لم تعد القدس وحيفا ويافا كما كانت عليه في الزمن الغابر، بل عجّت بالمستوطنات الزراعية، والتعاونيات، والموانئ، وكذلك سكك الحديد المتطورة.
ناهيك بتدفق في حركة التجارة، وازدهار مسارح الأوبرا الموسيقية. فتم اعتبار ما شوهد كأنه طفرة بكل المقاييس حلّت على هذه الأرض، طفرة "بشرية"، محرّكها الجد والعمل، لا أيّ خيار آخر. وهنا يقتلع اليهودي صورته القديمة، وينظر إلى نفسه عبر مرآة الأرض التوراتية الجديدة، ساعياً للهيمنة على المكان، عبر إزاحة المكان القديم بكل مكوناته وتجلياته، ساعياً للبحث عن مكان جديد ومجتمع راقٍ يسمو على أيّ تصور في المخيلات، فتمت رؤية بلاد جديدة تنعم بشباب زاهر وناشط؛ وبعد أن كانت أورشليم ميتة، بُعثت من جديد، ودبت فيها روح الحياة. إذ أصبحت كياناً ينبض بالحيوية. فقد عاد هرتسل ليصف المدينة وصور منازلها من جديد بأنها ذات طابع أوروبي خالص، ووصف جمال لون السماء، ونظافة الأبنية وحداثتها، فقد اعتقدوا أن تلك المنازل في إيطاليا، وكأن هرتسل يقول إن معجزة يهودية ما قد حدثت، دفعت بحدوث تحولات كلية خلال فترة زمنية قصيرة.
ولا بد من منح العربي متسّعاً في هذه الورقة، وذلك عن طريق صاحب الطربوش الأحمر، "رشيد بك"، الذي ورث عن والده المثقف الكثير من الخصال، أبرزها دعمه للهجرة اليهودية إلى فلسطين لمصالح شخصية واقتصادية. فإن رشيد بك يمثل فكرة المواطنة التي يتخيلها في هذا البلد، والتي سوف تساهم في انتشال المكان من"القفار" والأراضي البور، وسيزدهر البلد ويزهر. لكن الأمر المهم هنا اختزال صورة رشيد بك كصورة وحيدة للعربي الذي يرغب فيه هرتسل والعقلية اليهودية الصهيونية. أي تماهي شخصية رشيد بك بالمستعمِر.
فالصهيونية، وكما تخيلها هرتسل، ستعمل على تحسين أوضاع رشيد بك وكذلك سينتفع منها السكان المحليون، وكأن رشيد يقوم بدور ممثل للسكان، فهو إقطاعي وصاحب آلاف الدونمات من الأراضي، وستكون بينهم تجارة، وبتلك المقايضة سيستفيد سكان البلد، ولن يكون هناك أي معارضة منهم. كذلك ركّز هرتسل على فكرة الإرادة، والتي حاول ترسيخها، فذلك الصبي الصغير "ديفيد"، والذي كان الدكتور يعطف عليه وعلى أخته مريم ووالدته، كان صاحب نظرة ثاقبة منذ الصغر. ليصبح بعد ذلك في الرواية رئيساً لـ"الييشوف"، المجتمع اليهودي الجديد في فلسطين. وهنا سعى هرتسل لإظهار صورة يهودي المنفى بشخصية ديفيد الذي كان شحاذاً في شوارع ڤينا، وتحول إلى ثري في فلسطين. هنا تكمن رؤية في ثنائيات أساسية يمكن تتبُّع تطوُّرها، من جهة، أن يهود أوروبا فقراء مهمّشون، ولا يوجد لديهم أمل بالمستقبل على الإطلاق، ومع ذلك، يوجد تطوُّر وخطط لمشاريع بهدف الخروج من الأزمة، كانت تلك المشاريع عبر الطفل ديفيد.
خلاصة
الرواية تستحق الوقوف عندها، والتعمق فيها، كون القارئ يعتقد للوهلة الأولى، أن هرتسل دوّنها بأثر رجعي، بعد أن عايش طورين وزمنين، غير أن المثير هنا تفوُّق هرتسل على الزمن وسكب مخيلته المؤدلجة ضمن صفحات الرواية عن صورة البلد في سنة 1923، على الرغم من وفاته سنة 1904. فهي ليست رواية يشوبها الزيف في المبنى، بل هي بأيديولوجيا مهّدت للواقع، وهي بمجاز مصطنع عمّا يحمله المشروع. فالرواية على الصعيد الأدبي مسبوكة برداءة، لكن المحزن فيها، كقارئ فلسطيني، أن هرتسل رمى بنفسه في حضن وكَنَف المستقبل، بدلاً من العيش الأبدي بين تلابيب وعمق ماضيه. بل استبق الواقع، وحتى الزمن، بعشرين عاماً. ومن أجل ذلك، جاء الخيال والحقيقة على حساب أجسادنا المستباحة، وعلى حساب دمنا.
فما أثارني في هذه الرواية هو التعامل مع العنصر الزمني بنوع من المقارعة. فقد قام هرتسل بخداع الزمن والتحايل عليه، على عكس معظمنا الذي يتساهل معه، عبر تأجيل وقائع حياتنا إلى أجل غير مسمى. على الرغم من أهمية الكثير منها، وربما تكون من ضمن أولوياتنا، إلا أننا نضعها على الرف ونقول ربما غداً أو بعد غد، يقول بعضهم "الزمن الآن ليس متاحاً لمزيد من الكفاح المسلح"، "الزمن الآن ليس زمننا"، وهكذا نؤجل ما بوسعنا أن نفعله، معوّلين على يوم أفضل، لكن ما يحل بأيامنا يكون هلعاً وذعراً أكبر مما فات ومضى. فكم نحن بحاجة إلى التحايل على الزمن، ليكون هذا الزمن هو زمن الفلسطينيين للتغيير، فإن لم يكن هذا الزمن زماننا، فمتى يكون لنا زمن؟ ولا بد من مواجهة ما حُنِّط على الرفوف من معارك وأحداث، وحتماً سباقنا مع الزمن باقٍ ما بقينا. كانت تلك المقارنة التي قام بها هرتسل، بمثابة صورة من التفاؤل بمستقبل الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، فقد تأسست الدولة اليهودية على حساب دمنا، بعد ربع قرن من الموعد الذي حدده، وبعد جولات من تهجير ومحو الإنسان والمكان الفلسطيني.