منار حسن تستحضر النساء والمدن الفلسطينية لمواجهة المدونة الصهيونية
التاريخ: 
12/01/2023
المؤلف: 

حققت منار حسن (باحثة متخصصة في علم الاجتماع الحضري، والجندر، والاستعمار وما بعد الاستعمار، والمجتمع الفلسطيني في إسرائيل)، واحداً من الأبحاث التي تشتغل عليها، وذلك "لمنع استمرار تغييب الذاكرة الحضرية الفلسطينية في المجتمع الفلسطيني من أواخر الفترة العثمانية وتحت الانتداب البريطاني إلى عام النكبة 1948"، وهدفها من هذه الأبحاث/الكتب، مع وعدٍ منها  بتحقيق المزيد، إنما هو " للفهم المعمّق للتاريخ الحضري في فلسطين الانتدابية ومكانة المرأة فيها" ، وأيضاً لمنع تذويت الرواية الصهيونية وتأثيرها  - كما يدّعي البعض- في العلاقات الجندرية ومكانة النساء، لأن "تذويت هذه الرواية يؤدي إلى تحويل فقدان الذاكرة لتكون ذاكرة  يُعاد صوغها تحت شروط الهيمنة"، وأيضاً بهدف "تحطيم هذه الخرافة وما شابهها" (ص248). والكتاب بعنوان "المغيّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948"، صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية- ترجمه عن العبرية علاء حليحل).

يتضمن الكتاب أربعة فصول، وخلاصة ومراجع باللغتين العربية والإنكليزية (248 صفحة)، و"يُشكّل مشروعاً لإعادة استحضار المدينة الفلسطينية من الأساسات حتى السقف"، ولتصحيح التشويه جرّاء التدوينات التاريخية الصهيونية التي عرضت، هي الأُخرى، المجتمع الفلسطيني كمجتمع ريفي بطبعه، وهذا متجذر في الوعي الإسرائيلي الجمعي – كما تذكر – وتضيف أنها تهدف إلى تقديم تأريخ مجتمعي للمدينة الفلسطينية كحلبة نشاط اقتصادي واجتماعي وثقافي، نشطت فيه منظمات نسائية ونساء غُيّبن.

ثمة جهود أشارت إليها حسن، ووصفتها بأنها براعم التغيير في التأريخ الفلسطيني، وقد بدأت من النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، أي بداية الكشف عن المدينة الفلسطينية قبل سنة 1948 وإعادة اكتشافها، لمواجهة مواصلة التأريخ الصهيوني في تغييب المدينة الفلسطينية.

تدخل منار حسن من خلال لوحتين للفنانيْن التشكيلييْن الفلسطينييْن إسماعيل شموط وتمام الأكحل لقراءة ما  صَبَتْ إليه بتسليط ضوء البحث على مفهوميْ المدينة الحضرية (يافا- لوحة المدينة للأكحل) والريف الفلسطيني (لوحة شموط)، (مع إشارتي هنا إلى كتاب مذكرات تمام الأكحل الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وما فيه من تفاصيل ذكريات النكبة لها ولزوجها شموط، وللفن التشكيلي الفلسطيني).

هذه المدخلية من خلال الفن/الذاكرة، تُسقطها الكاتبة على مسيرة مؤرشفة وموثّقة لواقع النساء الفلسطينيات والمدن الحضرية، فتشير إلى أن الذين سكنوا المدن الفلسطينية قبل النكبة تراوح ما بين 35% إلى 40% من مجمل السكان الفلسطينيين، وأن براعم التحضّر الأولى بدأت بالظهور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع ضم فلسطين التاريخية – كجزء من الإمبراطورية العثمانية – إلى السوق العالمية الرأسمالية، ووصل هذا النهج إلى ذروته في فترة الكولونيالية البريطانية. الأمر الذي برز مع إقامة مؤسسات بلدية، مثل هيئات تحرير الصحف والمحطات الإذاعية، والمسارح ودور السينما، والمكتبات العامة والنوادي الثقافية والمجتمعية والمنظمات النسائية والنقابات المهنية والأحزاب ونوادي الكازينو والمقاهي والنوادي الليلية، "وأدى كل ذلك إلى توسيع نطاق ما يسمى اليوم المجتمع المدني."

وفيرة المعطيات التي أوردتها حسن، على الرغم من "غياب الأرشيفات، فكان السبيل عبر القطع الأثرية والأغراض والقصص المأثورة والسيَر الذاتية واللقاءات التي أُجريت مع أشخاص عاشوا في المدينة الفلسطينية قبل سنة 1948". وتمثلت تلك المعطيات في تواريخ وعدد الصحف التي صدرت منذ سنة 1876 حتى النكبة، وبلغت 200 صحيفة (ص46)، وعن النساء الكاتبات يومها، ومبلغ الجرأة في مطالبهن، ومنها للكاتبة فكرية صدقي المتطورة في سنة 1927، والنقاش في أنماط الزواج، وفرق السن، وأزمة الزواج حبّاً بالاستقلالية الفردية، والزواج المدني، والتحرش الجنسي، إلخ (هذه المواضيع لا تزال مطروحة للنقاش في يومنا هذا). أما النهضة النسائية في الحيز الحضري فكانت مع النشاط النسائي السياسي، وخصوصاً المنضوي مع النضال الوطني والمناهض للكولونيالية البريطانية، ففي سنة 1920 بعثت مجموعة من نساء الناصرة برسالة إلى  المندوب السامي، احتجاجاً على السماح بإقامة مستعمرة يهودية في العفولة (تشير حسن إلى عريضة احتجاج نسائية على هجرة اليهود، وكأن ما ورد فيها أشبه بالنبوءة لأنهن رأيْن فيها "تملُّكاً لأوطاننا")، بالإضافة إلى انعقاد مؤتمر النساء العربيات الفلسطينيات في القدس يوم 26/10/1929، بحضور نحو 300 امرأة من مختلف أنحاء فلسطين، طالبن بإلغاء الانتداب البريطاني، فكانت ضغوط من المندوب السامي على وجهاء فلسطين لمنع التظاهرات النسائية، واصفاً (المندوب) ذلك بالخطِر لأنهن من دون نقاب!! (حدث الأمر ذاته بتدخُّل القنصل البريطاني لدى رئيس وزراء سورية في سنة 1938، لمنع عقد مؤتمر نسائي في دمشق ضد الانتداب وهجرة اليهود، فعُقد في القاهرة (ص92).

عشرات الجمعيات التي برزت في فترة الانتداب، ونشطت  في شتى المجالات، وواحدة منها في المجال العسكري (جمعية زهرة الأقحوان، سنة 1947)، وأضفت هذه الجمعيات الروح الحضرية إلى ما وصلت إليه النساء الفلسطينيات من دور ومستوى تعليمي وتجارب، فانعكس كل ذلك في مجرى الحياة الحضرية/الجندرية التي تشكّلت قبل النكبة، والتي عملت إسرائيل على تهويدها ومحوها.

لم يفُت منار حسن في بحثها عدم الإشارة إلى سلبيات رافقت الظواهر الاجتماعية والعلاقات التحررية في عمل النساء، ومنها قضية الاستغلال والإتجار الجنسي، من دون أن يحول ذلك دون إعطائها صورة تتدفق حيوية للمستوى الحضري الذي انتزعته نساء فلسطين في حقبات ما قبل النكبة بقوة إصرارهن على الوجود وتحدي العقبات والوعي السياسي.

ثمة ملاحظة ليست هامشية – في رأيي- وتتعلق بتغييب دور أسماء/أدوار/ فعالة لنساء على مستوى الجمعيات في فلسطين قبل (وبعد) النكبة، وأعني دور وديعة قدورة خرطبيل على أرض فلسطين (كتاب مذكراتها بعنوان "ستون عاماً من كفاح امرأة في سبيل قضية فلسطين") ويتضمن أسماء جمعيات وسيدات فاعلات تشابهت مع ما ورد في كتاب منار حسن. ومثلها في تغييب دور ابتهاج قدورة عن دورها في تنظيم مؤتمر بيروت سنة 1930 واهتمام بعض بنوده بالقضية الفلسطينية.

عن المؤلف: 

منى سكرية: صحافية لبنانية.