ينحدر مسلمو البوسنة والهرسك من أصول سلافية وهم اعتنقوا الإسلام إبان الفتوحات العثمانية، وقد غادرت أعداد كبيرة منهم موطنها الأصلي واستقرت في مناطق الدولة العثمانية المختلفة، ومنها بلاد الشام، إثر المؤتمر الذي جمع في مدينة برلين، ما بين 13 حزيران/يونيو و 13 تموز/يوليو 1878، ممثلي الدول الأوروبية السبع الكبرى من جهة، والسلطنة العثمانية من جهة ثانية، وقرر وضع البوسنة والهرسك تحت إدارة الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية، والاعتراف باستقلال كلٍ من الجبل الأسود، وصربيا، ورومانيا، وجعل بلغاريا إمارة مستقلة تحت سيادة السلطان العثماني.
الهجرة إلى فلسطين والاستقرار فيها
يبدو أن وجود بوسنيين في بلاد الشام سبق انعقاد مؤتمر برلين المشار إليه، ذلك إن الجيش العثماني كان يضم بعض القادة البوسنيين الذين استُقدموا إلى هذه البلاد، ومن أشهرهم أحمد باشا والي عكا، المعروف بـ "الجزار"، الذي تصدّى في سنة 1799 لجيش نابليون بونابرت ومنعه من اقتحام أسوار المدينة. وفي سنوات 1880، استقرت عشرات العائلات البوسنية في بعض مناطق فلسطين، وخصوصاً في قيسارية على ساحل البحر الأبيض المتوسط جنوبي مدينة حيفا، التي كانت خربة قبل أن يبنوا فيها، بحسب كتاب "كي لا ننسى" للأستاذ وليد الخالدي، عشرين منزلاً حجرياً مع أقبية ومخازن للمؤن ومسجداً، ويؤسسوا فيها في سنة 1884 مدرسة ابتدائية للبنين[1]. ويعود انجذاب هذه العائلات البوسنية إلى موقع قيسارية القديم إلى ثلاثة أسباب رئيسية: إذ كان الموقع خربة غير مسكونة، فقاموا بتعميرها واستصلاح أراضيها؛ وكانت أراضيه خصبة مكّنتهم من مزاولة الزراعة فيه؛ كما كان يوجد فيه ميناء صغير قديم. ويُعتقد أن البوسنيين في قيسارية حافظوا على أنماط الملابس الأصلية حتى الجيل الثاني، ثم راحوا يغيّرون لباسهم انسجاماً مع محيطهم، وأخذوا يعدون أطباق الطعام السائدة في محيطهم مع استمرارهم في إعداد بعض أطباقهم التقليدية، كما صاروا يعملون في الزراعة، وخصوصاً في زراعة الحمضيات والحبوب والموز، وفي تربية الحيوانات وبعض الحرف اليدوية. ومع سعيهم في البدء للتمسك بالزواج العرقي فيما بينهم، إلا إنه راحت تنتشر بينهم، شيئاً فشيئاً، الزيجات المختلطة. وساعد في اندماجهم في المحيط العربي تشاركهم مع معظم العرب الفلسطينيين في الدين نفسه، وتمكّنهم مع الوقت من اللغة العربية[2]. ووفقاً لكتاب "كي لا ننسى"، كان يقيم في قيسارية في سنة 1945 930 مسلماً و 30 مسيحياً، وذلك قبل أن تدمر قوات الهاغانا الصهيونية في سنة 1948 منازلها وتُهّجر سكانها وتحوّلها إلى موقع أثري في واحدة من أولى عمليات التطهير العرقي التي شهدتها فلسطين. كما استقرت عائلات أخرى من البوسنيين في قرية يانون التابعة لقضاء نابلس التي أقيمت فيها مقبرة خاصة بهم، وفي قرية رمانة التابعة لقضاء جنين، وفي مدن طولكرم، ورام الله والقدس. وقد تعددت أسماء هذه العائلات، مثل: لاكشيتش، وبيغوفيتش، ومرادوفتش، وجيهانوفيتش وغيرها، ثم باتت تُعرف باسم واحد هو بُشناق، وهو الاسم الذي صار يميّزها إلى اليوم[3].
المشاركة في الدفاع عن عروبة فلسطين
يذكر الكاتب صقر أبو فخر أنه كان لمفتي فلسطين محمد أمين الحسيني علاقات مع أهالي البوسنة والهرسك تعود إلى أواخر سنة 1931، أي إلى تاريخ انعقاد المؤتمر الإسلامي العام في مدينة القدس في كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام، الذي شارك فيه وفد من علماء البوسنة والهرسك، ثم سعى المفتي، بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، إلى ضمان حماية هؤلاء الأهالي من بطش الصرب والكروات المتحالفين مع النازية، بعدما استغاثوا به، ونجح في ذلك جزئياً[4].
وفي سنة 1948، وصل عدد من المتطوعين البوسنيين إلى فلسطين للمشاركة في الدفاع عن عروبتها، كان من بينهم ضباط وجنود شاركوا في تدريب الفلسطينيين على السلاح، كما انضموا كخبراء عسكريين في المتفجرات والألغام إلى جيش الإنقاذ، واستشهد العديد منهم في معارك القسطل، ويافا، والمالكية وغيرها، فضلاً عن وقوع العشرات منهم جرحى[5]. وعن دور المتطوعين البوسنيين في حرب سنة 1948، ينقل الكاتب خليل الصمادي عن القيادي الفلسطيني الراحل شفيق الحوت قوله: "ولن أغفل دور من جاؤوا باسم الإسلام من مختلف البلاد، وأخص بالذكر أبناء من كان يعرف بالشعب اليوغوسلافي، وكلهم من مسلمي البوسنة. لقد شاهدت مجموعة من هؤلاء المجاهدين في الميدان قرب منزلنا في حي المنشية [في يافا]، وما زلت منبهراً بنضالهم البطولي وما تميزوا به من مهارة وشجاعة وإيمان برسالتهم. كانوا جنوداً محترفين، وبينهم من اختار البقاء في فلسطين، أو ما تبقى منها، بعد نهاية الحرب". كما يستشهد بالأستاذ محمد قاروط الذي نقل عن الأستاذ زهير الشاويش قوله: "إن أحد هؤلاء المجاهدين البوسنيين واسمه إسماعيل البوسني قام بتعليم مجموعة مجاهدي دمشق كيفية صنع القنابل والألغام، وكان لي مع المجاهدين البوسنيين صلات كثيرة". ويضيف الكاتب خليل الصمادي أن عدداً من المتطوعين البوسنيين حضر إلى فلسطين "مع عائلاتهم وأولادهم، وبعضهم تزوج هناك بوسنيات أو فلسطينيات، وكوّنوا عائلات توزّعت في بعض القرى والمدن الفلسطينية وتأثرت عاداتهم بعادات أهل فلسطين والعكس صحيح".
وبعد وقوع النكبة، أُجبر عدد كبير من عائلات البُشناق على ترك فلسطين واللجوء إلى الأردن وسورية ولبنان ومصر والكويت. وعن ظروف تهجيرهم من فلسطين، يكتب خليل الصمادي نفسه أن البوسنيين أصابهم، بعد وقوع النكبة، "ما أصاب إخوانهم العرب، فلجأوا إلى البلدان العربية المجاورة، إلى سورية ولبنان، واستقر معظمهم في سورية فعاش بعضهم في التكية السليمانية بدمشق وفي بعض المساجد مؤقتاً ريثما يُنقَلون إلى أماكن أخرى، وظلت العلاقات بينهم وبين الفلسطينيين في أماكن اللجوء جيدة؛ فالزيارات لم تنقطع، وقد روى لي الوالد الحاج محمود الصمادي أن السيد مصطفى دولاس كان يزورهم في المساجد التي نزلوا بها في دمشق عام 1948، وكان يطلع على أحوال أصدقائه اللاجئين، وكان اللاجئون يردون له جميل الزيارة في أماكن إقامته"[6].
مساهمات البشناق في مناحي الحياة الفلسطينية
ساهم البشناق، مساهمة فاعلة، في مختلف مناحي الحياة الفلسطينية، إذ برز بين صفوفهم عدد من القادة والمناضلين السياسيين مثل علي بشناق، الذي شارك في سنة 1959، مع أحمد جبريل في تأسيس "جبهة التحرير الفلسطينية"، والناشط السياسي والاجتماعي في مناطق 1948 إبراهيم بشناق من قرية كفر مندا في الجليل، والأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي محمود وحسام وأمين بشناق من قرية رمانة في محافظة جنين، والشهيد رامز بشناق من قرية كفر مندا في الجليل الذي استشهد خلال "هبة أكتوبر" سنة 2000 في مناطق 1948. كما برز بينهم أكاديميون وفنانون وأدباء وإعلاميون ذاع صيتهم على نطاق العالم العربي والعالم مثل الدكتور مصطفى بشناق ( 1887-1974) أحد مؤسسي جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس وعضو المجلس الوطني الفلسطيني ومجلس الأعيان الأردني، والفنان التشكيلي محمد بشناق (1934-2017) الذي ولد في قرية الشيخ جراح بالقرب من مدينة حيفا ثم اضطر مع عائلته، بعد وقوع النكبة، إلى الانتقال إلى مدينة الخليل حيث برزت موهبته في الرسم والنحت، وذلك قبل أن يستقر، في سنة 1954، في الكويت ويترك تأثيراً كبيراً على الحركة الفنية التشكيلية فيها من خلال مؤسسة "المرسم الحر" التي أسسها بتوصية من إدارة المعارف الكويتية، وابنته الرسامة سوزان بشناق (1963-) التي تعيش في الكويت كذلك، والموسيقية سعاد بشناق (1982-) التي ولدت لأب فلسطيني وأم سورية، وتعتبر أول امرأة عربية تنال درجة البكالوريوس في التأليف والتوزيع الموسيقي الكندية من جامعة ميغيل التي تصنّف كواحدة من أهم الجامعات الموسيقية في العالم، والتي استطاعت الفوز بجائزة هوليوود لصناعة موسيقى الأفلام والمسلسلات، والأديب عبد الرحمن بشناق (1913-1999)، الذي ولد في بلدة قيسارية، وتلقى علومه الابتدائية في مدينة طولكرم، والثانوية في الكلية العربية في القدس، وأكمل دراساته العليا في الجامعة الأميركية في بيروت وفي جامعتَي اكستر وكمبردج في بريطانيا، وعاد إلى فلسطين ليعيّن أستاذاً للأدب الإنكليزي في الكلية العربية في القدس، فوكيلاً لمديرها المربي أحمد سامح الخالدي، ثم استقر في عمان بعد النكبة، حيث عمل مديراً عاماً لمؤسسة عبد الحميد شومان وانتخب في سنة 1963 عضواً في اللجنة الملكية لشؤون التربية والتعليم في الأردن، وعضواً في لجنة المناهج والكتب التي أنشأتها وزارة التربية والتعليم في سنة 1964، وعيّن في سنة 1968 عضواً في اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر، ثم في لجنة التلفاز الاستشارية الأردنية ومجمع اللغة العربية الأردني، والإعلامي محمد بشناق، وهو أول مذيع فلسطيني في إذاعة "هنا القدس" التي بدأ بثها في سنة 1936[7].
وختاماً، فقد اندمج البشناق منذ عقود عديدة في المجتمع الفلسطيني وصاروا يشكّلون جزءاً أصيلاً منه، حتى إن معظمهم فقد لغته الأصلية القريبة من الصربية والكرواتية. وتنقل مدونة "البشناق حكاية اندماج" عن مصطفى مرادوفيتش ما سمعه من أبيه عن العوامل التي شجعت على مثل هذا الاندماج، والذي قال: "كان الفلاحون العرب طيبين معانا ومتعاونين، ما لقينا مشاكل معهم، فاتفقوا البشناق انو يذوبوا في المجتمع العربي". وتتابع المدونة "والمثير أنه في الوقت ذاته وفدت مجموعات عرقية أخرى إلى بلاد الشام آنذاك، مثل الشيشان والشركس، ولكنها احتفظت بخصوصيتها وبمسافة تفصلها عن المحليين على عكس البشناق"[8]. أما الباحثة داريل لي فتشير، في معرض توقفها عند عوامل هذا الاندماج، إلى أن البشناق الذين استقروا في فلسطين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر لم يتمتعوا، على عكس المهاجرين الألمان واليهود، بالامتيازات الممنوحة لمواطني الدول الأوروبية داخل السلطنة العثمانية، كما أن سلطات الانتداب البريطاني صنّفتهم في الإحصاءات التي كانت تجريها لسكان فلسطين ضمن فئة "المسلمين السنة"، ناهيك عن أن صغر حجمهم جعلهم قادرين على تطوير علاقات اقتصادية واجتماعية وطيدة مع السكان العرب الفلسطينيين، وأخيراً فإن تقاسمهم تجربة الطرد والنفي والوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين، بعد وقوع النكبة، جعلهم "فلسطينيين بلا جدال"[9].
[1] الخالدي، وليد. "كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1997.
[2] "الهجرة البوسنية إلى قيسارية في فلسطين".
[3] مركز المعلومات الوطني الفلسطيني-وفا- "البشناق في فلسطين".
[4] أبو فخر، صقر. "الحاج أمين الحسيني والبوسنيون، وقائع لها تاريخ". "العربي الجديد"، 14/11/2015.
[5] سعادة، علي. "البشناق غادروا البوسنة وشاركوا الفلسطينيين المقاومة واللجوء". "عربي 21"، 12 تموز/يوليو 2021.
[6] الصمادي، خليل. "البوسنيون في فلسطين". "مجلة العودة"، العدد 40، كانون الثاني/ يناير 2011.
[7]- التشكيلي الفلسطيني محمد بشناق .. فنان من نوع خاص 1934 – 2017.
- عثمان، هاجر. "حوار مع «سعاد بشناق»: حفيدة القصبجي تسير على خطى بيتهوفن"، 5/4/2021
- الموسوعة الفلسطينية. "عبد الرحمن بشناق".
- “Bushnak-Bushnak”
- Li, Darryl. “The Herzegovinian Muslim Colony in Caesarea, Palestine”.
[8] البشناق حكاية الاندماج. "البشناق العرب" (مدونة تتعلق بعائلة البشناق المنتشرين في العالم. صممت كمشروع للتخرج من "معهد الإعلام الأردني"، 2013).
[9] Li, Darryl. “The Herzegovinian Muslim Colony in Caesarea, Palestine”.