عندما يتفوق السجين على الجلاد: مقابلة مع الأسير المحرر شادي الشرفا
النص الكامل: 

حياة الأسرى الفلسطينيين حافلة بضروب الصمود والكرامة كلها؛ فالأسير يدخل معتقلات الاحتلال بطلاً، ويخرج منها بطلاً.

قبل نحو عشرين عاماً، اعتقلت قوات الاحتلال المناضل الفلسطيني شادي الشرفا بعد رحلة نضالية حافلة، ومطاردة استمرت أكثر من عام، وقد حكمت عليه المحكمة بالسجن 20 عاماً، بعد أن دانته بالانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبالمشاركة في عدة نشاطات وفعاليات.

 

شادي الشرفا

 

ولد شادي أحمد الشرفا في وادي الجوز قرب باب الساهرة في قلب القدس في 23 / 4 / 1977، لعائلة تتكون من الوالد والوالدة وثلاثة إخوة هم إلى شادي، فادي ومحمد.

بدأ شادي الشرفا رحلته النضالية وهو على مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية والثانوية في مدرسة الفرير في القدس، وكان قائداً طلابياً، واعتُقل وهو في الصف الحادي عشر في سنة 1994، بسبب نشاطه في العمل الطلابي، وأمضى عاماً ونصف عام داخل سجن الدامون. غير أن السجن لم يكسر إرادته، وإنما دفعه إلى مواصلة نشاطه النضالي في مقارعة الاحتلال، فاعتُقل عدة مرات، لكنه خرج من دون أن يستسلم.

بعد اغتيال مجموعة تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وزير السياحة الاسرائيلي رحبعام زئيفي في 27 آب / أغسطس 2001، رداً على اغتيال قوات الاحتلال الأمين العام للجبهة أبو علي مصطفى، اعتُقل شادي الشرفا وقائياً، في 6 / 4 / 2002، ووُجهت إليه تهمه الانتماء الى الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فضلاً عن ٣٨ تهمة كلها اعترافات من آخرين ضده، لكنه أنكرها ولم يعترف بأي منها.

عند اعتقاله، حضرت قوات كبيرة من جنود الاحتلال معززة بآليات عسكرية وطائرة هليكوبتر، فحاصرت منطقة بيت حنينا والرام، مغلقة جميع المنافذ المؤدية إليها، ثم أحكمت الطوق على المنزل الذي كان الشرفا موجوداً فيه وداهمته.

يُعتبر الأسير المحرر شادي من الأسرى المميزين على جميع الصعد، إذ امتلك شبكة علاقات كبيرة مع عدد كبير من الأسرى ومن جميع التنظيمات، وشارك في الإضرابات عن الطعام وخاض خمسة منها تركت آثارها على جسده وصحته بعد التنكيل به وإهانته في أثناء كل إضراب.

ومع أنه كان عرضة للقمع والتنقل والترحيل المستمر بين السجون والمعتقلات الإسرائيلية، إلّا إنه أصر على بناء جسده كي يواجه عسف السجان، وكان من أبرز الرياضيين في السجون.

ولم يمنعه السجن من مواصلة تحصيله العلمي، فتقدم مرتين إلى امتحان شهادة التوجيهي ونجح في المرتين، وحصل على شهادات جامعية وهو في سجون الاحتلال، منها: شهادة التوجيهي وهو في سجن الدامون سنة 1995؛ درس شهادة البكالوريوس من الجامعة العبرية المفتوحة، لكنه مُنع من التقدم للامتحان عقب أسر الجندي غلعاد شاليط في غزة؛ شهادة البكالوريوس من جامعة القدس / أبو ديس في العلوم السياسية بتقدير جيد جداً؛ شهادة الماجستير بتقدير جيد جداً من جامعة القاهرة في مجال إدارة المؤسسات؛ شهادة الماجستير بتقدير جيد جداً من الأكاديمية الأميركية في مجال الإدارة العامة بتاريخ؛ شهادة صحافه من نقابة الصحافيين الفلسطينيين.

ولم تكن دراسة شادي الشرفا الجامعية لشخصه، وإنما للمساهمة في تدريس الأسرى الآخرين، إذ كان معروفاً عنه أنه مفكر وكاتب وصحافي ومدرس، يقرأ كل يوم كتاباً، كما اعتُبر من أشهر الطباخين داخل السجون.

وعن الصراع بين الجلاد والمناضل من أجل الحرية، أجرت "مجلة الدراسات الفلسطينية" حواراً مع الأسير المحرر، تحيّة له ولعائلته الصغيرة في مدينته القدس، وعائلته الكبيرة في فلسطين، وتهنئة لهما بمناسبة تحرره من غياهب السجون الإسرائيلية، آملين بأن يتحرر جميع الأسرى، وأن ينال الشعب الفلسطيني حريته في وطنه. 

عندما تتغلب الأشواق على طاقة الجسد 

بين لحظات الاعتقال الأولى قبل عشرين عاماً ولحظات الإفراج الأخيرة في حزيران / يونيو الفائت بون شاسع. كيف تفاعلتَ شخصياً مع تلك اللحظات إنسانياً واجتماعياً ووطنياً؟

 

الشرفا لحظة لقائه مع والديه بعد الإفراج عنه (نقلاً عن موقع "بوابة الهدف")

 

بداية، شكراً على الاستضافة. إنه لشرف كبير أن ألتقي مع مجلة مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي بإصداراتها المتنوعة لازمتنا داخل المعتقلات، وساهمت في تشكيل وعينا، وكانت خير مثال للإنتاج الثقافي المتميز.

لقد تركت لحظتا الاعتقال والإفراج بصمة في الوجدان لا يمكن اختزالها ببضع كلمات: الأولى لازمتني بجميع معانيها وتجلياتها كونها ترافقت مع تحقيق ميداني واعتداء وحشي استمرا عدة ساعات، وتبعهما جولات متواصلة من التحقيق القاسي داخل سجن "المسكوبية" في القدس. فقد اختلطت المشاعر عند لحظات الاعتقال ما بين الخوف والرعب والألم والتساؤل عن المصير المجهول من جهة، وحالة التحدي والصمود من جهة أُخرى؛ الثانية، أي لحظة الإفراج، كانت ملأى بالعواطف تجاه الأهل والأحبة والطبيعة الخضراء، ولا أخفي أنه حين كنت أعانق المستقبلين والمهنئين انتابني ارتخاء في عضلات الأرجل، وشعرت بأني سأقع على الأرض في أي لحظة، على الرغم من بنيتي العضلية الصلبة، وخشيت الاستجابة لحاجتي إلى التمدد والاسترخاء والابتعاد عن الناس، لكن بعد قرابة ساعة تمالكت نفسي وانخرطت في الأجواء.

محطة الاعتقال تعني الدخول إلى عالم شديد القسوة والألم والعجز، لكنه عالم يحمل بين طياته كثيراً من معاني الصمود والصبر والتضحية والقناعة بضرورة مواجهة الاعتقال نفسياً وجسدياً. 

تقاطع مع المنظومة النازية 

الشعب الفلسطيني يعيش في سجون كبيرة: غزة والضفة والقدس وغيرها، وأسراه موزعون أيضاً على نحو 20 معتقلاً صغيراً بمئات الزنزانات. كيف ترى الفرق بين الحريات المقيّدة في السجون الكبيرة وتلك المقيدة في المعتقلات والزنزانات؟ ما الفرق بين سجن كفر عقب الخارجي وسجن جلبوع الداخلي على سبيل المثال؟ كيف ترى حريتك في المكانين؟

إن التشبيه الأدق بين الخارج والسجون يعيدنا إلى الحرب العالمية الثانية، حين أنشأت النازية نموذجين للاحتجاز: الأول الغيتوات المتناثرة في أرجاء أوروبا وهي شبيهة بواقع الحيّز الفلسطيني في الضفة وغزة والقدس، وأراضي 48 إلى حد ما، أمّا الثاني فهو نموذج معسكرات الاعتقال والتجميع التي أعدّها النازيون للخصوم السياسيين، ولا سيما الشيوعيين، فضلاً عن اليهود والغجر وغيرهما، وهي مرادفة للسجون الإسرائيلية اليوم. وكم يشبه النموذج الاستعماري الاستيطاني الصهيوني اليوم النموذج النازي في إبان الحرب العالمية الثانية، وهو ما ورد على لسان عدة كتّاب إسرائيليين أمثال إيلان بابِهْ، ويهودا شنهاف، وعوفر أدرت، وآدم راز، ودان تمير، وذلك من زاوية أن البنية الاستعمارية الصهيونية ومنظومتها القانونية العنصرية والفاشية وممارساتها العنيفة ضد الفلسطينيين الأصلانيين تتقاطع وتنسجم مع المنظومة النازية من قوانين نورمبرغ (Nuremberg) العنصرية، وصولاً إلى الطرد ومصادرة الأملاك والقتل (قبل غرف الغاز وإشعال الأفران)، وهي واقع حال الفلسطينيين اليوم. وهذه الممارسات تتجاوز الأبارتهايد لأنها تهدف إلى التخلص من الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بل حتى جسدياً، فالفلسطينيون الأصلانيون ليسوا محصنين من دعوات الترانسفير والقتل، وهم داخل السجون وخارجها، عرضة للتمييز القانوني والاجتماعي والسياسي، وحريتهم مصادرة، ويتعرضون لأبشع أنواع التطهير العرقي الزاحف. 

التحقيق حدد هويتي ككائن مستعمَر مقموع يخرج منتصراً 

المعتقل الفلسطيني يواجه السجان الجلاد المتخصص بإيذاء الجسد، مثلما يواجه السجان المحقق المتخصص بإيذاء النفس والمعنويات والمدعوم من مؤسسة قمع محترفة. هل لك أن تصف صراع الإرادات في المجالات الأخلاقية والإنسانية والمعنوية والسياسية، وما هي نتائج الصراع في محصلته الأخيرة؟

نحن أمام منظومة استعمارية حداثية تُبدع في مجالات التحكم والضبط والسيطرة والإخضاع والرقابة، وتستخدم العنف بطرق ممنهجة وفقاً لقواعد النظام الاستعماري التي أدخل عليها المستعمرون الإسرائيليون وسائل أشد عنفاً باستخدام التكنولوجيا الحديثة، وهي بتعبير أدق تنسجم مع اللغة الاقصائية العنصرية الإسرائيلية في التعامل مع الأصلانيين الفلسطينيين. لكن الفلسطيني ليس مجرد متلقٍّ وساكن، أو "كائن كولونيالي" مسلوب الإرادة بشكل مطلق، فالمعتقل المنتمي إلى فكر التحرر وثقافته، يخوض معركة التحقيق بحصانة أخلاقية وإنسانية ومعنوية تفوق الخطاب الكولونيالي للمحقق البيروقراطي الذي هو مجرد أداة في آلة استعمارية مركبة. وهنا يتجلى صراع الإرادات، فالفرد المستعمَر المعتقل يواجه عملياً دولة وهو على كرسي التحقيق. إن تجربة التحقيق قاسية ومريرة، غير أن فيها كثيراً من قصص الصمود والتحدي، بل إن المحقق يصعب عليه الانتصار قيمياً لأنه يدرك في قرارة نفسه أنه جلاد مستعمِر مغطى بثنائية سيد / عبد الاستعمارية، أمّا المعتقل فهو قيمة نضالية وصاحب رسالة وقضية عادلة.

إن فكرة الصمود وعدم الاعتراف وصون الأسرار، على الرغم من وسائل التعذيب والإذلال كلها، هي قصة نجاح، غير أنها تترك ندوباً على مَن مر بها، فقد كنت طفلاً حين اعتُقلت للمرة الأولى، وما زالت تحضرني حتى هذه اللحظة، آلام التعذيب والإهانة، مع أن أسابيع التحقيق كانت محدداً لهويتي ككائن مستعمَر مقموع، سيخرج منتصراً بعد كل جولة تحقيق. 

الحرب على البقاء أو اجتثاث فكرة المقاومة 

عطفاً على السؤال السابق، فإن دولة الاحتلال تعتقد أن نتيجة الصراع بين الشعب الفلسطيني ودولة الاحتلال تتقرر على جبهة السجن، فتحاول كيّ وعي المعتقلين والمعتقلات، وصولاً إلى كيّ الوعي الفلسطيني برمّته. كيف ترى ذلك في الممارسة المتبادلة؟

تتعامل مصلحة إدارة السجون الصهيونية كجهاز استعماري أمني، انطلاقاً من عدة أبعاد:

الأول: احتجاز الفلسطيني الأسير في ظروف معيشية صعبة كي يشعر بالندم بعد أن تتبلور لديه هواجس عواقب النضال والمقاومة؛

الثاني: تعظيم جبروت السجان ودولته الاستعمارية وتقزيم الأسير ليصل إلى قناعة بعدم جدوى النضال واستحالة هزيمة المشروع الصهيوني؛

الثالث: تفريغ الأسير من محتواه الوطني والنضالي عبر خلق الفتن الداخلية بين التنظيمات وداخل التنظيم الواحد؛

الرابع: إشعار الأسير بأنه مراقب دائماً، ضمن سياق وآليات الضبط والرقابة في السجون، وإيصاله إلى درجة الشعور بالعجز وبالتالي اليأس؛

الخامس: احتجاز أكبر عدد ممكن من الفئات الشابة لإعاقة تحصيلهم الأكاديمي، وبالتالي إلحاقهم بسوق العمل الإسرائيلية.

هذه الإجراءات القمعية ممنهجة، وهي ليست عشوائية بتاتاً، ولا تقوم على الاستفراد بالمناضل فقط، بل يتخللها ضوابط قانونية أيضاً، ومنطق سياسي يستهدف الجوهر الروحي لا المادي، وبالتالي ضرب فكرة المقاومة، لأن المشكلة التي تواجهها الدولة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية هي مع الشعب، ولا سيما الفئة المقاومة، وليست مع القيادة. ولذا، فإنها تستهدف كيّ الوعي وخلق وعي جديد يتماشى مع الأهداف الاستعمارية، ذلك بأن سياسة صهر الوعي تستهدف النخب المقاومة الفلسطينية بالدرجة الأولى، لتصل إلى ثقافة وفكر المقاومة. الحرب إذاً، هي على بقاء فكرة المقاومة أو اجتثاثها.

في مقابل ذلك تعتمد الحركة الأسيرة أساليب مقاومة وتصدٍّ، وهي تنجح حيناً، وتفشل أحياناً أُخرى. 

لدينا جيش من المتطوعين الحقوقيين 

تزعم دولة الاحتلال أن القانون الدولي الذي يشرعن حقّ أي شعب يتعرض للاحتلال العسكري في مزاولة أشكال النضال كلها من أجل التحرر والاستقلال وتقرير المصير، لا ينطبق على الشعب الفلسطيني من وجهة النظر الإسرائيلية التي استبدلت القانون الدولي بقوانين عسكرية جائرة، وبأيديولوجيا دينية متعصبة تنفي جميع الحقوق الفلسطينية المشروعة، وبفعل ذلك يتم وضع الأسرى والمقاومة في خانة الإرهاب، ويمارَس في حقّهم أبشع أشكال الظلم والقهر. وبغضّ النظر عمّا فعله المقاوم، فإنه لا يجوز أن يُحرم من وضع أسير الحرب والحماية الممنوحة بموجب هذا الوضع. فكيف يمكن مواجهة هذا العسف؟

حاولنا منذ سنة 2004 اتخاذ مجموعة خطوات، منها مقاطعة المحاكم الصورية العسكرية، للمطالبة بالاعتراف بنا كأسرى حرب بناء على المواثيق والقوانين والأعراف الدولية، ولا سيما اتفاقية جنيف الثالثة والرابعة بشأن أسرى الحرب. وللأسف، لم تكن القيادة السياسية الفلسطينية جادة في تبنّي المشروع، فطالبنا بالتوجه إلى المحافل الدولية، ولا سيما محكمة الجنايات الدولية في روما ومحكمة العدل الدولية في لاهاي والمحاكم في الدول التي يسمح قانونها بمحاكمة جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو انتهاكات ضد القانون الدولي خارج حدودها.

ومع الأسف، هناك تلكؤ ومماطلة وتسويف في هذه المسألة من طرف المستوى السياسي لاعتبارات تتعلق بموازين القوى والمصالح وغياب الاستراتيجيات الكفاحية. ونحن من جهتنا نقول إنه، وإنصافاً لأسرانا الذين أمضوا عقوداً داخل المعتقلات، يجب تحريك ملف الاعتقال السياسي وتدويله، كي نصل إلى الحالة التي يتم بها الاعتراف بالأسرى الفلسطينيين كأسرى حرب وحرية، بدلاً من وصفهم بالإرهابيين والمخربين.

أنا لا أعتقد أن المسألة صعبة ومعقدة، نحن لدينا جيش من المتطوعين المختصين بالقانون الدولي حول العالم، ومنهم أصدقاء في أوروبا أبدوا استعدادهم وحماستهم لمتابعة الملف. غير أن هذا بحاجة إلى قرار سياسي لا يزال مفتقداً.

إن التوجه إلى المحاكم الدولية المتعددة يعني أن يتحول ملف الاعتقال من سيف مسلط على رقاب شعبنا، إلى أداة لمعاقبة الاستعمار الصهيوني على جرائمه، وليصبح كل سجان وقاضٍ عسكري ملاحقاً دولياً. 

الحب حاجة إنسانية عليا 

المعتقل أو أسير الحرب تُحتجز حريته ويُحرم من العيش مع زوجته وأبنائه، فالشبان يُحرمون من الزواج والعلاقة مع الجنس الآخر ولا يتاح لهم اختيار شريكة أو شريك حياة، مع ما يعنيه ذلك من حرمان إنساني وعاطفي في منتهى القسوة، ومن تضحية مسكوت عنها وغير مطروقة. فلماذا لا نتحدث عن الحاجة إلى الحب والإشباع العاطفي، وكيف يمكن ترجمة القدرة على الحب بالمستوى الرمزي والواقعي؟ ولماذا لا يطرح الأسرى حقّهم في اللقاء مع زوجاتهم / أزواجهن؟

يُعتبر الحب الغذاء الروحي للأسير المعتقل، والثوريون شديدو التعلق بالمحبوبة، ويهمهم استمرارية العلاقة العاطفية على الرغم من الجدران وبُعد المسافات. فالاستمرارية هي نوع من التحدي الذي يعزز صمود الطرفين، والبطلة الحقيقية في هذا الموضوع هي المرأة الفلسطينية التي صبرت وضحت وانتظرت وعانت كثيراً.

لقد خاض الأسرى عدة نقاشات بشأن أحقية اللقاء بالزوجة (لقاء حميمي)، وطالبنا بتحقيق ذلك معتمدين على أن القانون الإسرائيلي يجيز اللقاء، لكن حين قُدمت الطلبات، وكانت محدودة جداً، لم تُعطَ موافقة، كما أن التوجه إلى المحاكم الصهيونية لم يأتِ بنتيجة، علماً بأنه يُسمح للسجين اليهودي باللقاء مع زوجته وإنجاب الأولاد.

وهذا الرفض يتعدى مسألة الصراع الديموغرافي إلى رغبة في قطع أواصر الحياة الإنسانية للأسير الفلسطيني، ولذا جاءت مبادرة تهريب النطف، أو ما أُطلق عليه مصطلح ثورة الحب. فنحن لدينا أكثر من مئة طفل جاؤوا إلى الحياة عبر النطف، ليشكلوا سفراء حرية، وهو أمر يحمل عدة دلالات، منها التحدي والرغبة في الحياة، فالحب هو هدف مقدس وحاجة إنسانية عليا، وهو رابط مقدس وأزلي بين الأسير والحياة، كما أنه إنجاز للإنسانية ورسالة للعالم بشأن قضية إنسانية انتصرت على الحرمان والقهر. 

دخول فضاءات العلم والمعرفة 

ثمة مآثر وإضاءات وقصص نجاح صنعها الأسرى خلال العقود الماضية، كتعلم اللغات، والكتابة الأدبية، وإنتاج أعمال فنية، وتأسيس مكتبات تضم كتباً مهمة، وتعلّم الشطرنج ومزاولته، والتطور الفكري عبر القراءة والحوار، ومتابعة الدراسة وصولاً إلى دراسة الماجستير، واجتراح نفق الحرية من داخل سجن جلبوع. ماذا تقول عن تلك الإنجازات، وإلى أي مستوى كان النجاح؟

تمكّن الأسرى في مطلع التسعينيات من الانتساب إلى الجامعة المفتوحة "الإسرائيلية"، الأمر الذي اعتُبر إنجازاً مهماً بعد أعوام من النضال؛ إنجازاً فتح كثيراً من الآفاق، ومكّن الأسرى من القراءة والدراسة المنهجية، وهو ما أحدث نقلة نوعية في السجون، وأتاح فرصة لدراسة المجتمع الصهيوني بعمق أكثر. وقد أزعج هذا الإنجاز القيادة الإسرائيلية، فأصدر رئيس حكومة الاحتلال الاستعماري بنيامين نتنياهو، في سنة 2011، قراراً بحرمان الأسرى من استكمال تعليمهم، كما رفضت المحكمة الإسرائيلية في سنة 2014 استئنافات قدمها الأسرى لاستكمال دراساتهم. وفي سنة 2017 قُدّم مشروع قانون في الكنيست لحرمان الأسرى من التعليم الأكاديمي كلياً.

لم ننتظر ردود المحاكم الإسرائيلية المنصاعة كلياً للجهاز الأمني والسياسي، فبادرنا إلى الاتصال بالجامعات المحلية والأجنبية، واتفقنا على أن تتبنّى هذه الجامعات مشروع دراسة البكالوريوس تحت إشراف الأسرى أنفسهم. ثم تطورت المسألة ودخلت برامج الماجستير إلى السجون، الأمر الذي لا يشكل انتصاراً للأسرى فحسب، بل هو أيضاً جزء من معركة تحطيم القيود الإسرائيلية واختراق فضاءات العلم والمعرفة.

ولا تزال إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية تمنع التعليم، وتصادر الكتب وتشنّ حملات قرصنة للمواد التعليمية، إلّا إن الأسرى استطاعوا تحقيق هذا الإنجاز المهم، فلدينا اليوم مئات الأسرى ممّن يحملون شهادات البكالوريوس، وعشرات يحملون درجة الماجستير.

لقد مكّنت الدراسة الأكاديمية الأسرى من امتلاك الأدوات المعرفية والمنهجية الضرورية للإنتاج الفكري، وهناك عدة إصدارات بحثية وأدبية بالغة الأهمية. وفي الحقيقة، فإن مساق الماجستير للدراسات الإسرائيلية في جامعة القدس أبو ديس بإشراف مروان البرغوثي كان له الأثر البالغ في تعزيز القدرات الكتابية البحثية للأسرى، وهو نموذج للتعليم الجاد والمسؤول، فضلاً عن أنه ساهم في إطلاق العنان للتفكير الإنساني والديمقراطي والثوري.

أستطيع القول إن التعليم الأكاديمي في السجون ليس بديلاً من المدرسة الحزبية، وإنما هو حافز ومكمل لها، ولذلك استمر تعليم الأدبيات التنظيمية والوطنية لإنتاج الإنسان الثوري الحقيقي المكافح، وقد نجحنا هنا وأخفقنا هناك، وتبقى المسألة نسبية. 

ضرورة التوجه إلى المحاكم الدولية 

في الماضي، انتزعت الحركة الأسيرة إنجازات كبيرة ومهمة، عبر الإضراب الموحد والجماعي والاحتجاجات المنظمة، لكن يلاحَظ في الأعوام الأخيرة حتى الآن، تراجع النضال المشترك لمصلحة النضال الفردي، أو ما اصطُلح على تسميته "خصخصة" النضال والإضراب، إن جاز التعبير. كما أننا بمستوى أقل نشهد احتجاج تنظيم أو أكثر، أو احتجاج وإضراب المعتقلين إدارياً، فما هي أسباب التراجع، وكيف يمكن العودة إلى النضال المشترك؟

لا يخفى على أحد أن الحركة الأسيرة تعاني تكلّساً وتفتتاً منذ فترة طويلة، وكان لأعوام أوسلو العجاف منذ تسعينيات القرن الماضي الأثر السلبي الأكبر في الأسرى، فضعفت البنى التنظيمية وتراجعت البرامج الثقافية. لكن بعد اندلاع الانتفاضة الثانية في سنة 2000، دخلت أعداد كبيرة إلى السجون بحيث ناهز عدد المعتقلين 12,000 أسير وأسيرة، وقد حاولنا تطوير البنية التنظيمية والبرامج الثقافية الدعوية والعلاقات الوطنية، وفي خضم إعادة البناء حدث الانقسام في سنة 2007، والذي ترك آثاراً سلبية على الأسرى، وساهم في تفكيك الحركة الأسيرة.

وعلى الرغم من ذلك، فإننا في جميع الفصائل اتفقنا على خوض إضراب موحد في نيسان / أبريل 2011، إلّا إن حركة "فتح" انسحبت وتلتها "حماس"، وهو تطور دفعنا إلى تأجيل الخطوة حتى أيلول / سبتمبر بناء على طلب التنظيمَين كي يجهّزا نفسَيهما، غير أنهما انسحبا مرة أُخرى، فخاضت الجبهة الشعبية الإضراب منفردة، ثم شارك فيه 400 أسير للمطالبة بإنهاء سياسة العزل. لكن بعد دخول صفقة التبادل مع الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط مرحلة نهائية، علّق الأسرى إضرابهم.

بعدها أضرب عن الطعام الشيخ خضر عدنان، ولاحقاً هناء الشلبي، رفضاً للاعتقال الإداري، وكان إضرابهما قفزة نوعية، إذ استطاعا كسر الاعتقال الإداري، وبالتالي تشجيع الحركة الأسيرة على الاتفاق على موعد آخر للإضراب في يوم الأسير الفلسطيني في 17 نيسان / أبريل 2012. وعلى الرغم من تفكك الحركة الأسيرة، فإننا استطعنا خوض إضراب موحد لأول مرة منذ سنة 2014، وهو إضراب استمر أكثر من 3 أشهر حققنا فيها إنجازات مهمة أبرزها إعادة السماح لأسرى غزة بالزيارة، وإخراج المعزولين، وكان عددهم 23 أسيراً، على ما أذكر.

حقيقة الأمر أنه في جميع الإضرابات كانت قضية الاعتقال الإداري مدرجة في جدول الأجندة، غير أن المطالبة بإنهاء سياسة الاعتقال الإداري لم تكن جادة مثلما يجب، وهو ما دفع عدداً من الأسرى إلى خوض إضرابات منفردة ما زالت في حركة مستمرة حتى اليوم.

إن حل معضلة الاعتقال الإداري جذرياً لا تأتي عبر الخطوات الفردية، بل إنها بحاجة إلى تكامل الظروف الذاتية والموضوعية في داخل السجون وخارجها، من أجل إنهاء هذا الاعتقال التعسفي الذي يستند إلى قوانين الطوارىء البريطانية لسنة 1945.

اليوم يقاطع الأسرى الإداريون المحاكم، وعددهم نحو 570 أسيراً، وأنا ما زلت مقتنعاً بأن حل مسألة الاعتقال الإداري بحاجة إلى التوجه إلى المحاكم الدولية مثلما ذكرتُ سابقاً، كي يتحول ملف الاعتقال من سيف مسلط على رقاب شعبنا، إلى أداة لمعاقبة الاحتلال وملاحقته على جرائمه.

إن جماهير شعبنا المتضامنة مع الأسرى أُرهقت من النشاطات تضامناً مع المضربين، لكن ذلك لا ينفي حقّ الأسير في الإضراب لإنهاء معاناته على المستوى الفردي بحد أدنى، أمّا سبل العودة إلى النضال المشترك فمنوطة بأن تقوم حركة "فتح"، وهي الجسم الأكبر في السجون، بترتيب بيتها الداخلي الذي يعاني الانقسام والخلافات والتشرذم.

 

 

أمهات الأسرى خلال اعتصام تضامناً مع أبنائهن الأسرى المضربين عن الطعام

 

القيادة تغيّب الأسرى من مركز القرار 

يتدهور، بتفاوت، دور التنظيمات السياسية خارج الأسر، وقد تحول المركز السياسي الرسمي إلى مصدر للفشل والإحباط، في مقابل حركة أسيرة صامدة كانت وما زالت مصدراً للتفاؤل والاعتزاز والأمل. كيف ترى التفاعل بينهما؟

ما يجري من انقسام وتشرذم ومظاهر سلبية خارج السجون ينعكس تلقائياً على البنى الوطنية والتنظيمية داخل السجون، فالحركة الأسيرة ليست في أفضل أحوالها اليوم، وهي تعاني الإحباط على الرغم من حالات الصمود التي نفتخر بها. المشكلة أن القيادات السياسية تغيّب الأسرى على مستوى صنع القرار السياسي، فنحن أمام قيادة ليست معنية بسماع مبادرات الأسرى للخروج من الأزمة، ولا من أي جهة أُخرى، الأمر الذي يشكل مصدر إحباط شديد لدى الأسرى لأن قضية الاعتقال هي قضية سياسية أساساً، وليست مجرد قضية إنسانية.

إن صوغ استراتيجيا وطنية شاملة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس وطنية وديمقراطية، أمر بحاجة إلى تضافر الجهات كلها: أسرى وفصائل ومجتمع مدني ومثقفين وأكاديميين وغيرهم. غير أن المشاركة السياسية لن تأتي من دون انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية لإطلاق العنان أمام طاقات كثيرة كامنة في السجون وخارجها، وهذا موضوع يحتاج إلى تفاعل جماهيري ميداني للضغط على أصحاب القرار من أجل إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني الذي وصل إلى حالة محزنة جداً ومخيفة. فالتهرب من استحقاق الانتخابات وعدم تحقيق مبدأ فصل السلطات واستقلالية القضاء وتبادل السلطة واستمرار الفساد وتفشيه، أمور ستقود بالضرورة إلى ضرب النسيج الوطني الفلسطيني برمّته، ولذا فإننا بحاجة إلى مسارات واضحة على المديَين القريب والبعيد، لاستعادة اللحمة الوطنية وفرملة الانزلاق نحو الهاوية. 

نستقبل القمع بابتسامة تغيظ السجان 

كيف كان صدى تجربة أبطال نفق الحرية عليك وعلى الأسرى عامة؟

كنت في سجن جلبوع في نيسان / أبريل عندما جرت هذه العملية البطولية المشرّفة، وكنا نعرف أن العواقب ستكون وخيمة علينا، لكننا كنا فرحين ومستعدين لدفع الثمن مهما يكن، ذلك بأن هؤلاء الأسرى الأبطال استطاعوا كسر هيبة إدارة السجون المتعجرفة والمتفاخرة بقدراتها الأمنية. لقد أحدث أبطال النفق بهذه العملية اختراقاً نوعياً لأسطورة المنظومة الأمنية الصهيونية، كما ساهم هذا العمل البطولي في تسليط الضوء على قضية الاعتقال السياسي الذي يمارسه الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في حقّ أبناء شعبنا. ومع أننا تعرّضنا للقمع عدة مرات بعد نجاح الأسرى في التسلل خارج الأسوار، إلّا إن هذه كانت المرة الأولى التي استقبلنا فيها القمع بابتسامة تغيظ السجان وتستفزه، فقد شعرنا آنذاك بردّ الاعتبار والكرامة، لأن مغزى هذه العملية البطولية هو سياسي وإنساني بامتياز.

السيرة الشخصية: 

مهند عبد الحميد: صحافي فلسطيني.