حكايات فلسطينية عن الاعتقال الإداري: نادر العربي وحكاية الوفاء
التاريخ: 
21/12/2022
ملف خاص: 

نادر العربي يولد مجدداً، مؤكداً الثقة بالمستقبل، ينتظر عاصم الكعبي وصمود سعدات ولادة طفلهما البكر "نادر العربي" خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل بلهفةٍ وشوقٍ كبيرين، فهو بالنسبة إليهما، ليس فقط ثمرة حب منتزَع من ألم ومعاناة استمرت عقوداً، بل أيضاً هو تعبير عن كلمتين: الانتماء والوفاء لملهمين، عبّدوا ويعبّدون الدروب نحو مستقبل مضيء خالٍ من الغزاة والطغاة، يخطون الحق بالحياة والحرية والكرامة.

صمود تفتقد هذه الأيام زوجها عاصم أكثر من أي وقت مضى، منذ أن غيّبه المستعمرون، بتوصية من الشاباك، من طرف المسمى قائد المنطقة الوسطى، لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد في الاعتقال الإداري. هذه الأيام، تعود الذاكرة بصمود إلى طفولتها المبكرة، وتحديداً إلى يوم أحبت فيه اسمها ورفعت رأسها عالياً باعتزاز، حين سمعت من والدتها "أم غسان" حكاية اسمها، فهي حكاية تشير إلى عقائدية الانتماء والإيمان بعدالة القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وما يتطلب ذلك من احتراف ثوري. قبل موعد ولادتها بأيام قليلة، بتاريخ 22/4/1986، كان والدها، أحمد سعدات "أبو غسان"، قد نُقل من تحقيق قاسٍ استمر عدة أسابيع إلى سجن رام الله، فطلب من محامٍ تمكن من زيارته أن يخبر زوجته أن تطلق على المولودة الجديدة اسم "صمود".

 

من الصفحة الشخصية لصمود سعادات زوجة الأسير عاصم الكعبي

 

استهداف المستعمرين لأسرتيْ سعدات والكعبي متواصل منذ عقود عديدة. وتتواصل المعاناة، لكنها معاناة تتحداها الأسرتان، وتتحديان مسبّبيها بالصمود والثبات على المبادئ، والعمل بكل جهد ممكن لانتزاع الحق في الحرية والاستقلال والعودة.

التاريخ يعيد نفسه

صمود التي تُحرَم في هذه الأيام المميزة من حياتها، وهي تستعد لاستقبال مولودها الأول، من دعم واحتضان زوجها، تُحرَم أيضاً منذ ما يزيد عن عقدين متواصلين من حنان ومساندة الأب المستهدف دائماً بأدوات ووسائل مختلفة. فصمود تعيش اليوم تجربة والدتها "أم غسان" التي أنجبتها والأب مغيب، في تأكيد أن التاريخ يعيد نفسه والاستهداف ومحاولة الإخضاع والسيطرة كذلك. لكن كل ذلك يترافق في الوقت نفسه مع إصرار على مواصلة التحدي والمواجهة.

حكاية الوفاء

"نادر العربي" اسم مركّب توافقَ عليه الزوجان، وهو تعبير عن واجب الوفاء للشهداء، وعن واجب الوفاء للشهيد "نادر أبو ليل" الصديق المقرب من عاصم. استشهد نادر أبو ليل في نابلس بتاريخ 2/5/2004، في واحدة من جرائم الاغتيال العديدة التي نفّذها الإرهابيون الصهاينة خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

حكايات كثيرة ستبدأ صمود بروايتها للطفل "نادر العربي"، تلك الحكايات عن الألم وعن الأمل والتفاؤل الواثق بالمستقبل المشرق أيضاً. أولى الحكايات ستكون عن الاسم الذي يحمله نادر وقيمة الوفاء للراحلين العظماء، الصفحة المشرقة الأولى من التاريخ الفلسطيني والذاكرة التي ستبقى حية، ونبراساً يضيء الدرب الى الحرية والعودة. سيستمع الطفل إلى حكايات أسرة والده عن الاستهداف الاستعماري المتواصل لها، عبر سيف الإبعاد والاعتقالات المتكررة، ومن ضمن ذلك إبعاد الأسرة بأكملها من مخيم بلاطة في نابلس إلى مخيم عقبة جبر في أريحا في سنة 1980، تمهيداً لإبعادها إلى الأردن، عندما كان والده في عمر عامين، وذلك كعقاب جماعي للأسرة من المستعمرين. وكذلك قصة في إثر حكم بالسجن لمدة 12 عاماً على أحمد، شقيق عاصم، وإبعاد اقتصر على شهر واحد نتيجة حملة تضامنية واسعة النطاق مع الأسرة المنكوبة، المستهدفة باللجوء المتكرر.

أيضاً سترسخ في ذاكرة الطفل "نادر العربي" أن والده، الباحث عن طفولته المفقودة في مخيم بلاطة، كان يرافق جدَّيه وعماته الثلاث خلال الانتفاضة الأولى في زيارتهم إلى ثلاثة أبناء وأشقاء، هم: باسم وبسام وحمادة، في سجن نابلس المركزي، على بُعد أمتار من المخيم، كما كان يرافقهم في رحلة إلى جنوب فلسطين لزيارة الابن والشقيق الرابع عصام في معتقل النقب الصحراوي.

فقدان الوالدين

ستروي صمود للطفل "نادر العربي" حكايات عن والده الذي هزم معاناة وآلام ثمانية عشر عاماً، امتدت من أواخر نيسان/أبريل 2003 إلى أواخر نيسان/أبريل 2021، حكايات صغيرة، لكنها كبيرة بمعانيها، ستقصها على صغيرها عن الصمود والثبات والإرادات التي تطال عنان السماء، عن معارك الأمعاء الخاوية والعزل الانفرادي، عن مواجهة وسائل السيطرة والإخضاع المتنوعة، وعن مواجهة العنف البنيوي وصَهر الوعي، ومحاولات الاحتواء بالتماسك والتحصين الداخلي. كما ستحكي له عن ألم عاصم الكبير لفقدان والدته في شهر تموز/يوليو 2014، ووالده في شهر حزيران/يونيو 2020، اللذين لم يُلقِ على أيٍّ منهما نظرة الوداع، ولم يزُر قبريهما إلا في يوم حريته النسبية في 22/4/2021. سيسأل نادر العربي عن سبب غياب والده عن استقباله يوم مولده، وستجيبه صمود بأن ثمانية عشر عاماً لم تكن كافية لإشباع النزعة الفاشية للمستعمرين. وسيسأل الطفل أيضاً عن سبب غياب الجد لتجيبه الأم لأن الملهمين والكبار هم دائماً في دائرة الاستهداف المتنوع، فنحو 32 عاماً من الاعتقال والمطاردة منذ سنة 1969، منها 21 عاماً متواصلة، منذ سنة 2002، أمضاها الجدّ في الأسر.

ستستبدل الأم حكايات الطفولة الطبيعية، بما فيها حكايات وقصص ما قبل النوم، بحكايات عن خطبتها عندما كان الخطيب مغيباً وراء الجدران الأسمنتية والأسلاك الشائكة قبل ثلاثة أعوام من الإفراج عنه، وعن حفل الزواج الذي تحول إلى مهرجان للحب والفرح وأناشيد الثورة، رغم أنف المستعمرين، وذلك قبل اعتقال عاصم التعسفي بنحو عام.

ألغاز الاعتقال الإداري

تدريجياً، سيبدأ الطفل بتعلُّم الانتظار وألغاز الاعتقال الإداري مع عضوية والده في هذا المحفل البغيض، سيبدأ بانتظار تحرُّر والده في 23/2/2023، ذلك الموعد الافتراضي، وانتظار ما سيحدث بعد ذلك، والتساؤل عن الفترة الكاملة والمتوقعة لهذا الاعتقال.

تساؤلات عن معنى اعتقال تعسفي من دون لائحة اتهام، ومن دون حق للمحامي بمرافعة حقيقية، وكذلك تساؤلات عن المحاكمة العادلة، وما إذا كان يمكن أن تكون عادلة في ظل سلطة استعمارية استيطانية، ومنظومة قضائية استعمارية في خدمة الأجهزة الأمنية.

القاضي يبصم على قرارات الشاباك

تقول ممثلة النيابة العسكرية نيابةً عن الشاباك في المحكمة المسماة زوراً وكذباً رقابة قضائية، والتي عُقدت بعد سبعة أيام من اعتقال عاصم "أبو نادر" إدارياً من دون حضوره: المعتقل ناشط في الجبهة الشعبية، ويُشتبه في قيامه بأنشطة تنظيمية في الجبهة، وأنشطة في ترميم قيادة الجبهة في منطقة سكناه، ووجوده في المنطقة يعرّضها للخطر. ومن جهة، قال القاضي العسكري للمحكمة ذاتها بعد أن دعم أمر الاعتقال الإداري لمدة ستة أشهر وبرر ذلك باعتبارات أمنية، من ضمنها ما يلي:

"قُدمت أمامي مادة استخباراتية نوعية من مصادر متعددة تشير إلى وجود خطر على أمن المنطقة في حال الإفراج عن المعتقل، ومن المادة يتضح أن المعتقل ناشط في الجبهة الشعبية ومتورط بأنشطة تنظيمية، على الرغم من اعتقاله المتواصل في الماضي، فإنه عاد إلى عاداته، وهو ناشط في ترميم بنية الجبهة."[1]

يتضح من الفقرات السابقة أن القاضي العسكري يبصم بأصابعه العشرة على مضمون ما ذكرته ممثلة النيابة العامة بشأن التقديرات والشبهات الخاصة لأمر الاعتقال، وهذا تأكيد إضافي لكون السلطة القضائية جزءاً من المنظومة الاستعمارية الاستيطانية، وفي خدمتها.

وفي ورقة توضيحية قصيرة أصدرها سبعون معتقلاً إدارياً تتعلق بقرارهم النهائي والاستراتيجي بمقاطعة المحاكم التي تنظر في اعتقالهم، قالوا: قناعاتنا راسخة بأن الحجر الأساس في مواجهة سياسة الاعتقال الإداري التعسفية يكمن في المقاطعة الفلسطينية الشاملة والاستراتيجية، غير المسقوفة زمنياً، لمحكمة الرقابة القضائية ومحكمة الاستئناف العسكرية أو المحكمة العليا، وهذا ما عبّرنا ونعبّر عنه، وسعينا من أجله منذ عقدين من الزمن. واقتبسوا بورقتهم ما كان يقوله المؤرخ "باتريك وولف": "الاستعمار الاستيطاني للحالة في فلسطين هو بنية وليس حدثاً."[2]

أخيراً، "نادر العربي" سيسأل والدته عن مفتاح بيت العائلة في دير طريف، كما سيسأل والده عن مفتاح بيت العائلة في يافا، وسيتعلم الكثير عن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، وعن أصحاب الأرض الأصليين، كما سيتعلم أن اعتقال والده إدارياً لن يُخضعه أبداً.

 

* أتى نادر العربي إلى الحياة بتاريخ 28/11/2022، ولا يزال بانتظار حرية والده من الاعتقال الإداري التعسفي.

 

 

[1]قرار القاضي "مؤور ايفن" بتاريخ 31/8/2022، رقم الملف 2360-22 .

[2]ورقة توضيحية أصدرها المعتقلون الإداريون بتاريخ 1/10/2022.

عن المؤلف: 

عبد الرازق فرّاج: كاتب وصحافي، من مواليد سنة 1963. عمل أعواماً طويلة في عدد من المؤسسات الصحافية والأهلية الفلسطينية. أمضى (على دفعات) عشرين عاماً في سجون الاحتلال، كان في الجزء الأكبر منها رهن الاعتقال الإداري. وتعرّض أكثر من مرة للتعذيب في أقبية التحقيق، كان آخرها في تشرين الأول/أكتوبر 2019. وهو مؤلف كتاب "الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية: الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام".

انظر