المشهد الفريد: انتفاضة جبل النار (20 كانون الثاني/يناير 1918)
التاريخ: 
20/12/2022
المؤلف: 

نرى في هذه اللقطة أول صورة لتظاهرة في فلسطين ضد الاحتلال البريطاني للقدس وجنوب فلسطين بعد 9 كانون الأول/ديسمبر 1917. وقد بقي القسم الشمالي من البلد، بما فيه نابلس والجليل وحيفا، تحت السيطرة العثمانية إلى شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1918، عندما انسحبت الجيوش العثمانية باتجاه حلب والأناضول في انهزامها الأخير. خلفية هذه الصورة/التظاهرة هي الصراع الذي كان دائراً في مدينة نابلس بين أنصار الثورة الدستورية التي قادها حزب الاتحاد والترقي (تركيا الفتاة) وأنصار السلطان عبد الحميد في محاولته استعادة نفوذ النظام القديم. في نابلس، انعكس هذا السجال في موقفين متناقضين، تبنّى الأول–المؤرخ إحسان النمر-موقف الحميديين المعادي للثورة؛ بينما تبنّى الموقف المناوئ والمؤيد للثورة الكاتب محمد عزة دروزة.

 

 

نابلس تدعم إعادة الحكم السلطاني

بينما كان النظام الجديد في العاصمة الآستانة يوطد اتصالاته وسيطرته على سورية، وصلت إلى نابلس أنباء انقلاب 18 نيسان/أبريل 1909، معلنةً تعليق حكم السلطان. حينها، كتب النمر: "نهضت كل قطاعات المجتمع النابلسي تدعو إلى إلغاء الدستور. ونظّم المتظاهرون مسيرةً نحو ديوان النمر (المجمع السكني)، حيث قاموا بأداء قسم الولاء للسلطان عبد الحميد، وعبروا عن غضبهم من لجنة الاتحاد والترقي وشتموا قائديها، أنور ونيازي. وكان الحاج توفيق حماد وحزبه يقودان الحركة في مواجهة رئيس البلدية محمد عبده وأنصاره (من لجنة الاتحاد والترقي). لكن حركة (الاسترجاع) هذه كانت قصيرة العمر، حيث تمت إعادة (الثوار) إلى السلطة بسرعة بعدما قامت وحدات من القوات المسلحة، مرسلةً من سالونيك من قبل محمود شوكت باشا، بإحباط المحاولة الانقلابية، وأقدمت على خلع السلطان عبد الحميد." (إحسان النمر، "تاريخ جبل نابلس")

في هذه الأثناء، قام أنصار لجنة الاتحاد والترقي في نابلس (التي كانت لا تزال حركة سرية)، الذين كانوا معروفين في الصحافة العربية باسم "الاتحاديين"، بدعوة المتطوعين إلى القتال، دفاعاً عن الحكومة الدستورية في العاصمة. وأصبح "نادي القلب" مركزاً للتجنيد، وانطلاقاً من حماسة اللحظات الأولى، أبرق الاتحاديون إلى اسطنبول يزعمون أن 60.000 متطوع في طريقهم لدعم الثورة، انطلاقاً من فلسطين، وفق ادّعائهم.  وهذا الادّعاء العددي لم يُترجَم سوى بمشاركة خمسة مقاتلين من نابلس فقط، بحسب النمر، بما في ذلك رئيس سجل النفوس صائب أفندي، وظاهر أفندي عبده. ولدى وصولهم إلى جنين، كانت الحركة المضادة للثورة قد أُحبطت، فاضطروا إلى العودة إلى نابلس سيراً على الأقدام، حيث تعرضوا للسخرية وألقيت عليهم الحجارة والطين. وعندما تمت هزيمة الحركة الاسترجاعية، تحرك الاتحاديون لمعاقبة أنصار النظام القديم وإعادة فرض القانون والنظام. ويمكن تلمُّس مدى اتساع الدعم للنظام الحميدي من حجم القوة التي استُخدمت لتأديب المدينة، حيث جرى استجلاب أربع كتائب إلى نابلس، بحسب النمر، لقمع أنصار السلطان وحركة الشريعة. كما جرى سحب الحاكم أمين بك الطرزي واستبداله بفتحي سليمان باشا. وتم تشكيل لجنة تحقيق لإعداد تقرير والتوصية بإجراءات عقابية، وفي المحصلة، جرى نفي الأعضاء الموالين من عائلات طوقان وحماد وعبد الهادي، وحرمان أقاربهم من الوظائف العامة خلال فترة هيمنة لجنة الاتحاد والترقي في السلطنة. وقد تكون إشارة النمر إلى أربع كتائب مبالَغاً فيها. 

ثورة المشايخ

اعتبر محمد عزة دروزة أن سردية إحسان النمر مغلوط فيها، كما اعتبر محاولة إعادة نظام الاستبداد الحميدي تلك "اللحظة المهزلة"، وليست "الثورة". وكان عزة دروزة قد عُيّن في حزيران/ يونيو 1907، موظفاً في مكتب بريد نابلس، مسؤولاً عن البرقيات (وهي وظيفة حساسة تتطلب إجازة أمنية)، براتب شهري يصل إلى 300 قرش. وكان على والده دفع 30 جنيهاً عثمانياً، وهي رشوة كما سمّاها، لتخفيف الوقع، "ما فيه النصيب" لأولئك المسؤولين عن إدارة البريد لتأمين التعيين. وبقي دروزة في وظيفته هذه حتى سنة 1914، عندما تم ترفيعه إلى نائب مدير، بحيث شهد الأحداث البارزة التي جرفت نابلس في أثناء الثورة.

كانت إحدى مهماته في عمله اعتراض الصحف والمنشورات المحظورة، التي كانت تُرسَل إلى المشتركين في المدينة. وهذا ما أعطى دروزة الفرصة لقراءة وتعميم مواد معارضة مرسلة من القاهرة وأوروبا، وفي 24 تموز/ يوليو 1908، تلقى عزة دروزة برقية معممة موجهة إلى متصرف نابلس، تعلن المرسوم الإمبراطوري للسلطان عبد الحميد، والذي يعيد إحياء القانون الأساسي. وفي خلال الأيام القليلة التالية، تم إغراق الشارع النابلسي، وفق تعبير دروزة، بمنشورات لجنة الاتحاد والترقي، ورايات الحزب الحمر والبيض التي تحمل شعاراته – حرية، مساواة، أخوة. وأصبح نادي لجنة الاتحاد والترقي عند بوابة نابلس الشرقية (الذي عرّفه النمر بنادي القلب)، والواقع في جوار مكتب البريد، مركز اجتذاب الشباب النابلسي. وكان دروزة انضم إلى الحزب في سن التاسعة عشرة، ملتحقاً بصديقه ورفيقه إبراهيم القاسم عبد الهادي الذي كان خطيباً مفوهاً. كان يخاطب الجماهير المتجمعة في ساحة السراي باللهجة النابلسية، موضحاً معنى الدستور وما يترتب عليه في مجال العدل والأخوة، بالإضافة إلى كونه محطة مهمة ضد الفساد والمحسوبية.

يصف دروزة فيما يلي أحداث 31 آذار/مارس 1909، والتي يعنونها في مذكراته بـ (ثورة المشايخ) ضد الدستور. ومن الجدير بالذكر أن دروزة كان موظفاً في مكتب البريد العثماني في بيروت آنذاك، وتم نقله، بعد فترة وجيزة من ذلك، إلى نابلس:

"في 31 آذار 1325 (13 نيسان/ أبريل 1909)، أبلغت سلطات البريد في العاصمة (اسطنبول) موظفيها في بيروت وغيرها من المدن بأن مجموعة من المشايخ بزعامة درويش وحداتي قادت حركة ضد الدستور، ولجنة الاتحاد والترقي، وحكومتها. وتمكن افراد المجموعة من الحصول على دعم شرائح من الجمهور المتدين، كما ومن ضباط في الجيش في الآستانة. وطالبوا بإلغاء الدستور، وحل البرلمان، وإقصاء لجنة الاتحاد والترقي "الملحدة" وتطبيق قوانين الشريعة كدستور للبلاد. وتمكنوا من إقصاء وزراء ونواب واقصاء لجنة الاتحاد والترقي إلى السرية. واستجاب السلطان عبد الحميد، الذي كان يقف بشكل واضح وراء الحركة، لكل طلباتهم، فألغى البرلمان والدستور." (دروزة، المذكرات)

يرى دروزة أن الصراع في نابلس، وفي فلسطين بصورة عامة، كان بين جناحيْ النخبة المحلية، إذ اعتمدت "حركة الاسترجاع " على العناصر التجارية الجديدة (الحاج حماد وحزبه)، بينما تشكلت قيادات الحركة الدستورية المناهضة لعبد الحميد من العناصر الإقطاعية القديمة (آل طوقان وأتباعهم). وهو ما شكّل عاملاً أساسياً في تحول المعارضة الجذرية للنظام القديم، لتصبح ضد كلا الجناحين وتذهب في اتجاه قومي، داعمةً حزب اللامركزية، ولاحقاً حزب الاستقلال (الوطني) الذي سيصبح دروزة أحد أعضائه القياديين. إذاً، هذه هي خلفية الصراع السياسي في المجتمع النابلسي الذي كان المدخل إلى حالة الإحباط التي سادت جميع أنحاء فلسطين قبيل الحرب العظمى ودخول الدولة العثمانية كطرف فيها، متحالفةً مع ألمانيا والنمسا ضد الحلفاء الغربيين.

 

 

مضت 10 أعوام على هزيمة الحميديين وتحوُّل الاتحاديين من حزب السلطة الثوري إلى نظام دولاني قامع استلم إدارة ذمة الحرب العظمى ضد الحلفاء بقيادة أحمد جمال باشا حاكم سورية المطلق. وفي الصورة أعلاه، نشاهد تجمهُر شباب نابلس، محاطين ببقايا العساكر العثمانية، رافعين الرايات العثمانية ضد الهجوم المتوقع من قوى الحلفاء المتمركزة في ساحل يافا وجبال القدس. وربما هي الصورة الأولى لبدايات التمرد ضد الحكم البريطاني ووعد بلفور الذي حمله خلال الانتداب.

نابلس جبل النار وعرين الأسود كانت وما زالت في طليعة الانتفاضات ضد الطغيان والقمع والاحتلال، لكنها في الوقت نفسه، تحنّ دائماً إلى زمن الهدوء والاستقرار وعودة النظام البائد.

 

المصادر:

1. تظاهرة نابلس ضد الاحتلال البريطاني للقدس في أواخر كانون الثاني/يناير 1918 (من مجموعة مؤسسة الدراسات الفلسطينية الفوتوغرافية، رام الله).

2. سليم تماري، "يوم عصيب في جبل النار: حكايات الثورة والثورة المضادة في نابلس" (بيروت: المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، 2019).

3. إحسان النمر، "تاريخ جبل نابلس والبلقاء"، الجزء 3 (نابلس: مطبعة جمعية عمال المطابع التعاونية).

4. محمد عزة دروزة، "مذكرات محمد عزة دروزة"، الجزآن الأول والثاني، (بيروت، 1968).