شهدت سنة 2022 احتداماً في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي أخذ شكل ضم إسرائيلي فعلي للأراضي الفلسطينية، تخلله تطهير عرقي وفرض سيادة وإقصاء وعزل سياسي وتمدد استيطاني باستخدام القوة. وفي المقابل سُجّل حراك مسلح، أو تمرد ومقاومة استهدفت المحتلين، وقام بها عشرات ومئات الشبان المدعومين من قطاعات شعبية عريضة.
في ظل هذه التطورات، يبدو أن سياسة ضبط الصراع إلى المستوى الذي يسمح بمواصلة صناعة الوقائع الاستعمارية وتعميق السيطرة على الشعب الفلسطيني وموارده، قد تخلخلت بفعل تمرد الجيل الفلسطيني الجديد، فاندفعت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى اعتبار ما يجري في الضفة الغربية خطراً ذا أولوية، وإلى وضع الخطط المتعددة وفي مقدّمها الخطة الأمنية لإجهاض التمرد وقطع الطريق على تنظيمه والتحامه بفعل جماهيري منظم له أهداف سياسية وطنية.
فقد تصاعدت عمليات إطلاق النار وإلقاء عبوات وزجاجات حارقة تُعدّ بالمئات، فضلاً عن مئات العمليات التي أعلنت سلطات الاحتلال إحباطها، وكذلك اندلاع المواجهات بالسلاح وبالحجارة في أثناء الاقتحامات بغرض الاعتقال وهدم المنازل في مواقع التماس، والتي تحدث بشكل يومي. كما عادت الحشود الجماهيرية المهيبة إلى المشاركة في تشييع الشهداء، وزادت المعركة الإعلامية شراسة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويرى تقرير للأمم المتحدة أن سنة 2022 هي الأكثر دموية، وتتحدث مصادر إسرائيلية عن أن عدد القتلى الإسرائيليين خلال هذا السنة بلغ 29 قتيلاً، وهذه من أعلى النسب منذ سنة 2005، في مقابل 200 شهيد فلسطيني، و2000 معتقل بين إداري ومحكوم بالسجن، وضعفهم اعتقال وإفراج بعد أيام أو أسابيع.
هذه المعطيات، وغيرها، يدلان على احتدام الصراع بين شعب محتل واحتلال بوتيرة متصاعدة، الأمر الذي يتناقض مع سياسة "خفض الصراع" و"السلام الاقتصادي" الإسرائيلية، ومع مساعي تحويل اهتمام الفئات العمرية الشابة من اهتمام وطني إلى اهتمام رفع المستوى المعيشي والخروج من الضائقة الاقتصادية، بالتزامن مع بقاء الأوضاع تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
الظاهرة المسلحة
في غياب عملية سياسية تنهي الاحتلال والسيطرة والإذلال والقمع والتمييز العنصري، وفي غياب الاستجابة لحاجة الأجيال الجديدة إلى العمل والتعليم والاستقرار والكرامة، وأمام عجز السلطة الفلسطينية في المجالات السياسية والإدارية والاقتصادية، وتعايشها مع الأمر الواقع، نشأ فراغ ملأه جيل أعماره من 29 عاماً فما دون، ويشكل 67% من عدد السكان الفلسطينيين، ويتكون من مواليد سنة 2000 فما فوق، ومواليد تسعينيات القرن الماضي وثمانينياته.
بدأت أفواج من هذا الجيل بالتمرد على الاحتلال من جهة، وعلى عجز السلطة وفشلها وتعايشها مع ذلك الواقع من جهة أُخرى، علاوة على الاحتجاج على بنيتها الموغلة في البيروقراطية والفساد والأبوية. فهذا الجيل لم يعد يثق بالسلطة ومركزها السياسي، بل إنه ملّ انتظار المجهول والوعود والخطاب السياسي المكرور. ولهذا، شرع الشبان في احتلال الحيّز العام الذي تسيطر عليه السلطة في مخيمات جنين وبَلاطة ونور شمس والبلدة القديمة في نابلس والأحياء الشعبية في المدن وبعض البلدات، كما نجح الشبان المقاومون في إحداث فرق عبر انتزاع زمام المبادرة خلال الأشهر الماضية. وكان رأس الحربة موجهاً ضد المحتلين والمستوطنين. غير أن المقاومين حرصوا في الوقت ذاته على تحييد أجهزة الأمن الفلسطينية، محدثين بذلك نوعاً من اختراق قواعد الصراع واللعبة السياسية التي فرضتها سلطات الاحتلال منذ أعوام.
إن ظاهرة التيار المسلح الذي أَعلنت هويتَه في صيغة شبه منظمة مجموعةُ "عرين الأسود" و"كتيبة جنين"، وغيرهما، هي امتداد لظاهرة المقاومة الفردية التي لا ينتمي أفرادها إلى التنظيمات القائمة؛ فشكل المقاومة الذي كان متّبعاً سابقاً يتمثل في عمليات الدهس والطعن، وأحياناً إطلاق نار، والتي عبّرت عن تحدي جبروت الأمن الإسرائيلي وقاعدة معلوماته وبطشه بالمقاومة المسلحة المنظمة وحواضنها التنظيمية.
لقد كسر هؤلاء الشبان قواعد الصراع التي تتحكم قوة الاحتلال في عناصرها كلها، وتحدّوا النظرة العنصرية النمطية الدونية الإسرائيلية إلى المجتمع الفلسطيني، وإلى الفئات الشابة التي تستهين إسرائيل بقدرات أفرادها وبأهليتهم. إزاء ذلك قرر الشبان أن يتعاملوا كندّ للمعتدي المحتل في مواجهة تراجيدية غالباً ما تفضي إلى موت مزدوج، متحدّين بذلك عجز، وأحياناً خنوع، الآباء ومؤسساتهم السلطوية والحزبية. ودشّن الشبان مساراً جديداً أعاد موضوعياً، ومن دون تنظير، إنتاج قواعد الصراع بين شعب يناضل من أجل تحرره، واحتلال استعماري عنصري يقوض عملية التحرر.
ومع ازدياد عدد المقاومين المستعدين لأخذ زمام أمورهم بيدهم، قام الشبان المقاومون بمحاولة غير مدروسة للانتقال إلى صيغة تنظيمية هي أقرب إلى تيار جبهوي مقاوم يفتح أبوابه أمام حَمَلة البنادق من الشبان بمعزل عن انتماءاتهم أو أصولهم التنظيمية. وكانت كتيبة جنين أول مَن بادر إلى هذه الصيغة التنظيمية، بل سرعان ما استجاب شبان نابلس بإعلان ولادة "عرين الأسود" التي احتلت المشهد الوطني في الأشهر الثلاثة الماضية. وحظيت ظاهرة المجموعات المسلحة الآخذة في الانتشار بتعاطف وتأييد شعبي متعاظم، حتى إن الرأي العام الفلسطيني، داخل فلسطين وخارجها، رأى فيها ردّاً على العجز والمهانة، والفعل المعبّر عن الكرامة الوطنية المهدورة، فضلاً عن كونها رداً على غطرسة القوة الإسرائيلية واستباحتها كل شيء.
وتعزَّز احتمال محاكاة هذه الظاهرة في مدن ومخيمات وبلدات أُخرى في الضفة الغربية، وما يعنيه ذلك من احتمال مشاركة قطاعات واسعة من المواطنين في احتضان الظاهرة، والمساهمة في احتجاجات داعمة لها ومناهضة للاحتلال والاستيطان، أي الانتقال إلى انتفاضة شعبية ثالثة. وكان انتشار هذه الظاهرة وامتلاكها حاضنة شعبية والتحول إلى انتفاضة، أكثر حدث تخشاه سلطات الاحتلال وتعمل على تفاديه. فهذا الطور النضالي من شأنه أن يدفع السلطة الفلسطينية إلى الهامش، ويُفقدها دورها الذي أعادت إسرائيل والولايات المتحدة صوغه بعد هزيمة انتفاضة 2000، ويُضطر دولة الاحتلال إلى العودة إلى حكم ملايين الفلسطينيين مباشرة، الأمر الذي من شأنه إعادة إدراج قضية الاحتلال في الأجندات العربية والإقليمية والدولية، بعكس عملية تهميشه عبر الاتفاقيات الأبراهيمية "والسلام الكاذب" الذي يكافىء نظام أبارتهايد استعماري إقصائي، مثلما يعرّفه القانون الدولي.
لقد أثمرت مقاومة الشبان وشجاعة رموزهم، ونجحوا في أن يكونوا أنداداً، بل برزت قدرتهم على تشويش حركة المستوطنين في شمال الضفة الغربية، وتحويلهم كل استباحة يرتكبها جيش الاحتلال إلى اشتباك مسلح، وهذا كله مترافق مع همروجة إعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الفضائيات. وبذلك تحولت المقاومة إلى مصدر إلهام للشبان والشابات في مختلف المناطق المحتلة كي يحذوا حذوهم، غير أن الحماسة والعفوية وضعف، أو محدودية وأحياناً انعدام الكفاءة العسكرية، في ظل الحصار ووجود المدن والمخيمات والضفة الغربية كلها داخل قبضة أمنية إسرائيلية شرسة، فرضت على المقاومين شروطاً صعبة، ووضعت بؤرهم الجديدة في دائرة التصفية.
أمّا السلاح فيتوفر عبر مجموعات تهريب بمعرفة سلطات الاحتلال، وبتغطية شراء السلاح مالياً من قوى سياسية، فضلاً عن تأمين المال عن طريق التنظيمات وتبرعات المواطنين بما يلبي حاجة الشبان. ويُذكر في هذا السياق أن سلطات الاحتلال سمحت بشكل غير مباشر بانتشار السلاح من أجل نشر الجريمة المنظمة في مناطق 48، ودعم الصراعات القبلية في الضفة الغربية، وتشجيع صراعات مراكز القوى السياسية على السلطة، ولتعزيز مجال فرض الخوّات و"الطخطخة" [إطلاق النار] في الأعراس. لقد غضّت سلطات الاحتلال الطرف عن اقتناء السلاح ونشره ما دام لا يُستخدم ضدها، وعندما بدأ يُستخدم ضدها لجأت السلطات الإسرائيلية إلى منعه، وجعل حصول التنظيمات والمجموعات والمقاومين الأفراد عليه أمراً صعباً.
الانفصال عن التجارب السابقة
عبّر الانفصال عن التجارب السابقة وعناصر قوتها وإنجازاتها وضعفها وأخطائها، عن خلل كبير في تجربة الشبان المقاومين. فالنكبة مستمرة كقوة كامنة وساكنة في عمق الوعي، بل إنها تحولت إلى رمز وطني جامع للفلسطينيين كلهم مثلما قال الخبير الإسرائيلي ميلشتاين: "كلما ابتعد الفلسطينيون عن الحدث التاريخي نفسه (عام 1948) فإن قوة الذاكرة تزداد على الأغلب لدى الأجيال التي لم تعش التجربة عملياً، فذكريات النكبة تنتقل من جيل إلى جيل."[1]
لكن التجارب الوطنية لم تنتقل من جيل إلى جيل، والسبب هو قصور النخبة السياسية الشائع في مجال دراسة التجارب ونقدها واستخلاص الدروس، وتحديداً دراسة الانتفاضة الأولى والتحولات التي أحدثتها، ودراسة الانتفاضة الثانية ونتائجها المأسوية، ودراسة تجربة الثورة وصعودها وهبوطها، وكذلك تجربة منظمة التحرير، والسلطة الرسمية وسلطة "حماس" في قطاع غزة.
لقد أوقع الانقطاع عن التراث النضالي المهم والتجارب السياسية، المجموعات المتحمسة في شرك مؤسسة الاحتلال الأمنية التي لجأت إلى تكتيك تصفية الظاهرة المسلحة العلنية، مثلما فعلت من قبل. فالشبان لم يدركوا خطورة المؤسسة الأمنية التي تمتلك باعاً طويلاً في قمع المقاومة المسلحة، ولم يتوقفوا عند تجربة الانتفاضة المسلحة في سنة 2000، والتي تعرضت لبطش وتصفية آلة الحرب الإسرائيلية عبر إعادة احتلال مدن ومخيمات الضفة في سنة 2002، وقيامها بقتل أو اعتقال المقاومين وتدمير حاضنتهم ومراكزهم وعزلهم عن قاعدتهم الاجتماعية. وكانت العملية الإسرائيلية المسماة "السور الواقي" قد بلغت ذروتها بمحاصرة الرئيس ياسر عرفات الداعم للمقاومة آنذاك، ثم باغتياله، وتفكيك البنية التحتية للسلطة وإعادة بنائها بشروط إسرائيلية أميركية أسوأ كثيراً من الشروط التي تضمّنها اتفاق أوسلو.
كذلك لم تحاول الفصائل المسلحة التي تعرضت للبطش الإسرائيلي في أثناء الاجتياح، استخلاص الدروس التي من شأنها تقليل الخسائر راهناً، والحفاظ على الاستمرارية وتوفير الحماية للجيل الجديد، بل إن كادرها السياسي ولفيفاً من الإعلاميين والمثقفين آثرا ركوب موجة المقاومة بتشجيع الشبان، من دون تحذيرهم من المخاطر، ولا البحث في سبل الاستمرارية وتقليص الخسائر.
وقفز كثيرون من المشجعين عن التجارب السابقة التي عايشوها وعن الواقع الراهن، غير عابئين بالمآل الذي ستصل إليه الموجة الجديدة من المقاومين. كما أن البعض دعا إلى تكرار تجربة قطاع غزة باعتماد المقاومة المسلحة كشكل رئيسي وربما وحيد للنضال، متناسين الفرق بين المنطقتين الجغرافيتين، وتحديداً امتلاك مقاومة غزة شبكة أنفاق تحت الأرض تشكل مصدراً للحماية، وشبكة أنفاق عبر الحدود تُستخدم للتزود بالسلاح. إن موقف عدم تحمّل المسؤولية تجاه المقاومين الجدد ينسحب على التنظيمات السياسية التي يعتبر بعضها المقاومة أسلوباً وحيداً، وفي أحسن الأحوال أسلوباً رئيسياً، من دون أن تتحدث عن الحد الأدنى من المقومات الضرورية لترجمة ذلك عملياً. فهذه التنظيمات لا تتحدث عن إغلاق جميع الحدود المحيطة بفلسطين أمام أي عمل مسلح ضد دولة الاحتلال، ولا تتحدث عن سبب توقف العمل المسلح عبر قطاع غزة وتحوله إلى 4 مواجهات غير متكافئة خلال 15 عاماً من سيطرة سلطة المقاومة على القطاع، بعد أن أفضت الحروب العدوانية الإسرائيلية إلى تدمير البنية التحتية للقطاع، فارضة هدنة بشروط المعتدين.
إن توقف العمل المسلح يعني تجميد الفعل المقاوم كأسلوب للخلاص من الاحتلال وأطماعه الاستعمارية، وتوقف أسلوب النضال الرئيسي أو الوحيد عملياً، الأمر الذي يستدعي إعادة تعريف شكل النضال الرئيسي، وتفعيله أو إدخال التعديل عليه، بما في ذلك الأخذ بشكل نضالي يملك مقومات حقيقية، وتطوير أدوار المقاومة المسلحة ضد أي عدوان وجرائم حرب يرتكبها المستعمرون.
أهمية الرؤية السياسية
إن تغيير قواعد الصراع التي فرضتها دولة الاحتلال مسألة في غاية الأهمية، ولا سيما الانتقال من مسار أوسلو وقيوده، إلى مسار التحرر من الاحتلال. وهذه النقلة المفصلية المطلوبة لا تحدث بخطاب حماسي، ولا بتوفير السلاح والمال للشبان المتحمسين، ولا بإطلاق النار ومزيد من إطلاق النار، فهذا كله على أهميته لا يكفي، وربما يؤدي إلى إحباط وتراجع إذا لم يقترن برؤية سياسية وأهداف وطنية ومعيشية وديمقراطية، وآليات عمل قادرة على تحقيق الإنجاز ومراكمته. إن رؤية واقعية قابلة للتحقيق في المدى القريب والمتوسط، يجب أن تعمل على ربط النضال في الضفة والقدس والقطاع ومناطق 48 والشتات بعضها ببعض، كي يصبّ ذلك جميعاً في أهداف مشتركة، مثل: إنهاء الاحتلال؛ التراجع عن التمييز العنصري؛ إعادة الاعتبار إلى قضية اللاجئين كحقّ مشروع لا يسقط بالتقادم؛ إعادة بناء السلطة والمنظمة على أسس ديمقراطية. فبهذا يتوحد الشعب في معركة طويلة استناداً إلى إمكاناته الواقعية والمحتملة، وإلى حقّه المشروع في الخلاص من الاحتلال، وفي تأمين الحاضنة الشعبية التي تتشارك المهمات والأعباء الوطنية، وتوفّر الحماية السياسية والمعنوية لقوة التغيير الشبابية التي بادرت إلى التمرد على الواقع البائس.
هذه الرؤية السياسية المطلوبة تصطدم أولاً بالتنسيق الأمني وباعتراف السلطة بدولة تواصل الزحف الاستيطاني وتعلن مؤخراً عزمها على تشريع البؤر الاستيطانية كافة. إذ كيف يمكن للمواطن أن يستوعب استمرار اتفاقات السلطة مع ممارسة التطهير العرقي في القدس والأغوار ومسافر يطا؟ بل ما معنى استمرار اتفاق سياسي وأمني - أوسلو - مع إعلان دولة الاحتلال، بمؤسساتها الأمنية والسياسية والقانونية، استحالة إنهاء الاحتلال والاستيطان بتواطؤ إقليمي ودولي؟
إن استمرار الالتزام الفلسطيني الرسمي بالاتفاقات من طرف واحد، من دون مقابل سياسي، ومن دون إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وترجمة حقّ تقرير المصير، أمور تعني القبول بالحل الاقتصادي الكاذب، وبفكرة نزاع مفتوح من دون نهاية غير النهاية التي يستعد الكهانيون والفاشيون الجدد لتحقيقها وهي الطرد.
لا شك في أن دولة الاحتلال لا تقبل بهذه الشروط، بينما السلطة ترفض الاستباحة السياسية الأمنية، وتسحب الغطاء الفلسطيني عن تعميق الاحتلال والاستيطان والتهميش السياسي والتنكر لأبسط الحقوق.
إن بقاء التزام السلطة بالاتفاقات من طرف واحد أدى إلى نزع ثقة أكثرية الشعب بها، ودفع الجيل الجديد إلى التمرد عليها وعلى الاحتلال، والبحث عن مسار آخر بثمن باهظ التكلفة.
ثمة ألف سبب وسبب يدفع إلى إضراب السلطة وتوقفها عن الالتزام بالاتفاقات، لكنها لم تتوقف، وإنما استعاضت عن ذلك بالوساطة بين المقاومين وسلطات الاحتلال. ولم تتمرد السلطة إلّا عندما حصلت على قرار من الجمعية العامة يعتبر احتلال الأراضي الفلسطينية غير شرعي، إلّا إن هذا الموقف، والمواقف المطروحة على محكمة الجنايات الدولية على أهميتها، لا يؤثران في الاستباحة الإسرائيلية، بل إن الخاسر في حالة استمرار توفير الغطاء الفلسطيني للاحتلال هو حركة "فتح" التي لن تفوز في أي انتخابات عامة، وستبقى سلطتها معزولة وهشّة. أمّا الخاسر الأكبر فهو منظمة التحرير التي تُستخدم كغطاء لبقاء الاتفاقات من طرف واحد، كما أن الخسارة والثمن اللذين ستدفعهما السلطة والشعب في حالة الانسحاب من الاتفاقات، لا يقارنان بالثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني عامة جرّاء استمرار الالتزام بها. وإذا كان للمقاومين الشجعان من مأثرة، فهي إعادة إدراج الاتفاقات في الأجندة الشعبية والرسمية الفلسطينية بغية اتخاذ قرار ووضعه في حيز التطبيق.
كذلك يجوز القول إن موقف التنظيمات يتعارض مع الحاجة إلى تغيير المعادلة السياسية، ففي الوقت الذي ربطت الفصائل المسلحة في قطاع غزة بين سلاح المقاومة والدفاع عن القدس والتصدي للهجمات الإسرائيلية على جنين، بمعنى أنها ربطت النضال في الضفة بالنضال في القطاع في معركة "سيف القدس"، ونفذته على مدى أيام معركة الـ 11 يوماً، فإن الربط توقف ولا يزال متوقفاً، بل جرى فصل الاعتداء على حركة الجهاد الإسلامي عن حركة "حماس" وقطاع غزة. وفي الوقت الذي تشجع حركة "حماس" عمليات المقاومة في جنين ونابلس والقدس والخليل، فإنها تسعى لتثبيت هدنة مع دولة الاحتلال في قطاع غزة. وطبعاً، ليس المطلوب إعلان حرب لا تخدم الشعب الفلسطيني، وإنما معالجة الفصل بين نضال المناطق والمكونات وردم الخلل الناجم عنه، والتعامل مع ظاهرة المقاومين المتمردين أفراداً ومجموعات بمسؤولية وطنية، على قاعدة أن النضال واحد ومترابط في المواقع كلها، وأنه لا يجوز توظيف تضحيات الشبان لمصالح فئوية أو استخدامات إقليمية لا تخدم عملية التحرر من الاحتلال. إن حماية الشبان، والحفاظ على استمرارية النضال، يحتاجان إلى قاعدة وطنية وشعبية تشارك في التصدي للاحتلال، وتحرر الشبان من الأخطاء القاتلة.
تصاعد غطرسة القوة
تعاملت سلطات الاحتلال مع الظاهرة المسلحة الجديدة المعروفة باسم "كتيبة جنين"، و"عرين الأسود"، وغيرهما من مجموعات المقاومة، كأخطر تهديد أمني، وخصوصاً إذا ما انتشر هذا النموذج في مدن ومخيمات الضفة الغربية، الأمر الذي سيضطر إسرائيل إلى العودة إلى ما قبل أوسلو، بإعادة الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية المباشرة على مدن وقرى ومخيمات الضفة، كبديل من سيطرة إسرائيلية غير مباشرة عبر السلطة، أو السيطرة على قطاع غزة باتفاق غير مباشر مع سلطة "حماس". وهذا التحول في علاقات السيطرة ينطوي على انهيار السلطة، أو إسقاطها، إذا ما بادرت إلى تغيير أدوارها. وليس هذا فحسب، بل إن استمرار موجات المقاومة، موجة تلو الأُخرى، ومن دون انطفاء أيضاً، "يجسد حقيقة أن إسرائيل تسقط بالتدريج في فخ استراتيجي، وخطر التدهور المتواصل إلى واقع الدولة الواحدة"، مثلما يقول الخبير الإسرائيلي ميخائيل ميلشتاين.[2]
في جميع الأحوال، ثمة صعوبة في الحفاظ على استقرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية منذ سنة 2015 التي شهدت ظاهرة عمليات الدهس والطعن الفردية، أو ما أُطلق عليه اسم انتفاضة الأفراد. ففي ذلك الوقت استنتج قادة المؤسسة الأمنية في أثناء تطبيق الخطة المسماة "أهمية الساعة"، أن استخدام القوة له حدود، وأن " 'القتلى الفلسطينيين' [....] هم الوقود الأكثر أهمية لمواصلة الاشتعال."[3] وعلى الرغم من ذلك، فإن وتائر القتل والتنكيل والعقوبات الجماعية الإسرائيلية زادت في المحاولات لاستعادة الردع، وفَقَدَ جيش الاحتلال توازنه المزعوم عندما اتخذ قراراً بإطلاق النار على قاذفي الحجارة، وبدأ يتفاخر بعدد القتلى الفلسطينيين ومن ضمنهم 9 شبان استهدفتهم نيران الجيش بعد قذفهم الحجارة نحو الجنود.[4]
أمّا المشهد اللافت فبرز في أثناء الهجوم الإسرائيلي على البلدة القديمة في نابلس، حين ضمت غرفة العمليات أعلى مستوى أمني إسرائيلي بحضور رئيس هيئة الأركان أفيف كوخافي ورئيس جهاز الشاباك رونين بابر. فقد تضمّنت خطة هجوم الجيش الإسرائيلي على حي القصبة في نابلس، استخدام وسائل السايبر وأحدث نظام تجسس "بيغاسوس"، ووحدة اليمام الخاصة التابعة للشرطة، ووحدات خاصة من القناصة "متكال"، الذين زُجوا في قلب حي القصبة، وأتموا جميعاً مهمة الإصابة الشديدة لشبكة "عرين الأسود" والخروج من دون إصابة. وسبق هذا تسلل استخباراتي إلى شبكة العرين، الأمر الذي جعلهم يحصلون على المعلومات الدقيقة،[5] فضلاً عن استخدام الصواريخ والطائرات من دون طيار، فكانت المواجهة بين أرفع مستوى عسكري وأحدث تقنيات، وبين مجموعة حديثة العهد من شبان بسيطين غير مدربين أو محترفين ولا يمتلكون خبرة قتالية، ويمتلكون فقط إرادة تحدي الاحتلال ورفض الذل والانتصار لرفاقهم الشهداء.
ومن أجل تقديم انتصار حاسم، ضخمت إسرائيل قوة "عرين الأسود"، كما ضخمت عملياً الفعل الإسرائيلي المضاد، بما في ذلك تقديم تقارير كاذبة عن الهجوم. فقد كشفت صحيفة "هآرتس" أن الشهيدين علي عنتر، وحمدي شرف، لم يكونا مسلحين ولا ينتميان إلى أي جهة، وأن الشقة التي استُهدف فيها الشهيد وديع الحَوَحْ معروفة للعيان وليست مخفية مثلما جاء في بيان قوات الاحتلال، وأن أي قوات إسرائيلية لم تدخل إليها، وأنه لا يوجد دليل على أنها كانت عبارة عن مختبر للمتفجرات.[6]
إن ما حدث في حي القصبة في نابلس من مبالغة مفرطة في استخدام القوة، ومن استهداف مواطنين عاديين، هو امتداد لاستهداف مواطنين غير مقاومين على الحواجز العسكرية الإسرائيلية في كثير من الحالات، وامتداد لعمليات قتل الأطفال واعتقالهم وقتل قاذفي الحجارة. فهذه الحرب تعبّر عن إفلاس وحماقة غطرسة القوة؛ هذه الغطرسة المنسجمة مع سياسة اليمين الكاهاني القومي الديني العنصري، ومع عصابات فتيان التلال وقطعان المستوطنين.
يتنازع إسرائيل الآن معسكران سياسيان (غانتس – لبيد؛ نتنياهو – كاهانا) يتفقان على مبدأ التنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة والمعرّفة في القانون والقرارات الدولية اللذين يقولان بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره من دون تدخّل. فالمعسكران يتفقان على تقويض مقومات الدولة الفلسطينية الموعودة، بما في ذلك سحق أي مقاومة وانتفاضة وهبّة، وبناء نقيضها الاستيطاني على الأرض.
ويفترق معسكر غانتس - لبيد عن معسكر نتنياهو - كاهانا عند اعتبار أن ضم ملايين الفلسطينيين يهدد يهودية الدولة. فالمعسكر المدعوم من أوساط أمنية رفيعة يرى أهمية لبقاء إطار فلسطيني يمكن تسميته دولة أو حكماً ذاتياً، لكن بلا سيادة، ويكون مسؤولاً عن إدارة شؤون ملايين الفلسطينيين.
أمّا معسكر نتنياهو - كاهانا فيرفض وجود أي كيان، لكنه يستبعد في الوقت ذاته دمج الفلسطينيين في الدولة. ويطرح الكاهانيون وتيار في الليكود إمكان طردهم أو إذابتهم في المحيط أو عزلهم في بانتوستانات فصل عنصري تحت السيادة الإسرائيلية، ومنفصل بعضها عن بعض.
وإذا كانت السلطة هي عنوان إدارة شؤون الفلسطينيين، فإن المعسكرَين دمرا أهليتها، وتسببا بصورة خاصة بنزع ثقة المواطنين الفلسطينيين بها، وبتحويلها إلى جهاز قامع لشعبها وخاضع لإملاءات الاحتلال. إن تلبية السلطة للمطالب الإسرائيلية يساوي انفصالها عن شعبها، وفقدانها الشرعية الفلسطينية، والعكس صحيح، ذلك بأن رفض المطالب يعني هزيمة المسعى الإسرائيلي.
لقد لامست هبّة الشبان المسلحين نقطة التحول التي يمكن أن تُحدث فرقاً إذا جرى الإلمام بأهميتها، وهذه النقطة تتعلق بالسلطة وأدوارها. والسؤال هو: كيف يمكن دفع السلطة إلى التوقف عن حمل أعباء الاحتلال الذي يتعمق ولا يزول؟
إن هبّة الشبان المسلحة أدرجت هذه المهمة على بساط البحث، وكشفت عن إمكان إحراز التقدم في بناء مسار آخر غير المسار الذي تتحكم فيه دولة الاحتلال. فالمطلوب ليس انقلاب وقلب الطاولة بمغامرة يدفع الشعب ثمنها، وإنما الانتقال من العفوية في النضال، إلى المشاركة المنظمة التي تقطع الطريق على تصفية هبّة الشبان المسلحين؛ مشاركة تطرح أهدافاً سياسية ووطنية يقع في مقدّمها تغيير أدوار السلطة، ولا سيما وقف التنسيق الأمني، وسحب اعترافها بدولة تعمّق الاحتلال؛ مشاركة تربط النضال الفلسطيني في الضفة والقدس بالنضال في القطاع ومناطق 48 والخارج من خلال برنامج وطني قابل للتحقيق ويحظى بدعم حلفاء الشعب الفلسطيني الحقيقيين، ومن خلال عملية إعادة بناء المؤسسة الفلسطينية – منظمة وسلطة – استناداً إلى برنامج وطني، مع ملاحظة أن إعادة بناء المؤسسة لا يعني استبدال سلطة بأُخرى، واستبدال بُنية غير ديمقراطية فاسدة ببنية غير ديمقراطية وفاسدة، بل إعادة بناء من تحت وعبر الأجسام النضالية التي تتشكل في معمعان النضال.
المصادر:
[1] سري سمور، "ميخائيل ميلشتاين ودراسته عن الشباب"، مدونات "الجزيرة"، 27 / 6 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[2] ميخائيل ميلشتاين، "إسرائيل تسقط تدريجياً في فخ استراتيجي"، "الأيام" (ترجمة عن "معاريف")، 22 / 10 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[3] يغيل ليفي، "الجيش فقد أعصابه وبدأ يتفاخر بعدد القتلى"، "وكالة سما الإخبارية" (ترجمة عن "هآرتس")، 19 / 10 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[4] المصدر نفسه.
[5] يوسي يهوشع، "إسرائيل تصفي الحساب مع 'عرين الأسود' "، "الأيام" (ترجمة عن "يديعوت أحرونوت")، 27 / 10 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[6] "هآرتس تكشف تفاصيل جديدة حول العملية ضد قيادة 'عرين الأسود'، وتفند ادعاءات الاحتلال"، "وكالة سما الإخبارية" (نقلاً عن جريدة "القدس")، 17 / 11 / 2022، في الرابط الإلكتروني.