مفارقة مأسوية تحايث الكفاح الوطني الفلسطيني منذ مئة عام: يتمرد الفلسطينيون على واقع يسلبهم حقهم التاريخي، وعلى "قيادة" توجد ولا توجد؛ يشعلون ثورة تبدو واعدة، لكنها لا تلبث أن تنطفئ وتخطئ أهدافها، فيصمتون قليلاً أو كثيراً، ثم يطلقون ثورة جديدة.
سئم الفلسطينيون في عشرينيات القرن الماضي من قيادة بائسة الفعل كثيرة الكلام، وبحثوا عن بديل. خرج عز الدين القسّام بجماعة قليلة العُدّة والعدد، قاتل واستشهد وحفظت الذاكرة: اندفع القسّاميون إلى ثورة 1936 - 1939 بقيادة وبلا قيادة، فأفضى قتال ثلاثة أعوام إلى هزيمة فتحت الطريق أمام هزيمة 1948، وانتهوا إلى المنفى.
جاء تنظيم "فتح"، بعد عقد من المنفى وأكثر، وأعلن بتفاؤل كبير أنه سيحقق ما لم تستطع تحقيقه "أنظمة عربية" تُحسن البلاغة والتآمر، وأنه ضامن العودة إلى الوطن السليب. عثر على الضمان في "الكفاح المسلح" وفي فدائيين يروّضون المستحيل.
خدع هذا التنظيم نفسه وخادعه الزمن، وطوى الخروج من بيروت في سنة 1982 صفحة "العمل الفدائي"، وقذف "بمنظمة التحرير" إلى "مكاتب تونس". تساقط مشروع "فتح" ومَن معها، في الطريق، وبدا الطرفان كَمّاً سياسياً نافلاً، يبحث عن ملاذ محدود الإضاءة.
احتجّ تنظيم "فتح" على العجز العربي واقترح مشروعاً منتصراً، واحتجّ فلسطينيو المناطق المحتلة على عجز الطرفين وأشعلوا "انتفاضتهم الشعبية" الكبيرة في سنة 1987، والتي أرهقت الجيش الإسرائيلي، وأعادت إلى "المنظمة" كرامة مفقودة جعلت رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين يعترف بـ "المنظمة" ويفكر، مبدئياً، في حلّ "الدولتين".
أنقذت الانتفاضة ما كان سائراً إلى التهميش، وابتهج بها "القادة في تونس"، وبينهم الراحل ياسر عرفات، وأوغلوا في الابتهاج وبادلوا الانتفاضة سريعاً بوعود إسرائيلية وأميركية انتهت في سنة 1993 إلى "اتفاق أوسلو" الذي أقنع القادة، أو أقنعوا أنفسهم، بـ "دولة فلسطينية مقبلة" صفق لها جمهور الانتفاضة، فترك الحجارة وأراح الجيش الإسرائيلي من عناء شديد. وقع المآل الفلسطيني في "ديالكتيك أسيف": اعترف الإسرائيليون بالراحل عرفات بفضل الانتفاضة، واعترف عرفات بالفائدة "الموقتة" للانتفاضة و"أغرقها" بالوعود والمصالح والنقود. وحين انتهت "الانتفاضة المباركة" تراجعت الوعود الإسرائيلية - الأميركية، ورجع الفلسطينيون إلى ما كانوا عليه، وقد أضيفت إليه خسائر جديدة: كانوا سابقاً تحت الاحتلال ويقاومونه، وبقوا بعد "أوسلو" تحت الاحتلال ولم يعد لهم الحقّ في مقاومته. وما بدا نصراً مؤزّراً احتفى به القادة والشعب، تكشّف عن خديعة وقيادة مخدوعة فاشلة، ومهّد لاستعادة القاعدة القديمة المستجدة: الذي يقاتل لا يقود، والذي يقود لا يقاتل، بعد أن سخر التاريخ من مفردة "قيادة" حتى بانت نواجذه، مثلما تقول العرب.
"الإجهاز على الانتفاضة" الذي لم يستطعه الإسرائيليون، أنجزته بالنيابة عنهم "قيادة فلسطينية" لا تفرّق بين "التشاطر" والسياسة، ولا بين القامة والظل، ولا تعترف بالشعب الفلسطيني وتضحياته، وتعتمد على "التعاطف الخارجي" ومشيئة إسرائيل، وتصدّق أكاذيب الولايات المتحدة ظهير إسرائيل الذي لا يخلف وعوده. ولعل هذا "التشاطر" الذي يقترب من "البذاءة"، هو الذي جعل تلك "القيادة" تمر سريعاً على بنود اتفاق أوسلو ولا تقرأه، أو تقرأه ولا تسعى لفهمه، وهو الذي أملى عليها أن تكذب على شعبها، وتحاول إقناعه بأنه لا فرق بين كلمة "العسل" ومذاقه.
وكان عسل القيادة "الشاطرة" جملة إشارات تتبخر إن وقعت عليها الشمس: علم ونشيد وسجادة حمراء، ووزارة ومساعدات خارجية تلتهمها الوزارة، وتنسيق أمني إسرائيلي - فلسطيني هو الوحيد الذي يساوي ظله قامته، فهو يؤدي خدمات أمنية لإسرائيل، ويقمع الفلسطينيين بأدوات تنتمي إليهم، ويضع القيادة بين أنياب "الإسرائيليين" من دون أن تحتج، ويبتذل معنى القضية الفلسطينية، ويشجع غير الفلسطينيين على الاعتراف بإسرائيل، ما دام هناك "اتفاقية سلام" بين أولي الأمر و"حُماتهم".
إن كانت انتفاضة 1987 رفعت صوت الفلسطينيين عالياً، وكشفت عن شجاعتهم وكرامتهم وحقّهم في أرضهم، فإن "قيادة أوسلو" أنزلت بالفلسطينيين هزيمة متعددة الوجوه: الفلسطيني المحتل يعيش فوق أرض "غير فلسطينية"، فهي ملكية إسرائيلية يدخل الإسرائيليون إليها بلا استئذان، ويصادرون منها ما لم يصادروه قبل "الاتفاق"؛ "السلام" كلمة فاجرة، فـ " 'جيش الدفاع' يجتاح المناطق" كلما يرغب في ذلك، وقتل الفلسطيني أمر يومي متواتر تسوّغه كلمة "الإرهاب" التي تسوّغ ممارسات تسلطية عربية كثيرة؛ "المستوطنون" يضعون يدهم على ما شاؤوا من الأرض، ويشوّهون أرض فلسطين بـ "مستعمرات" مرتفعة تنخفض ما استطاعت الانخفاض، وتنزرع بين بيوت القرى والمدن؛ الفلسطيني يحتاج إلى "رخصة دخول وخروج"، فالمقدسي الذي يخرج من القدس مهدد بعدم الرجوع إليها؛ الأقصى الشريف مستباح؛ قتل الأطفال عملة رائجة؛ الاعتقال وتجديد الاعتقال شائع كالهواء؛ الحواجز جزء من حياة الفلسطيني؛ قنص المارة بـ "الشبهة"، وكل فلسطيني مشبوه؛ شرطة السلطة الفلسطينية، وهي تعبير هجين، تعاقب الفلسطينيين الذين يدافعون عن كرامتهم.
السلطة الفلسطينية مرتاحة إلى "الهِبات الخارجية"، تخنق بها فلسطينيين محتاجين يشكون من البطالة، وتغدقها على "الأنصار" والأرواح الفاسدة، وعلى قادة "أجهزة الأمن" الذين لهم سياراتهم وامتيازاتهم وبيوتهم الأنيقة، وعندهم "طبّاخون" و"سائقون" وخدم وحشم، مثلما جاء في رواية وليد الشرفا "ليتني كنت أعمى". ومثلما أن كل شيء يُبْضَع ويُستَبْضَع، فإن كثيرين من المثقفين يكتفون بـ "بضائعهم"، ويختارون الصمت المربح والمريح.
أمران يولّدان نقمة عارمة في نفوس هؤلاء الفلسطينيين: غطرسة إسرائيلية دامية مطلقة السراح، وقيادة - هكذا تُدعى - تتسم بالفساد والاستبداد، بل إنها "السلطة الثانية الأكثر فساداً في الشرق الأوسط." لهذا يقاتل "عرين الأسود" وغيره من المجموعات الخارجة عن سلطة الفصيل، في نابلس وجنين والقدس وغزة ومناطق أُخرى، عدوَّين: حكومة إسرائيل وحكومة الضفة الغربية، وإن كان بين الحكومتين فرق ومسافة وبون شاسع وضحكات متفرقة. والمحصلة: ثائرون فلسطينيون يقاتلون بلا قيادة، وينظرون بغضب إلى "منظمة تحرير" عاجزة، كان من المفترض أن تقود كفاحهم الوطني، بدلاً من أن تراقبه وتمقته وتحرّض عليه.
لماذا لا تحرّك "سلطة أوسلو" ساكناً أمام القمع الإسرائيلي الذي لا يُحتمل؟ أسباب ثلاثة لا تستدعي الذكاء ولا تحتاج إليه: تربية قديمة لا تعترف بإرادة البشر ولا تحترم كفاحهم، فالبشر لدى المنظمة مادة للاستعمال، فلولا البشر لما كان هناك سلطات تتحدث باسمهم؛ عادات القيادة المتوالدة، من بيروت إلى تونس إلى رام الله، إذ للقائد - حقيقياً كان أم ظلاً - "فدائي" يفتح له باب السيارة، ويشتري للعائلة ما تحتاج إليه، و"فدائي" يحرس "القائد" من احتمالات الاعتداء؛ السبب الثالث وهو الأكثر جوهرية، متمثل في المساعدات المالية الخارجية التي تقبض بواسطتها السلطة على رقاب العباد "المحروسة" بأجهزة الشرطة التي لا قيادة من دونها، كأن أحلام الفلسطينيين اختُصرت في مخلوق يدعى رئيس، له حرّاس يرفعون العلم، وله بطانة غريبة الأسماء هي مستشارون لهم حظوظهم من المكافآت التائهة، ويتبرّؤون من "الإرهاب والعمليات الإرهابية".
في فلسطين المحتلة اليوم ثائرون بلا قيادة: زهدت أرواحهم بأشكال القيادة البائرة؛ لا يحميهم تنظيم جاهز؛ ينظّمون صفوفهم وهم يقاتلون، إن سقط منهم شهيد جاء مقاتل آخر زهد بدوره بكلمة "فدائي"؛ يرفضون الاحتلال، ويعرفون الفرق بين الوطن والأرض؛ ليس لهم شكل مؤسسة، ولن يكون لهم مؤسسة تؤمن بالتراتب وأقانيم السيطرة والإخضاع. فالقتال من أجل فلسطين فعل ديمقراطي، ذلك بأن كفاحاً من أجل فلسطين لا يؤمن بالديمقراطية يُخفق في البداية والنهاية. والأرجح أن هؤلاء الثائرين يمارسون "حرب الشوارع"، فينصبون كمائن ويهربون، ويُلحقون بالعدو الإسرائيلي خسائر حقيقية يردّ عليها "باجتياحات" ثقيلة الأسلحة، عديدة الجنود و"المخبرين".
الثائرون في فلسطين اليوم، بلا قيادة، يعبّرون عن معاناة شعبهم وقهره، لا يتطلعون إلى لقب ومكسب، وإنما يلبّون الوازع الوطني - الأخلاقي، إذ كل احتلال تتبعه مقاومة، وكل وطن يُحتل له أبناؤه الشرفاء المدافعون عنه، والمقهور في وطنه يدافع عن وطنه مثلما يدافع عن كرامته، فلا كرامة لفلسطيني تنازل عن حقه في وطنه واعترف بسيطرة المحتل عليه. الثائرون في فلسطين اليوم، لا يبشّرون بحركة جديدة ولا ينشرون مبادئ تنظيم جديد، بل إنهم التعبير الأرقى عن روح فلسطينية تحترم الشهداء، وتعالج الحاضر بتضحية من الحاضر، ولا تنظر إلى المستقبل و"لا تَعِد بشيء". كان غسان كنفاني يقول: الإنسان الذي فاته اختيار ميلاده يمكنه اختيار موته.. موتاً بلا ضمان إلّا رفض الاحتلال الإسرائيلي، وتأكيد إنسانية الفلسطيني الذي إن نسي عدوه مات، وإن رضخ لإرهابه مات، وإن ارتضى بسلطة بائرة فاسدة مات.
ثائرون ليس لهم من "عادات القيادة" شيء، فالعادة أسر، أكانت حريصة على حياة "ناعمة"، أم ناظرة إلى علم "أسود اللون" تظنه متعدد الألوان. وواقع الأمر أن "القيادة الفلسطينية" ماتت تاريخياً، وبقيت حاضرة في مخصصات و"شرطة" وتنسيق أمني مع الإسرائيليين. إنها قيادة تخذل الكفاح الوطني ولا تسعفه، تتواطأ عليه - ربما - كأنها امتداد "لجوقة المتعاونين"، أو قريبة من هؤلاء المتعاونين الذين ساعدوا إسرائيل على "صيد" أفراد كثيرين من "عرين الأسود".
عملية الكفاح الوطني الفلسطيني سيرورة طويلة، من وجوهها "عرين الأسود"، في نابلس، والذي أدرك أن على الفلسطيني أن يطارد الجندي الإسرائيلي الذي يطارده، على الرغم من فرق الإمكانات والمساحة، وذلك في شرط فريد في انحداره: فلا العرب لهم صوت، وإسرائيل لها أكثر من ظهير، والشعب الفلسطيني محبط وغاضب ومرهق، و"قادته الرسميون" سادرون في الكلام و"تصريف الأعمال" وابتذال الحق الفلسطيني.
استطاع "عرين الأسود" أن يقلق الإسرائيليين، ويهزّ الروح الفلسطينية من جديد، بل إنه يسخر من "قيادة فلسطينية" جديرة بالسخرية، فهي تعوّق الكفاح الوطني بدلاً من أن تكون دعامة له.