ذاكرتان
النص الكامل: 

آثرنا أن نرسم في هذا العدد مخططاً مختلفاً عن أعدادنا السابقة كلها، فبدلاً من محورته حول ملف واحد، أو الحفاظ على نظامه التقليدي المؤلف من مقالات ودراسات ومداخل وقراءات... استنبطنا شكلاً جديداً يستجيب لضغط الأحداث من جهة، ويتلاءم مع تصورنا لضرورة أن تكون الكلمة فعلاً، من جهة أُخرى.

فصار متن العدد عبارة عن ثلاثة محاور:

المحور الأول: يقدم قراءات لنتائج الانتخابات الإسرائيلية في مختلف أوجهها: بروز يمين إسرائيلي جديد أكثر فاشية وتطرفاً ومعاداة للفلسطينيين؛ مَن هي أبرز رموز اليمين الديني الفاشي، وكيف تنظر إلى مستقبل إسرائيل والأراضي المحتلة؛ أخيراً، كيف نقرأ تشرذم الصوت الفلسطيني في الانتخابات؟

المحور الثاني: عرين فلسطين، والذي نقدّم فيه لوحة شبه متكاملة عن المقاومة الفلسطينية المتجددة التي تحمل لواءها مجموعات فدائية تعيد تأسيس مفهوم المقاومة وارتباطه بالكرامة الإنسانية التي يسعى الاحتلال لهدرها، وتشكل أفقاً لصناعة الحرية والتحرر.

المحور الثالث: السجين والسجان، وفيه نستكشف مقاومة الحركة الأسيرة، عبر الإضرابات عن الطعام، وعبر النتاج الثقافي الذي بات يشكل جزءاً أساسياً من متن البُنية الثقافية، فنقرأ جزءاً من النتاج الثقافي عبر تجربة الأسير وليد دقّة، ونذهب معه في رحلة إلى أعماق السر الفلسطيني.

تترابط هذه المحاور بشكل واضح وتتصادى عناصرها المتعددة، بحيث يمكن لنا أن نفترض أن هذا العدد هو دعوة إلى الاستفاقة على حقيقة أن الانفصال بين الثقافة بمختلف أوجهها وبين التجربة اليومية، أو بين الكتابة والألم، صار أشبه بالتواطؤ.

يتابع هذا العدد مشروع مجلتنا في أن تكون صوتاً للحق، وتأكيداً للعلاقة بين صرامة البحث العلمي، وللآفاق التي تفتحها التجربة الفلسطينية وهي تواجه فصلاً دموياً جديداً من محاولات الإبادة السياسية للشعب، والاستيلاء على الأرض، ومحو الاسم الفلسطيني عن الخريطة.

تواجه الحياة الفلسطينية اليوم محاولة محو ذاكرتَيها: ذاكرة نكبة 1948، وذاكرة الحاضر.

الذاكرة الأولى هي علامة ارتباط الإنسان بأرضه، والذاكرة الثانية هي علامة ارتباطه بالحرية.

محو الذاكرتين هو الذي يعطي مشروعية لاستبدال الذاكرة الفلسطينية بالأسطورة اليهودية، ويحوّل الاستيلاء الإسرائيلي على فلسطين إلى واقع.

لكن يُسجَّل للثقافة الفلسطينية أنها نجحت في ترميم ذاكرة النكبة، وكسرت الصمت الذي فرضه الجلاد على الضحية.

نعلم أهمية استمرار العمل على صون الذاكرة. فالذاكرة تحتل موقعاً مركزياً في الدفاع عن الوجود الفلسطيني، غير أن مهمة الثقافة هي بناء ذاكرة الحاضر أيضاً.

إن محاولات محو ذاكرة الماضي تُستكمل اليوم بمحاولة أشد خطورة هي محو ذاكرة الحاضر.

فإسرائيل والحركة الصهيونية بجميع ما تمتلكانه من عناصر القوة والنفوذ، حاولتا ولا تزالان تحاولان محو ذاكرة نكبة 1948، إلّا إن مصير هذه المحاولات كان إلى الفشل. فهذه الذاكرة تحولت إلى حاضر معيش، ولم يكن على المؤرخين والأدباء سوى التقاطها وربطها بالمعطيات المتوفرة، كي تتكشف عناصر المأساة، من الخطة دالت التي كان لوليد الخالدي الفضل في كشفها، إلى مسلسل الجرائم ومشروع التطهير العرقي، وآلام الفصل القسري بين الإنسان وأرضه.

أمّا ذاكرة الحاضر، أي ذاكرة النكبة المستمرة التي تدور فصولها اليوم، فإن الوهم الفلسطيني الناجم عن سراب السلام، والذي تحول إلى مؤسسات للقمع والزبائنية والفساد، يشترك مع إسرائيل في محاولة محوها وتشويهها وقمعها.

كيف نبني ذاكرة الحاضر في ظل غياب نصاب وطني موحد، ووسط التشظي الذي تعيشه مؤسستا السلطة في رام الله وغزة؟

هل تستطيع الثقافة في مرحلة الفراغ سدّ هذا النقص الفادح؟ وكيف؟

الربط بين الذاكرتين بصفتهما ذاكرة واحدة ومستمرة منذ سبعة عقود، هو السبيل لبناء هوية الحرية الفلسطينية.

وهذا الربط لا يستقيم إلّا عبر تأكيد أن الثقافة هي أفق الفعل المقاوم، وأن المقاومة ترسم الأساس الروحي والأخلاقي لثقافة الحرية.

كيف نربط بين الفعل المقاوم في نابلس وجنين والقدس والخليل وبين مقاومة الأسرى في السجون الإسرائيلية؟ وكيف تكون الثقافة مرآة أطياف الشهداء الذين يعودون كي يستعيدوا جذرية الأسئلة الأولى؟

الجواب عن هذا السؤال هو فعل تراكمي، ففي زمن النكبة المستمرة الذي نعيشه، لم تعد الأشياء تُحسب بمدى نجاح محاولة هنا وفشل محاولة هناك.

لقد أصاب الإسرائيليون وأخطأوا حين أطلقوا على عمليات صيد المقاومين وقتلهم اسم "كاسر الأمواج". أصابوا، حين وصفوا المقاومة بأنها أمواج، وأخطأوا، حين لجأوا إلى استعارة كاسر الموج. فكاسر الأمواج فاعل قرب الشاطئ، لكنه يفقد فاعليته في أعماق البحر.

أمواج المقاومة تأتي من بحر عميق اسمه الحرية. وأمام الأعماق التي تتوالد فيها الأمواج، وتتوالى فيها صرخات الدفاع عن الحقّ، واجتراح معجزة تحويل الموت إلى شكل من أشكال الحياة، يصبح كاسر الأمواج مستحيلاً، لأن الأمواج قادرة على تفتيته.

في السجن أو في حارات نابلس القديمة أو في أزقة مخيم جنين تولد كل يوم موجة جديدة حتى من قبل أن تتلاشى الموجة التي سبقتها، بل نستطيع أن نقول إن المقاومة تستطيع مراكمة الأمواج، لأن بحرها الشعبي لا ينضب. استمعوا إلى أمهات الشهداء وإلى زوجات وأمهات الأسرى، لتكتشفوا السرّ الفلسطيني الذي له أسماء متعددة، لكن سرّ أسراره هو الولادات الدائمة.

هل تستطيع الكلمات أن تولد جديدة بالمعاني، وأن تكون أصداء لهذه الأمواج التي تتفجر من أحشاء الأرض؟