ماهر الشريف يقرأ التحرر في منظار الثقافة النقدية الفلسطينية
التاريخ: 
25/11/2022
المؤلف: 

بعد أن فرغت من قراءة كتاب "مفهوم التحرر في منظار الثقافة النقدية الفلسطينية 1948 – 1994" للدكتور ماهر الشريف، وجدت سؤالاً يلح عليّ، هل يمكن للمؤرخ أن يؤرخ للثقافة النقدية، من دون أن يكون مثقفاً نقدياً أيضاً. في مجرى البحث عن إجابة عن هذا السؤال، عدت إلى بعض ما جاء في الكتاب، ومن ضمن ذلك تعريف المثقف النقدي الذي أورده الشريف في كتابه، ووصفه بأنه "هو ذاك الذي رفض أن يكون آلة في يد السلطان، وأن يحصر وظيفته في حدود ضيقة بما يضمن له التمييز والاحترام، واعتقد أن عليه رسالة يؤديها، فوضع معرفته في خدمة المصلحة العامة، ناشراً الوعي بضرورة التغيير، وهو في هذا لم يضع الثقافة في تعارُض مع السياسة، ولم يعمل على إحاطة الثقافة بسياج يحميها ويصون ′عفتها′، بل سعى لإصلاح السياسة وتهذيب ممارساتها وتغيير دلالاتها، وإيجاد علاقة جديدة بينها وبين الثقافة، تضمن لهذه الأخيرة استقلالية حقلها ومعرفتها" (ص 3)، وهو تعريف بمثابة سؤال، سوف يجد إجابة عنه في ختام هذه المراجعة.

هذا الكتاب الجديد، هو استكمال لمساهمات بحثية سابقة، أتى على ذكر بعضها في مقدمة الكتاب، كدراسته "إميل توما ودور التأريخ في معركة الثقافة الوطنية الفلسطينية"[1]، و"كيف يمكن للثقافة النقدية العربية أن تمتلك سلطة فاعلة؟"[2]، و"النكبة ومعناها في مرآة العقل النقدي"[3]، كذلك كتابه الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان "المثقف النقدي ورهانات الحداثة".

قيمة أساسية للكتاب

يستوفي كتاب الدكتور ماهر الشريف، الصادر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بواقع خمسة فصول، ومقدمة وخاتمة، وثبت بالمراجع والفهارس، توزعت على 220 صفحة آراء نقدية لعدد من المثقفين الفلسطينيين الذين اتخذهم كعينات للبحث، وهم بصورة أساسية إدوارد سعيد، هشام شرابي، أنيس الصايغ، غسان كنفاني، محمود درويش، إبراهيم أبو لغد، وأسماء أُخرى تم النظر إلى ما قدمته من أفكار نقدية، دعّمت مقولات الأسماء الأُخرى.

إن الجمع بين تلك الأسماء، والبحث في رؤيتها ضمن مفاهيم محددة تناولها الكتاب، يُعتبر قيمة كبيرة، من وجهة نظري كقارئ.

المستوى الفكري

هذا المستوى يمكّن القارئ من تكوين نظرة عامة وشبه شاملة إلى مقولات ومواقف هؤلاء المثقفين الفلسطينيين في المرحلة التي يغطيها الكتاب، وكذلك في العناوين الفرعية التي احتوتها الفصول. على سبيل المثال، اشتمل الفصل الثالث على عنوان فرعي مثير، وهو "تحديث البنية التحتية المادية"، تناول في جوانب منه رؤية مثقفين كشرابي وسعيد، من الحركات الإسلامية، وإن كان في جانب من طروحاتهما، يتناول العالم العربي ككل، إلا إن الشريف أسقطه على الواقع الفلسطيني، كجزء من الحالة العربية، وقد اقتبس المؤلف من المفكرين الفلسطينيين، آراء عميقة في فهم الحركات الإسلامية، ومن سعيد تحديداً، تخصيصاً لحالة الحركات الإسلامية الفلسطينية، وقدّم تبريرات للسياسات والممارسات التي تنتهجها حركات، مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، بأنها مواقف نابعة "من التمرد، ورفض قبول الظروف الخانقة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي المستمر، ورفض التعاون الفلسطيني مع هذا الاحتلال"(ص 99)، وأضاف المؤلف أيضاً إلى سعيد، بأن "حماس"، بصفتها "حركة مقاومة ضد الاحتلال وحركة احتجاج فلسطيني"، لا يمكنها أن تمثل "بديلاً حقيقياً على صعيد الحركة الوطنية الفلسطينية"، لكونها لا تمتلك "رؤية فلسطينية، أو قراءة للتاريخ الفلسطيني، خارج العموميات."(ص99)

يمكن فهم موقفيْ شرابي وسعيد من باب نقدي للواقع والتجربة الفلسطينية في المرحلة التي يغطيها الكتاب، إلا إن تجربتيْ "حماس" و"الجهاد" حتى سنة 1994 لم تكونا قد نضجتا كفاية، ولم يكن الفصيلان الإسلاميان قد بلورا مشروعاً سياسياً واضحاً، خارج إطار المقاومة العسكرية. فـ "حماس"، على سبيل المثال، أصدرت وثيقتها السياسية في سنة 2017، وأعلنت في المادة 20 منها، ولأول مرة، قبولها "إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أُخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة"[4] من غير الاعتراف بإسرائيل. صحيح أن الرأي لسعيد، وأن الشريف نقله في إطار كتابه وعرضه الشيق، إلا أنه في هذا الفصل على الأقل، وفي الموضع السياسي تحديداً، كان من الممكن استدعاء بعض الآراء النقدية لمثقفين فلسطينيين إسلاميين، من المرحلة ذاتها، لكي تُظهر الرأي الآخر في مقابل الرأيين: سعيد في الجانب الفلسطيني، وشرابي في الجانب العربي الأعم.

تسترعي المواقف الفكرية التي طرحها الكتاب، عبر مراجعة لمعظم ما أنتجه هؤلاء المثقفون الفلسطينيون النقديون، أن رؤاهم النقدية لم تكن تنطبق فقط على الحالة الفلسطينية، بل إن بعضها كُتب لمعالجة القضايا العربية بشكل رئيسي، ولا سيما نتاج شرابي الذي تناوله الشريف عرضاً فكرياً، واستعراضاً مفاهيمياً لخدمة الأطروحة التي يعرضها مؤلَفه، ومن كتب شرابي "أزمة المثقفين العرب: نصوص ومقالات مختارة"[5]، و"البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر"[6]، و"النظام الأبوي وإشكالية تخلُّف المجتمع العربي"[7]، وغيرها.

هنا أيضاً أعتقد أنه كان يمكن استدعاء بعض الآراء النقدية العربية في مسألة التحرر، ووضعها في إطار خاص، ولا سيما أن عدداً كبيراً من المثقفين العرب محسوب على الثقافة الفلسطينية، باعتبار أن هؤلاء كانوا ضمن منظمة التحرير الفلسطينية، وبعضهم ما زال جزءاً من الفاعلية الثقافية والسياسية الفلسطينية، هذا مع الانتباه والإشارة إلى أن مقدمة الشريف أتت على ذِكر مساهمات بعض المثقفين العرب، من أمثال ياسين الحافظ وقسطنطين زريق وصادق جلال العظم، إلا إن مساهماتهم لم تكن ضمن متن الكتاب.

المستوى التأريخي

في هذا المستوى، لا بد من التسجيل أن المؤلف مؤرخ وصاحب جهد بحثي وافر، وقدّم خلال العقود الأربعة الماضية نخبة من المراجع المعرفية في الشأن التاريخي والتأريخي لفلسطين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، في المجهود البحثي للشريف، يشكل كتاب "المشروع الوطني الفلسطيني: تطوره ومأزقه ومصائره"[8] علامة في المراجعة النقدية للمسيرة الكفاحية الفلسطينية، ولا سيما في محاولة الإجابة عن سؤال كبير طرحه في الكتاب بشأن العوامل التي "حالت دون نجاح الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلةً بمنظمة التحرير الفلسطينية، في تحقيق أهدافها، وفي وصول المشروع الوطني الذي حملته إلى مأزقه الراهن؟"[9] الكتاب قدم إجابات عن هذا السؤال، ومثله كتب أُخرى للشريف، وصحيح أن الكتاب الأخير، موضع حديث هذه المادة، لم يقدم إجابات بالمعنى المباشر للكلمة، إلا أنه وضع القارئ المثقف أمام آراء واضحة لمثقفين فلسطينيين نقديين، كما وضع القارئ العادي أمام نظرة عامة إلى مواقف المثقفين الفلسطينيين حيال عدة قضايا.

 وللدكتور ماهر الشريف في هذا الكتاب قيمة مضافة، وضعها بخبرته الطويلة في حقل التاريخ، وخصوصاً في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، إذ أنه خلال تسلسل الفصول، سلسل القضايا والمواضيع المطروحة في بحثه، من جانب، كونها عناوين، ومن جانب آخر، كونها أحداثاً جرت، فرصدها بتفحُّص من خلال مواقف وآراء المثقفين النقديين الفلسطينيين الذين تناولهم في بحثه، وكمثال لذلك، وضع الشريف في الفصل الثالث عنواناً فرعياً، هو "سبل بلوغ التحرر" وضمنه عنوان آخر "بلوغ التحرر يتطلب التسلح بالعقل والعلم والتعليم الحديث"، شرح فيه القيمة العلمية والمعرفية في الصراع، وأجاب عن سؤال: لماذا اهتم الشعب الفلسطيني بالتعليم؟ وأوضح أيضاً كيف وُضع المنهاج التعليمي الفلسطيني، والتحديات التي رافقت هذه العملية. وفي سرده للإطار التاريخي، حمّل الشريف هذا السرد المواقف التي عبّر عنها عدد من المثقفين الفلسطينيين من هذا المنهاج، وآلية وضعه، والأفكار الوطنية والديمقراطية والتحررية التي يجب أن تتوفر فيه.

العنوان: أوسع من كلمات

إن موقف المثقفين الفلسطينيين ليس من واقع الفلسطينيين فحسب، بل من الواقع العربي أيضاً، لذا، فجزئية العنوان الأولى (مفهوم التحرر) تمنح القارئ دلالة بأن الكتاب يناقش مفهوم التحرر ككل في الواقع العربي، وأنه يقدم إسهاماً في تقديم قراءة مقارنة بين الأسماء التي يتناولها بحث الشريف. وفي الكتاب من حيث لم يعلن، يقارب مسألة التحرر في فلسطين، ضمن إطارها العربي الأوسع، وذلك حين يطرح المؤلف في الصفحة الأولى من الكتاب، "هل ينبغي لنا إرجاء مهمات التحرر المجتمعي إلى ما بعد إنجاز مهمات التحرر الوطني، أم أن السعي لتحقيق مهمات التحرر المجتمعي هو شرط نجاح النضال من أجل التحرر الوطني؟" المراقب للأوضاع العربية، ينتبه إلى أن السؤال يمكن التعامل معه في معظم الدول العربية، ولا سيما بعد الربيع العربي، وليس في فلسطين فحسب، إلا إن فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) يمكن اعتبارها العيّنة الجغرافية التي أسقط المؤلف عليها مقولات المثقفين الذين تناولهم في بحثه.

بينما الجزء الثاني من العنوان (في منظار الثقافة الفلسطينية) فأتى كتعبير عن محتوى الكتاب الذي تناول أسماء لمثقفين فلسطينيين على أساس الجنسية الفلسطينية، أو العلاقة القانونية بفلسطين، من ناحية الميلاد واللجوء، فضلاً عن سببين رئيسيين، هما كما أوضحهما الشريف، أولاً: "الكتاب كان في الأصل ورقة قدمتُها إلى مؤتمر ‘الثقافة الفلسطينية اليوم: تعبيرات وتحديات وآفاق‘، الذي نظّمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالتعاون مع كلية الفنون والموسيقى في جامعة بيرزيت خلال الفترة 22 – 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، ولقيت أصداء إيجابية حفّزتني على العمل على توسيعهما" أما ثانياً: "يتمثل في أن الحالات الدراسية التي اخترتها كانت قد توسعت أكثر من غيرها، بحسب رأيي، في مقاربة مفهوم التحرر ومضامينه وسبل بلوغه، وكنت على معرفة جيدة بنتاجها في هذا المضمار."(ص4)

أما الجزء الثالث من العنوان (1948 – 1994) فإنه يشكل الإطار الزمني للدراسة القيّمة، التي تضع القارئ في إحاطة شاملة، ليس فقط من ناحية الآراء، بل أيضاً من ناحية الفهم العميق للمراحل التي تناولها الكتاب، من زاوية مغايرة، وهي الثقافة والنقد فيها.

أخيراً

إن كتاب الدكتور ماهر الشريف، موضع حديث هذه المادة، يشكل في حد ذاته موقفاً نقدياً شاملاً في موضوعه، من خلال ما عرضه وصنّفه وألّفه في هذا الكتاب.

ولعل القارئ في ختام قراءة الكتاب قراءة متأنية وفاحصة، يصل إلى نتيجة أن المثقف الفلسطيني لو تمكن من تحقيق الجزء الأخير من تعريف الشريف للمثقف النقدي: "(...) لم يعمل على إحاطة الثقافة بسياج يحميها ويصون ′عفتها′، بل سعى لإصلاح السياسة وتهذيب ممارساتها وتغيير دلالاتها، وإيجاد علاقة جديدة بينها وبين الثقافة، تضمن لهذه الأخيرة استقلالية حقلها ومعرفتها" لكان الوضع الفلسطيني، وعلى الأقل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتحرري، مختلفاً عمّا وصل إليه الآن.

ويقتبس الشريف عن سعيد، أن الفلسطينيين بعد التوصل إلى اتفاق أوسلو، بات وضعهم "أسوأ مما كان عليه"، وأضاف أيضاً أن عملية السلام أصبحت "مجرد إعادة تغليف للاحتلال الإسرائيلي."(ص181)

وعليه، يبدو أن المثقفين الفلسطينيين كانوا أصحاب رؤيا ثاقبة في الوضع السياسي الفلسطيني، قبل الذهاب إلى أوسلو، وبعده، وكانوا يطرحون الآراء المختلفة، تباعاً، إلا إن الحقل السياسي الفلسطيني لم يستطع قبول ما يطرح، أو على الأقل، لم يكن لديه القدرة، أو الإرادة، على الاستماع بعناية إلى ما يقوله المثقف الفلسطيني، ليس بصفته معرفياً، بل بصفته خبيراً في مسائل متعددة، إذ جرت العادة لدى الكثيرين من السياسيين في العالم، الاستماع إلى المثقفين وأصحاب الخبرة، وأخذ ما هو مفيد من الآراء والاقتراحات، على الأقل.

ولربما لو انتبه سياسيّونا إلى ما يمتلكه المثقفون الفلسطينيون، النقديون منهم تحديداً، لما كان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس طرح في مقدمة كتابه "طريق أوسلو" السؤال التالي: "هل هي رحلة العودة إلى الوطن؟ أم هي رحلة التوقيع عن التنازل عن جزء كبير من الوطن؟"[10]

وأخيراً، نقل الشريف عن الدكتور أنيس صايغ الجمل التالية التي قد تشكل إجابة عن سؤال فلسطيني حاضر بقوة، ما العمل؟: "لا تحرير بدون حرية، ولا بناء للمجتمع الفلسطيني إلا بالحرية، ولا نظام لهذا المجتمع، ليكون قادراً وخلاقاً وعادلاً وأصيلاً، إلا إذا كان ديمقراطياً." وأن "العاجز عن ممارسة الديمقراطية والرافض لإعلانها وتعميمها وتعميقها وتعويد الناس عليها إنما هو عاجز عن تحرير فلسطين، ورافض لعملية بناء فلسطين الغد، وهو بذلك خارج ساحة النضال، بل هو عقبة في درب النضال."(ص122)

 

[1] "إميل توما ودور التأريخ في معركة الثقافة الوطنية الفلسطينية"، في "قضايا وشهادات: كتاب ثقافي دوري" (نيقوسيا: مؤسسة عيبال للدراسات والنشر)، العدد 4 (خريف 1991)، ص284 - 312.

[2] "الآداب"، العدد الأول (كانون الثاني/يناير 1993)، ص 18 - 20.

[3] "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد74 – 75 (ربيع- صيف 2008)، ص15 – 22. 

[4] انظر: "وثيقة المبادئ والسياسات العامة لحركة حماس"، موقع "حركة المقاومة الإسلامية (حماس)"، 1/5/2017.

[5]بيروت: دار نلسن، 2002.

[6]بيروت: دار الطليعة، 1987.

[7]بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992.

[8]مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2021.

[9]"المشروع الوطني الفلسطيني: تطوره ومأزقه ومصائره" (ص1).

[10] د. محمود عباس، "طريق أوسلو" (رام الله - فلسطين: بيلسان، ط 2، 2011).

عن المؤلف: 

أيهم السهلي: صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت.