تناول العديد من الدراسات التشابه والاختلاف بين الاستعمار الصهيوني في فلسطين وبقية الاستعمارات الأُخرى التي حدثت في العالم، وبصورة خاصة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، والاستعمار الاستيطاني البريطاني في جنوب أفريقيا وإيرلندا وغيرها. وهذه المقالة لا تعالج ما ركزت عليه أغلبية الأدبيات، وهو: طبيعة الاستعمار وأهدافه ووسائله ومستقبله، وغير ذلك، وإنما تركز على تأثير الاستعمار الاستيطاني في فلسطين في بنية المجتمع الفلسطيني، وبالتحديد في ثقافة المجتمع الفلسطيني وممارساته الأيديولوجية.
المقاربة التي تتبناها هذه المقالة هي مفهوم "السجن"[1]، وهذه المقاربة تضاف إلى مميزات الحالة الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين، فالفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة يعيشون في سجن كبير، وقد عمل هذا السجن على عزل الفلسطينيين عن محيطهم العربي والإسلامي والعالمي، ونتيجة ذلك، أجهض إمكانية التنوع والتعدد الفكري والثقافي في المجتمع الفلسطيني. فالحياة الفلسطينية قبل النكبة، ولاحقاً قبل النكسة، كانت حياة حرة ومنفتحة على العالم، وكان بعض المدن مركزاً جاذباً للهجرة من العالم العربي والشرق الأوسط لأغراض مختلفة، فانتشرت الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي لبّت هذا التنوع واحتضنته، وبغض النظر عن المفهوم الذي أطلق على الحياة الثقافية المتنوعة والمتعددة، كمفهوم "الحداثة"[2] مثلاً، فإن فلسطين احتفت في تلك الفترة بالوجود العربي والإسلامي والعالمي، وهو ما أضفى على الحياة الفلسطينية تنوعاً وحيوية. وأهمية هذا الاتصال في أنه كان مباشراً، فالفلسطينيون يختلطون بشكل مباشر، احتكاك يومي، مع غير الفلسطينيين، كونهم يعيشون بينهم في المدن، فمثلاً، الطفل الفلسطيني الذي يعيش في المدن الفلسطينية، وخصوصاً الساحلية، يشاهد ويختلط بالأطفال العرب والمسلمين، ومن دول أُخرى، الذين أقامت أُسرهم بهذه المدن، أو أتت إليها، وبهذا يعيش الطفل الفلسطيني في بيئة اجتماعية متنوعة ومتعددة ثقافياً.
أجهضت النكبة، ثم النكسة، الحياة المنفتحة والمتنوعة والمتعددة في المجتمع الفلسطيني، والتي انتشرت بسبب تعدُّد الخلفيات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية للأسر التي كانت تعيش في فلسطين، واحتكاك الفلسطينيين المباشر بغيرهم داخل المدن الفلسطينية الرئيسية، وأصبح الفلسطينيون بعد النكسة يعيشون في سجن كبير، يمنع تواصُلهم المباشر مع امتدادهم العربي والإسلامي والعالمي، وأقصد التواصل المباشر هو قدوم العرب إلى فلسطين، سواء للسياحة، أو للتجارة، أو للإقامة بها. فمعظم الأسر الفلسطينية لم يتمكن من السفر إلى خارج فلسطين، وفي حال سفر بعض أفراد الأسرة، فيكون ذلك لفترات قصيرة، بهدف السياحة وزيارة الأقارب، وبالتالي الاحتكاك بالأسرة العربية، وحتى الإسلامية والعالمية، محدود جداً بحُكم طبيعة السفر، وهذا عكس التواصل عبر السياحة والتجارة الدائمتين، أو الإقامة الطويلة الأمد للكثير من الأُسر والأشخاص العرب في فلسطين، والتي تتيح الاحتكاك اليومي والدائم. ونتيجة ذلك، نشأت أجيال فلسطينية لم تتعرف إلى أُسر أو أشخاص عرب، ولم تُقِم علاقات متبادلة معهم[3].
أدت حياة السجن وغياب إقامة/زيارة العرب إلى فلسطين إلى تجانُس الثقافة الفلسطينية، وغياب التنوع والحيوية داخلها، وبالتالي أصبح المجتمع الفلسطيني عبارة عن عائلة كبيرة متجانسة فكرياً، وتمارس الضبط والرقابة الاجتماعية على جميع أفرادها، أي على المجتمع ككل، فأصبحت المدن قرى متضخمة، فسكان المدن الفلسطينية يعرفون بعضهم، ومعرفتهم لبعضهم البعض أدت إلى غياب المجهولية في المجتمع، والتي تُعتبر إحدى سمات المدينة التي تميزها عن الريف، حيث تعمل المجهولية على توفير مساحات كبيرة للأُسر وللأشخاص لممارسة حرياتهم الفكرية والاجتماعية، والتي تساهم في بناء المجتمع الحيوي والمتنوع. وأصبحت الجامعات، التي تُعتبر مركزاً لتكثيف وإنتاج الحريات الفكرية، عبارة عن مدارس متضخمة، يغيب فيها طرح المسائل الفكرية الجدلية الحساسة في المجتمع، كون الرقابة والضبط الاجتماعي كثيفيْن وشديديْن. فغياب الحريات في المجتمع الفلسطيني لا يقتصر فقط على الجانب السياسي الذي يهدد السلطة السياسية الاستبدادية، وإنما عمل الاستعمار الاستيطاني، ومن خلال عزل الفلسطينيين وقطع اتصالهم المباشر بغيرهم، على غياب الحريات الفكرية والاجتماعية، فانتشر في فلسطين، ليس الاغتيال السياسي التي تقوم به السلطة السياسية فقط، بل انتشر أيضاً الاغتيال الفكري والاجتماعي والجسدي للأشخاص الذين يطرحون ويمارسون أفكاراً جدلية خارج التوافق الضمني المجتمعي.
ولّد انقطاع تواصُل الفلسطينيين المباشر مع امتدادهم العربي والإسلامي، عبر عدم إقامة غير الفلسطيني بين الفلسطينيين، وتحوُّل المجتمع الفلسطيني، نتيجة ذلك، إلى عائلة فلسطينية كبيرة، وجود تأثير كبير جداً للضبط الاجتماعي والفكري تمارسه تيارات فكرية تقليدية، وتحاول فرض رؤيتها وأيديولوجيتها على المجتمع الفلسطيني، عبر استخدام العادات والتقاليد والدين كأدوات لذلك، وتحاول هذه التيارات الترهيب الفكري والاجتماعي والجسدي لفرض سيطرتها، والتي تتلاقى ضمنياً، في بعض الأدوات وليس الأهداف، مع توجهات وطنية بضرورة الحفاظ على تجانُس الثقافة وتعزيز الهوية الوطنية لمواجهة المشروع الصهيوني.[4]
لقد فشلت السلطة الوطنية الفلسطينية في كسب الالتفاف الجماهيري من خلال العلاقة القانونية الطبيعية (العقد الاجتماعي) التي تربط المواطن بسلطته السياسية: مقاومة المشروع الصهيوني، محاربة الفساد، تخفيف حدة الفقر، توفير الخدمات المختلفة، الالتزام بالاتفاقيات مع النقابات، خسارة الحزب الحاكم في العديد من الانتخابات النقابية، وغير ذلك، ولتعويض هذا الإخفاق ومحاولة كسب الشرعية، اتجهت السلطة السياسية إلى الصمت عن ممارسات الترهيب الفكري والاجتماعي والمادي للتيار التقليدي المحافظ الذي يحاول فرض هيمنته على المجتمع، اجتماعياً وثقافياً، ويجهض أي محاولة لتجاوُز حالة السجن، لكون هذا التيار منتشراً مجتمعياً، من جهة، وغير مُبالٍ بالجانب السياسي المرتبط بعملية التحرر، من جهة أُخرى.
لقد أدخل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني المجتمع الفلسطيني في سجن كبير، وعزله عن امتداده العربي والإسلامي والعالمي، وعدم احتكاك الفلسطينيين بغيرهم كما كان عليه قبل النكبة والنكسة، وأنشأ بدلاً من ذلك مجتمعاً فلسطينياً تقليدياً متجانساً يغيب فيه التنوع والتعدد.
[1]. انظر: أليساندرو بيتي، "اللاتماثلات، شبكة الطرق في الفضاء الفلسطيني – الإسرائيلي"، في "حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي"، تحرير ساري حنفي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010).
[2]. انظر: سليم تماري. "الجبل ضد البحر: دراسات في إشكاليات الحداثة الفلسطينية" (رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2005).
[3]. انظر: مقابلة سعاد العامري:
بروفايل - سعاد العامري by 24fmpalestine (soundcloud.com)
[4]. انظر على سبيل المثال: طرح تماري بشأن تلاقي وسائل التيار الوطني العلماني الذي يدعو إلى الحفاظ على التراث والهوية الفلسطينية مع التيار الإسلامي، ص 52-53.