الفصل البصري الاستيطاني
التاريخ: 
10/11/2022
المؤلف: 

حينما تسير على الطريق الواصل بين مدينتيْ نابلس ورام الله، يختلط عليك الأمر عند مشاهدة المباني الشاهقة، فيتبادر إلى ذهنك سؤال تلقائي، هل هذه بلدة سلواد؟ لكن المدهش أكثر من تلك الحجارة المتكئة على بعضها البعض هي الإجابة، بأن المباني الشاهقة والمجمعات التجارية هي مستوطنة عوفرا. ثم لا تكاد تخرج من الدهشة حتى تداهمك أُخرى عندما تصل إلى مدخل مدينة رام الله، عبر حاجز “DCO “، وتبصر العمارات الباسقة ورافعات البناء المتحركة في قلب مستوطنة بيت إيل.

يفكّك أيال ويزمان في كتابه "الأرض الجوفاء"[1] هذه الدهشة، ويوضح كيفية توظيف الهندسة المعمارية في وضع البُنى والمحددات التشكيلية المورفولوجية والبصرية للمستوطنات، إذ كانت تعمل سابقاً على إظهارها بشكل يميزها من المدن والقرى الفلسطينية. أما اليوم، فلا تكاد تستطيع تمييزها من المدن الفلسطينية، مضافاً إلى ذلك توظيف مشاريع البنية التحتية في ذلك، ولا سيما برامج تأهيل الطرق التي تتم هيكلتها، عبر الممارسات التنموية والإنسانية في الفضاء الاستيطاني الإسرائيلي.

الشعور بالفصل الذي تُمعن فيه إسرائيل لا يقتصر على التفاعل الملموس مع الجغرافيا فقط، أي عند السير بهدف الوصول إلى أرض محاطة بالمستوطنات مثلاً، أو التنقل بين الحواجز. بل سعت في الواقع، ومنذ احتلالها الضفة الغربية سنة 1967، لتعزيز فكرة "الفصل البصري" أيضاً، سواء من خلال شكل بيوت المستوطنين، أو المسالك والشوارع المُعَدّة لهم بالدرجة الأولى، وهو ما يجعلها مختلفة تماماً عن بيوت وشوارع الفلسطينيين.

وفقاً لويزمان، يتشكل هذا من خلال التصاميم المتكررة للمنازل الخاصة بالمستوطنين، فتبدو كقطع بناء متساوية، تتضمن منازل خاصة صغيرة ذات سطوح قرميدية حمراء، وهو ما يُظهر دائرة مُسيّجة مدنية تربض على قمم الجبال، بالإضافة إلى الإضاءة الكثيفة التي تلف تلك المستوطنات، حيث تبدو في الليل كسلسلة من الضوء الأبيض على صفحة المشهد الطبيعي، تجذب الأنظار وتلفت الانتباه[2]، خلافاً للأضواء الضاربة إلى الصفرة في القرى والبلدات الفلسطينية المجاورة، وهذا يعني أن هذه الأضواء والأشكال العمرانية المتماثلة تعطي هوية استيطانية مباشرة للمكان من النظرة الأولى.

كما تتم إعادة تشكيل المكان والسيطرة عليه بواسطة مشاريع البنية التحتية التي تعزز الاستيطان، إلا أنها ترتدي ثوب الحداثة والتنمية للفلسطينيين، كثيراً ما تلمس هذه المشاريع خارج مناطق سكناهم، أي في الطرق الرئيسية القابعة تحت السيطرة الإسرائيلية، وهو ما يمنحها هوية استيطانية بصرية، وتعمل على إخراج الأصليين من أراضيهم. أعتقد أن الإخراج هنا لا يشمل الطرد التقليدي فقط، بل يتضمن الشعور النفسي بغرابة المكان والغربة عنه.

الشوارع المشتركة بين الفلسطينيين والمستوطنين، الخاضعة للإدارة الإسرائيلية، تتميز بالترتيب والتنظيم، ووجود الإشارات الضوئية، حيث يستطيع المسافر من نابلس إلى رام الله، الفصل بصرياً - بين المناطق الخاضعة للاحتلال والخاضعة للسلطة الفلسطينية -عقب اجتيازه منطقة عيون الحرامية، بأنه في شارع "إسرائيلي" سريع منظّم بإشارات المرور، حتى وصوله إلى دوار قرية بيتا وشارع حوارة، فيستطيع، حينها، الإدراك أنه في منطقة فلسطينية تفتقر إلى إشارات المرور، ممتلئة بالحفر، الأمر الذي يتسبب بأزمات مرورية خانقة، تفقد الزمان والمكان المنظم، وهذا يولّد قلقاً وعنفاً غير مرئيين بطرق متعددة الأشكال.

أحياناً، قد يتولد كيّ للوعي بطريقة غير تقليدية، أي بصورة معاكسة، فبعد حفر الطريق وتخريبها المتعمّد كعقاب، يتم تعبيدها من جديد، لكن مع حاجز دائم. وهذا يرسّخ الاعتقاد أن هذه المناطق أو الشوارع، لولا المحتل لما كانت على ما هي عليه، وهنا نقطة نصر للمستعمر في معركته الطويلة مع الأصلاني.

فمثلاً، خلال انتفاضة الأقصى سنة 2000، دمّر الاحتلال البنية التحتية كجزء من التفكيك والتجزئة المكانية للفلسطينيين، عقاباً لهم على مقاومتهم، بينما في سنة 2004، بعد ما يقرب من أربعة أعوام، شكّل فريقاً لبلورة ما سمّاه "نسيج الحياة الفلسطيني"، كمشروع بنية تحتية جديد للسكان الفلسطينيين لاستيعاب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أوجدتها سياساته، وتطبيعاً للتجزئة والفصل والإغلاق.

"العقاب ونقيضه" هما وجهان للعنف الإسرائيلي، وأسلوب سياسة استعمارية قديمة جديدة، تعكس براغماتية الاستعمار. أقصد أن في إيقاع العقاب أو إزالته عنفاً، لكن في حقب زمنية مختلفة، وتبعاً للموقع، سعياً لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في السيطرة على المكان وإضفاء الصبغة الاستيطانية عليه.

يرى ويزمان مثلاً أن الحكومة الإسرائيلية أولت تنمية الإنتاج الزراعي الفلسطيني اهتماماً في العقد الأول من الاحتلال، كجزء من منطق الحكم والسيطرة-لا يوجد عقاب-بينما تحوّل انتزاع الأراضي ومصادرتها إلى سياسة عامة بعد احتلال الـ 67[3] -في هذا عقاب-إلا أنه تحقيق للهدف نفسه في الحالتين باستخدام العنف.

يذكّرنا هذا بما طلبه موشيه دايان من جنوده، إنزال العلم الإسرائيلي-رمز السيادة-عن المسجد الأقصى، واعتباره عملاً استفزازياً لا مبرر له، ثم بمرور الأيام، حدث تحوّل عميق في الأراضي الفلسطينية، إذ لا يكاد شارع، أو مستوطنة، أو مبنى لا يرفرف عليه العلم الإسرائيلي. أعتقد أننا اليوم في أوج هذا التحول، لِما يخوضه الفلسطينيون في القدس وحوارة، مثلاً، من معركة أعلام مع المستوطنين، كما يُسجن منكّس العلَم الإسرائيلي من الفلسطينيين عقاباً له.

ختاماً، يقودنا ذلك إلى التساؤل: هل تحولت المشاعر الاستيطانية من الوجود الموقت إلى الدائم؟ بمعنى آخر، هل كان الشعور بزوال المستوطنة في أي وقت، وضمن أي اتفاق سلام مع الفلسطينيين سبباً في استخدام البيوت المركّبة ذات الأسطح الحمراء، أو الكرفانات، من دون الحاجة إلى الحفر والأساسات في الأرض. أما اليوم، فتبدّل هذا الشعور، وحلّ مكانه الدوام على هذه الأرض، في ظل انعدام الأفق السياسي، بالإضافة إلى انزياح إسرائيل، قيادةً ومجتمعاً، نحو اليمين، وهو ما أوجد فكرة البناء التقليدي، وحفر الأرض ونصب الأساسات، وشقّ الطرقات الحديثة وتزيينها بإشارات المرور وعبارات التحية.

 

[1]أيال ويزمان، "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" (بيروت: مدارات للأبحاث والنشر، 2017)، ص 171- 210.     

[2]ويزمان، مصدر سبق ذكره، ص 196.

[3]ويزمان، مصدر سبق ذكره، ص 183-184.

عن المؤلف: 

ياسر مناع: طالب ماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت.