حكايات فلسطينية عن الاعتقال الإداري
التاريخ: 
09/11/2022
ملف خاص: 

الصغيرة ميس مصابة بأملٍ لا شفاء منه. لم يكن رامي فضايل (42 عاماً) يتخيل، حتى في أسوأ كوابيسه، أن يعود محصّلو الأموات بجيش المستعمرين الصهاينة إلى بيته في حي الطيرة في مدينة رام الله، بعد ثلاثة أشهر ونصف فقط من الإفراج عنه في منتصف شهر أيار/مايو الماضي، وذلك في إثر اعتقال دام 12 شهراً، لاقتياده إلى معتقل عوفر مجدداً، حيث كان محتجزاً.

 

الأسير رامي فضايل مع زوجته حنين نصار وابنتهما ميس

 

الفترة الزمنية التي أمضاها الأسير فضايل خارج الأسر لم تكن كافية حتى لمتابعة فحوصاته الطبية واستقبال المهنئين بـ"حريته النسبية"، ثم العودة إلى عمله، حيث يدير مع أشقائه ووالدته متجراً لبيع الأدوات المنزلية. كما لم تكن كافيةً لممارسة حياته بشكل طبيعي كبقية البشرفي كنف أسرته.

عاشت الطفلة ميس (15 عاماً)، الابنة الوحيدة للمعتقل فضايل، أسابيع قليلة من السعادة والفرح منتزَعة من بين أنياب المستعمِرين، احتضنت خلالها والدها واحتضنها، وعيناها ترنو إلى افتتاح العام الدراسي في مطلع أيلول/سبتمبر، متطلعةً إلى أيام فرح مميزة في حياتها، يرافقها فيها والدها إلى المدرسة، أسوةً بزميلاتها، لكن محفل الاعتقال الإداري البغيض كان لها ولوالدها بالمرصاد، كعهده دائماً مع الفلسطينيين. فيوم السادس من شباط/فبراير 2012، كان "يُفترض" أن يكون يوماً مميزاً ممتلئاً بالفرح والسعادة في حياة الطفلة ميس التي كانت تستعد، بفرحٍ وسعادة، للذهاب إلى روضتها برفقة والدها، حيث ستحتفل مع زميلاتها وزملائها الأطفال ومعلماتها بعيد ميلادها الخامس. عند الساعة السابعة صباحاً، حطمت قوات خاصة من المستعمرين باب شقتهم، مسارعةً إلى تصويب المسدسات إلى رأس والدها، قبل اقتياده، مقيّد اليدين ومعصوب العينيين، إلى الاعتقال مجدداً. صدمة شديدة أصابت الطفلة التي لم تكمل احتساء كوب حليبها، فقد انتزع المستعمرون فرحتها الصغيرة في عيد ميلادها.

معاناة الطفلة ميس لا تقتصر على تغييب والدها المتواصل في الاعتقال الإداري. بل شملت والدتها حنين أيضاً. ففي مطلع شهر تموز/يوليو 2020، وبينما كان رامي في قيد الاعتقال، داهمت قوات المستعمرين منزل العائلة، لتعتقل حنين التي أمضت ثلاثة أسابيع في مركز تحقيق المسكوبية في القدس. خلال تلك الفترة، كتبت الصغيرة ميس على مواقع التواصل الاجتماعي ما يدل على أن الألم متواصل، وأن التاريخ يعيد نفسه، مشيرةً إلى أن أمها حنين تُرِكت طفلة وحيدة حين اعتقل المستعمرون والديها مها وهاني أيضاً في سنة 1989. 

تسويغ الاعتقال الإداري 

يقول رامي عن اللحظات التي أعقبت نقله إلى عوفر خلال اعتقاله الأخير: كانت أسئلة سخيفة وجّهها إليّ محقق الشرطة الصهيوني، وذلك فقط لتبرير تحويلي إلى الاعتقال الإداري غير الإنساني، وقد جرى مباشرة إصدار أمر الاعتقال لمدة أربعة أشهر، بتوقيع قائد المنطقة الوسطى في جيش المستعمرين، متضمناً ادعاء عضويتي في الجبهة الشعبية وخطورته على أمن المنطقة والجمهور. ويضيف: سريعاً، تم عقد جلسة لمحكمة "النقض التثبيت" المخصصة للنظر من قبل قاضٍ عسكري في قرار الاعتقال الإداري، ضمن ما يسمونه "رقابة قضائية" على إجراءات جهاز الشاباك، والتي أعلنتُ مقاطعتها، كونها محكمة صورية وشكلية تنفّذ أمام قرارات جهاز الأمن العام "الشاباك" وتسوّغ سياسة الاعتقال التعسفية، باعتبارها جزءاً من المنظومة الاستعمارية الصهيونية، تماماً كمحكمة الاستئناف العسكرية والمحكمة العليا اللتين تنظران أيضاً في قرارات الاعتقال الإداري والتثبيت. أكد قرار القاضي المشار إليه ما هو مؤكد أصلاً، في رأي المعتقل الإداري فضايل، مشيراً إلى أن خلفية الاعتقال ليست سوى افتراضات وتقديرات لا أساس لها، مستندةً إلى ملف مفبرك من طرفهم، يتضمن قيداً من الادعاءات والأكاذيب، وهذا دليل آخر على تعسُّف هذا النوع من الاعتقال. ويقول القاضي أورين شاباك في نص قراره "من خلال المادة السرية التي قُدمت إليّ لفحصها، يتضح أن المعتقل هو نشيط جبهة شعبية كما يبدو جلياً، مع ذلك، لا يوجد في المادة السرية معلومات ملموسة عن أنشطة فعلية للمعتقل في إطار الجبهة، أنشطة تشكل خطورة حقيقية على أمن المنطقة والجمهور. حقاً، هنالك معلومة واحدة في البند رقم ٨.٦ في الملف السري، الذي يُمنع المعتقل ومحاميه من الاطلاع عليه، اشتبهت خلالها الأجهزة الأمنية بوجود أنشطة عسكرية للمعتقل بشكل أو بآخر، معلومات عنها أو متورط فيها، لكن رأيي ليس كرأي الأجهزة الأمنية، نعم، هنالك طرق عديدة لتثبيت تلك المعلومة بشكل ما يؤكد أو ينفي الشبهات ضد المعتقل." ويضيف القاضي شاباك "على الرغم من عدم موافقتي على رأي الأجهزة الأمنية في الشبهات المفصلة أعلاه، فإنني ما زلت أعتقد أن الاعتقال الإداري ضد المعتقل كان مبرراً بسبب أنشطته المتجددة في الجبهة الشعبية."[1]

تناقضات واضحة

يظهر التناقض واضحاً أكثر في قرار القاضي، فهو من جهة، يخالف رأي الأجهزة الأمنية "الشاباك" بشأن وجود أنشطة عسكرية للمعتقل في المادة السرية، ومن جهة أُخرى، فإنه يبقى جزءاً من المنظومة الأمنية الاستعمارية حين يبرر الاعتقال الإداري ضد فضايل، كما يتضح أعلاه. التناقض لم يمنع القاضي من اتخاذ قرار تقصير الاعتقال الإداري للمعتقل فضايل شهرين، "تقصيراً جوهرياً"[2] بحيث يفرج عنه بتاريخ 3/11/2022، بدلاً من 3/1/2023. وبقراءة سريعة للقرار، يتضح أنه لم يكن هنالك على الإطلاق ما يشكل أساساً للاعتقال السريع "بمنطقهم" للمعتقل فضايل، لكن القاضي لم يتخذ قراراً بالإفراج عنه، بل اتخذ قراراً يبقيه مدة شهرين في قيد الاعتقال الإداري، وكأنه بحث عن حلّ وسط مع ممثل النيابة، ومع القائد العسكري، باعتقاله إدارياً مدة 4 أشهر. 

متاهة الاعتقال الإداري

إن ذلك يعكس بعض ما سمّته المحامية الإسرائيلية تمارا بيليغ "أسرار الاعتقال الإداري"[3] وما يسميه المعتقلون متاهة الاعتقال الإداري.

رامي الذي أمضى في سجون المستعمرين 11 عاماً، بما فيها 6 أعوام في متاهة الاعتقال الإداري، وعاش مع طفلته فقط 3 أعوام في الفترة ما بين 2012 و2022، حاله كحال المئات من الفلسطينيين الذين يلاحقهم الاعتقال الإداري بذريعة الملف السري المبني على احتمالات، أساس بعضها ملفات سابقة لمعتقلين تمت محاكمتهم بناءً عليها أمام محاكم عسكرية، وهذا ما يذهب ضباط الشاباك إلى الإشارة إليه أمام عديد المعتقلين الإداريين بتكرار قولهم مثلاً، "عندما تكون في السجن، أنام مرتاحاً مع أطفالي." 

يُذكر أن عدد المعتقلات والمعتقلين الإداريين قاربَ الـ 800 في أوائل شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وفق إحصائيات مؤسسات الأسرى وحقوق الإنسان.[4] مستوى الفاشية كان أكبر من ذلك في مركز تحقيق المسكوبية، حين قالت محققة للمعتقل فضايل في سنة 2013: إن التهم والشبهات ضدك تساوي 20 عاماً في السجن لتمضيها بالتقسيط في الاعتقال الإداري. 

الإضراب عن الطعام

لم يتردد رامي عن المشاركة في الإضراب المفتوح عن الطعام، والذي خاضه 30 معتقلاً إدارياً لمدة 19 يوماً، ضد هذه السياسة التعسفية المناقِضة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، كما الانضمام إلى القرار الاستراتيجي الذي اتخذه 55 معتقلاً إدارياً بمقاطعة كافة محاكم المستعمرين التي تشجع وتبيّض هذه السياسة اللاإنسانية واللاأخلاقية والعنصرية، كما وصفها تقرير لمنظمة العفو الدولية (أمنستي)[5]، وذلك في إطار أوسع لمواجهة شاملة ومتواصلة وموحدة. 

يأمل رامي بهامش "صغير" من الحرية النسبية، يتيح له الاحتفال مع ابنته، بفرح وسعادة، بعيد ميلادها السادس عشر بتاريخ السادس من شباط/فبراير المقبل، بينما تعدّ ميس الأيام، بل الساعات المتبقية، حتى حلول الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، متأملةً بأن تتمكن من عناق والدها، وأن تبدأ بانتظار عودته اليومية من عمله لتناقش معه دروسها وخياراتها المستقبلية. حال ميس كحال جدتها وجدها المريض اللذين أضناهما الشوق المتواصل إلى ابنهما، كما حال كل الفلسطينيين المصابين بأمل لا شفاء منه، كما كان يقول الشاعر الراحل محمود درويش.

 

 [1]الفقرات المذكورة في أقوال القاضي العسكري أورون شاباك آتية من قراره الموقّع باسمه بتاريخ 29/9/2022، في إثر جلسة محكمة الرقابة القضائية التي رفض المعتقل حضورها. رقم الملف 2433- 22.

 [2]يعنى بالتقصير الجوهري قرار يتخذه القاضي العسكري في المحاكم العسكرية التي تنظر في الاعتقال الإداري "التثبيت والاستئناف"، ويعني الإفراج عن المعتقل بعد تقصير مدة الاعتقال، لكن التقصير يكون دائماً مشروطاً بنقطتين: عدم ورود مواجد جديدة ضد المعتقل وعدم حدوث تبدلات أساسية في الوضع "الأمني " في المنطقة، علماً بان هذين الشرطين لم يرِدا في قرار القاضي المشار إليه أعلاه. أما التقصير غير الجوهري فلا يعني قراراً بالإفراج.

[3]من كتاب Threat، تحرير عبير بكر وعنات مطر.

[4] من إحصائيات مؤسسات الأسرى وحقوق الإنسان.

[5]لمزيد من المعلومات، انظر: تقرير منظمة العفو الدولية "نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين".

عن المؤلف: 

عبد الرازق فرّاج: كاتب وصحافي، من مواليد سنة 1963. عمل أعواماً طويلة في عدد من المؤسسات الصحافية والأهلية الفلسطينية. أمضى (على دفعات) سبعة عشر عاماً في سجون الاحتلال، كان في الجزء الأكبر منها رهن الاعتقال الإداري. وتعرض أكثر من مرة للتعذيب في أقبية التحقيق، كان آخرها في تشرين الأول/أكتوبر 2019. وهو مؤلف كتاب " الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية: الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام".

انظر