مخيم شعفاط... عن زنزانة ببوابة
التاريخ: 
14/10/2022
المؤلف: 

عندما يقال "مخيم"، ترِد إلى الأذهان فكرة الخيمة والبقاء الموقت، منطقة معزولة على هامش مدينة أو طريق، بُني لإيواء مَن فقدوا منازلهم بسبب التهجير والاقتلاع. لكن هذا لا ينطبق عموماً على المخيمات الفلسطينية التي باتت تكبر وتكبر وتتكرس مع طول انتظار العودة والأجيال التي كبرت، الواحد تلو الآخر، فأنجبت أطفالها أيضاً داخل المخيم. وعلى الرغم من ذلك، فإنه تبقى لمخيم شعفاط المحاصر منذ عدة أيام، مميزات تجعله فريداً حتى في سياق ومشهد المخيمات الفلسطينية، وبينها. فيقال إنه يقع في شمال شرقي القدس، لكنه عملياً، يقع في قلب القدس، بعد أن قام الاحتلال بتوسيع حدود المدينة المحتلة لربطها بمستوطنات الضفة الغربية، لخلق امتداد جغرافي يفتت الامتداد الفلسطيني. ومن هنا تحديداً، يستمد مخيم شعفاط مكانته الفريدة، بصفته صورة أولية، لِما تريد إسرائيل أن يكون عليه الوجود الفلسطيني داخل فلسطين: سجون صغيرة محاصرة، على الهامش وتحت جسور "الدولة اليهودية" الحصرية. إذاً، أين يقع مخيم شعفاط اليوم؟ والمقصود من "اليوم" ليس لأن المخيم يتحرك، بل لأن المشروع الاستعماري يغيّر المشهد يومياً، حدود الجغرافيا والمدن والقرى، ليتمدد ويسيطر، عبر الاستيطان والجدار والحواجز.

إذاً، أين يقع المخيم؟

مع الدخول إلى القدس من شارع 443، أو من شارع رقم "1"- وهما الطريقان الرئيسيان اللذان يربطانها بمدن الساحة ومركز البلاد، يصل المسافر إلى تفرُّع يوجهه نحو "التلة الفرنسية". ومن هناك، عبر شبكة من الطرقات التي يصل عرضها إلى ستة مسالك على الطرفين، يصل إلى مفترق كبير جداً، فيه عدة طبقات من الطرق والجسور، يربط مع طريق رقم "1" وسكة القطار، ومنه يمكن التوجه إلى "التلة الفرنسية"، حيث مستشفى "هداسا" والجامعة العبرية، بالإضافة إلى أنه يربط أيضاً بطريق البحر الميت ومستوطنات معاليه أدوميم وغيرها، ويسارًا شعفاط وبيت حنينا. وباختصار، مفترق يربط أطراف المدينة ببعضها البعض، وبمحيطها شرقاً وغرباً، كشريان رئيسي. داخل هذا المفترق، هناك تفرُّع صغير يقود إلى منطقة تبدو غريبة للوهلة الأولى: موقف حافلات؛ موقف قاطرات القطار الداخلي؛ وأسلاك فوقها أسلاك والكثير من الأسمنت وغبار 4 أو 5 طبقات من الطرق السريعة فوقها. هنا تحديداً، يصرخ مخيم شعفاط من وراء الجدار، ببنايات شاهقة فوضوية أعلى من جدار الفصل العنصري ذاته، يزيد تعداد الطبقات في بعضها عن العشرة، بثقل كبير جداً، على شكل أسمنت وحجارة وشبابيك كثيرة متراصة، ليطل على المشهد كالكارثة.

عملياً، يقع المخيم تحت وخلف شبكة طرقات من الأكبر في فلسطين التاريخية. بُني في سنة 1964- قبل النكسة، واستمر النزوح إليه إلى ما بعدها- أي أنه بُني قبل أن تستكمل إسرائيل احتلالها لمناطق الـ 67، ليبقى هناك، ويتمدد المشروع الاستعماري برمته فوقه. أما ما يشير أكثر إلى ما بُني حول هذا المخيم، الذي وصل تعداد السكان فيه سنة 2020 إلى ما يعادل 19946، على مساحة 200 دونم فقط،[1] فهو عدد الطبقات التي تشكلت فوقه وحوله: الحلقة الأوسع مستوطنات وصل تعداد سكانها إلى عشرات الآلاف، وبعضها إلى أكثر من 40 ألفاً، ببنية تحتية وآلاف الكيلومترات من المساحة؛[2] الحلقة الأضيق شبكة طرق سريعة تلتف حوله من جميع الاتجاهات لتربط البحر الميت بالقدس وبتل أبيب؛ وداخلها حلقة الجدار الكبير الذي يسجنه كحلقة أصغر؛ وأخيراً حلقة شبكة الحواجز التي تقسّم المنطقة، ومن ضمنها مخيم شعفاط، إلى زنازين صغيرة فيها بوابات في الجدار تمتد من شعفاط، وصولاً إلى عناتا، لترتبط بقلنديا وفي الرام كمنطقة أمنية مغلقة يدور فيها الفلسطيني بين ثنايا الجدار الذي يحيط به ويسكنه. أما المخيم تحديداً، فمحاصَر بحاجز، وله مخرج إلى عناتا، المحاصرة هي الأُخرى.

خارج كل شيء

شُكِّلت هذه المنطقة التي يقع فيها المخيم كمنطقة خارج كل شيء، وفيها كل شيء. عملياً، الحديث يدور عن المنطقة التي تقع ما بين مدينة القدس والضفة الغربية. فمع بناء الجدار، أرادت إسرائيل عزل القدس عن امتدادها في الضفة الغربية، لكنها لم تكتفِ بذلك، بل حافظت على مناطق تشكل "غلاف القدس" قبل الدخول إلى مناطق "أ" في الضفة، منها كفرعقب والرام، وصولاً إلى مخيم شعفاط، وهي كمنطقة عازلة- منطقة خارج كل قانون، تتضمن حزاماً سكنياً واسعاً. قانونياً، حافظت إسرائيل على هذه المناطق ضمن نفوذ "بلدية القدس" على الورق؛ أما على الأرض، فأغلبية هذه المناطق تقع خلف الجدار، أو حوله، أو جزء منها خلفه، وجزء منها أمامه. هذا الواقع- الفرق ما بين القانوني والميداني- خلق حالة فريدة: المنطقة تتبع لـ"بلدية" القدس قانونياً، لكنها خلف الجدار، وبالتالي لا تصل إليها الخدمات والترميمات والبنى التحتية؛ وفي الوقت ذاته، وبسبب التبعية القانونية، فإن السلطة غير مخولة الدخول إليها، أو العمل فيها خدماتياً أو سياسياً، على الرغم من أنها، ميدانياً، أقرب إلى الضفة منها إلى القدس. وهو ما خلق منطقة حدودية لا تخضع لسيطرة أحد، ولا لرقابة أحد، تنهشها الأوبئة والإهمال وانتشار الجريمة والمخدرات، وخصوصاً أن إسرائيل لا تتدخل إلا إذا كان هناك حالة أمنية تستوجب منها التدخل.

هذا الوضع الفريد، ألقى بظلاله على السكان أيضاً. فالمخيم، مشكّل من ثلاث فئات مركزية تعيش فيه، وجميعها تعيش حالة "موقتة": أولاً، اللاجئون الذين ولدوا في المخيم ويعيشون فيه؛ ثانياً، الفلسطينيون من حمَلة الإقامة المقدسية، المتزوجون من الضفة الغربية، ومرغَمون على السكن في منطقة تتبع لبلدية القدس قانونياً، بسبب أوراق لمّ الشمل وإثبات العنوان؛ وثالثاً، الفلسطينيون من سكان القدس الذين لا يملكون الإمكانات المادية للانتقال منه إلى مدينة القدس، حيث أسعار الشقق مرتفعة جداً، ولا تستطيع العائلة تحمُّلها. أما العامل الإضافي الذي يميز سكان المخيم من غيره، فهو حقيقة أن أغلبية سكانه تحمل بطاقة إقامة إسرائيلية زرقاء، تسمح لهم، عملياً، ببعض حرية الحركة، يدفعون الضرائب لبلدية القدس، على الرغم من أنها لا تمنحهم أي خدمات تُذكر، يرتبطون بالضفة ويرتبطون بالقدس في الوقت ذاته. أما البناء، فإنه يتم من دون تخطيط، ومن دون مراقبة سلامة، ومن دون محددات، إلا محدد ربح المقاول الذي يعرف أكثر من أي شخص آخر أن من يريد المنزل لا يملك بديلاً منه، فتغدو البنايات شاهقة، تتراكم الواحدة إلى جانب الأُخرى، كأنها عشوائيات تحت الأوتوستراد، حرفياً.

ولمعرفة كمّ الفوضى التي تعيش داخل زنزانة مخيم شعفاط، من المهم الإشارة إلى أن أحداً لا يعرف عدد السكان بدقة، وهناك فقط تقديرات مختلفة؛ أما جمع القمامة، الذي من المفترض أن تكون مسؤولة عنه بلدية القدس التي تجني الضرائب، فإنه غائب، وهو ما يدفع السكان إلى حرق القمامة، في الوقت الذي قامت البلدية بإقامة مكب نفايات بالقرب من المخيم؛ أما البنى التحتية والمجاري، فإنها غير ملائمة كلياً ورُممت آخر مرة في الثمانينيات من القرن العشرين، وهو ما يدفع بمياه المجاري إلى الشوارع؛ وعند الحديث عن المدارس، فيجب الإشارة إلى أن العديد منها يقام داخل مبانٍ سكنية وتجارية، وتكون الأونروا مسؤولة عن التعليم أساساً داخل المخيم؛ أما إمداد المياه الصالحة للشرب فهو أيضاً يعاني نقصاً حاداً؛ والإضاءة في ساعات المساء، فإنها حصراً للطريق الرئيسي. أما تجربة السير داخل مخيم شعفاط، فإنها أقرب إلى السير في حقل ألغام، إذ عليك الهروب دائماً من تجمعات المياه، ومن فوضى السيارات، ومن القمامة المرمية في كل مكان. وطبعاً، هذا كله محاصر بحاجز يمر عليه يومياً ما يقدَّر بـ80 ألفاً، وبحسب دراسة إسرائيلية، فإن مدة الانتظار عليه تمتد ما بين  45 و90 دقيقة من الانتظار اليومي.[3]  أما ما يزيد من تركيب الصورة بخصوصه، فهو حالة التهديد الدائم التي يفرضها عليه الاحتلال، بتحويله إلى "ضفة- سيطرة السلطة"، وهو ما سيجعل جميع سكانه يخرجون منه، بهدف الحفاظ على الإقامة المقدسية.

مخيم، من دون سياسة مخيم

خلال مقابلة أجراها أحد سكان المخيم مع قناة "كان" الإسرائيلية، بعد العملية التي حدثت على الحاجز، سأله المذيع عن الدافع إلى تنفيذ عملية. فرد بالقول: الضغط؛ الناس مضغوطة. وبغض النظر عن وقاحة المذيع الإسرائيلي الذي يسأل عن أسباب استهداف الحاجز في هذه الظروف التي يعيشها المخيم، إلا إن في الإجابة إشارة إلى الوضع السياسي الذي يعيشه المخيم، حيث لا تنشط فيه الفصائل كما يجب، كما لا تنشط عموماً في مدينة القدس بسبب تضييقات الاحتلال من جهة، وبسبب حالة الضعف التي يمر بها النظام السياسي الفلسطيني، وضعف قدرته على التنظيم وإدارة حياة الفلسطينيين وتنظيمهم سياسياً. فمنظمة التحرير باتت محصورة في إطار "الدولة"، وتراجعت مكانة الفصائل على عتبة تقوية السلطة السياسية المحصورة بمناطق "أ". هذا عموماً، أما بشكل خاص، فإن "مخيم شعفاط"، وبسبب المكانة المميزة لسكانه، يعيش حالة موقتة دائماً: الإقامة المقدسية بحد ذاتها موقتة؛ الوجود في المخيم موقت؛ وسكانه وصلوا إليه، كلٌّ لأسبابه، ومن مواقع مختلفة وأماكن وخلفيات مختلفة، وهو ما يجعل تنظيمه سياسياً أصعب بكثير، وبصورة خاصة بسبب اللجوء المستمر إليه، وبالتالي التغيير الدائم في تركيبة السكان وخلفياتهم.

هذا أيضاً ما ينعكس على الحالة الاجتماعية في المخيم. إذ تخلق حالة عدم وجود دولة، وعدم وجود بنى سياسية قادرة على تنظيم المجتمع وتعويض غياب الدولة، وكذلك عدم وجود بنى اجتماعية متماسكة وقادرة على ضبط السكان، حالة من الفوضى التي تسمح بانتشار المخدرات بصورة واسعة- إذ يُعد المخيم من أكثر مناطق انتشار المخدرات في منطقة القدس، والتي تباع بالقرب من المدارس، وعلى الحاجز أمام الجنود. وهذا يعود إلى انفتاحه على السوق الإسرائيلية باتجاه واحد، وكذلك انتشار العنف الاجتماعي الداخلي وفوضى انتشار سلاح الجريمة. ومن هنا، يغدو المخيم أقرب إلى البلدات العربية في أراضي الـ 48، بعد تفكُّك الحركة الوطنية والبنى الاجتماعية، منه إلى مخيم قلنديا القريب مثلاً، حيث الفصائل لا تزال مسيطرة وتتحمل مسؤولية ضبط المخيم- كما تشكل الهوية الوطنية والتنظيم السياسي بديلاً من غياب السلطة الحاكمة و"الدولة"، فتنظم الناس وتضبط الإيقاع. وباختصار، ما يميز المخيم عن الأحياء المهمشة، هو هويته السياسية المتماسكة- أما مخيم شعفاط، كـكفر عقب، فينتقل بين كونه حياً عشوائياً في البرازيل، وكونه مخيماً فلسطينياً- وتدفعه إسرائيل بالقوة إلى تفكيك فلسطينيته. وهذا ما يفسر مقولة "الضغط"- ومن دون إطار سياسي ينظم الظلم، تتحول المأساة إلى ضغط مستمر على السكان من دون قدرة على تشخيصها بالشكل الصحيح، ليبدأ المجتمع بأكل ذاته داخلياً.

محاصراً... ببوابة

المخيم محاصر دوماً. فبسبب تركيبة سكانه المختلطة ما بين إقامة دائمة تُمنح لأهالي القدس وبين وجود فلسطينيين من الضفة فيه، تحاصره إسرائيل طوال الوقت. فهو مفتوح على الضفة بحاجز وشوارع تؤدي إلى حاجز قلنديا من جهة عناتا، ومفتوح بحاجز آخر تجاه بلدة شعفاط والقدس عموماً. أما الجدار فيحيطه تقريباً من جميع الجهات. لذلك، فإن المخيم محاصر دوماً، طوال الوقت، ويبدو كزنزانة كبيرة جداً تحدّها بوابة تسمى "الحاجز"، تسمح لحمَلة الهوية الزرقاء، بعد الفحص طبعاً، بالمرور إلى القدس، ولا تسمح لحمَلة الهوية الخضراء بالمرور، إلا من طرف عناتا تجاه الضفة الغربية. وهذا ما يفسر قدرة قوات الاحتلال على محاصرته خلال ساعات معدودة بعد العملية، إذ لم تقم عملياً إلا بإغلاق البوابة على أسرى الاحتلال الذين يعيشون في معازل وسجون بُنيت لتكون موقتة، فباتت ثابتة لا يزداد عليها إلا كمية الأسمنت الخانقة.

يشكل مخيم شعفاط صورة مصغرة عمّا تريد إسرائيل أن تكون عليه حياة الفلسطيني داخل فلسطين: محاصرة ببوابة، فيها حرية خروج ودخول بحاجز يسمح أو لا يسمح، استناداً إلى المكانة "القانونية" وحُسن السير والسلوك، يمكن إغلاقها وعزلها في أي لحظة- حرفياً، في أي لحظة تعتقد قوات الاحتلال أنها تريد ذلك، معزولة عن محيطها وعن امتدادها على طرفيْ الاحتلال بين 48 و67، ومن دون هوية سياسية. وباختصار، تريدنا إسرائيل تحت أوتوستراداتها، أحياء فقر من دون هوية سياسية، تعيش في حالة تهديد دائم لوجودها ومكانتها القانونية والسياسية والمادية. وما انتفاض القدس لفك الحصار عن مخيم شعفاط، إلا رسالة غاية في الوضوح يرسلها الفلسطيني مرة أُخرى، تفيد بأن هذا الواقع لا يمكن أن يستمر.

 

[1] "المخيمات في الضفة الغربية"، وكالة "وفا"، متوفر على الرابط التالي.

[2]مقالة منشورة في "مجلة مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، العدد 107 (صيف 2016)، متوفرة على الرابط التالي.

[3]دراسة تحت عنوان "الأحياء العربية في شرق القدس"، معهد القدس لأبحاث السياسات، متوفرة على الرابط التالي.

انظر