مراجعة كتاب ماهر الشريف، "مفهوم التحرر في منظار الثقافة النقدية الفلسطينية (1948-1994)"
التاريخ: 
06/10/2022
المؤلف: 

كتاب "مفهوم التحرر في منظار الثقافة النقدية الفلسطينية (1948-1994)" هو أحدث ما صدر للباحث ماهر الشريف رئيس وحدة الأبحاث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وموضوعه جزء من عمل الشريف البحثي، إذ سبق أن كتب عدداً من الكتب والدراسات والمقالات في حقل الثقافة العربية النقدية منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وكان آخر ما صدر له كتاب "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة"، عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية قبل عامين، وقد عدَّ المؤلف إصداره الجديد استكمالاً لجهوده السابقة في هذا المضمار.

والكتاب في أصله ورقة قدمها المؤلف لمؤتمر "الثقافة الفلسطينية اليوم: تعبيرات وتحديات وآفاق"، الذي نظَّمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في جامعة بيرزيت سنة 2021. اعتمد الكتاب على المنهج الوصفي، واهتم بتبيان مواقف وآراء مجموعة من المثقفين النقديين الفلسطينيين المعروفين على نطاق واسع، مثل غسان كنفاني وإدوارد سعيد وهشام شرابي وأنيس صايغ وغيرهم، بشأن عدة قضايا تشغل الحقل الثقافي الفلسطيني، منها: دور المثقف النقدي في المجتمع وعلاقته بالسياسة، وملامح الخطاب النقدي، ومفهوم التحرر وسبل بلوغه، والصهيونية ومعاداة السامية والتطبيع الثقافي، وسبل حل الصراع في فلسطين. ووفق الشريف، فقد اتصفت عيِّنة المثقفين التي سرد آراءها في نصِّه بكونها من مشارب متعددة، ومن الأسماء المبدعة في ميادين الفكر والأدب والتاريخ، ومن المحسوبين على مشروع منظمة التحرير، ومن التي صدَّرت موقفاً نقدياً من اتفاق أوسلو والقيادة التي وقَّعته.

من هو المثقف النقدي؟

ميّز الشريف المثقف النقدي من غيره من المثقفين، كونه مستقلاً عن السلطة، وحاملاً رسالة في حياته، وموظِّفاً معرفته في خدمة الصالح العام، وساعياً بجد لإصلاح "السياسة وتهذيب ممارساتها وتغيير دلالاتها"، وقد أوضح في نصه نظرة عدد من المثقفين النقديين إلى المثقف ودوره؛ فعند إدوارد سعيد، هو المرتبط "بواقع حركة ما، وطموحات شعب ما"، ويقوم "بمساءلة السلطة، ويبحث عن بدائل"؛ وعند أنيس صايغ، هو المنشغل بتأمين القدر الكافي من الحرية والاكتفاء المادي لمجتمعه، والملتزم بقيم أخلاقية، مثل الصدقية واقتران القول بالفعل؛ وعند هشام شرابي، هو المالك لوعي اجتماعي يمكّنه من ممارسة دور اجتماعي؛ وعند فيصل درّاج، هو المدافع عن الحق والمنتصر للحقيقة.

محتوى الكتاب

تناول الفصل الأول ظاهرة الالتزام في الثقافة الفلسطينية، وتحدث عن تقييم غسان كنفاني لتجربة المثقفين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1948، بعد النكبة، فاعتبرها "نموذجاً تاريخياً للثقافة المقاوِمة"، وامتداداً للظاهرة الثقافية ما قبل النكبة، وسلَّط الفصل الضوء على بروز المثقفين النقديين العرب منذ ثمانينيات القرن العشرين، وأشاد بتمكُّنهم من إيجاد "مناخ حواري منفتح"، وسعيهم لـ"إبطال الأسس النظرية للسلطة الدينية والسياسية"، ونجاحهم، بحسب قول الشريف، في جعل امتلاك العرب والفلسطينيين لـ "المناهج والمفاهيم الغربية أمراً ممكناً"، وقدرتهم على مناقشة المسكوت عنه في الثقافة العربية، مثل قضايا السلطة والمرأة والجنس، وشرح الفصل تصوُّر المثقف النقدي للعلاقة بين الثقافة والسياسة، وأبان نوعاً من التباين في وجهات نظر المثقفين النقديين في الموضوع، إذ دعا سعيد إلى عدم ارتباط المثقف بأي شكل بالسلطة، وفي الوقت الذي فصل جبرا إبراهيم جبرا بين الثقافة والسياسة، اعتبر شرابي أنه لا يمكن للمثقف "أن يتجنب الخوض في غمار السياسة"، وآمن كنفاني بأن للثقافة مهمة في المشروع السياسي، فهي" تشرح وتستنهض وتوجّه"، ونادى صايغ بإعطاء المثقف الحرية في أن يقول ما يريد، وأن يأخذ منه السياسي ما يريد، أما محمود درويش فانتقد "الخلط بين الثقافي والسياسي لمصلحة اليومي."

وأبرز الفصل الثاني مقولات المثقفين النقديين بشأن خصوصية الهوية الفلسطينية التي اكتسبتها في مواجهة المشروع الصهيوني، وبكون الثقافة الفلسطينية أداة لمقاومة محاولات طمس الهوية، وتحدث الفصل عن رؤية المثقفين لجوهر الضعف الفلسطيني والعربي في مواجهة المشروع الصهيوني، إذ ينبع، وفق تقييمهم، من "بينة المجتمع نفسه"، ومن الفجوة الحضارية بينه وبين المشروع الصهيوني، ويمكن ملاحظة ذلك التقييم في حديث وليد الخالدي عن الكيانات السياسية العربية الهزيلة وتبعيتها للاستعمار، وتركيز كنفاني على دور "البنية الطبقية" لقيادات الحركة الوطنية الفلسطينية في الهزيمة، وتبنّي إبراهيم أبو لغد مقولات قسطنطين زريق وصادق جلال العظم في التخلف العلمي والحضاري والفساد الاجتماعي والاضطهاد الداخلي، واهتمام فيصل درّاج بغياب القدرة على وصول قوى المقاومة إلى مشروع موحد.

وتناول الفصل أيضاً ارتباط المثقف النقدي بالعمق العربي للثقافة الفلسطينية، كما في كتابات كنفاني بشأن ارتباط أدب المقاومة الفلسطينية بالبعد العربي، وربْط درّاج بين "مآل مشروع الحداثة العربية والقضية الفلسطينية"، واعتبار الخالدي أن للقضية الفلسطينية بعدين، فلسطيني وعربي، في آن معاً، وإقرار شرابي بأن تحرير فلسطين جزء لا يتجزأ من مشروع تحرُّر المجتمع العربي؛ وأظهر الفصل أن المثقفين النقديين الفلسطينيين منفتحون على الثقافات المتنوعة، وهذا واضح بجلاء في نقد سعيد لصدام الثقافات، ودعوته إلى انفتاح الثقافة العربية على الغرب، وعلى الثقافات الكبرى، مثل الصينية والهندية، ومناداة شرابي لفهم أنفسنا حتى نستطيع فهم الغرب، وحل عقدة الغرب النموذج والعدو في آن معاً.

واهتم الفصل الثالث بإبراز رؤية المثقف النقدي لمفهوم التحرر، وربطه بين التحرر الوطني والتحرر المجتمعي، وأبان مقاربته لمفهوميْ الحداثة وتحرُّر المرأة، ومناداته بضمان الحريات الفردية والجماعية، واعتباره الديمقراطية "محور عملية التحرر"، وتقديمه رؤية للوصول إلى التحرر، تعتمد على الأخذ بأسباب الحضارة المعاصرة، كما استعرض الفصل الجهود التي تبذلها الحركات الاجتماعية الجديدة القائمة على فكرة اللاعنف، وحاجة العرب والفلسطينيين إلى لغة حديثة، وتسلُّح بالعقل والعلم.

وفي هذا الصدد، شرح الشريف تبنّي سعيد دعوة فرانز فانون إلى تحوّل الوعي القومي إلى وعي اجتماعي، وانتقاد شرابي عدم إدراك منظمة التحرير العلاقة بين الوعيين، ورأى كلٌّ من سعيد وشرابي ضرورة خوض معركة الحداثة، وانتقادهما الخطاب الاجتماعي للحركات الإسلامية، مع إقرارهما بدورها في النضال الوطني ضد الاحتلال، وافتراض شرابي أن قضية تحرُّر المرأة تعني المجتمع بأسره، وتحرُّرها مرهون بـ" تفكيك النظام الأبوي"، وقول إصلاح جاد إن حركة "فتح" ظلَت تحدّ من محاولات المرأة تحدّي السيطرة الأبوية عليها، وأن تأسيس السلطة الفلسطينية كان تراجعاً للتقدم الذي أحرزه المجتمع في قضية تحرُّر المرأة.

وتناول الفصل خلاصات المثقفين النقديين بشأن سبل بلوغ التحرر، بما فيها الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة، كما في كتابات إسحاق موسى الحسيني، واعتماد القانون والأساليب اللاعنفية في النضال، وخصوصاً أن الثورة بمفهومها السبّاق، لم تعد، وفق رأي المثقفين النقديين، ملائمة ومتوافقة مع معطيات العصر، ولا بد من تحقيق انتقال شامل، بحسب شرابي، من نظام الأبوية إلى الحداثة، تؤسس لها حركات اجتماعية جديدة، كما يتطلب تحقيق التحرر اعتماد لغة حديثة، والتسلح بالعقل والعلم والتعليم الحديث، أمَّا الشكل النضالي الأفضل فلسطينياً، فالانتفاضة الأولى، بالنسبة إلى المثقفين، هي لحظة ملهمة ونموذج ثوري ديمقراطي مناسب.

وركز الفصل الرابع على نقد المثقف لمقولات المشروع الصهيونية، مثل الشعب اليهودي، ومركزية إسرائيل في حياة اليهود، كما في كتابات إميل توما وصايغ والخالدي وكنفاني، وأشار الفصل إلى اهتمام المثقفين، من أمثال توما وكنفاني وصايغ،  بإبراز عنصرية الحركة الصهيونية، سواء في أدبياتها، أو في ممارساتها على الأرض، وارتباطها بالإمبريالية من لحظتها الأولى، وعرَّج على موقف المثقفين من ظاهرة اللاسامية، إذ اعتبرها كلٌّ من توما وكنفاني ظاهرة تاريخية، وانتقد سعيد معالجتها عبر اضطهاد الفلسطينيين وحرمانهم من وطنهم، وتطرّق الفصل إلى موقف المثقفين من ظاهرة التطبيع، مشيراً إلى أن كنفاني كان من أوائل المثقفين الذين عالجوا الظاهرة في مقالة له سنة 1972، كما أن محمود درويش تناول الظاهرة من زاوية "الغزو الحضاري الأميركي"، أمَّا صايغ فاعتبر التطبيع مرضاً معدياً يجب على المثقف "التجنُّد" ضده.

ورصد الفصل الخامس رؤية المثقف النقدي لصراع الفلسطينيين مع المشروع الصهيوني، ونقاشه لسبل حل هذا الصراع، وموقفه من مشاريع التسوية، بما فيها اتفاق أوسلو وحل الدولتين وحل الدولة الواحدة. ووفق الشريف، فقد رأى سعيد أنه لا بد من اعتراف متبادل بين طرفيْ الصراع، وأن على الإسرائيليين أن يتحملوا المسؤولية عما حدث للفلسطينيين، مع تأكيده أنه لا يدعو إلى رحيل الإسرائيليين عن فلسطين، في حين رأى شرابي أن الصراع في فلسطين صراع قومي "يتطبع بطابع حضاري"، بينما أرجع صايغ الصراع إلى وجود تناقُض جوهري بين المشروع الصهيوني ومحيطه الفلسطيني والعربي، ولا "تعايش مطلقاً بين الحق العربي والشر الصهيوني في فلسطين."

وأظهر الفصل معارضة المثقفين النقديين لاتفاق أوسلو، وإجماعهم على أن دولة الاحتلال لا تبحث عن حل حقيقي للصراع، وأن المسار التاريخي الذي خطّته لنفسها منظمة التحرير كان بالضرورة سيؤدي إلى اتفاق أوسلو، أو ما يشابهه، وسلَّط الفصل الضوء على رؤية المثقفين للصراع ومشاريع حلّه، والتي تقوم على الإيمان بأنه ما من حل عسكري للصراع مع الاحتلال، وتقْبل مسار تسوية أقل ظلماً، كما في تبنّيها حل الدولتين، ثم تحوُّلها إلى حل الدولة الواحدة (دولة ثنائية القومية أو دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها)، وتدعو إلى إعادة بناء الجبهة الداخلية لتكون قادرة على الضغط على دولة الاحتلال لقبول الوصول إلى تسوية حقيقية، وقد استثني من هذه الرؤية الصايغ الذي بدا وحيداً بين المثقفين النقديين ممن عارضوا المسار كاملاً، ودعوا منظمة التحرير إلى العودة إلى أصولها والنزول تحت الأرض.

ملاحظات حول الكتاب

الكتاب في مجمله استعادة لآراء عيِّنة من المثقفين النقديين الفلسطينيين، وهي آراء ومواقف بحاجة إلى تأمل ونقاش وتحليل ونقد، لكن المؤلف اختار أن يقتصر نصه على نقل تلك الآراء والمواقف من دون إبداء رأيه فيها، أو تحليله لها، وكأنه يقول للقارئ: يكفيني أنني جمعتُ لك هذه الآراء والمواقف، والدور عليك في تحديد موقفك منها بالقبول أو الرفض، وكان حريٌّ بالمؤلف، وهو المطّلع على الحركة الثقافية النقدية منذ أعوام، أن يبدي رأيه، وأن يمارس نقده، وألّا يظهر بمظهر الناقل فقط، أو المُجَمِّع، وخصوصاً أن آراء المثقفين ومواقفهم التي عرضها تثير في الذهن أسئلة كثيرة عن صوابية قراءتهم لتاريخ منطقتنا وشعوبها وتطلعاتها، ومدى التصاقها بالواقع والميدان، والدوافع العميقة التي دفعتهم لتبنّي هذه القراءة، وتحولات آرائهم ومواقفهم من بعض القضايا، وفرص تحقُّق ما تبنّوه من خيارات في الحاضر ومستقبلاً.

والحقيقة أن تاريخ الأمة العربية منذ قرن، أو أكثر، وواقع الحال في فلسطين والوطن العربي في هذه المرحلة العصيبة يثير التساؤل عن جدية وأهلية مواقف وآراء عيِّنة المثقفين النقديين التي سردها المؤلف، والمجال هنا لا يتسع للإشارة إلى كل الآراء، ولكن انظر أيها القارئ الكريم إلى تنظيرهم المبكر لمسار التسوية التي ثبت فشلها الذريع، وتشجيعهم قيادة منظمة التحرير على الدخول فيها، رغم علمهم المسبق بطبيعة الواقعين الإقليمي والدولي وطبيعة القيادة الفلسطينية، ثم تبنّيهم حل الدولتين، ثم انتقالهم، بعد فشل حل الدولتين، إلى حل الدولة الواحدة، والذي يبدو هو الآخر أقرب إلى التصور الذهني غير القابل للتحقق، لا اليوم ولا غداً، وانظر إلى تنظيرهم للنضال القانوني وتركيزهم على اللاعنف، ورفضهم الكفاح المسلح في لحظة تاريخية يذهب فيها العالم بأسره نحو المواجهة الشاملة التي ستطحن القوى الضعيفة، وانظر أيضاً إلى استحضارهم الدائم لتجربة الانتفاضة الأولى، على الرغم من أن شروطها الميدانية لم تعد قائمة منذ أوسلو. 

سأختم بملاحظة أخيرة تتعلق بطبيعة العيِّنة التي اختارها المؤلف لتعبِّر عن الحركة الثقافية النقدية، وعلى الرغم من أنها اشتملت على عدد من كبار المثقفين النقديين، فإنها استثنت آخرين، وفي هذا إجحاف بحق المستثنيين، وكان بالإمكان وضعهم مكان مَن هم دونهم في الثقافة والفكر والنتاج ممن ضمتهم العيّنة، وليته منح آراء بعض المثقفين النقديين ممن شُملوا في عيِّنته مساحة أكبر في النص لِما لها من أهمية.

عن المؤلف: 

عوني فارس: كاتب وصحافي فلسطيني.