نظمت مؤسسة الدراسات الفلسطينية يوم الخميس الموافق 15 أيلول /سبتمبر 2022 ندوة لإطلاق كتاب "معركة مخيم جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي"، من تأليف جمال حويل الذي شارك في الندوة، وشاركه عبد الرحيم الشيخ، أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، بمداخلة نقدية حول الكتاب. وقد نُظمت الفعالية ضمن "مهرجان فلسطين الدولي للكتاب"، بحضور جمهور واسع من المهتمين والطلاب والأسرى المحرّرين.
صدر الكتاب، الذي قدَّم له الأسير والقائد الوطني مروان البرغوثي، في خمسة فصول، عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهو شهادة حية عن معركة مخيم جنين، وحالة تأمُّل عن قُرب شديد بالمعركة، تاريخياً ومكانياً وروحياً، ذلك بأن جمال حويل هو أحد قادة معركة مخيم جنين، وأسير محرّر أمضى في السجون الإسرائيلية 11 عاماً، وهو حائز درجة دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة القاهرة، وماجستير في الدراسات العربية المعاصرة من جامعة بيرزيت.
حويل أوضح أنه كان طالباً في برنامج الماجستير في سنة 1997، وأن فكرة تدوين تاريخ المعركة انبثقت خلال الحصار في المعركة نفسها، وذلك عندما تحدث مع رفيقه أبو جندل- رئيس غرفة العمليات في تلك المعركة، بخصوص ضرورة توثيق المعركة للأجيال القادمة، لحظة بلحظة. وبعد أن نفذت الذخيرة، واعتُقل حويل في اليوم الأخير من المعركة وأصبح أسيراً في سجون الاحتلال، أكمل مشواره في كتابة هذا التاريخ داخل السجون، من خلال لقائه رفاق السلاح في المعركة الذين تم أسرهم، علماً بأن كثيرين آخرين استشهدوا. بدأ حويل بالكتابة، كما أشار، من خلال تحرير الكبسولات والأوراق المشفرة إلى خارج السجن، وكان حينها مرتبطاً بخطيبته حنين العكر التي كانت تعينه على الاحتفاظ بتلك الشهادات. وبعد التحرُّر من السجن، التقى زميله السابق في الدراسة عبد الرحيم الشيخ، الذي صار أستاذاً في جامعة بيرزيت، حيث أكمل حويل ما تبقى له من المساقات، ورسالة الماجستير التي اقترح عليه الشيخ محورتها حول معركة المخيم.
وكان حويل مكث فترات طويلة في التحقيق في محاولة من المحققين الصهاينة للحصول على اعترافات تدين المقاومة والقيادة الفلسطينية. لكنه كان مؤمناً بالقدرة على الانتصار، وبعدالة القضية، وتوفر الغطاء السياسي والمالي واللوجستي والعسكري والتحام الجماهير الذي وفّر الأرضية الصلبة لتكون المعركة الأولى من نوعها في فلسطين، بعد احتلال الضفة الغربية في حزيران/يونيو 1967، والتي أصبحت نموذجاً في الانتصار للمقاومين في جبهات أُخرى في لبنان وفلسطين.
وقد استهل عبد الرحيم الشيخ مداخلته بأربع ملاحظات سياقية حول الكتاب من حيث: الحدث، والبنية، والمقولة السياسية، والمدونة. فمن حيث الحدث، أشار الشيخ إلى أن المظلومية الفردية والجماعية لا تبدأ من معركة مخيم جنين خلال انتفاضة الأقصى في سنة 2002، وذلك بقرار مواجهة العدو الصهيوني القادم لحرق "عش الدبابير"، بل من نكبة 1948، التي بسببها نشأ كيان العدو (دولة المستوطنين-إسرائيل)، ونشأ المخيم. ومن حيث البنية، أشار إلى أن معركة مخيم جنين كانت المثل النافي لاتفاقية أوسلو (قبل أن تكمل عقداً واحداً من عمرها)، ولا تزال مستمرة حتى اليوم (وقد أكملت أوسلو ثلاثة عقود من عمرها). وبذا، فالمقاومة مستمرة، وستستمر، "كجدوى مستمرة" كما أسس الشهيد باسل الأعرج، ما دامت النكبة مستمرة، وما دامت "إسرائيل" موجودة. ومن حيث المقولة السياسية، فقد أشار إلى أنه في واقع اليوم، ليس ثمة غياب للقرار السياسي بالمقاومة، بل ثمة تحوُّل من الكفاح المسلَّح إلى كفاح المسلَّح لدى الرسميتين الفلسطينية والعربية. وهذا يتطلب إعادة الاعتبار لخيار المقاومة والبندقية نظرياً، وقد أعاد له المقاومون الفلسطينيون الاعتبار، على امتداد فلسطين التاريخية ومن خارجها. وأما من حيث المدوَّنة، التي آثر الشيخ تركيز مداخلته عليها، فقد وصف من خلالها البندقية التي كتبت تاريخها عبر منهجية النار.
ففي لفتة إلى فكرة الرسالة-الكتاب، وأهدافها، وأهميتها، أفاد الشيخ بأنها جاءت لتجلية صورة معركة مخيم جنين 2002 الفعلية، من خلال شهادة تاريخية لأحد قادتها؛ وتبديد أسطورة مخيم معركة جنين، كما تم تداولها من كتابات متطفلة، ومن الإعلام، وتجسير الهوة بين الصورة والأسطورة في التدوين الرسمي والشعبي للحكاية التاريخية الفلسطينية. وبعد الحديث عن مصادر الرواية التاريخية التي اعتمدتها الرسالة-الكتاب، أشار إلى الفصول التي عالجت أربعة محاور، وهي: الخصوصية التاريخية، والعسكرية، والسياسية لمعركة مخيم جنين؛ والخلفيات التاريخية لاستهداف مخيم جنين، آخذاً بعين الاعتبار النسيج الاجتماعي والثقافي للاجئي المخيم؛ وأوديسية المقاومة التي أصبحت نموذجاً وطنياً، وإقليمياً، وعالمياً، في مقاومة الاحتلال؛ وعوامل الانتصار والصمود في معركة جنين، في ظل وضع سياسي وعسكري غير متوازن؛ أثر معركة جنين في المخيال السياسي والعسكري والثقافي: فلسطينياً، وإسرائيلياً، وعربياً، وعالمياً. وذلك انطلاقاً من فرضية تفيد بأن خصوصية معركة جنين، مواجهة وانتصاراً، نبعت من قناعة لاجئي المخيم بأنه لا ملاذ آخر لهم، ولا لجوء مرة أُخرى؛ والتفاف هؤلاء واحتضانهم للمقاومين؛ وتوحُّد قوى العمل الوطني والإسلامي تحت قيادة عسكرية واحدة و"غرفة عمليات مشتركة".
وقد كرَّس الشيخ معظم مداخلته للحديث عن "منهجية النار" التي اعتمدها حويل في الكتابة، إذ كان المقاوم هو الباحث، ولا فاصل بينه وبين نار المعركة، حيث كتبت البندقية التاريخ مرتين: في صناعة الحدث، وفي تدوينه على أربع مراحل: في الميدان، والسجن، والجامعة، والمؤسسة البحثية. وذلك لتدوين ذاكرة تفصيلية لصيقة بالحدث للحروب الثلاثة وكيفية خوضها، ويومياتها لحظة بلحظة، مشفوعة بالتحليل السياسي والعسكري والثقافي؛ وبحث العقائد القتالية لحركات متميزة في حركات المقاومة؛ ورصد التغيُّرات التي طرأت على السلوك الحربي الصهيوني من خلال: إعداد الأسباب "الموجبة" للحرب، وآليات البدء والتدرُّج في التصعيد الحربي، والحرب النفسية والإعلام الحربي؛ مقارنة تداعيات المواقف العربية والدولية من هذه الحروب، وتكرار السيناريوهات ذاتها كل مرة، وهو ما يكشف عن بعض الأجندات المتطابقة، أو المتناقضة، للفواعل السياسية الإقليمية والعالمية، وكيف تعامل القانون الدولي مع ذلك كله؛ التأكيد أن خيار المقاومة المسلحة لا يزال قائماً ومشروعاً ما دامت الأرض العربية، فلسطينية أو لبنانية، محتلة، في ظل الاحتلال الصهيوني المتواصل، وفي ظل قناعة البعض باستنفاد خيار المقاومة المسلحة، وبصورة خاصة بعد إعلان فشل خيار المفاوضات، ومحدودية ما يمكن أن يقدمه خيار المقاومة الشعبية.