توطئة
1
أيّ شيء هذه الصفحات؟
أَنَدٌّ يُطلُّ على ندِّ، فَتَصْفُ[1] مزاياهما؛ أم نقيض يباري نقيضاً، فتتصدّى لمدح ذا أو هجاء ذاك؟ أَتقفُ موقف الحَكَم من فريقين بزّ كل منهما أقرانه، وجاء في معارج الخلود فوجد في وجهه مَن شَعَر إزاء مرآه بما أيقن أنه قد شعر به أخصامه الخُنَّع يوم تعفّرت جبهاتم[2] بالثرى وقد رأوه أولاً؟
أَيبرّر كتابة هذه الفصول الوجيزة أن صاحبَي شأنها شاعران وشاعرا غزل، وفي الدنيا ألف شاعر وألف شاعر غزل؟ أم إني أتلمّس في هذين الاثنين خاصة ما يقربهما من بعضهما، ويجعل إلهة الغزل تقول لربة الشعر: هما ولدانا البارّان البكران، وكلّ أشقائهما قُصَّر؟
وتحت رايتَي الحبّ – مُخضع الملأ وأستاذ البشر – والشعر – لسان حاله ومُخلّده – يقف ابن أبي ربيعة ليصافح كاتلوس [Catullus]، كأنْ لم تفرّق بين زمنَيهما – وقد شهد كل منهما فجر عصر كان أمجد عصر في تاريخ أمته – ثمانمائة عام. ولست أرى شاعر اللاتين يوبّخ شاعر الأعراب لفسق ومجون؛ ولست أسمع هذا يعذل ذاك على سويدائه وخنوعه لامرأة فلا يعشق سواها - بل أرى العاطفة الواحدة – وإن بمظاهر اختلفت – تبثّ قبساً منها في صدر كليهما، وتقول للواحد: اِعشقْ، ومت، واحْيَ بموتك؛ وللآخر: اُفجر وامرح، وعش خُلداً.
أَتُفلح هذه الرسالة في تصوير الشخصين وما اختلجت به مشاعرهما وما أتحفا به الإنسان، في المقارنة بينهما وفي المقابلة؟ أتجعلهما يقفان أمامنا، وكأننا نراهما في عَرْضٍ قبالة ديّانهما الذي امتزجت في خفاياه خفقتا الشعر والحبّ: يسألهما ويجيبان، يلوم ويبرّران، ويُطري فيخجلان حيناً ويكبران حيناً؟
لست ممّن طُبع على التفاؤل مزاجُه، لكني ممّن خُلق وفي جِبِلّته حبّ المحاولة والسعي. وإذاً فهذه الصفحات محاولةٌ وسعيٌ، إن هي لم تصل أدّت، وإن لم تلثم حجر الكعبة الأسود مشت متوكأة[3] على عصاها في طريق الحجّ الوعر.
2
عجباً لهذا المخلوق، الذي نعرف عنه آلاف الأشياء حتى من دقائق وتفاصيل، لكنه يظل مجهولاً كما لو فُطر الساعةَ في المخيّلة المقفلة العمياء! تتنازعه شتى المشاعر والأهواء، وتعبث به حيناً وتقذفه في السماء حيناً مختلف الملكات والميول، فينقاد مرة لعقله ومرة لقلبه، ويضيع بين هذا وذاك مراراً، فيسعد في حياته ويظنّ نفسه الرابح، ويدفنه الزمن ولا يُبقي له ذكراً. ويشقى وارث العقل وتابع القلب أثناء عيشهما ويُلحَدان حيّين، لكن الخلود يضمهما إلى صدره، ويتوّجهما على أصقاعهما مَلِكَين باسم العالم والفيلسوف والشاعر المحبّ.
قد حكم القلب، وما زال يملك ناصية حكمه؛ وبهذا تسنّى لتاريخ حضارتنا أن ينعم بهذا العدد من الشعراء ومن المحبين - أو قل من الشعراء المحبين: فأيّ شاعر لم يحبّ أو لم ينظم في الحبّ، وأيّ محبّ لم يكن شاعراً ولو في لحظة من لحظات لاوعي حبّه؟ هل هناك قصيدة أبدع من المرأة أو أروع، كل بيت فيها يفيح[4] من ثناياه عطر الحبّ الزكي؟
ولم يخلُ تاريخ الإنسان كإنسان من أَثَر الحبّ فيه – بغضّ النظر عن أية حالة اتخذها، إن عشقاً أو تصوّفاً، وإن محبة أو شهوة - وهو هو، لم يتغيّر مع الأيام؛ وإن لمحنا بعض فوارق فهي حتماً من نتاج العرض لا الجوهر الثابت. كذا – أيضاً – كان التعبير عن هذا الشعور الجارف هو هو مع الأزمنة، لم يتطور فيه إلّا نوع الفن وصدق الاختبار. فلا عجب – إذاً – إذا أحسسنا، بل العجب كل العجب أن لا نحسّ، حين نقرأ شعراً غزلياً عَتُقَ من حيث التاريخ تدهشنا روعته وتصرعنا غمرة فيه تجعلنا نقول، وكأننا سكارى وما نحن بسكارى: ويحَ ويحَ! أليس هذا ما أشعر أنا به، أَوَليس هذا ما كنت سأقوله أنا لو ملكت قوة قول القريض؟ حقاً إن الشاعر نبيّ، ولم يجعل الرومانيون للاسمين لفظاً واحداً عبثاً أو مصادفة. أَلَا يرقب أحدنا اليوم فتاته التي يعيش الحياة ويقرأ أسرار الكون عبر ابتسامة تفترّ عنها شفتاها اللتان يختبىء فيهما الإغواء، يرقبها تجلس إلى شخص آخر تحادثه وتمازحه وتضاحكه، وتَهَب ابتسامتها التي كانت إلى دقيقة مبعث الحياة في أعضاء جسمه الواهي فأضحت الآن سيفاً يقتلُ حدّهُ الآخر قبل أن يُسَلّ أو يُشحذ؟ أيّ منّا لم يختبر يوماً هذه التجربة، ولم يحسّ الأرض تدور به، ولم يشهد نفسه غريباً عن العالم والعالم غريباً عنه غرابة الطهر عن فاجرة؟ وأيّ منّا لا يقول لكاتلوس: وحقّ عينيها إنك نبي، وإنك تقول ما تقول عن لساني أنا وتعبّر عن اختباري وأساي أنا، حين تنظم فتنشد:[5]
كمثيلٍ للآلهة يتراءى لي
أو كمن بزّ الآلهة – لو كان ذاك في المقدور –
ذاك الذي يجلس قبالتك
فينظر إليك، ويصغي،
وأنتِ تضحكين بعذوبة. فيسلب مني – أنا التعس!-
كلّ ما فيّ من حواس: فإني
- يا لِسْبيا – حالما أشاهدكما كذا، لا يبقى فيّ شيء:
فلساني يتلعثم، ويخبت اللهب
المتوهج تحت أعضاء جسمي الرقيقة،
وترتعد أذناي من تلقاء ذاتيهما،
وعيناي تغيبان في ليل بهيم!
أيّ شيء في الاسم؟ يتساءل شكسبير؛ وأيّ شيء في أن يكون اسم المخاطَبة عند كاتلوس لِسْبيا [Lesbia]؟ ألا أشعر بأن صديقتي أنا هي لِسْبيا، حين يعتريني ذات الشعور؟
أَوْ أَلَسْتَ تشعر أحياناً بذاك الأسى العميق، حين يقف بينك وبين مَن تهوى حائلٌ، المناعةُ عضدٌ له، فلا تستطيع الاقتراب من فتاتك ولا التحدث إليها، فهي قريبة بعيدة وحاضرة غائبة؟ وتقرأ عمر بن أبي ربيعة: [الطويل][6]
تهيم إلى نُعْمٍ، فلا الشملُ جامعٌ،
ولا الحبل موصولٌ، ولا الليلُ مقصرُ،
ولا قُرْبُ نُعْمٍ - إن دنتْ – لك نافعٌ،
ولا بُعْدُها يُسْلي، ولا أنتَ تصبِرُ
فتقول، وفي نفسك حسرة وفي صوتك صدى لوعة: بوركتَ يا عمر، أهيم إليها لكن لا الشمل جامع ولا الحبل موصول ولا الليل مقصر، وما قُربها بنافع وما بُعدها بسالٍ وما أنا بصابر!
هي العاطفة الخالدة، أحسّ بها فرد قبل مئات السنين كما أحسّ بها كثيرون قبله وكثير بعده من ذلك اليوم إلى هذا، وأحسست بها أنا. لكن إحساسي وإحساس كافة زملائي كان فارغاً، ولم يتجسد – فيحيا - بل عبثت به رياح الخريف الوقحة، إلى أن أحسّ الشاعر فخلّد ما شعر به سابقوه وسجّل – من قبل أن تُبعَث – مشاعر مَن يلحقه من إنس وجنّ، إن وُهب الجنّ – نعمةً أو نقمة – الحسّ.
هي – أيضاً – العاطفة الخالدة هذه، تقرّب شعراء الغزل بعضاً من بعض، مع اختلاف البيئات واللغات والأزمان. تقرّبنا من الشاعر وتقرّب الشاعر من الشاعر الآخر.
ينظم الواحد مادحاً الحبّ، وينظم الآخر وتقرأ من كل بيت من أبياته هجواً له وتقريعاً وشتماً. فيعبّر كل منهما عن شعوره الخاص الذي تتذوقه، فتحبّه، فتتبنّاه، حين تختبر أنت ما اختبر هو: لأن الاختبار يقرّب عاطفته هو من عاطفتك أنت.
ويعيش شاعر عيشة لهوٍ، فيتنقل من بؤرة لهوٍ لبؤرة لهوٍ، ينقل حبه وعشقه من فتاة لفتاة، وينظم في كل منهن مادحاً، عاشقاً، متيّماً: تنفر منه واحدة وتتركه فلا يأبه لها ويرتاد منتدى أُخريات مغنياً منشداً - بينما تهيم أنت بواحدة، فتتساءل: أصادق هو في عاطفته؟.... وإنه صادق، وإن لم تحسّ الآن بما أحسّ هو به، فقد لا تحسّ الآن، أو قد لا تحسّ به مطلقاً بل يحسّ به غيرك. أو قد يعيش آخر في سبيل محبوبة واحدة ويموت بتأثير هواها ويقرض شعره في حبه ذاك - فتستنكر أنت أن يكون صادق الشعور وأنت تحاول أن تجعل كافة الزهرات تنحني أمام عقصاتك؛... لكنه صادق الشعور بالنسبة لما يختبر هو، ولما قد تختبر أنت في وقت آخر، أو لما يختبر غيرك الآن.
لن تخلد العاطفة، فتقرّب بين الشاعر والشاعر، وبين القارىء والشاعر، إلّا إن صدُقت؛ بل كيف تكون هناك عاطفة على الإطلاق إن لم تكن حقيقية وصادقة؟ ولن يخلد الشعر، وهو المعبّر عن هذه العاطفة، إلّا إن كان هو أيضاً صادقاً؛ وهو أبداً صادق – إن صدق ما يعبّر هو عنه.
من أجل هذا كانت عاطفة كاتلوس صادقة وكذا عاطفة – أو عواطف – ابن أبي ربيعة؛ ومن أجل هذا – أيضاً – كان شعر كليهما صادقاً ومحبوباً ومقتبَساً. وأنا لا أتساءل الآن – كما اعتدت أن أتساءل من قبل -: أليس كاتلوس أصدق، لأنه أحبّ واحدة، حبّاً صحيحاً أرداه؛ في حين تنقّل عمر من امرأة لامرأة؟ إنّ هذا الذي أحسُّ به قد يراه غيري عكس ما أرى، فيرى في شعر عمر صدقاً وعاطفة لم يحوهما شعر كاتلوس.
أنا أقرأ الشاعرين وأصغي إليهما يتغزلان، فلا أنكر أن كليهما أحبّ ونظم معبّراً عن حبّه وخلّد حبّه وشعره. فأُحبهما وأدرسهما وأتذوقهما، وأشعر بأن نبرات كل منهما – في أحايين معينة – هي صوتٌ صداهُ تمتمةٌ من شفتيّ.
عصرهما
1
أيّ أُسّ هو الأول: الإنسان أم العصر؛ وأيّ الدافعين هو الفاطر: طبيعة المرء الداخلية أم بيئته التي يعيش نقطة في جدولها؟
لا أسوق هذا السؤال لأعود من جديد إلى موضوع كثُر الجدال فيه حتى مُلّ. هو: أيخلق الإنسان البيئة أم تخلق البيئة الإنسان؟ إنما أستقدمه إلى هذا البحث لكي أتساءل: أيّ أثرٍ كان للعصر في تحوير شعر كاتلوس وعمر وحبيّهما؟
فأقرر أولاً أن كل بحث في دوافع الغزل عند الشاعرين، مبنيٍّ على روح العصر ومزاياه، ومغمضٍ عن طبيعة كل منهما، هو بحث ناقص إلى حدّ كبير - وقد يصدق – نوعاً – عكس هذا. فإن طبيعة الإنسان هي التي تقوده – قبل كل شيء – إلى كافة أهوائه ومختلف ميوله، متأثرة – أغلب الأحيان – بالبيئة وبوحي العصر. فأنا أجد صعباً عليّ أن أتصوّر عمر بن أبي ربيعة ينظم "اللزوميات" أو كاتلوس "في طبيعة الأشياء" [De Rerum Natura]،[7] وإن كنت أعتقد أن حال الحجاز في قرن الهجرة الأول وغبّ الفتوحات، وحال روما المتعامية عن خلافات السياسة وحركات الجيوش والمنغمسة في شهوات وأحداث حبّ وغرام، لعبا دوراً ليس بالثانوي المحض في تكوين النزعة والميل عند الشابين المحبّين والشاعرين الغَزِلَين.
2
كان العصر الذي عاش فيه ابن أبي ربيعة عصراً مجيداً في تاريخ الدولة العربية. وكان الحجاز، حيث قضى معظم حياته – أو حياته كلها باستثناء بعض رحلاته في الشمال أو في الجنوب - يجتاز مرحلة فريدة من مراحل تاريخه. فنحن الآن في مطلع العصر الإسلامي، وقد كان محمد وكان الإسلام، فعاش الحجاز – إثر دعوته – حياة جديدة يدعمها دين جديد ونظم اجتماعية لم تعتدها الجاهلية. وارتفعت السيوف، وسُمعت صهوات الخيل التي راقتها تربة كثير من البلدان المجاورة فداست فيها رافعة الرأس.
وسالت الأموال إلى الحجاز من سورية ومصر ومن العراق والبحرين، وسالت معها المؤن، فأشبعت الجزيرة الجائعة، فعَمُرت بذا القصور ومُهدت الطرق، وزُرعت البساتين والمزارع وحُفرت الآبار والعيون؛ وقلّت قيمة المال وارتفعت أثمان الحاجيات.[8] ونَعِمَ شباب الحجاز – عصرَ عمر بن أبي ربيعة – بالمال، فلم يكن خلفاء بني أمية يضنّون على أهل الوطن الأم بالمال والعطايا، بل – على العكس – كانوا يودّون أن يحجزوهم في ذلك الصقع النائي ويمنعوهم عن الوظائف والرئاسات، ليلهوهم عن السياسة؛ ويعوّضون عن هذا كله بالمنح والهدايا، فيجعلهم هذا السخاء ينغمسون في حياة لهو وطرب، ويحيون حياة اجتماعية لم يكن لهم عهد بها.[9]
على هذا الحجاز المتفتح أطلّ عمر - حجازٍ تمتّع بفيء كبير، فعاش عمر به حياة جديدة. وشَهِدهم عمر – وعاش معهم – يشتون الآن ويصيفون، رجالاً ونساء: [الكامل الأحذ]
بالخَيْفِ منزلها ومسكنها،
وتحلّ مكة إن شَتَت قصرا[10]
يقنون السبايا والرقيق والجواري، ويسترقّون الرجال ويتسرّون النساء ويستخدمون من هؤلاء وأولئك، فيأخذون عنهم حضارة الأمم المغلوبة - شأن كافة الدول المتسلطة التي لم تأخذ من الحضارة إلّا قسطاً صغيراً، فتقهر الأمم المتمدنة عسكرياً وسياسياً لكنها تنحني أمام تمدنها، كشأن الرومانيين – مثلاً – في أخذهم اليونان، كما قال هوراس [Horace]:[11]
قَهَرتْ بلاد الإغريق – المقهورةُ – قاهريها الرومانيين
وأدخلتْ حضارتها لبلاد اللاتين المتوحشة.
ورأى عمر بني قومه قد انقلبوا من حال إلى حال، فهم الآن يتأنقون في ملبسهم ومطعمهم وهيئتهم، وهم الآن يغنون ويستمعون ويطربون، وهم أيضاً يشربون الخمر، وقد خرقوا بذاك حرمة الدين الناهي عنه وانقادوا لميولهم ولما اعتادوا عليه من قبل ولما رأوه في الدول المقهورة المجاورة.[12] وهم قد شعروا الآن بالوحي الذي تبعثه المرأة في المجتمع، فشاهدوا الجواري والسبيّات يتفشّين في البلاد فيفشو معهن العبث واللهو والمجون، فتغيرت طباع الرجال وتبدل خلقهم وخضعوا لسلطانهن؛ ولم يقتصروا على الطرق المشروعة في الوصول للمرأة بل اتبعوا سبل الفسق والإثم المنكر.[13]
شاهد عمر هذا كله، وانخرط في هذه السبل كلها؛ لكن لهوه – في الغالب – كان مع النساء العربيات لا الجواري، وكان هذا اللهو – بطبيعة الحال – أكثر براءة وأقلّ إثماً من لهو السبيّات، نظراً لما كان عند المرأة العربية من الكرامة ومن العناية بأمور العرض والشرف. فكان يزور النساء، وكانت منهن من تُسفر وتعقد المجالس، وكان يتردد إليهن أحياناً ويقابلهن ويتعرّض لهن أحياناً، فينعم بمجالسهن، ويبادلهن الأحاديث: [مجزوء الخفيف][14]
رُبّ لَهْوٍ لَهَوْتُهُ
بِجَوارٍ ربائبِ
ليس في ذاك مُحْرَمٌ
وإلهِ المغاربِ
غير أنّا نشفي الصدو
رَ بِذَرْوِ التعاتبِ[15]
عاش عمر في عصر مليء بالأحداث الاجتماعية الجديدة، وفي قُطر لم يُحرم بعضَ جمال يحبّبه إلى نفس الشاعر الغزلُ ويسهّل إليه ما يصبو إليه من لقاء النساء ومغازلتهنّ والنظم في محاسنهنّ. فكان يرتاد العقيق[16] يوم يفيض ويلتئم على جانبَيه كل إنسان، ويعقد الشعراء والمغنون جلساتهم قربه. ويذهب في الصيف إلى الطائف حيث يصيف سراة القوم وكريمات نسائه. وينظر الحاجّات ويرافقهنّ حتى يصلن مكة، فيحجّ معهن ويجعل همّاً له أولاً[17] أن يلاصقهن يوم يقبّلن الحجر الأسود ويُسفرن، ويقول فيهن ما يشاء ويَشَأْنَ من شعر. ويذهب من حين لحين يصطاد مع أرفاقه،[18] أو يحضر سباقاً للخيل، أو يلعب ما استحدث العرب من لعب جديدة من الفُرس. حياة اجتماعية لم يعتدها الشعب، وبلد اجتمعت فيه جملة مزايا تحبّبه لشاعر الحب... وعمر يتنقل من مكان لمكان ومن بؤرة لهوٍ لبؤرة لهوٍ، يستوحي كل شيء لحبه ولشعره.[19]
3
هذا عمر، في طبعه الهوى، ويتيح له عصر وقُطْر بما حوياه ولم يَحْوِه عصر وقُطْر آخران بذات المقدار أن يغذّي ملكته، فينعم بذاك الترف وبذلك الرقي وبتلك الحياة الاجتماعية السائغة وبما فيها من خمر وشراب، ولهو وغناء، ولعب وصيد، ونساء وجواري،[20] يتصدى لهؤلاء وأولئك، ويقضي أيامه من ملهى لملهى ومن منتدى لمنتدى، ويقول أبياته وقصائده فيلتقطها المغنون وتُنشر بين قُطْر وقُطْر وبين ناس وناس.
كذا كان عصر ابن ابي ربيعة الذي سهّل له التمتع بكل هذه الامتيازات. أمّا عصر زميله كاتلوس فلم يكن بعيداً عنه، وإن لم يكن يطابقه تمام المطابقة. ولنقف قليلاً فندرس مزايا ذلك العصر في التاريخ الروماني، وهو – كعصر عمر – كان عصراً مجيداً، وكان يطلّ على عصر أمجد، لعله أمجد عصر في كل تاريخ الأمة.
4
في العالم اثنان – كما ذكر سعيد عقل في إحدى مقالاته -:[21] واحد يتذوّق الفن والحكمة، فيرشف لذا من حضارة الأغارقة والرومان، والآخر كافر بهذه، ولا ثالث لهما. ولا ريب عندي في أن كل فرد من أفراد أوّل هذين الفريقين الواعي يقصد - حين يولي التاريخ والتمدن الروماني هذه الثقة – قرناً واحداً منه يَبزّه فوق كل القرون، هو المائة سنة الممتدة بين عامَي 82 ق. م. و14م. ففي هذه الحقبة المباركة صفّ طويل من الشخصيات الخالدة في عالم السياسة والحرب والفكر والشعر والأدب يمرّ أمامنا كما في استعراض: إذ نرى هنا كلاً من ماريوس [Marius] وسُلّا [Sulla] ويوليوس قيصر [Julius Caesar] وبروتوس [Brutus] وأنطونيوس [Antonius] وليبيدوس [Lepidus] وأوغسطس [Augustus].[22] ونرى كاتلوس ولوكريتيوس [Lucretius] وليفيوس [Livius] وشيشرون [Cicero] وفرجيليوس [Virgil] وأوفيدوس [Ovid] وهوراس[23] - ضاربين صفحاً عن نفر كبير من الأعلام الآخرين؛ كما ونقرأ في هذا العصر أيضاً عن جملة حوادث كان لها أكبر الأثر في تاريخ الرومان ثم في تاريخ أوروبا عامة وبالتالي في تاريخ العالم: من هذه توسّع روما وفتوحاتها، وسقوط الجمهورية، والحروب الداخلية، والحكم الفردي، وتأسيس الإمبراطورية.
وهذه الفترة من التاريخ، التي – كما قلنا – تتوّج التاريخ الروماني والحضارة الرومانية من حيث السياسة ومن حيث الأدب، تُقسم عادة إلى قسمين بارزين: أولهما يتعلق بآخر مراحل الجمهورية، ويمتد من 82 إلى 43 ق. م.؛ والثاني من هذا العام إلى 14م، ويدخل ضمنه أول عهود الإمبراطورية. وفي التاريخ الأدبي يُطلق على الاسم الأول اسم عصر شيشرون، وعلى الآخر عصر أوغسطس. ومن الواجب أن ندرك أن كلا العصرين – على ما بينهما من فروق شاسعة – يكوّنان عصراً واحداً ذا مظهرين مختلفين، أثّر في اختلافهما بعض عوامل سياسية واجتماعية وفكرية. وقد كان واجباً أن ندرس العصرين معاً، لولا أن ضيق المقام يحتّم علينا أن نهتم أولاً بعصر شاعرنا المباشر، عصر شيشرون.
عاش شيشرون، ربّ الخطابة وأحد أعمدة الأدب اللاتيني، في الحقبة الممتدة بين عامَي 106 و43 ق. م.، وكان إمام الأدب في عصره، وذا تأثير كبير واضح في معاصريه وأدبهم. وفي هذه المدة كانت روما، حيث قضى كاتلوس معظم وقته – باستثناء بعض رحلاته إلى بلدة فيرونا [Verona] وإلى آسيا - في مقامٍ عالٍ من حيث الرقيّ الاجتماعي، بحيث كانت تضاهي لندن عصرَ الملكة آن، وباريس عصرَ لويس الرابع عشر.[24] أمّا من حيث الأحوال السياسية فقد كانت مملوءة بالمشاكل والأحداث والمجادلات والمشاغبات، وكانت تعجّ بوشوشات المجتمع وأحاديثه؛ وكانت كل أنديتها تلهج بأخبار الطبقات الراقية وبقضايا المحاكم المتعددة. ولم تخلُ هذه الأوضاع السياسية من تأثير في الأدب في ذلك العصر.
وإذا نظرنا إلى العصر من وجهته الأدبية وجدناه عصراً محلّقاً بين عصور الأدب، لا ينقص جلالاً عن أيٍّ آخر في الأدب اللاتيني، باستثناء الذي تلاه – أي الأوغسطيني - ففي هذه الفترة التي سيطر فيها شيشرون على الأدب كانت الحياة الاجتماعية في روما راقية جداً، إذ لأول مرة كان رقيّ الأغارقة ومدنيتهم قد أُتْقِنا بالفعل في روما وعُرف كيف يُقلَّدان؛ وفشت بذا محبة تقليد الفنّ وانتشرت محاولة الاقتداء بالمُثُل الأدبية السابقة.[25]
وكان الحكم ما يزال في يد نفر من الأرستقراطية، وعلى هذا فقد كانت السياسة تمتزج بالأدب والفن، خاصة لكثرة وجود المشاكل السياسية واندماجها بالحياة اليومية. وكان من نتائج ذلك أن صار الأدب يعالج كافة المواضيع اليومية الاعتيادية، وساد النثر على الشعر، وأصبح التاريخ والخطابة عاملَين في خدمة السياسة؛[26] ولم يُتح لأدباء العصر الهدوء اللازم للتفكير بمواضيع خالدة تهمّ كل العصور لا عصرهم فقط. ويكاد يكون انشغال الأدباء بالمشاكل السياسية عاماً شاملاً، فلا نستثني إلّا اثنين لهما قيمتهما: أحدهما فيلسوف منعزل لم يكن يهتم بالسياسة ولا بتقلباتها، فأخذ ينظم في مشاكل الكون و"في طبيعة الأشياء"، هو لوكريتيوس؛ والآخر ألمعُ ممثل للمدرسة الشعرية في عصره، بل بالأحرى الممثل الوحيد لها الذي نقرأه اليوم بشوق، وهو شاعر شاب انغمس في الملذات، وضرب بالسياسة عرض الحائط، ولم يهتم بها إلّا عرضاً ولمسائل شخصية، هو كاتلوس.[27]
ومن مميزات أدب عصر شيشرون – أيضاً – أن هذا الأدب أكثر صقلاً وإكمالاً من أدب عصر أوغسطس، لكنه ينقصه نضوجاً. على أنه يُبرز لنا فردية أكثر وقوة أكبر. ففي هذا العصر الجمهوري كانت كل ضروب الحياة تتفتح، وكان الناس قد أخذوا يشعرون – للمرة الأولى – بوجوب نوال الفرد حقوقه، إذ فيه استُبدل خضوع الفرد للدولة بالحرية الشخصية.[28]
وكان همّ طبقة الشعراء المحدثين في هذا العصر أن يدرسوا ويقلدوا أكثر من أن يخلقوا ويبدعوا. لذلك أخذ الأدباء يوجهون أنظارهم وقرائحهم إلى الشعراء اليونانيين الذين عاشوا في عصر الانحطاط، والذين ظهرت شهرتهم في الإسكندرية. وكان أثر هؤلاء الشعراء اليونانيين الإسكندريين كبيراً جداً في شعراء عصر شيشرون، بحيث أُطلق على أنبغ شعراء العصر – ومن الجملة زعيمهم كاتلوس – لقب شعراء المدرسة الإسكندرية. وكنا نحب أن نتحدث الآن عن مزايا هذه المدرسة الشعرية، لكننا آثرنا أن نرجىء هذا البحث لوقت آخر، حين ندرس مقام كلٍّ من شاعرَينا في عالم الشعر. ونكتفي في هذه العجالة بتعداد بعض صفات مدرسة الشعر هذه: فمنها الاهتمام بالثقافة المستجدة عن الطبيعة والأصل، والعناية الفائقة في صقل القصيدة وإكمالها، ووضع الصنعة – أحياناً – فوق الموهبة، والإكثار من البديع والتلميح والإشارة والاقتباس، وأخيراً استحداث الشعر الغزلي والمذهب الرومانتيكي.
في عصر هذه حاله السياسية وهذه حاله الأدبية عاش كاتلوس. وفي بلد هذه حاله الاجتماعية قضى كاتلوس سِنِيّه القصار. وقد نلمح بعض وجوه تتشابه فيها روما كاتلوس ومكة عمر ومدينته، منها أن كلاً من هذه كانت حاضرة قُطر ازداد ترفه نتيجة للتوسع السياسي وللمجد الذي أوتيته الدولة. ففي أيام كاتلوس كانت روما – رغم ما كانت تقاسيه من حروب داخلية – في توسع كبير، وكان القسم الأعظم من أوروبا خاضعاً لها. وكانت الحياة الاجتماعية راقية فاسدة، وكان الجواري والعبيد والمال والترف تتوافد من كافة الأصقاع على العاصمة. وكان الفساد منتشراً، فكنّا نقرأ في القطع الأدبية المختلفة عن الانحلال الخلقي المتفشّي، ولم نعدم بعض شواهد عن انحلال الروابط الزوجية بين الرجل والمرأة، وعن الفسق والخليلات؛ وفي بعض الحالات نجد تغزلاً بالذكور، وتروي بعض كتب الأدب أقاصيص لا نتأكد من صحتها عن سوء خلق معظم كبار أدباء العصر من هذه الناحية.
عاش كاتلوس في هذا العصر، وفي روما حيث تجلّت مزايا العصر بالصورة المثلى. فأحبّ هناك وعشق، ونظم قصائده، وخلّد حبّه وحبيبته ونفسه.
سيرتهما
1
رجلان عاشا، واحد في مكة والمدينة – قبل ألف ومائتي سنة – والآخر في روما – قبل ألفَي عام - كما عاش معهم،[29] وربما مثلهم،[30] مئات وألوف من البشر، فلم نتحّرى[31] تفاصيل حياتهما ودقائق عيشهما! هل نأمل أن نجد في ذلك ما يميزهما عن سائر مَن عاصروا ورافقوا؟.... لكن أي شيء يستطيع أن يوقف فضولنا عند حدّ، فتجدنا لا نني عن أن نتقصى أحوال الشاعرين، وأن نهرع إلى كل قصة تتعلق بالواحد منهما، وإلى كل خبر أو ذكر – مهما بسُط وتَفُه – يزيد معلوماتنا عنهما شيئاً ولو ضئيلاً.
وما أصعب أن يقدر المرء أن يكوّن لنفسه معلومات مسترسلة ضافية عن أحد شاعرينا اللذين ندرسهما. وكيف نستطيع ذلك ولم يخلّف لنا معاصروهما أو مَن لحقهما بزمن ليس طويلاً دراسة فيهما، ولم يضعوا كتاب تاريخ أو سيرة – على النمط المعترف به اليوم – بقي للآن؟ وها هما، لا تبقى لنا من سيرة حياتهما سوى معلومات بدائية وصور متفرقة واهية، وأخبار تُجمَع لكنها لا تتّحد في وحدة. وقد تقرأ الكتاب في حياة الواحد منهما، فلا تجد فيه غير صفحات معدودات ممّا هو تأريخ، وتجد الباقي حدساً وتخميناً أو استبحار[32] للشعر، علّ فيه ما يهدي – أو يضلّ أحياناً – إلى نواحي[33] من حياته.
هذه صعوبة يواجهها كل مَن يدرس الأدب القديم – العربي وغير العربي - وهذا ما يعترضنا الآن في درسنا عمر بن أبي ربيعة و – إلى حد أكبر - كاتلوس. فقد نجد عدداً من نوادر عمر، وعرضاً ونقداً لسيرته وشعره في الكتب الكلاسيكية، مثل مؤلفات الأصبهاني وابن عبد ربه والطبري والقالي والحصري وغيرهم؛ أمّا كاتلوس فلعلّ كل ما نعرفه عنه نبذ بسيطة متفرقة لا تشفي الغليل: فنعمد إذاً إلى شعره، نسأله أن يعيد علينا الصوت الذي بعثه اختلاجات في أسطورة الخلود.
2
في السادس والعشرين من ذي الحجة عام 23هـ، أي في الرابع من تشرين الثاني سنة 644م، وفي ذات الليلة التي اغتيل فيها الخليفة عمر بن الخطاب، وُلد ابن أبي ربيعة، فسُميّ باسمه عُمَراً،[34] وكُنّي بكنيته أبا الخطاب. فقيل – بعد زمن - : أيّ حق رُفع وأي باطل وُضع.[35] وُلد فتًى من قبيلة قريش، قبيلة محمد، وذات السيادة في العرب، قبل الإسلام وبعده: [الطويل]
أولئك قومي، لا وجَدِّكَ لا أرى
لَهُمْ شَبَهاً فيمَن على الأرضِ مَعْشرا[36]
ومن آل مخزوم، ريحانة قريش،[37] ابناً لعبد الله بن أبي ربيعة، التاجر الكبير، في المدينة،[38] حيث نشأ وشبّ وقضى جزءاً من حياته.
كان عمر جميل الخِلقة، ولم يعدم التغزل بنفسه لحسنه وجماله.[39] وقد كان يكتفي بالافتخار بنفسه وبالتحلي بمودته، ويذكر أن النساء إنما كنّ يحببنه ويتشوّقن إليه: [الرمل]
بينما يذكرنني، أبصرنني
دونَ قَيْدِ المَيْلِ، يعدو بي الأغرّْ
قلن: تعرفن الفتى؟ قلن: نعم
قد عرفناه، وهل يَخْفى القمرْ؟![40]
وكان طويل القامة، نحيل الجسم، شاحب اللون أسمره، في فمه علامة فارقة هي اسوداد ثنيّتَيه العُليَيَيْن.[41] وكان يتأنق في ملبسه وهندامه: روى الأصبهاني أنه كان من أعطر الناس وأحسنهم هيئة؛[42] ولا غرابة، فهو ابن تاجر كان يستجلب البرود اليمنية. وكان يحب العطر والطِّيب، ويمشي مشية خاصة.[43]
نشأ شاباً ثرياً مرهفاً. أحاط النعيم بشبابه، وتيسّرت له سبل الرفاهية والترف؛ وقد سهّل له المال طرق اللهو، فكان ينفق عن سعة على أرفاقه وصديقاته، وكان يزين هيئته ويعتني بهندامه، ويسير أحياناً بموكب يدهش الناظرين.[44]
هذا كان عمر بن أبي ربيعة، وليد المدينة، حيث قضى أكثر أيام حداثته وشبابه، يرافق أصحابه، ويتأدب على أيدي متأدبيها فينشأ نشأة أدبية وعلمية راقية،[45] فيعرف القراءة والكتابة والقرآن والحديث والشعر وشيئاً من أمور التجارة والحساب.[46] قضى هذا الشاب النبيل، الجميل، المترف أيامه يخالط أصدقائه[47] – أمثال خالد القسري[48] وابن أبي عتيق[49] وعبد الله بن جعفر[50] – فيلهو معهم ويعبث، يصطاد ويسمر، ويؤمّ حلقات الأنس ومجالس الغناء.[51]
وترك عمر المدينة، وانتقل إلى مكة، بعد واقعة الحرة عام 63هـ - على ما يُعتقَد -[52] وفي مكة عاش قسماً كبيراً من حياته. ولم تختلف حياته هنا عنها في المدينة، فبقي يلهو ويعبث، تسهّل له مواسم الحج سبلاً جديدة، ويدعوه داعي المغنين المكيين فيستمع إليهم، ويرافقه اثنان من أشهر المغنين وثالث من المترفين فيقضي وقته معهم، هم ابن سُرَيج، والغريض، والحارث بن خالد المخزومي.[53]
وبقيت مكة موطنه، إذا استثنينا الرحلات التي كان يقوم بها، لا للتجارة بل سعياً وراء الحبيب: [الخفيف]
وأَنُصُّ[54] المَطِيَّ بالرَّكْبِ يَطْلُبْ
نَ سِراعاً بَواكرَ الأظعانِ[55]
فتنقل بين أكثر أقطار العالم العربي: ففي الحجاز كان يرافق مواكب الحاجّات ويتعرض لهن وينظم فيهنّ، وكان يتردد بين مكة والمدينة، ويرتاد الطائف، ويزور البادية وأرض بني عُذرة على الأخصّ؛[56] وفي العراق زار الكوفة والبصرة، ورافق بعض الحاجّات حتى حدود القُطر؛[57] وفي سورية خرج إلى الشام فلقي جميل بن معمر[58] في الجناب[59]، وجاء فلسطين، ولعله كان يحارب مع نسيبه مصعب؛[60] وفي اليمن – وقد كانت موطن أمه كما يُعتقَد – قام بعده رحلات وزيارات.[61]
ونعرف – غير هذا – نتفاً موجزات عن حياة ابن أبي ربيعة. فممّا نعرفه أن كانت له بعض مقابلات مع خلفاء الدولة الذين كان يقابلهم لأيّ شيء إلّا للتكسب، وما كان بحاجة إليهم: روى الأصبهاني[62] أن سليمان بن عبد الملك[63] قال له: ما يمنعك من مدحنا؟ أجاب: إني أمدح النساء ولا أمدح الرجال.[64] وأكثر الخلفاء الأمويين اتصالاً بعمر كان عبد الملك بن مروان وابنه الوليد.[65]
ونعرف – أيضاً – شيئاً عن حياته العائلية: فقد تزوج من أكثر من امرأة واحدة، وكان له من بعضهن أولاد خلفوه؛ ولا نعرف أسماء زوجاته، غير أن منهن صديقته قبل الزواج كَلْثَم بنت سعد المخزومية.[66] وكانت حياته الزوجية هنيئة هادئة، ويظهر من بعض شعره ما كان يكنّه لأبناءه[67] من حبّ ومن حزن لفراقهم.[68]
ونعرف، ممّا نقرأه عنه في الكتب المختلفة وخاصة في "الأغاني" من روايات وقصص، عن سبل اللهو التي سلكها: فقد شُغف عمر بالاستماع للمغنين في كلتا مكة والمدينة، فكان يرتاد مجالس الغناء ونوادي الأنس، يذهب إلى العقيق ويكون أول الحاضرين في مجتمعات المغنيات والمغنين. كان يحب الغناء، وكان للفن أثر كبير في نفسه وفي شعره: فقد كان يغذي المغنين بمنظومات راعى فيها أوزاناً وتعابير خاصة اختلفت عن سائر شعره. فلُحّنت وغُنيت في كافة الأقطار وكانت دعاية طيبة له.[69] ومن المغنين الذين لحّنوا قصائده ورافقوه ابن سُرَيج، قال أبو الفرج إنه كان يقال: إذا أعجزك أن تُطرب القرشي فغنّه غناء ابن سُرَيج في شعر عمر بن أبي ربيعة فإنك ترقّصه.[70] وبجانب الغناء كلهوٍ سار الشراب، لكن عمر لم يكن من الشعراء المنغمسين فيه، بل لعله لم يكن يشرب الخمر إلّا نادراً، وقد يكون سبب هذا رغبته أن يظلّ وهو مع صاحباته رجل الحديث والسمر فلا يهذر ولا يخرج من طور الأدب للسفه والفجور.[71] ولم يلهُ عمر في الصيد كثيراً، باستثناء مرات حين كان يقيم في المدينة والطائف وضواحيهما: [الخفيف][72]
فنصيد الغريرَ من بقرِ الوحْ
شِ ونلهو بلذّة الفتيانِ[73]
أمّا فرصة اللهو الأولى فكانت في مواسم الحج: يحج الناس تقوى وتديّناً ويحجّ هو طلباً للهو: [الخفيف]
يقصدُ الناسُ للطوافِ احتساباً
وذنوبي مجموعةٌ في الطوافِ[74]
فهو يرافق الحاجّات ويتعرض لهن ويتغزل بهن ويلاصقهن وقت لثم الحجر الأسواد،[75] ويرافقهن في الرجوع ويغازل بعضهن عارضاً عليهن الزواج. وشعره يعجّ بوصف حياته في موسم الحجّ؛ ولهوه – كما يظهر من الشعر – كان على نوعين: بريء لم يتعدَّ النظر والحديث، وفاسق ماجن: [مجزوء الكامل][76]
وخرجتُ أبغي الأجرَ محتسباً
فرجعتُ موفوراً من الوزرِ[77]
ونعرف – أيضاً – شيئاً عن أخلاقه: فقد كان كثير الدلّ[78] وشديد الإعجاب بنفسه عن غير تكبّر، وكان سهل الخلق، ملحّاً في طلبه، لطيف المعشر، بطيء الغضب، شفوقاً عطوفاً، محباً للعون والمساعدة، حساساً شديد التأثر، جواداً كريماً، محباً للحديث والسمر، مَلِقاً[79] يحسن تزويق الكلام، كثير الحلف والقسم، محباً للدعابة والمزح، عفيفاً في مقاله.[80] لكن هذه الأخلاق الطيبة التي عددناها – كلها - لم تكن تمنع عمر من أن يكون قد اشتطّ في عبثه وأصبح في عداد الشعراء الإباحيين والعشاق الفاسقين. قال ابن أبي عتيق: إن الله جل وعزّ ما عُصي بشعر أكثر ممّا عُصي بشعر عمر بن أبي ربيعة.[81] وقال ابن جُريج[82]: ما دخل على العواتق في حِجالهن[83] أي شيء أضرّ عليهنّ من شعر عمر بن أبي ربيعة.[84] وقد سمّته كثير من النساء بالفاسق.[85]
إلّا إن عمر – كما يقول الرواة – تاب آخر حياته ونسك، فنراه في قصائده يطلب حيناً رأي أصحابه فيما يعمل، وحيناً يتمرد على عاذليه، وحيناً يذكر نسكه. وانقطع في أيامه الأخيرة عن اللهو والطيش، وإن بقيت حياته ونفسه مرحة جذابة محببة إلى الناس.[86]
وقد اختلف الرواة والمؤرخون في زمن وفاة عمر أو مكانها أو سببها، وذهبوا في ذلك مذاهب كثيرة. وقد تكون أودت به البرداء التي طالما أسقمته، وأغلب الظن أنه مات في اليمن، في حدود سنة 93هـ، ابن سبعين عاماً.[87]
3
هذا عرض لسيرة ابن أبي ربيعة، لُخّص عن مصدر استوعب كل ما كُتب عن شاعر الغزل العربي أو قيل فيه، قديماً وحديثاً، أصلاً وعرضاً. وسوف نجد بعد لحظة – ونحن ندرس سيرة كاتلوس – أن كل هذه الروايات والأقاصيص والإشارات والاقتباسات التي عمرت بها سِيَر عمر الكبرى ناقصة – وناقصة لحد كبير – في سيرة شاعر الغزل اللاتيني. فلم يكن لنا – والحالة هذه – بدّ من أن نعمد إلى شعر كاتلوس فنتخذه مصدراً أولاً[88] لدرس حياته، وإلى بعض فصول من كتب متفرقة عن سيرته، وإلى ما كُتب في مواضع مختلفة عن النظم الاجتماعية والتقاليد المتبعة في زمنه، فاتخذناها مصدراً آخر، درسنا حداثة الشاعر على ضوئه، وتوسّعنا فيه أكثر ممّا يلزم، علّنا بهذا نلمح قبساً يضيء على حياته فيقرّبه إلى فهمنا ويقرّب شعره إلى تذوقنا.
4
في فيرونا في شمال إيطاليا، وفي بيت من أغنى البيوت، وبين أسرة من أرفع الأُسر، وُلد كاتلوس. وما زالت مشكلة سنتَي ولادته ووفاته قائمة: لكننا نستطيع أن نجزم بين أي عامَين عاش إن عُدنا إلى تراجمه الأولى وإلى بعض قصائده. فمن أقدم مَن كتب عنه القديس جيروم [St. Jerome] في إتمامه لتاريخ يوسبيوس [Eusebian Chronicle]،[89] حيث يقول إن كاتلوس وُلد عام 667 بعد تأسيس روما، أي في 87 ق. م.، وإنه عمّر ثلاثين سنة، فيكون بذا قد مات سنة 57 ق. م. لكننا حين نراجع شعره نجد هناك خطأ واضحاً في هذا القول، إذ من الجليّ أن بعض قصائده كُتبت بعد هذا التاريخ: فالقصيدة (113) كُتبت في 55 ق. م. والقصيدة (55) إمّا في هذا العام أو بعده، والقصائد (11 و29 و45) كُتبت كلها بعد حملة قيصر على بريطانيا عام 55 ق. م. ولمّا كان لا يوجد بين أشعاره ما يدل أن واحدة منها نُظمت بعد عام 54 ق. م. أو ما يشير إلى أي حادث معاصر، أصبح ممكناً أن نقول إن كاتلوس مات في سنة 54 ق. م.، وبذا تصبح سِنُوّه من 87 إلى 54 ق. م. لكن جيروم يقول إنه عاش ثلاثين سنة، فإن صحّ هذا القول أمكننا أن نجزم أن شاعرنا الشاب عاش بين سنتَي 84 و54 قبل الميلاد.[90]
نشأ في بيت ترف وغنى، من أبوين أرستقراطيين في بلدة فيرونا. وكان أبوه من رجال البلدة المحترمين، بدليل أن يوليوس قيصر طالما نزل في بيته ضيفاً وهو في غدواته وروحاته.[91] وعاش كاتلوس طول عمره في بحبوحة من العيش، مع أنه في شعره يتظاهر أحياناً بالفقر. لكن يجب ألّا نصدّق أنه يجدّ فيما يقول: إذ كانت له على نهر التايبر [Tiber][92] فيلا، وفي سيرميو [Sirmio] وعلى بحيرة غاردا [Lake Garda][93] بيت أنيق؛ ونقرأ في قصائده أنه لم يكن يعاشر غير أبناء أرقى الطبقات وأرفعها في روما؛ فلا يُعقل بعد هذا أن يكون حقاً في حالة فقر، ولا أن تكون محفظة نقوده مملوءة دائماً بالعنكبوت – كما يدّعي،[94] رغم كل تبذيره وترفه.
وقد كانت في إيطاليا في هذا العهد الذي ولد الشاعر فيه أنظمة اجتماعية متعددة تتعلق بكافة ضروب الحياة، وتختلف اختلافاً كبيراً عن النظم التي نعهدها اليوم. من هذه، النظام الذي كان يتعلق بالطفل من حين مولده إلى أن يصبح رجلاً يتصرف بمقادير نفسه بنفسه. وكان هذا النظام يطبّق على كل الرومانيين في روما وخارجها. ولذا فمن الواضح والأكيد أن كاتلوس مرّ عبر هذه الأنظمة، وسُيّرت حداثته وفق مراسيمها.
فلنتصوّر أبا الشاعر جالساً في فناء بيته الواسع، مرتدياً رداءه الوطني، وأمامه نفر من أصدقائه ومن رجال البلدة الذين جاءوا يقصدونه لحلّ مشكلة، يحادثهم عن أحوال البلاد العامة، ويتناقشون في حركات ماريوس وسُلّا العسكرية، ويتهامسون حول خفايا الساسة والحركات السياسية المتعددة التي تضطرم روما بها. وتأتيه – فجأة – امرأة في وجهها علائم بشر، وقبل أن تخاطبه يدرك أن زوجته قد وضعت وليداً. ولا يفكّر لحظة فيما إذا كان سيستعمل ما معه من حق تقليدي في الحكم بقتل وليده أم في إبقائه حيّاً، بل لعله يسخر من هذا الحق ويستبعد جداً أن يلجأ إليه يوماً من الأيام. فقد كان الطفل الروماني يؤخذ يوم مولده إلى أبيه ليقرر في مصيره: أيقتله أم يبقيه؟ فالحق الأبوي في العائلة (Patria Potestas) كان يعطيه سلطة مطلقة على أبنائه الذين كانوا يُعتبرون مُلكاً له، باستطاعته – إن أراد – أن يبيعهم عبيداً أو أن يقاصّهم بأي قصاص شاء حتى الموت. لكن هذا الحق كان طبعاً رمزياً وشكلياً وندر تطبيقه.. فإن رفض الأب ابنه رُمي هذا بعيداً أو خُنق؛ وكان يوضَع عادة في مكان ينتظر أهلُه أن يرتاد أحد ما يجد[95] اللقيط فيربيه حتى يباع – في كبره – عبداً، أو يعترف به ذووه.[96]
ويُقبِل الابن، وتتعالى من الدار زغردات الفرح والابتهاج.... ويمضي أسبوع، حتى إذا ما جاء اليوم التاسع لمولده يجتمع أفراد العائلة ويتقاطر إلى البيت كافة الأصدقاء والأصحاب ليحتفلوا مع الأسرة بموسمها البهيج ذاك. ففي ذاك اليوم كانت تجري حفلة تطهير الوليد، وتقدَّم الذبيحة للآلهة. ويتلو هذا تقديم الهدايا للطفل، فأمه تقدم شيئاً وكذا كل من الحاضرين؛ لكن الهدية العظمى هي هدية الأب – وهي عادة رقيّة (Bulla) ذهبية تعلَّق في عنق الطفل وتحوي تعاويذ مختلفة ضدّ السحر والإثم والشرّ. ويظل الولد محتفظاً بهذه الرقيّة في عنقه إلى أن يكبر ويصبح أحد أبناء الدولة رسمياً (والبنت تظل تلبسها حتى تتزوج).[97] بعد هذا تستمر حفلات هذا اليوم المشهود، يوم الـ (Dies Lustricus)، ويأتي دور التسمية: فيقدَّم الابن إلى أبيه ليطلق عليه اسماً. والاسم الروماني يتكوّن عادة من ثلاثة أسماء: الأول اسم الطفل الخاص، والثاني اسم السبط الذي ولد منه، والثالث اسم فرع العائلة التي يختص بها الطفل من بين عائلات السبط المختلفة. ويختار الأب ما يريد من الأسماء من قائمة طويلة تعارف الناس على استعمالها كاسمٍ أول لأبنائهم؛ فينتقي منها اثنين: كايوس (Caius) وكوينتوس (Quintus)، فيصبح اسم الطفل كايوس (أو كوينتوس) فاليريوس كاتلوس؛ ويفهم الروماني حين يسمع اسمه أن هذا الطفل هو كايوس من فرع كاتلوس من سبط فاليريوس.[98]
وإذا ما ترعرع الطفل بدأ طور التعليم. ولا يُرسَل شاعرنا الصغير إلى المدرسة، إذ يكون تعليم الروماني البدائي – عادة – على يدَي والديه، فيتلقى الذَّكَر علمه على أبيه والأنثى على أمها. لذلك يرافق شاعرنا أباه ويدرس عليه، إلّا في بعض الأحيان حين تأخذ المربية مقام الأب وتلقن الطفل دروسه. وكان الأب يترك بعض الدروس ولا يعلمها لولده، بل يعهد بها إلى معلمين خصوصيين – هم عادة من العبيد - فيدرس عليهم الكتابة والقراءة والحساب. وبعد مدة – وقد أصبح يعي دروسه الأولية – يُرسَل إلى المدرسة حيث يدرس فيما يدرس الشرائع الرومانية التي سُطّرت على الألواح الاثنَي عشر، على أيدي فئتين من المعلمين: معلمي القراءة (Litterator) ومعلمي الحساب (Calculator).[99] وكان نظام الجَلْد سارياً في المدارس، فلا ندري إن كان كاتلوس الفتى قد نجا من جلدات أساتذته القساة أم لا. ثم ينتقل إلى الصفوف العليا، ويتعلم اللغة على يد معلمها (Grammaticus)، فيدرس هنا آداب اليونان والرومان ويتمرن على التحدث باللغتين، ويتعلم الشعر والتاريخ والخطابة. وقد أفادت هذه الدراسات كاتلوس كثيراً.
وخرج من المدرسة بعد إتمام دروسه، وجاء اليوم المشهود الذي به يدخل عضوية الدولة الرومانية رسمياً. وكان هذا في عامه الخامس عشر، وفي اليوم السابع عشر من مارس، وهو عيد ليبر (Liber) أحد آلهة الطليان القدماء، وقد اصطلح الناس على الاحتفال بهذه المناسبة في عيده، وسمّوا اليوم باسمه (Liberalia). ونستطيع أن نتصوّر شاعرنا الحدث ذلك اليوم: ففي الصباح الباكر تقدّم ذبيحة لآلهة الدار، وتُقدَّم لها الرقيّة التي لبسها منذ طفولته، والثوب (Toga) ذو الإطار الأرجواني الذي كان يرتديه. بعد هذا يأتي أهم أحداث النهار، إذ يلبس كاتلوس ثوب الرجولة (Toga Virilis) وسط احتفال مهيب. ويذهب أفراد العائلة والأصدقاء المتجمهرون في احتفال شائق إلى مكان التسجيل (وفي روما يذهبون إلى الفورم) حيث يُضاف اسم الولد إلى أسماء الرومانيين الوطنيين ذوي الحقوق التامة، فيصبح بذا رومانياً كاملاً. وتقدَّم بعد هذا ضَحِيّة[100] لإله يوم الاحتفال، ليبر.[101]
بعد هذا يُختار من الطلاب أفهمهم، فيؤخذون إلى مدرسة البلاغة، حيث تكون الدروس أصعب، وتميل إلى العملية أكثر منها إلى النظرية. لكن كاتلوس في هذا الوقت الباكر، وهو ما زال في الخامسة عشرة، وحالاً بعد لبسه ثوب الرجولة، بدأ يقرض الشعر، كما يروي هو نفسه.[102] وقد تكون من بين قصائد صباه تلك (100 و110 و111) المتعلقة بفتاة اسمها أوفلينا، و(67) في ذمّ أشقياء فيرونا.[103]
ولم يطل بكاتلوس المقام في فيرونا، فجاء روما في حداثته. وليس يُعرف بالضبط سبب انتقاله إلى العاصمة، إنما يُعتقَد أنه نشأ من طموح أدبي، بعد أن بدأ ينظم. وقد جاء برفقة كورنيليوس نيبوس [Cornelius Nepos] – السياسي المؤرخ الذي أهداه كاتلوس فيما بعد مجموعة قصائده.[104] وضَمِن له شعره وجاهه صداقة بعض أدباء العاصمة المرموقين، فأضحى صديقاً لسينا [Cinna] وكالفوس [Calvus] الشاعرَين، ولم تمضِ مدة طويلة حتى تعرف على كبار الأدباء كشيشرون نفسه وهورتنسيوس [Hortensius].[105] وفي قصائده نراه يذكر، بتكرار، أسماء أصدقائه، مثلاً: سينا (القصائد 10 و95 و113)، وكالفوس (14 و50 و53 و96)، وكورنيفيسيوس [Cornificius] (38)، ونيبوس (1)، وشيشرون (49)، وهورتنسيوس (65 و95)، وغيرهم. ثم أخذ يتنقل بين المدينتين، وخاصة بعد وفاة أخيه المبكرة في آسيا الصغرى.
غرق كاتلوس في روما في بحر العلم والأدب والشعر بين زمرة الأدب هناك؛ لكن لم يمضِ وقت قصير حتى وجد نفسه غريقاً في بحر أوسع من بحر الشعر، وذي أثر أبعد غوراً في نفسه، هو بحر الحبّ وما يحمل من آلام ومشاعر.
نترك قصة حبّه لفصل آخر، ونقفز بضعة أعوام لنذكر الحدث الآخر الذي كان له تأثير في حياة كاتلوس وشعره يلي حبّه رأساً – هو رحلته إلى الشرق.
وقد طالما كان لهذين العاملين – الحبّ والرحلات – أثر بارز في أدب نفر كبير من الشعراء، فما من شاعر غزل إلّا وقد أثار قصائدَ حبّه وقيعةُ حبّ؛ ولا نعدم شواهد وأمثلة كثيرة لبعض الأدباء والشعراء الذين قاموا برحلات بارزة فنظموا فيها وكتبوا عنها. وإذا ضربنا صفحاً عن وصف فرجيليوس لرحلة إينياس [Aeneas] من طروادة إلى إيطاليا في "إنياذته" [Aeneid]، معتبرين هذا وصفاً خيالياً لرحلة، وجدنا في الأدب اللاتيني القديم ثلاثة أمثلة رئيسية لأدب الرحلات: هي رحلات لوكليوس [Lucilius][106] وكاتلوس وهوراس. غير أن كاتلوس يفترق عن زميليه – السابق منهما واللاحق – في أن كلاً من هذين نظم يصف رحلته ويعدد كافة الأحداث التي اعترضته والأمور التي جرت له أثناء سفره – كذا كان وصف "رحلة مسينا" [A Journey to Messina] للوكليوس و"رحلة برنديزيوم" [A Journey to Brundisium] لهوراس؛ أمّا كاتلوس فلم يصف بل قَصَر قصائده هذه على ذكر بعض تأثرات نتجت عن مشاعر خاصة اختلجت بها نفسه؛ فلا نراه يصف عظمة المدن التي زارها أو البلدان التي مرّ بها، بل نجده يسجّل عواطفه لدى زيارته لقبر أخيه أو لدى رجوعه إلى وطنه، إلى ما هنالك من الإحساسات الشاعرية التي أثارتها الرحلة.
في عام 57 ق. م. كان كاتلوس في حالة يأس وأسى، فلم تكن قد مضت غير أشهر قليلة على فصم حبل علاقاته بكلوديا [Clodia] التي قبرته حياً (وسنذكر قصة حبّه مفصلاً فيما بعد)، وكانت أحواله المادية في انحطاط؛ وزاد الطين بلّة نبأ وصله من آسيا الصغرى فيه أن أخاه مات هناك ودُفن في طرود [Troad] [في الأناضول]، فساءت صحته واضطربت أحواله. وقرّر –ليسرّي عنه وكي يصلح شؤونه المادية – أن يسافر إلى الشرق.[107] وكان له ذلك إذ رحل في حاشية كايوس ميميوس [Gaius Memmius][108] إلى بيثينيا [Bithynia]،[109] وكان قد عُيّن والياً لتلك المقاطعة (وميميوس هذا له ذكر في تاريخ الأدب، فإليه كان لوكريتيوس قد أهدى قصيدته وطرفته "في طبيعة الأشياء" De Rerum Natura).[110] ولنا أن نشكر ميميوس لأخذه كاتلوس في رفقته – كما كان لنا أن نشكر كورنيليوس نيبوس لأخذه في حاشيته إلى روما من قبل – لأنه أعطاه مجالاً لينظم بعضاً من خيرة قصائده، ففيها يصوّر كاتلوس لذة الرحلات وحسرة الموت وبهجة العودة للوطن تصويراً صادقاً لم يبلغه في جمال أي جمال. وقصائده في رثاء أخيه (وقد كتبها أيضاً أثناء الرحلة) في غاية الجودة؛ وفي بعض ما نظمه جمال خاص وغمرة شعرية لا نجد ما يفوقهما إلّا إن عدنا إلى بعض مقطوعات شكسبير.[111]
وفي طريقه عرّج على قبر أخيه في روتيوم [Rhoeteum] في طرود، وكتب على ضريحه أبياتاً وداعية (القصيدة 101) في غاية الجمال والجودة وذات تأثير عميق. وهذه القصيدة اشتهرت في الأدب العالمي ولها أصداء كثيرة. قال كاتلوس:
أجيء – يا أخي – إلى هذه المراسم التعسة
وقد قطعت أقطاراً كثيرة وبحاراً متعددة،
كي أقدم إليك آخر هدايا الموت،
وكي أتحدث – دونما انتظار لجواب – إلى بقايا جسدك الصامتة.
وما دام الحظ قد اختطفك مني
- إيهِ أخي التعس، اختطفك مني دون حقّ -
إذاً فتقبّل هذه التقدمات –
التي ورثناها عن عادات آبائنا - مع هدية حزينة....
تقبّلها، وتقبّل دموع شقيق لا تني عن السيل؛
وسلاماً يا أخي – إلى الأبد – ووداعاً![112]
بقي كاتلوس في بيثينيا وقتاً غير قصير، غير أنه يندر أن يُلمّح في شعره إلى حاله وعيشه هنالك. لكن ممّا لا شك فيه أن تغيير البيئة والمحيط والذكريات أعاد إليه بعضاً ممّا تبقى له من روحه وعقله وطبعه.[113]
وقد خلّف لنا الشاعر نفراً من قصائده وقد أوحتها الرحلة، من هذه ما قاله عند تركه سهول نيقيا [Nicaea][114] عن هذه المناسبة وعن زيارته لمدن آسيا الصغرى (القصيدة 46)، وهي تظهر خفوق الربيع في دمه؛[115] قال:
ها الربيع قد شرع يعيد الدفء الوديع،
وها الرياح الصاخبة، التي يبعثها "الاعتدال" في السماء،
قد بدأت تصمت، بفعل نسيم الربيع المرح.
إن سهول فريجيا [Phrygia][116] قد بدأت تخضرّ، يا كاتلوس،
ومرج نيقيا قد أخصب ودَفُؤ؛
فهيّا إلى مدائن آسيا الجميلة...
قد أخذ عقلي المضطرب يشتاق للرحلات،
واشتدّت قدماي الفرحتان لكثرة الشوق...
سلاماً، يا معشر الأصدقاء الحلو،
يا مَن غادروا بلادهم إلى هدفٍ قاصٍ،
تعيدهم إليها – ثانيةً – طرق متعددة متشعبة[117]
وما قاله في القارب الذي أقلّه سالماً في رجوعه إلى وطنه (القصيدة 4)، وفيها يتحدث عن الحياة وقد قبّلتها أشعة الشمس، وهي تدل على طبع مرح وإن كانت تُختم بأسف على أيام هنيئة مرّت وانقضت. وقصيدة أُخرى (31) قالها حين وصل أرض الوطن، يتغنّى فيها ببيته وببلاده ويظهر سروره الفائق بعودته؛ قال:
إيهِ سيرميو – درةَ الجزائر وأشباه الجزائر –
الذي تحمله الأمواج في البرك الجارية
وفي الخضمّ الواسع؛
بأي اغتباط وأي جذل أراك من جديد،
وأنا لا أكاد أصدق أني قد تركت
حقول ثينيا [Thynia] وبيثينيا ورأيتك بأمان.....
آه، أي شيء أفضل من أن يكون المرء خلواً من الهموم؟
حين ينبذ العقل كل أتعابه، وحين نأتي -
وقد أنهكتنا الأعمال في خارج البلاد – إلى آلهة بيتنا،
ونتّكىء على المقاعد التي اشتقنا إليها.
إنها المكافأة الوحيدة لأتعاب هذا عددها!....
سلاماً لك، يا سيرميو الساحر، ولتفرح بعودة سيّدك؛
واغتبطي يا أمواج البحيرة الوديعة،
واضحكي جذلاً ما كان باستطاعتك أن تضحكي![118]
وهذه القصائد كلها تعبّر عن تغيير في طبيعة الشاعر نحو الاغتباط والجذل.
عاد إلى روما، وانخرط من جديد بين أقرانه القدماء وأصدقاء عهده المنصرم. وقصيدته (10) الرقيقة الجميلة تريه هناك بين أصحابه. وكأنْ ما زالت في قلبه حشاشة أبت إلّا أن تحبّ، فأحبّ الشاعر من جديد، لكن كأنه كان يدري أن "ما الحب إلّا للحبيب الأول"، فلم تؤثر في حياته أو في شعره أية واحدة من وقائعه الغرامية الجديدة كما أثّر فيهما حبّه لكلوديا.[119] وكان منصرفاً طيلة الوقت وبالدرجة الأولى إلى إتمام قصيدتَيه الطويلتين "أتيس" [Attis] و"زواج بيليوس وثيتِس" [The Wedding of Peleus and Thetis].
لكن روما التي عاد إليها كاتلوس كانت غير روما التي كان قد غادرها. فهي الآن مدينة لا تملأها إلّا الوشوشات الحزبية والمضاربات السياسية والمشاكل المتعددة. وكمعظم أدباء يومه كان كاتلوس مقاوماً لحركة الحكام الثلاثة، فكتب عدة قصائد (عددها ستّ) يهاجم فيها مامورّا [Mamurra][120] الذي كان مرافقاً لقيصر، وكان قد زاد في كرهه له أنه كان غريمه في حبه لفتاة في فيرونا. ثم حوّل مهاجماته من المرؤوس هذا إلى الرئيس، إلى قيصر نفسه،[121] في وقت كانت صداقة قيصر فيه أمراً له أهميته وقيمته. وكتب كاتلوس قصيدة (93) في بيتين من الشعر، يعلن فيهما استقلاله برأيه وعقيدته:
لا يهمني – يا قيصر – أن أكون في جانبك،
ولا أن أعرف إن كنتَ صالحاً أم طالحاً[122]
لكن يجب أن نلاحظ أن السياسة عند شاعرنا كانت بالدرجة الأولى مسألة شخصية: فهو يهاجم قيصر وبومبي [Pompey][123] بشدة بعد غزو أولهما لإنكلترا ليس لأنهما خربا كل شيء، بل بالأَولى لأن الشخص الذي كان سيربح من نهب بونطس [Pontus][124] وإسبانيا وغاليّا [Gallia][125] وبريطانيا لم يكن غير غريمه مامورّا.[126] لهذا لم يكن غريباً أنه عند إلحاح أبيه – الذي كان صديقاً لقيصر ومضيفه أحياناً – [أن] يترك عدائه[127] لقيصر ويصالحه، بل يقبل أن يزوره ويتناول الغداء على مائدته.[128] ولم ينسَ أن ينظم موضحاً وجهة نظره وتغيّرها، وهو الآن يقول إن الراين وبريطانيا البعيدة هما نصبان يشيران لعظمة قيصر.[129] وقد كان ممكناً أن يكتب في ذلك أكثر لو لم تعاجله المنية.
وقد قضى كاتلوس أيامه الأخيرة متنقلاً بين فيرونا وروما، إلى أن حان وقت رحلته الأُخرى والأطول. ومرض، لكنه بقي وهو في فراشه ينظم قصائده، فنظم قصيدة لصديقه كورنيفيسوس يلومه فيها لقلة شفقته عليه وعدم شعوره معه،[130] وأُخرى لصديقه ألفينوس [Alfenus] حول ذات الموضوع.[131] ولعل هاتين القصيدتين آخر ما خطّت يدا الشاعر من نظم.[132]
وفي عام 54 ق. م. قام كاتلوس – مرغماً – برحلته الثانية، فقضى شاباً صغير السن، كمعظم شعراء الغزل الرومانيين. ارتحل وهو يتساءل في دخيلة نفسه: ترى، أَتشرقُ شمس الحياة من جديد؟ وهو يجيب:
الشموس قد تغيب وتشرق،
وإنما شمسنا القصيرة حين تغيب يوماً
تدعنا نغرق في ليلة واحدة لا يقظة منها[133]
5
مات عمر، ابن سبعين، بعد أن لَها وعَبَث وأحبّ وهِيمَ – كما ادّعى – به، ومات كاتلوس، ابن ثلاثين، بعد أن أحبّ واختبر خفايا المرأة، وذاق منها ما أورثتها الحية منذ القدم، بعد أن مات في حياته وشقي. ولعل أبرز ما في حياتَي الشاعرين أقاصيص حبهما - فمن الخير أن نفرد لها الآن باباً خاصاً.
حبّهما
1
هل نعرف في مقطوعات الأدب العالمي قصائد غزل نظمها شاعر اعتزل في كوخ؟
إن الأدب التقليدي المحض فاشل وابن يومه، إن قُدّر له الاعتراف الشرعي به على الإطلاق. أمّا الأدب العظيم والمعبّر عن أفكار عظيمة وعواطف صادقة فهو الباقي. وشعر عمر وكاتلوس باقٍ، لأن فيه قصائد رائعة، ظهرت نتيجة لحياة حَيِيَها كل من الشاعرين، ولحبّ راح فيه الاثنان.
وقد أحبّ الشاعران، كما ننتظر؛ أحبا وخلّدا حبهما، لا لانفراد ذلك الحبّ – فيما أرى – بمزايا خاصة، بل لأنهما قالا الشعر فكان الشعر أداة في التخليد، ولولاه لغابت قصصهما كقصص كثير من أمثالهما الذين عاشوا عيشتهما وأحبوا حبهما ونقصهم قول الشعر وتمجيد الأدب.
اجتمع كلا الحبّ والشعر في شاعرَينا الاثنين، فتسنّى لنا أن نعرف – ولو بإيجاز – حياتهما ونقرأ شعرهما ونتسامر بحبهما. ولسنا نستطيع أن نفرق بين هذه الوجوه الثلاثة: الحياة والحب والشعر في درسنا لعمر وكاتلوس، فحياة كل منهما كانت هي حبه، وحبه كان هو شعره. وقلّ أن نجد شعراً يصور بإخلاص حياة الشاعر كما يصورها شعر صاحبَينا الغَزِلَين. فعمر العاشق، الوسيم، المحبوب، الإباحي، الماجن، هو عمر القصائد؛ وكاتلوس المولّه، الحزين، السقيم، المندفع، المتفاني، هو كاتلوس قصائده. الاثنان أحبّا، لكن مظاهر الحبّ اختلفت فيهما.
2
أحبّ أن نفكر في بحثنا هذا عن حبّ عمر في نقاط ثلاث:
الأولى – هل كان عمر فاسقاً ماجناً في حبه؟
في شعر عمر بن أبي ربيعة مواضع كثيرة تشير إلى فسقه ومجونه، جعلت بعض معاصريه من الشعراء والنقاد يعيبون عليه إباحيته؛ فقال ابن جريج: ما دخل على العواتق في حِجالهن شيء أضرّ عليهنّ من شعر عمر بن أبي ربيعة؛[134] وقال هشام بن عروة:[135] لا تُرَوّوا فتياتكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطاً؛[136] وقال أبو المقوم الأنصاري:[137] ما عُصي الله بشعر كما عُصي بشعر عمر بن أبي ربيعة؛[138] وقال مثله في ذات المعنى ابن أبي عتيق.[139] كيف لا، وفي شعر عمر ذكر لكثير من حوادث الغرام المتطرفة، التي وإن خلت ألفاظها من المفردات القبيحة فإن الفكرة فيها تدل على حياة فسق ومجون؟ أليس هو القائل: [الطويل]
وناهِدةِ الثديينِ، قلتُ لها: اتَّكي
على الرملِ من جَبَّانةٍ لم تُوَسَّدِ
فقالتْ: على اسمِ اللهِ أمرُك طاعةٌ
وإنْ كنتُ [قد] كُلّفتُ ما لم أُعَوَّدِ
فلما دنا الإصباحُ قالتْ: فَضَحْتَني،
فقُمْ غيرَ مطرودٍ، وإن شئتَ فازْدَدِ![140]
وغيرها من المقطوعات المغوية؟ روى الأصبهاني أنه لم[141] أنشد عمرُ ابنَ أبي عتيق قوله: [الخفيف]
ثم قالتْ لأختِها: قد ظَلَمْنا
إن رَجَعْناه[142]، غائباً[143]، واعْتَدَيْنا
في خَلاءٍ من الأنيسِ وأمْنٍ
فشَفَيْنا غليله واشْتَفَيْنا
قال ابن أبي عتيق: أُمْكِنَتْ للشاربِ الغُدُر [جمع غدير] فمَن عالَ بعدها فلا انجبر.[144]
فلما بلغ إلى قوله: [الخفيف]
فمكثنا كذاك عشْراً تِباعاً
فَقَضَينا ديونَنا واقتضينا
قال: أما والله ما قضيتها ذهباً ولا فضة ولا اقتضيتها إياه، فلا عرّفكما الله قبيحاً.[145]
ولعمر في أقاصيص مجونه حوادث متعددة، حتى إن إحدى زوجاته – كَلْثم بنت سعد المخزومية – لم تَصِر له زوجة إلّا بعد أن قضى عندها شهراً أجبرته بعده أن يتزوجها.[146]
الثانية – هل كان شعر عمر صورة صادقة مخلصة لحبّه؟
هل كان عمر صادقاً فيما يصف؛ هل كان شعره تعبيراً عن ووصفاً لحوادث واقعية؟ وهل كانت الروايات التي يرويها عن نفسه حقيقية؟
روى علي بن صالح[147] قال عن لسان سمرة الدوماني:[148] أني لأطوف بالبيت فإذا أنا بشيخ في الطواف، فقيل لي: هذا عمر بن أبي ربيعة. فقبضت على يده وقلت له: يا ابن أبي ربيعة. فقال: ما تشاء؟ قلت: أكلّ ما قلتَه في شعرك فعلتَه؟ قال: إليك عني! قلت: أسألك بالله. قال: نعم، واستغفر الله.[149]
على أن في روايات أُخرى ما يناقض هذا الرأي، فيذكر صاحب "الأغاني" أن عمر بن أبي ربيعة أشرف على [جبل أبي] قُبيس[150] وبنو أخيه معه وهم محرومون،[151] فقال لبعضهم: خذ بيدي فأخذ بيده وقال: وربّ هذه البنية ما قلت لامرأة قطّ شيئاً لم تقله لي، وما كشفت ثوباً عن حرام قطّ...[152] ولما مرض عمر مرضه الذي مات فيه جزع أخوه الحارث جزعاً شديداً. فقال له عمر: أحسبك إنما تجزع لما تظنه بي، والله ما أعلم أني ركبت فاحشة قطّ! فقال: ما كنت أشفق عليك إلّا من ذلك وقد سلّيتَ عني.[153] وفي رواية أُخرى أن عمر قال لأبي المغيرة بن عبد الرحمن:[154] قد سمعتني أقول في شعري قالت لي وقلت لها، وكل مملوك لي حرّ إن كنتُ كشفتُ عن فَرْجٍ حرامٍ قطّ! قال المحدّث: فقمت وأنا متشكك في يمينه.[155]
ثم نستشهد بأقوال متفرقة في كتب الأدب حول هذه النقطة التي نعالجها: فقال الزبير بن بكار:[156] لم يذهب على أحد من الرواة أن عمر كان عفيفاً يصف ولا يقف[157] ويحوم ولا يرِد.[158] ولما دبّ خلاف بين عمر والثريا توسّط لفضّه ابن أبي عتيق وقال للثريا: إنه (يعني عمر) من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون.[159] وقرأت كَلْثَم بنت سعد المخزومية قصيدة له فيها أرسلها كرسالة لها، فقالت: إنه خدّاع مَلِقٌ وليس لما شكاه أصل.[160] وهناك رواية تشير إلى أن عمر نفسه كان يعترف أحياناً بأن دوافع شعره لم تكن الحقيقة بل مقتضى الحال. فقد قال عمر وهو في الجنبذ[161] أبياتاً قال فيها: [الخفيف]
وَلَقَد قُلتُ لَيلَةَ الجَزْلِ[162] لَمّا
أَخضَلَتْ رَيطَتي[163] عَلَيَّ السَماءُ
فقالت له جارية اسمها البغوم كانت معه هناك: ما رأيت أكذب منك يا عمر، تزعم أنك بالجَزل وأنت في جنبذ محمد بن مصعب،[164] وتزعم أن السماء أَخضَلَتْ ريطتك وليست في السماء قزعة![165] قال: هكذا يستقيم هذا الشأن![166]
وفي شعر عمر ذكر لكثير من حوادثه الغرامية وأقاصيصه الحُبية واتّباعه الحاجّات من مكان لمكان ومرافقتهن والتعرّض لهنّ. حوادث فسق متعددة يسدل عنها الستار في شعره، فتجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأنه عاش هذه الحياة الماجنة قبل أن يتوب آخر حياته. قال محمد بن الضحاك:[167] عاش عمر بن أبي ربيعة ثمانين سنة، فتك منها أربعين سنة، ونسك أربعين سنة.[168]
ومهما يكن من أمر، فالقارىء لسيرة عمر وأخباره والدارس لشعره لا يمكن أن يخرج إلّا بهذه الفكرة عنه، هي مجونه وإباحيته وفسقه وكثرة وقائعه الغرامية، تنصّل منها – كما ذكر الرواة عنه – أم لم يتنصّل. ولا يُعقل أن تكون جمهرة قصائده خلق فكر خيالي لم يلتحم بالواقع. إذاً فلنقل إن عمر كان محباً، دينه الحب ومبدأه الجمال يتنقل من مكان لمكان تتبّعاً للحسن وللحسان، لا يهدأ له بدونهن بالٌ ولا يأنس حتى يلقاهن ويحادثهن وتكون له معهن مغامرات يذكرها في شعره. روى أحدهم قال: حججت مع أبي وأنا غلام وعليّ جُمّة[169]. فلما قدمت مكة، جئت عمر بن أبي ربيعة فسلمت عليه وجلست معه، فجعل يمدّ الخصلة من شعري ثم يرسلها فترجع على ما كانت عليه، ويقول: واشباباه! حتى فعل ذلك مراراً؛[170] وذكر ابن الكلبي[171] أن عمر كان يساير عروة بن الزبير[172] ويحادثه، وقال له: أين زين المواكب؟ (يعني ابنه محمد [بن عروة]، وكان يسمى بذلك لجماله)، فقال له عروة: هو أمامك. فركض يطلبه، وقال له عروة: يا أبا الخطاب، أوَلَسْنا أكفاء كراماً لمحادثتك ومسايرتك؟ فقال: بلى، بأبي أنت وأمي، ولكني مُغرًى بهذا الجمال أتبعه حيث كان! ثم التفت إليه وقال: [البسيط]
إنّي امْرُؤٌ مُولَعٌ بالحُسْنِ أتْبَعُهُ
لا حظَّ لي فيه إلّا لَذّةُ النَّظَرِ[173]
وقال مصعب بن عروة بن الزبير: خرجت أنا وأخي عثمان إلى مكة معتمرين، فلما طفنا بالبيت مضينا إلى الحجر نصلي فيه، فإذا شيخ قد فرّج بيني وبين أخي، فأوسعنا له، فلما قضى صلاته أقبل علينا فقال: مَن أنتما؟ فأخبرناه، فرحّب بنا وقال: يا ابنَي أخي، إني موكل بالجمال أتبعه، وإني رأيتكما فراقني حسنكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابَيكما قبل أن تندما عليه! ثم قام، فسألنا عنه، فإذا هو عمر بن أبي ربيعة.[174]
امرؤ مولع بالجمال، موكل به، يتبعه.... كذا كان عمر؛ لكن كان له فيه حظ أكبر من لذة النظر! كان يُحِبّ وكان يُحَبّ؛ وهو في شعره يصوّر لنا نفسه في أغلب الأحيان في موقف المحبوب لا المحب، ويقول إن النساء كنّ يعشقنه ويسألن عنه ويقلقن لغيابه قبل أن يفعل هو هذه! قال أحدهم: سمعت عمر بن أبي ربيعة يقول: لقد كنت وأنا شاب أُعشَق ولا أَعشق، فاليوم صرت إلى مداراة الحسان حتى الممات.[175] قصص كثيرة تُروى عنه حول هذا، كفتاة تهمس في أذنه وأُخرى تعضّه فما يشعر بِعَضّ هذه من لذة سرار هذه،[176] ونساء يَرِدْن الحج كي يقول فيهن الشعر ويغتظن إن لم يفعل، وفتيات يهرعن إليه، حتى في آخر أيامه، ليضحكن معه؛[177] وكثير غيرها.
الثالثة – هل كان عمر مخلصاً في حبّه؟ هل أحبّ حبّاً صحيحاً أم كانت كل حوادثه وقائع غرام ماجن ابن ليلته؟
ولعلنا نلمح في حبّ عمر تقلباً ينمّ عن عدم إخلاص، لا نقول من جرّائه إن عاطفته كانت كاذبة، بل نقول إنه لم يحبّ حبّاً صحيحاً، كحبّ العذريين مثلاً، أو كحبّ كاتلوس وسنأتي عليه بعد قليل. كان عمر يحبّ بالجملة، يحبّ لأجل اللهو والعبث وليستمتع بشبابه، لا لأجل الحبّ أو لأنه فُرض عليه أن يحبّ فلا سبيل إلى اجتناب ذاك. أَلَا نقرأ في سيرته عدة روايات عن وقائع مع نساء كثيرات، وفي شعره وصفاً لهذه الوقائع، وأسماء لعدد من الفتيات يتغزل بهن ويصف مغامراته معهن؟ فنقرأ عن هند وأسماء ونُعْم والثريا وسُكينة وكَلْثَم وغيرهن. أَلَا نقرأ في أخباره أنه راسل فاطمة بنت محمد بن الأشعث[178] وواعدته أن تزوره؟[179] أَلَا يبقى مع كَلْثَم بنت سعد المخزومية شهراً فلا تدعه يتركها بعد أن فضحها حتى يتزوجها أولاً؟[180] أَلَا تزوره الثريا ليلاً فتجد أخاه نائماً فتهوي عليه تقبّله ظانة إياه عمر؟[181] ألم يكن يهوى حُمَيْدة جارية ابن ماجة؟[182] ألم يلحق عراقية من مكان الحج حتى حدود القُطْر ويرجع – حين يخيب – بائساً؟[183]
أقاصيص متعددة، لا سبيل إلى قصّها كما جاءت في كتب الأدب، حتى ولا إلى تعدادها كلها.... تبيّن أن عمر كان يقضي وقته سعياً وراء المرأة وطلباً للمغازلات البريئة وغير البريئة، ليس مع حبيبة تفرّد بها بالذات – وإن يكن قد أحبّ واحدة أكثر من أُخرى – بل مع كل مَن رغّبت إليه نفسه الموكلة بالجمال أن يحبّ. ألم يتنقل في حبّه من رملة أخت الخليفة إلى حُمَيْدة الجارية؟ وُكّل بالجمال، فليتبعه أين كان، من البلاط إلى مرقد الخدم!
ولا بدّ – كما قلنا – أن تكون إحدى حبيباته العديدات قد احتلت مكاناً في فؤاد[184] أعمق من الأُخريات، وقد يكون أخلص لواحدة أو لأكثر من واحدة في حبّه. وهو يقول من قصيدة في زينب إحدى عشيقاته: [الخفيف]
لم تدعْ للنساءِ عندي نصيباً
غيرَ ما قلتُ مازحاً بلساني[185]
لكن، أَنصدق أنه كان في كل مغامراته إنما يمزح، إلّا في حبه لهذه المرأة فقد كان محباً جادّاً؟
ولعل في أخباره مع الثريا، كحزنه الصادق وقت زواجها وألمه لفراقها، ما يجعلنا نلمس الإخلاص في حبه. وفي هذه الرواية التي يوردها صاحب "الأغاني" نلمح ما سميناه الإخلاص في الحبّ، أو قل الحبّ الصحيح: حدّث أيوب بن سلمة:[186] كان عمر بن أبي ربيعة مسهباً[187] بالثريا، وكانت عُرْضة[188] ذلك جمالاً وتماماً... كانت تصيف بالطائف، وكان عمر يغدو عليها كل غداة إذا كانت بالطائف على فرسه، فيسأل الركبان الذين يحملون الفاكهة من الطائف عن الأخبار قِبَلَهم. فلقي يوماً بعضهم، فسأله عن أخبارهم، فقال: ما استطرفنا خبراً، إلّا إنني سمعت عند رحيلنا صوتاً وصياحاً عالياً على امرأة من قريش اسمها اسم نجم في السماء، وقد سقط عليّ[189] اسمه. فقال عمر: الثريا؟ قال: نعم. وكان قد بلغ عمر قبل ذلك أنها عليلة. فوجّه فرسه على وجهه إلى الطائف يركّضه ملء فروجه، وسلك طريق كداء،[190] وهي أخشن الطرق وأقربها، حتى انتهى إلى الثريا، وقد توقعته وهي تتشوّف له وتشرف. فوجدها سليمة عميمة[191] ومعها أختاها. فأخبرها الخبر، فضحكت وقالت: والله أنا أمرتهم لأختبر ما لي عندك![192]
وفي أقاصيص حبّه لها، وخلافه معها، ومصالحته لها، وغير ذلك بعض أدلّة على حبّ حقيقي بين الاثنين.
وينكر الدكتور زكي مبارك، في كتابه "حبّ ابن أبي ربيعة وشعره" أن يكون عمر قد أحبّ حباً صحيحاً صادقاً؛ وتلخيص اعتراضاته هي أن عمر حضري، والحضري لا يستطيع أن يعشق كما يعشق البدوي، وأن تكون لحبه تلك الروعة الساذجة وتلك الروح العذرية الموجودة عند البدو؛ وأن عمر قد أحبّ أكثر من امرأة واحدة، وهذا – في رأيه – دليل على عدم حبّ عمر حباً صحيحاً.[193]
3
هذا هو عمر العاشق: شاب وسيم ثري إباحي، يحب كل جميلة، ويتبعها، ويغازلها، ويقول فيها الشعر، ولا يتركها أو يكفّ عن التعرض لها حتى تعمد إلى تخويفه.[194] فيلهو، ويعبث، ويعيش قريراً.
أين من هذا الحبّ حبّ كاتلوس، وقد ملكت فؤاده واستولت على كل حواسّه حبيبة واحدة، سُوّل لها أن تعبث هي به، فيشقى في حبه ولا يستطيع منه فراراً. ويصوّر هو بقصائده تطور هذا الحبّ وتاريخه من المهد إلى اللحد، وما يُلحَد الحبّ حتى يُلحَد هو معه، شاعراً شاباً بائساً.
4
أقبل كاتلوس في مطلع شبابه، شاباً وسيماً ينظم الشعر، وتؤهله مكانته وثروته من الاختلاط بأفراد الطبقة العليا من شعب العاصمة الرومانية المتحضر، ومثقفاً يخالط أرباب العلم والأدب. فاسترعت انتباهه مدة من الزمن حياة روما الفكرية، وأخذ ينظم ويقرأ ويترجم عن أدب الإغريق. لكن ارتشافه لقطرات هذا البحر لم يطل، إذ أُتيح له – لحسن حظ الشعر، ولسوء حظه أم لحسنه لسنا ندري – أن يرشف من بحر آخر أشمل، أمدّه بالشعر أكثر بكثير ممّا أمدته الأساطير الغابرة والقصائد القديمة.
كان كاتلوس ابن ثلاث وعشرين حين تعرف على كلوديا للمرة الأولى. وقد كانت كلوديا هذه مثاراً للشك والمجادلات بين مؤرخي الأدب ونقاده زمناً طويلاً، إذ ظن البعض أنها مجرد شخصية خيالية ابتدعتها مخيلة الشاعر الفذّ؛ ولعله غاب عن أذهانهم أن المشاعر التي تختلج بها ثنايا كل بيت من أبياته الشعرية تدلّ دلالة واضحة أن ما يقول لا يصدر عن لسان أو قلم بل [هو] زفرات من قلب يحبّ ويتألم ويغار ويردى.
كانت كلوديا هذه زوجة لابن عمها كيكليوس متلّوس كلر [Caecilius Metellus Celer]، اقترنا قبل أن يعرفها كاتلوس بعامَين، وبقيا معاً أربع سنين مات زوجها في ختامها موتاً طبيعياً قال البعض، وتسميماً من زوجته قال آخر. وكانت بنتاً لعائلة من أكثر عائلات روما ترفعاً وأرستقراطية، وزادها زواجها أبهة، إذ كان متلّوس قنصلاً زمناً ما. وكانت تكبر كاتلوس بسبع سنين، بحيث كانت في الثلاثين من عمرها حين تعرفت عليه. ولم يراعِ كاتلوس في حبه لها حرمة زواج، بل أخذ يغازلها ويلاقيها وينظم في حبه لها على معرفة زوجها.[195] ولا يترك لنا الشاعر وصفاً لها، فإنه يندر جداً أن نجد جملة واحدة في قصائده عن جمالها الجسدي، لكننا نعرف القليل منها، ونقرأ عن "عينيها المشعّتين" وعن جمالها في بعض الإشارات اللذعية التي كتبها شيشرون في رسائله وخطبه عرضاً،[196] وأكثر ما يذكرها شيشرون في خطبه هو في خطبة دفاعه عن كايليوس (Pro Caelio) حيث يدافع عن صديقه كايليوس روفوس [Caelius Rufus]، أحد عشاقه،[197] وقد اتُّهم بأنه حاول تسميمها.[198] وكان هذا صديقاً بادىء الأمر لكاتلوس، إلّا إن الأخير لم يستطع أن يحافظ على صداقته حين رأى صراحةً منافسته إياه في حبه لعشيقته.
ولم تكن كلوديا تلك المرأة الرومانية العفيفة؛ وقد يعجب المرء من ذلك الهوى الجنوني الذي اجتاح كاتلوس نحوها، لكن أحد النقاد القدماء يقول لنا إن شخصاً أصلح من كاتلوس وأقلّ اندفاعاً إلى الشهوات لم يكن ليغرم بها.[199] إلّا إن كاتلوس أحبها حباّ صحيحاً أفسد عليه لذة حياته ونقله من عالمنا إلى منتدى الخلود سريعاً ابن ثلاثين، ونظم فيها معظم قصائده وخيرتها. وقصائده المتعلقة بحبه لها وبتطورات قصة حبه لم يُتَفوَّق عليها قطّ – كتعبير عن عواطف شخصية مباشرة – ليس فقط في الأدب اللاتيني بل في أيّ من آداب العالم.[200]
ولنتابع الآن، بأمثلة حين يقتضي الأمر، تطورات علاقته الغرامية ومراحل قصة حبه، كما نستدل عليها من قصائده:[201]
في القصيدة (51) يبزغ فجر حبّ كاتلوس. يقول فيها:
كمثيل للآلهة يتراءى لي
أو كمَن بزّ الآلهة – لو كان ذاك في المقدور –
ذاك الذي يجلس قبالتك
فينظر إليكِ، ويصغي،
وأنتِ تضحكين بعذوبة. فيسلب مني – أنا التعس! –
كلّ ما فيّ من حواسّ: فإني
يا لِسبيا[202] – حالما أشاهدكما كذا، لا يبقى فيّ شيء:
فلساني يتلعثم، ويخبت اللهب
المتوهج تحت أعضاء جسمي الرقيقة،
وترتعد أذناي من تلقاء ذاتيهما،
وعيناي تغيبان في ليل بهيم!
وهذه القصيدة ترجمة لقصيدة للشاعرة الإغريقية سافو [Sappho]، وهي بذات الوزن الشعري الأصلي؛ وكانت قد كتبتها في إحدى صديقاتها وتلميذاتها. وهي من أشهر قصائد الأدب، وقد تعددت ترجماتها جداً. ويُعتقد أنه نظراً لأن هذه القصيدة الأولى عن كلوديا كانت ترجمة عن الشاعرة سافو المسماة "سيدة لسبوس" [Lady of Lesbos] بلدتها، أطلق كاتلوس على كلوديا الاسم الشاعري "لِسبيا"، فأصبحنا نقرأ في كل قصائده عن حبه لـِ "لسبيا"، قاصداً به اسماً شعرياً مستعاراً لحبيبته الطائشة كلوديا. والنصّ الأصلي لهذه القصيدة في غاية الإبداع والرونق وفي منتهى السلاسة والبساطة؛ وهي [أي القصيدة] تمتاز بعاطفة رائعة في تصويرها وإحساسها، والفرق شاسع بين النصّ اللاتيني وبين كافة التراجم[203] في مختلف اللغات. وممّا يُذكر أن الأصل الإغريقي قد فُقد، ولا نعرف أن قصيدة كاتلوس هي ترجمة من سافو إلّا من الناقد السوري لونجِنوس [Longinus]، صاحب "في الجلال" [On the Sublime]،[204] الذي يورد الترجمة اللاتينية على أنها نقل عن سافو، ليشير إلى أن القصيدة من بدائع الشعر حسب رأيه السديد.
ككل شاعر، هام كاتلوس بكلوديا؛ وككل امرأة، أحبّت أن تعذبه. إلّا إنها أُخذت هي الأُخرى به، وراقتها القصائد التي كان يوجهها إليها، وسرّها اشتهارها بين نساء البلاد، فمالت إليه وتعددت أوقات اجتماعهما وخلواتهما، وكانا – عادة – يلتقيان خفية في بيت صديقه أَلِيوس [Allius]، وقضيا معاً وقتاً سعيداً. ومن كتاباته في هذه الفترة قصيدتان نظمهما في رثاء طائر لها مات، هما (2 و3)، نترجم إحداهما (3):
اندبوا معي، أيها المحبون وأيتها المحبات،
واندبوا يا كل أبناء الحبّ:
فَطَيْرُ فتاتي قد قضى،
قضى طَيْر فتاتي الحلوة،
وقد كانت تهواه فوق عينيها:
إذ كان جميلاً، وكان يعرفها
أحسن ممّا تعرف الفتاة أمها.
ولم يكن يبتعد عن حرجها،
بل كان يرفرف هنا وهناك،
ويغني متمتماً، قرب سيدته الوحيدة؛
أمّا الآن، فقد راح في رحلة محجبة
يقولون أنْ ليس أحد منها بعائد.
ليكن شرّاً ما لك، أيتها الغيوم الآثمة،
غيوم الموت التي تزدرد كل جميل،
فقد انتزعت مني هذا الطائر الحلو.
ويل لذا الحدث الشرير؛ وويل لك يا طائري التعس!
فَبَجِّرْ![205] ما حدث لك قد احمرّت
عينا فتاتي المتورمتان من العويل[206]
ثم تأتي قصيدته الشهيرة (5)، وهي من أجمل غنائياته الحبية كلها، بل من أجمل الشعر الغنائي قاطبة؛ يقول:
لِنَعِشْ – يا لِسبيا – ولنتحابّ،
ولندع أقاويل عذل الشيوخ
كلها لا تساوي درهماً واحداً.
فالشموس قد تغيب وتشرق،
إنما شمسنا القصيرة حين تغيب يوماً
تدعنا نغرق في ليلة واحدة لا يقظة منها.
هاتي – إذاً – ألف قبلة ثم مائة،
وأتبعيها بألف آخر ثم بمائة أُخرى،
ثم أَلفاً أيضاً وثم مائة؛
حتى – إذا ما نعمنا بهذه الآلاف -
مزجناها معاً، فلا نعي نحن مقدارها،
ولا ينظر بخبثٍ إلينا
مَن يعرف عَدَّ ما اختلسنا من قبلات![207]
كان كاتلوس واثقاً كل الثقة، ولم يكن قد أدرك بعد – بخاطره الشاعري المفكر – وكما أدرك بعد مدة، أن كل وعود المرأة أقل ما يُقال فيها إنها حروف نُقشت بماء.[208] هو هانىء بعيشه، يطلب من كلوديا حباً فوق حبّ، ويرجوها أن تمنحه من القبل ما لا يُحصى؛ فيقول في قصيدته (7):
تسألين كم من قبلاتك
تكفيني – يا لِسبيا – وتشبعني....
قدر ما هناك من الرمال الليبية
في القيروان،[209]
ما بين موحى جوبيتر القائظ
والضريح المقدس لباتوس الهرم...
أو قدر ما هناك من نجوم، تنظر – والليل صامت
إلى ما يختلسه الناس من وقائع غرام....
ولأَن أقبلك كل هذه القبلات
ليكفي ويشبع كاتلوس المولَّه،
قبلاتٍ لا يستطيع عذول أن يحصيها عدّاً،
ولا ألسنة واشية أن تسيء إليها[210]
ولا تطلب لِسبيا قبالة ذلك غير إشهار اسمها وسحرها، وهذا سهل لديه، فينظم فيها واضعاً إياها فوق الشهب، فيقول في (43) إنها عبث أن تقارَن بمخلوق آخر:
سلاماً.... يا مَن ليس لها أدق الأنوف،
ولا قدمان جميلتان، أو عينان سوداوان،
ولا أصابع نحيفة، أو فم متشوّق،
ولا لسان على درجة من حسن التذوق،
يا صديقةَ فورميانوس [Formianus] الطائش،
أيدّعي المجتمع أنكِ جميلة؟
أيجوز أن تقارني بلِسبياي؟
آه منك أيها الزمن، ما أشدّ جهلك وحمقك![211]
وفي (86) إن حاكمة قلبه قد اختلست من فتيات الأرض كافة المواهب الجمالية واغتصبتها لها، فكان لها ذلك الجمال، وكانت لها تلك الروعة:
إن كوينتيا [Quintia] جميلة في أعين الكثيرين: أمّا في عينيّ فهي وسيمة وطويلة ومستقيمة، وأنا أعترف لها بهذه الميزات الانفرادية. لكني أنكر عليها أنها على الإجمال جميلة، إذ ليس فيها سحر، وليس في جسدها كله حبة من الملح....
لكن لِسبيا جميلة، وقد جعلت نفسها مثال الجمال، إذ قد اختلست لذاتها كل ما في جميلات النساء من سحر![212]
سعادة – بالنسبة إلى كاتلوس – ما بعدها سعادة. لم يكن همه أن ينظم شعراً إذ ذاك، بل كل همه أن تحبه كلوديا – لِسبيا شعره – كما يحبها، وأن تحبه وحده كما يحبها وحدها؛ وما كان يتخذ الشعر إلّا مطية ليصل أغراضه منها. سعادة لم تطل، وكأن كاتلوس كان طيلة الوقت يخشى ألّا تطول، إذ إن لِسبيا – وهي غانية – يغرّها الثناء، وكلوديا – وهي امرأة – لا تقنع بعاشق واحد أو بمعجب واحد بها. فطلبت المزيد، وما كان شيء – كما هو طبيعي ومنتظَر- يكسر قلب شاعرنا كهذه العيشة التي تعيشها. لكنه كان أسيراً لهواها، فلم يستطع حينها أن يقول شيئاً، ونظم إحدى قصائده (8) يمنّي نفسه فيها بأعذب الأماني، ويأمل أن ترتدع حين تقرأ أو تسمع ملاحظاته، فيقول – لاذعاً أو متمنياً أو لا ندري كيف – إن لِسبيا لا تهوى أحداً سواه. يقول إنه لها كما هي له، في ذات الوقت الذي يراها تهرع – إن سرّاً وإن علناً – إلى أذرع[213] سواه، وهو العشيق يعرف هذا، وزوجها الشهير المحترم ساكت عن طيبة خاطر أو عن اضطرار. وأثمرت قصيدته، وبعد غيبة لها قضتها في "فتح ممالك جديدة" تضمها لملكوتها عادت إليه يوماً، مشرقة باسمة، وبدون سابق ميعاد. فيعود لقلبه الفرح، ولحياته المرح ويسجّل هذه الغبطة في قصيدته (107). وتشعر هي بشكوك تحزّ قلبه وبوساوس ما زالت تهمس في ضميره، وتعرف بدون شكّ سببها وما هي، فتعمد إلى خير دواء، وتَعِده بأن تحرق كل كتابات صديقها فولوسيوز [Volusius] لها إن كان ذلك كفيلاً بأن يخفف آلامه ويقلل من هواجسه. وتفي الوعد، فيطمئن، ويقول بقلب مرح إنها تحبه هو حبّاً صادقاً فذّاً،[214] بأبيات تتجلى فيها قريحته المترنحة بالابتهاج.
كانت كلوديا خبيرة بالدواء الذي قدمته ليجرعه كاتلوس، لكنه لم يكن كسائر ضحاياها ومرضاها؛ كان شاعراً يحسّ بقلبه قبل أن يشهد بعينه أو تصل إلى أذنه إشاعة. فقد ظنّت المرأة أنها خدرته فنام، وعادت إلى سابق سيرتها. وآلم هذا كاتلوس جداً، إذ كان قد وثق من حبّها وغمرته مواعيدها وظن أن لا شيء يمكن أن يُحدِث بينهما فجوة ما. لكن بعد كل هذا يكون كل كلامها تملقاً، وكل مواعيدها كذباً؟ كان ذلك أكثر ممّا يطيق. لكن كان ما زال عنده قلب، فليتحمل، وليضحي بكرامته في سبيل تلك الكتلة الخافقة في جسمه، وليلجأ إلى شعره، وكتب قصيدة رائعة (70) هي نتيجة لاختباره ولآرائه الناضجة الواعية، يصف فيها مواعيد المرأة:
تقول حبيبتي إنها لن تفضّل عليّ خاطباً
حتى ولو تودّد إليها جوبيتر نفسه...
كذا تقول! لكن ما تقوله المرأة لصديقها المتيَّم
كلامٌ يُسجَّل في اللُجّ وفي الماء الجاري![215]
سنتان كانتا قد مرّتا على حبهما. وجاء عام 59 ق. م.، وتوفي زوج كلوديا، فدارت الأقاويل بأن الزوجة هي المجرمة، لكنها سرعان ما خفتت ثم صمتت. ولعل كاتلوس سُرّ في داخله، ظانّاً أن كل تحفظاته السابقة قد زالت الآن، وأن كلوديا أصبحت له بحقّ. لكن الأمر كان على عكس ذلك، إذ خلعت كلوديا آخر ثوب من الرقابة كانت تضطر أن ترتديه وأصبحت خلواً من كل قيد، فزاد طيشها واشتطت في غلواء فحشها. كانت لطمة قوية لكاتلوس، لكنه لم يستطع أن يتحاشاها؛ ولم تمضِ أشهر قليلة حتى صفعته صفعةٌ شديدة جديدة، هي وفاة أخيه الأكبر في طرود في آسيا الصغرى، واضطر أن يترك روما إلى بلدته فيرونا إلى حين.
ولم تطل غيبته في فيرونا، بل عاد إلى روما وكان الحزن والمشقّة قد أضنياه، ووجد أن كلوديا ما زالت كما عهدها، إن لم تكن قد اشتطت أكثر، ووجد من حولها زمرة من العشاق الحائمين، بينهم صديقاه كايليوس روفوس وكوينتيوس [Quintius]، وبينهم أيضاً غاليوس [Gellius] وإغناطيوس [Egnatius] وغيرهم. وحاول أول الأمر أن يُظهر أنه لا يهتم بهذه الحال، وأنه يتنازعه عاملا الحبّ والمقت، فكتب إلى صديقه أَلِيوس الذي شهد بيته مهد حبهما يقول إنه يستطيع أن يتحمل خداع كلوديا بغير اهتمام؛ ثم نظم بيتيه المأثورين (85) يقول:
أحبّ أنا وأكره. وقد تتساءل: ولمَ أفعل كذا؟
لست أدري، إنما هذا ما أشعر به وأشقى لأجله![216]
إلّا إن كاتلوس كان ثائراً، ولم يكن – كما ادعى – يستطيع أن يتحمل خداع حبيبته بدون اهتمام، وها هو يعنِّف صديقاً من أعز أصدقائه، هو كايليوس روفوس حبيب كلوديا تعنيفاً لطيفاً[217] لا يلبث أن ينقلب مهاجمة قاسية من دون لياقة أو مراعاة صداقة.
واقتربت ساعة الخلاص، وعاد إلى كاتلوس وعيه. وغامر في سبيل استعادة كرامته الضائعة: غامر، لأنه كان يعرف أنه بعمله الموشك أن يعمله سوف يفقد أعز ما لديه ومَن لديه. فاجتمع الحنق ضد كلوديا وعشاقها باليأس من الظفر بها لوحدها ودون شريك، اجتمعا وجعلا كاتلوس يقاتل في سبيل تحرير نفسه من حبه. ولذا نراه يقول في القصيدة (76) إن ضميره قد ارتاح أخيراً إذ قد عمل وقال كل ما كان على محبّ أن يَعمل ويقول، لكن حبه قد زال وطار مع الرياح، ولذلك فإنه سيقوم بعمل جبار مضني،[218] سيقاوم حبه لها وسينبذه كي ينهي عذابه. ويختم قصيدته هذه بصلاة قلبية يتضرع فيها إلى الآلهة لا أن تحبه لِسبيا – كما كان يصلي سابقاً – ولا أن يعود إليه حبه لها مرة ثانية، ولا أن تترك هي حياة الفجور والضلال وتعود للطهر والعفاف، ليس شيئاً من هذا، بل أن تعود إليه صحته وأن يتخلص – أجل يتخلص – من ذلك المرض العضال، الحبّ. يقول في ختام القصيدة:
أيتها الآلهة! إن كانت لك رحمة بالقلوب الصديقة المشفية، فبحقّ براءتي تلك إلّا ما نظرتِ إلى عذابي، ورثيت لما بي،
ومسحت عني هذا الوباء الماحق، والبلاء اللاحق، وهذه اللوعة
التي تسرّبت رعدتُها في عروقي فنَفَت الهناءة عن قلبي![219]
الحبّ الآن مرض بعد أن كان كل الصحة، وشيء يتبرأ منه بعد أن كان بركة الآلهة المثلى. ولم تكن صلاته خائبة، ونجا. وهذه القصيدة تمثل خاتمة عبوديته - وهل تنبّأ كاتلوس حين نظم – أول عهده بالحب – قصائده التي جئنا على ذكرها عن شمس الحبّ مثلاً، وعن القبلات التي لا تُحصى، وعن الغيرة؟ وهل درى بأنه سيعتقد يوماً أن حبه عبودية سيندم عليها عمره القصير كله؟
وتصالح مع عدوه كايليوس، غريمه في حب كلوديا، وعادا للصداقة بعد أن لسعهما ذات الأفعوان، فاختبرا ذات الطور من مرّ الحياة. وانحطت حياة كلوديا أكثر، وارتمت في وطأة الرذيلة. وكتب كاتلوس إلى كايليوس قصيدة يشير بها إلى لِسبيا، لكنه لا يقول إنه يحبها، أو يرجو أن تعود إليه ذكراها، بل يأسف – بقلب متحسر – أن تنحط لِسبيا التي أحبها كاتلوس ومجّدها إلى ذلك الدرك.[220]
كانت كلوديا قد جرّبت دواءها لكاتلوس فخدرته مدة، ثم فشلت. واستعمل الآن كاتلوس دواءه لنفسه فشفي. واستعمله لها فنجح حيث خابت. كان دواؤه لها إهماله إياها وطرحه لحبها إلى الكلاب. فهم سرّ المرأة أخيراً فعرف كيف يعذبها. وأدركت هي أنها قد خسرت الجولة نهائياً، فأرادت أن تصالحه، وطلبت الهدنة، لكن متى؟ كان قلب كاتلوس قد مات، وكانت كرامته قد عادت إليه، وقدْر نفسه قد عرفه. فأتت إليه، وحاولت أن تستعيد حبه وأن تستأنف علاقاتهما الأولى؛ أتت بصدق، وكانت صادقة في شعورها وفي طلبها وفي حبها إياه هذه المرة. وكتب إليها كاتلوس، كتب آخر قصيدة من السلسلة الرائعة لمجموعة قصائده فيها (11) يذكر فيها أنه يأنف من أن يلتفت إليها، ويقول في آخرها:
دعوها لا تتوقع مني ما كنت أكنّه لها من حبّ،
فقد فَني ذاك الحب، نتيجة خطأ منها.
كزهرة في أواخر الربيع، أصابها المحراث
فذوت وفنيت![221]
وكانت الآن الأحزان تلمّ به (كتب هذه القصيدة بعد عودته من رحلته لآسيا، وقد جاءت [أخبارها] في الفصل السابق)؛ ولعله ودّ لو أجاب كلوديا إلى مطلبها، لكنها جاءت متأخرة جداً، حين فات الوقت، فكتب قصيدته تلك وأنزل الستار على آخر فصول قصة حبه. وممّا يجدر ذكره أن هذه الأبيات التي كانت آخر ما كتبه إلى لِسبيا هي أيضاً بالوزن السافوي [Sapphic stanza] الذي استعمله حين نظم أول قصيدة كتبها إليها، مترجماً إياها عن سافو، وهي تذكّرنا بأبياته الأولى تلك.
كانت هذه القصيدة نتاج عام 58 ق. م.؛ أي أن حبه دام سنوات ثلاث لاقى فيها ما لاقى، وتطورت القصة بين حبّ وغيرة ومقت وخلاف ومصالحة، ثم خلاف ثم مصالحة، إلى أن انتهت أخيراً بقطع علاقاته معها، وبرفضه كافة توسلاتها القلبية. لكن هذه الفترة التي عدّها مشؤومة لأنها كسرت قلبه وهدمت آماله وجعلته يقترب بسرعة شديدة إلى حتفه، ليس للحضارة إلّا أن تعدّها فترة مباركة، بل أحسن فترات حياته، لأنها أوحت إليه بقصائد متعددة تصوّر أطواراً مختلفة من أطوار قصة حبه، كلها رائع وكلها جميل، وكلها قُدّر له الخلود.
إنها قصة حبه التي جعلته من أحسن شعراء الغزل ومن أروع ناظمي القصائد الغنائية؛ إنها هي التي جعلت اسمه علماً في تاريخ الأدب، وجعلته في صف واحد مع أرفاقه وزملائه الغنائيين، شلي[222] وسافو وبيرنز.[223]
5
هو الحبّ، الذي – كما قيل فيه – هو عدوّ الاعتدال، فإمّا أن يجعل المحبّ ملكاً أو ينحطّ به فيرديه شيطاناً .... عبث بحياة الشاعرين، فرفق بعمر وجعله ينعم، ويلهو طيلة عمره. وقسا على كاتلوس وجعله يشقى، ويموت في غضون شبابه، فاشلاً باكياً منتحباً.
هو الحبّ الذي خلّد الاثنين، لمّا آنس فيهما قوة على قول الشعر وبراعة في تصوير اختلاجات نفسيهما، فوهبهما المادة الخصبة، وقال لهما: أحبّا، وانظما! وقال لنا: اِقرأوا، وانعموا! اِقرأوا حباً كان، وحباً لا يزال في صدوركم، اقرأوا أنفسكم في هذا الشعر!
شعرهما
1
شاعران، أحبّا فخلّدا حبهما في الشعر - أم أقول: وخلّدا حبهما؟ ... فارق بسيط، لكنه لا يخلو من أهمية.
حرف عطف حقير، لكن بوناً في المعنى شاسعاً يرتكز عليه. حرف كان استعماله مصدراً لجلال الأسلوب في عبارة "كنْ فكان!"
أمَا قال سليمان في "نشيد إنشاده" عن لسان شولميت:[224] "أنا سمراء وجميلة"؟ وأيّ معنى ينقلب لو كان قال: "أنا سمراء لكن جميلة"؟ إن الحرف جعلنا نعرف أنه منذ عهد مواطننا الشاعر الملك كان الاسمرار علامة جمال.
هل أحبّ شاعرانا فنظما، أم هل أحبّا ونظما؟
أكلّ محبّ ينظم؟ أم يصدف أن يقول المحبّ الشعر؟
وُكّل عمر بالجمال يتبعه حيث كان، وقال شعره يصف معشوقات وحبيبات تبعهنّ – وتبعنه – حيث كنّ وكان. وقُدّر لكاتلوس – بركةً أو لعنة، لسنا ندري – أن يحبّ واحدة، فقال شعره فيها وصوّر خوالج نفسه ومشاعره تجاهها.
لكن أمَا أحبّ غيرُهما مثل هذا الحبّ، دون أن يقولا الشعر؟ أَوَلَمْ يقل شعراء آخرون الشعر دون أن يعشقوا؟
إن كل محب شاعر، وكل حب قصيدة - سواء أكانت مقطوعة أم أغنية أم مأساة!
2
يمتاز عمر بن أبي ربيعة بين أدباء اللغة العربية بشخصية جذابة يضيفها إلى شعر جيد، ولسنا ندري أهي شخصيته التي تكسبه مقامه وشعره بالدرجة الأولى، أم هو شعره، أم هو مزيج من الاثنين لو حُلّ لانحطّ عن مرتبته؟ إن في شخص عمر شاباً وسيماً، ثرياً، نبيلاً، شاعراً محدّثاً ظريفاً، حُبّب إلى النساء فهام في أثرهن ليجدهن يهمن في أثره؛ وإن في شعره وصفاً لهذا العيش، ومزايا استحدثها في الشعر، وصفات عُرف بها وقصّر غيره عنه فيها.
لكن – على ما أرى – يرتكز شعره لحدّ كبيرة على شخصيته، وليس فيه – لوحده – عناصر كثيرة تجعله جديراً بالخلود والبقاء.
كان عمر شاعراً موقراً في غضون حياته ومعتَبراً بعد وفاته. وقد أقرّ له الشعراء والنقدة بتفوقه في الشعر. وكان امتياز عمر بجملة صفات ومزايا، أجمَلَها صاحب "الأغاني" في الجزء الأول من كتابه؛ قال يقتبس عن الزبير بن بكار:[225]
حدّث الزبير بن بكار عن عمِّه مصعب أنه قال: راق عمر بن أبي ربيعة الناس وفاق نظراءه وبرعهم بسهولة الشعر، وشدة الأسر، وحسن الوصف، ودقة المعنى، وصواب المصدر، والقصد للحاجة، واستنطاق الربع، وإنطاق القلب، وحُسْن العزاء، ومخاطبة النساء، وعِفّة المقال، وقلة الانتقال، وإثبات الحُجّة، وترجيح الشكّ في موضع اليقين، وطلاوة الاعتذار، وفَتْح الغزل، ونَهْج العلل، وعَطْف المساءة على العُذّال، وحُسْن التفجع، وبخّل المنازل،[226] واختصار الخبر، وصدق الصفاء، إن قَدَح أورى، وإن اعتذر أبرى، وإن تشكى أَشْجى، وأقدم عن خبرة، ولم يعتذر بغرّة، وأَسَر النوم[227]، وغمّ الطير، وأغَذّ السير، وحيّر ماء الشباب، وسهّل وقوّل، وقاس الهوى فأربى، وعصى وأخلى، وحالف بسمعه وطرفه، وأبرص بنعت[228] الرسل وحذّر، وأعلن الحبّ وأسرّ، وبَطَن به وأظهره، وألحّ وأسَفّ، وأنكح النوم، وجنى الحديث، وضرب ظهره لبطنه، وأذل صعبه، وقَنِع بالرجاء من الوفاء، وأعلن[229] قاتله، واستبكى عاذله، ونفّض النوم، وأغلق رهن مِنى[230] وأهدر قتلاه، وكان بعد هذا كله فصيحاً.
ثم يأخذ المؤلف يورد أمثلة متعددة على كل نقطة من النقاط الكثيرة العدد التي نقلناها فوق.
ولعل من الخير أن نعود إلى "الأغاني"، ونقرأ في هذا السفر مجموعة متفرقة – نضمّ شمل بعضها هنا – عن آراء نفر من نقدة معاصري الشاعر وزملائه في شعره ومقامه الأدبي.
قال يعقوب بن إسحق: كانت العرب تقرّ لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلّا في الشعر، فإنها كانت لا تقرّ [لها] به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة فأقرّت لها الشعراء بالشعر أيضاً ولم تنازعها شيئاً.[231]
قال الزبير بن بكار: سمعت عمي مصعباً يحدث عن جدي أنه قال مثل هذا القول.[232]
سُئل حمّاد الراوية عن شعر عمر فقال: ذاك الفستق المقشّر.[233]
أنشد عمر قصيدته، "أمن آلِ نُعْمٍ" لطلحة بن عوف[234] وهو راكب، فوقف وما زال شانقاً[235] ناقته حتى كُتبت له.[236]
قال جرير:[237] ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر.[238]
سمع جرير بعض أبيات عمر فقال: إن هذا الذي كنا ندوّر عليه فأخطأناه وأصابه هذا القرشي.[239]
وسمع الفرزدق[240] شيئاً من تشبيبه فقال: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار.[241]
قال ابن أبي عتيق: لشعر عمر بن أبي ربيعة نَوْطة في القلب وعلوق بالنفس ودرك للحاجة ليست لشعر.[242]
وقال أيضاً: خذ مني يا ابن أخي ما أصف لك: أشعر قريش مَن دقّ معناه، ولطُف مدخله، وسهل مخرجه، ومتن حشوه، وتعطّفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته... ثم أشار أن عمر هو صاحب هذا الشعر الذي وصف.[243]
وحين تبارى عمر وجميل بثينة في الأبْطَح في الشعر اعترف جميل بتفوّق عمر عليه، وقال له فيما قال: هيهات يا أبا الخطاب، لا أقول والله مثل هذا سجيس الليالي.[244]
روى الزبير بن بكار: أدركتُ مشيخة من قريش لا يَزِنون بعمر بن أبي ربيعة شاعراً من أهل دهره في النسيب، ويستحسنون منه ما كانوا يستقبحونه من غيره، من مدح نفسه والتحلي بمودته والابتيار في شعره.[245]
***
وعمر كثير الوصف للنساء، وكل شعره تقريباً فيهنّ. ولا عجب، فهو زير نساء، لا يهدأ له بال إن غِبْن عنه أو انقطع عن مرآهن وسحرهن وغزلهنّ. من أجل هذا امتاز شعره بالغزل والنسيب، وأصبح هو أحد أئمة الشعر الغزلي في الأدب العربي - إن أحببنا أن نحترص فلا نقول إنه شاعر الغزل الأول في أدبنا.
قال جرير: إن أنسب الناس المخزومي (يعني عُمَراً).[246]
قال له الفرزدق: أنت والله يا أبا الخطاب أغزل الناس، ولا تحسن والله الشعراء أن يقولوا مثل هذا النسيب ولا أن يرقّوا مثل هذه الرقّة.[247]
قال الزبير بن بكار: أدركتُ مشيخة من قريش لا يَزِنون بعمر بن أبي ربيعة شاعراً من أهل دهره في النسيب.[248]
قال النُّصيب[249] لعمر: أنت أوصفنا لربات الحجال.[250]
سأل سليمان بن عبد الملك عمر: ما يمنعك من مدحنا؟ قال: أنا لا أمدح الرجال إنما أمدح النساء.[251]
قال له جميل: والله ما خاطب النساء مخاطبتك أحد.[252]
ويذكر بشير يموت في طبعة شعبية له لشعر عمر هذه الأبيات ليستدل بها على دقة وصف عمر للنساء، وهي في وصف امرأة ذات شعر كثيف يلزمه القصّ: [البسيط]
تقول: يا عمَّتا، كُفّي جوانِبَهُ
وَيْلي، بُلِيتُ، وأبلى جيديَ الشَعَرُ
مثلُ الأساوِدِ[253] قد أعيا مواشِطَهُ
تَضِلُّ فيه مَدارِيها[254] وتنكسِرُ
فإن نَشَرْتَ على عَمْدٍ ذوائبَها
أبصرْتَ منه فَتيتَ المِسْكِ ينتثِرُ[255]
ووصف عمر لقوادته مشهور: [مجزوء الرمل]
فأتتها طَبّةٌ عالمةٌ
تخلط الجِدَّ مراراً باللعبْ
تُغلظُ القولَ إذا لانت لها
وتُراخي عند سَوْراتِ الغضبْ
لم تزل تَصْرِفُها عن رأيِها
وَتَأنّاها برِفقٍ وأَدَبْ[256]
قال ابن أبي عتيق لعمر حين سمع هذه الأبيات: الناس يطلبون خليفة في صفة قوادتك هذه يدبر أمورهم فما يجدونه.[257]
***
وقد كان عمر فاسقاً في حياته، فكان – لذا – أحياناً فاسقاً في شعره. ولعل هذا الفسق ظاهر في روح شعره أكثر منه في لفظه؛ فقليلة هي الأبيات التي يشمئزّ من كلماتها القارىء. لكن المعنى العام والرابطة التي تربط كثيراً من قصائده فيها عبث ومجون وإباحية لا تغيب عن دارسه.
قال ابن جريج: ما دخل على العواتق في حِجالهن شيء أضرّ عليهن من شعر عمر بن أبي ربيعة.[258]
قال هشام بن عروة: لا تُرَوّوا فتياتكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطاً.[259]
وقال أبو المقوم الأنصاري: ما عُصي الله بشيء كما عُصي بشعر عمر بن أبي ربيعة.[260]
وقال مثله ابن أبي عتيق: ما عُصي الله جلّ وعزّ بشعر أكثر ما عُصي بشعر عمر بن أبي ربيعة.[261]
وروت ظبية مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب للزبير بن بكار، قالت: مررت بجدك عبد الله بن مصعب وأنا داخلة منزله وهو بفنائه ومعي دفتر، فقال: ما هذا معك؟ ودعاني، فجئته وقلت: شعر عمر بن أبي ربيعة. فقال: ويحك، تدخلين على النساء بشعر عمر بن أبي ربيعة؟ إن لشعره لموقعاً من القلوب ومدخلاً لطيفاً، لو كان شعر يسحر لكان هو، فارجعي به! قالت: ففعلت.[262]
***
أجل، إن هذا الشعر ذا الموقع من القلوب والمدخل اللطيف، هذا الشعر الذي يسحر، كان ذا أثر في المجتمع، وشاع ليس فقط في مكة والمدينة حيث كان الشاعر، وليس فقط في الحجاز والجزيرة، بل في كافة الأقطار العربية، تتناقلها الرواة ويتغنى بها المغنون ويتناشدها عاشقو الحبّ والأدب.
ولعلّ أول أسباب شيوعه – بالإضافة إلى ما فيه من جمال وإغراء – هو أنه كان يغنَّى. فكثير من قصائده نُظمت خصيصاً للغناء، وبعض آخر أُنشد. قال أبو نافع الأسود: إذا أعجزك أن تطرب القرشي فغنّه غناء ابن سُرَيج في شعر عمر بن أبي ربيعة فإنك ترقّصه.[263]
وفي "الأغاني" بعض أحاديث وروايات تبيّن بوضوح شدة شيوع شعره وتعشّق الناس له؛ نذكر منها اثنتين:
كان بين عائشة بنت طلحة وبين زوجها عمر بن عبد[264] الله بن معمر كلام، فسهرت ليلة، فقالت: إن ابن أبي ربيعة لجاهل بليلتي هذه حيث يقول: [الطويل]
وَوَالٍ كَفاها كلَّ شيءٍ يَهُمُّها
فليسَتْ لشيءٍ آخِرَ الليلِ تَسْهَرُ[265]
والرواية الأُخرى: نظر يزيد بن معاوية إلى رجل من أهل الشام معه ترس خَلَق سَمِج.[266] فضحك وقال له: ويحك، ترس عمر بن أبي ربيعة كان أحسن من ترسك! يريد قول عمر: [الطويل]
فكان مِجَنّي دُونَ مَنْ كنتُ أتّقي
ثَلاثُ شُخوصٍ كاعِبانِ ومُعْصِرُ[267]
***
غير هذه التي ذكرنا، كان لعمر مزايا متعددة في شعره، لعل أهمها أنه كان "فناناً لأجل الفنّ"، وشاعراً لا ينظم إلّا في الحب والغزل والنسيب والجمال. كان – كما قال هو عن نفسه – مغرماً بالجمال يتبعه حيث كان: [البسيط]
إنّي امْرُؤٌ مُولَعٌ بالحُسْنِ أتْبَعُهُ
لا حظَّ لي فيه إلّا لَذّةُ النَّظَرِ[268]
وكان شعره مرآة صافية لهذا التتبّع للجمال والحسن، لذلك لا نراه يهجو، أو يمدح، أو يرثي، أو يصف منظراً طبيعياً. وأية حاجة كانت به للخلفاء، أو الأمراء ولصلاتهم؟ وهل دليل أصدق على زهده في عطاياهم وعلى تخصصه بقول الشعر في المرأة والحبّ، أكبر من الخبر الذي أتينا على ذكره قبل قليل من أن سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين سأله: ما يمنعك من مدحنا؟ أجاب: إني لا أمدح الرجال إنما أمدح النساء.[269]
***
وشعر عمر في غاية السلاسة وسهولة التركيب وجمال الصيغة، هو الفستق المقشّر الذي وصفه حمّاد. وقد عاب عليه بعض نقاد عصره عدم استعماله للألفاظ الخشنة التي جرت عليها ألسنة الشعراء، فقال قصيدة أورد بها كثيراً من الكلمات والتراكيب والمُثُل التي أرادوها، هي الجزء الثاني من قصيدته الشهيرة في نُعْم.
***
ومن مزايا شعره – أيضاً – التعبير عن هذا الدلّ والإعجاب بنفسه: تقرأ عمر فتجد أن النساء كنّ يتهالكن عليه قبل أن يتهالك عليهن، إنه – كما قال ابن أبي عتيق – كان ينسب بنفسه وليس ينسب بحبيبة.[270]
***
وتكثر في قصائده المحاورات: قال وقلت وقالت وقلن إلخ... وهذه ميزة تفوّق بها عمر على زملائه وأقرانه. والأمثلة متعددة لا حاجة للاقتباس منها.
***
وفي بعض شعر عمر نزعة قصصية لا شك فيها. ومثال واحد يكفي للدلالة على هذه النزعة المستحدثة في الشعر العربي، التي لم يعرفها مَن سبقه من الشعراء – إلى حد – ولا مَن لحقه – إلى حد أيضاً – إلى عهد قريب قبل نهضتنا الحديثة. ولندع المثال هذا يتكلم لنفسه، وهو قصيدته التي نظمها حول خديعة هند وصاحباته له في جذبه إليهن وجعله يعتقد أنه هو الذي خدعهن. والقصة واضحة من قراءة القصيدة ولا ضرورة لروي الرواية كما ذكرها عمر نثراً لبعض صحبه. قال في قصيدته: [الطويل]
أَلَمْ تسألِ الأطلالَ والمُتَربَّعا
بِبَطْنِ حُلَيّاتٍ دوارِسَ بَلْقَعا
إلى الشَّرْيِ من وادي المُغمَّسِ بُدِّلت
معالمُه وَبْلاً ونكباءَ زَعْزَعا
فَيَبْخَلْنَ أو يَخْبِرْنَ بالعلمِ بَعدَما
نَكَأْنَ فؤاداً كان قِدْماً مُفجَّعا
بِهِنْدٍ وأترابِ هِنْدٍ[271] إذِ الهوى
جميعٌ، وإذ لم نَخْشَ أن يَتَصَدّعا
وإذ نحن مِثْلُ الماءِ كان مِزاجُهُ
كما صَفَّقَ الساقي الرَّحيقَ المُشَعْشَعا
وإذ لا نُطيعُ العاذلين ولا نرى
لِوَاشٍ لدينا يطلُبُ الصَّرْمَ مَطْمَعا
تُنُوعِتْنَ حتى عاودَ القلبَ سُقْمُهُ
وحتى تذكَّرتُ الحديثَ المودَّعا
فقلتُ لمُطْرِيهِنَّ: وَيْحَكَ، إنّما
ضَرَرْتَ، فهل تَسْطِيعُ نَفْعاً فتَنْفَعا
وأَشْرَيْتَ فاستشرى وإنْ كان قد صَحا
فؤادٌ بأمثالِ المَها كان مُوزَعا
وهيَّجْتَ قلباً كان قد ودَّع الصِّبا
وأشياعَهُ فاشفَعْ عسى أن تُشَفَّعا
لَئِنْ كان ما حدَّثْتَ حقّاً فما أرى
كَمِثْلِ الأُلى أطْرَيْتَ في الناسِ أربَعا
فقال: تعالَ انظُرْ: فقلتُ: وكيف لي
أخافُ مقاماً أن يَشِيعَ فَيَشْنُعا
فقال اكْتَفِلْ ثم التَثِمْ وَأْتِ باغياً
فَسَلِّمْ ولا تُكثِرْ بأن تَتَوَرَّعا
فإني سأُخفي العينَ عنكَ فلا تُرى
مخافةَ أن يَفْشُو الحديثُ فيُسْمَعا
فأقبلتُ أهوى مِثلَما قالَ صاحبي
لِمَوْعدِهِ أَزْجي قَعُوداً مُوَقَّعا
فلما تواقَفْنا وسلَّمْتُ أشرَقَتْ
وجوهٌ زَهاها الحُسْنُ أن تَتَقنَّعا
تَبَالَهْنَ بالعِرفانِ لمّا رأيْنَنِي
وقُلْنَ امرُؤٌ باغٍ أَكَلَّ وأَوْضَعا
وقَرَّبْن أسبابَ الهوى لمُتَيَّمٍ
يقيسُ ذِراعاً كُلّما قِسْنَ إصبَعا
فلمّا تنازَعْنا الأحاديثَ قُلْنَ لي:
أخِفْتَ علَينا أن نُغَرَّ ونُخْدَعا؟
فبالأمسِ أرسلنا بذلك خالداً
إليكَ وبيَّنا له الشأْنَ أجْمَعا
فما جِئْتَنا إلّا على وفقِ موعدٍ
على مَلأٍ منّا خرجنا لهُ معا
رأينا خَلاءً من عيونٍ ومَجْلِساً
دَمِيثَ الرُّبى سَهْلَ المَحلّةِ مُمْرِعا
وقُلنا: كريمٌ نالَ وَصْلَ كَرائِمٍ
فَحُقَّ له في اليوم أن يتمتّعا[272]
***
ودَرْسُ شعر عمر ذو قيمة أساسية في التعرف على لغة العصر وتراكيب جمله وعلى صرفه ونحوه. وقد قال العالم الألماني شوارتز:[273] إن شعر عمر أحسن مصدر لدراسة لغة القرآن.
وكان عمر كثير الانتباه للغة شعره وشديد الاهتمام بقصائده من الوجهة اللغوية والتركيب والصنعة. قال الأصمعي:[274] عمر حجّة في العربية، ولم يؤخذ عليه إلّا قوله: [الخفيف]
ثم قالوا: تُحِبُّها، قلتُ بَهْراً:[275]
عددَ الرملِ[276] والحصى والتُّرابِ
وله في ذلك مخرج إذ قد أتى به على سبيل الإخبار.[277]
***
وممّا تجدر ملاحظته هنا أن بعضاً من مميزات شعر عمر التي ذكرنا كانت موجودة في شعر غيره من السابقين أو المعاصرين، إنما امتاز هو بها عن سواه، إمّا لأنها برزت في شعره أكثر ممّا برزت في شعر غيره، أو لأن شعره كان أعظم من شعر الآخرين فامتاز هو حيث تُنوسِيَت مزايا سواه.[278]
3
مزايا كثيرة امتاز بها شعر عمر، لكننا لا نقدر أن نأتي على كل شيء منها وعلى أمثلة كثيرة تتعلق بها. ولنعد الآن إلى زميله الغربي وندرس ميزات أدب عصره وأدبه هو، ولنرَ كيف يشترك الاثنان بسلاسة اللغة وروعة بساطة الأسلوب والتركيب، وبتصوير الشعر للعاطفة والحياة، وبالتفنن في بعض الأحيان بالأشكال الفنية في الشعر، كالقصة وغيرها.
لنقرأ – بالإجمال – كلاً من الشاعرين في شعره.
4
ولا بد لنا، ونحن نتحدث عن شعر كاتلوس ومقامه الأدبي، أن نتعرّض – ولو موجزين – للمدرسة الشعرية التي كانت تتزعم الحركة الأدبية المعاصرة التي انتمى إليها كاتلوس، وأصبح – في عُرف معاصريه ثم في عُرف تاريخ الأدب كله – زعيمها ومخلّدها الأول.
هذه المدرسة هي المدرسة الإسكندرية في الشعر. ويُطلق اسم شعراء المدرسة الإسكندرية على طبقة الشعراء المحدثين في عصر شيشرون، ثم على بعض شعراء عصر أوغسطس. وكان ذلك ناتجاً عن أن هؤلاء الشعراء كانوا يقلدون شعراء الأغارقة الذين عاشوا – بعد انحطاط حال أثينا السياسي – في الإسكندرية، وابتكروا هناك أسلوباً جديداً في الشعر كان له أثره. ولنقف لحظة على أهم مميزات هذا الشعر قبل التطرق إلى السبيل التي وصل روما خلالها.
فالصفة البارزة في الشعر الإسكندري هي اهتمامه بالثقافة المبتعدة عن الطبيعة والأصل: فقد كان شعراً يُكتَب داخل مكتبة – إذ عاش معظم ناظميه بين جدران مكتبة الإسكندرية عند البطالسة – ويصوَّر الكون من خلال تراث أدبي وفني مزوّق. ومن مميزاته العناية الفائقة التي كان يبذلها الشاعر في جعل قصيدته مصقولة ومكمّلة ما أمكن. وكانت هذه القصائد تعالج كافة المواضيع والمشاكل، حتى الصغيرة منها. وقد كان الشعر التعليمي أحد فروع هذه المدرسة، وقد كَثُر تقليده وانتشر.[279] وعوّض الشعراء عن قلة المادة الصالحة للكتابة – نظراً لضياع الاستقلال السياسي الذي كان فيما سبق يغذي الأدب – بمعالجة مواضيع مستحدثة، وبالإكثار من الإشارات والتلميحات الميثولوجية المختلفة.[280] ومن المميزات الأُخرى قِصَر القصائد: فهُجرت الملاحم الطويلة في الغالب، واستُعيض عنها بالمقطوعات القصيرة، واستُحدث الشعر الغزلي الذي دعا إليه رقةُ الشعور، وسريان اللهو والعبث الناشئين عن البطالة وقلة الأعمال، والنزعة الرومانتيكية التي اعترت الشعراء بسبب سيادة العنصر النسائي في بلاط المصريين.[281]
هذه كانت مميزات الشعر الذي نشأ في الإسكندرية ثم انتقل إلى روما وقُلِّد في عصر شيشرون و- إلى حد أقل – في عصر أوغسطس. وكان الداعي لسيادته في روما ذلك الفيض من المعلمين الذين كانوا يفيضون على روما من مصر وغيرها من الأقطار حيث يسود الشعر الإسكندري، وارتياد بعض الرومانيين هذه الأقطار. فرغب الرومانيون في تقليد اليونانيين ومنافستهم في الشعر، فلم يرجعوا إلى أدب العصور القديمة ويحاولوا التفوق عليه، بل التفتوا إلى شعر الأغارقة المعاصر وأخذوه مثالاً لهم؛ خاصة وأن هذا الشعر الإسكندري أسهل للتقليد من الشعر الكلاسيكي.[282] ومن أشهر المعلمين الذين جاءوا إلى إيطاليا ليُلقِّنوا دروس شعر المدرسة الإسكندرية بارثينيوس النيقيّ [Parthenius of Nicaea][283]، وقد جاء روما سنة 73 ق. م. وفتح فيها مدرسة لتلك الغاية. ومن الرومانيين فاليريوس كاتو [Valerius Cato][284] الذي قد يكون أول مَن نظم باللاتينية وفق أصول المدرسة الإسكندرية وعلّم قواعدها في إيطاليا.[285]
ويُلاحظ أن معظم الملتحقين بهذه المدرسة وأشهرهم كانوا من سكان بلاد الغال الكيسالبينية[286] أصلاً. وأعظم هؤلاء جميعاً هو كاتلوس، الذي إن استثنيناه وجدنا أن شعراء المدرسة الإسكندرية في روما لم يتركوا – بالكاد – شيئاً يُذكر اليوم ويُقرأ. ومن أهم الشعراء المعاصرين له والضاربين على منواله:
يوليوس قيصر: - وقد كتب قصيدة طويلة تُدعى "الرحلة" (Iter) عن حملته الإسبانية؛ كما وكتب أيضاً عدة مسرحيات أشهرها "أوديبس".[287]
سينا:[288] - وقد اشتُهر بقصيدة واحدة هي "سْميرنا" (Zmyrna) التي قضى في نظمها عشر سنين. وهي على درجة كبيرة من الغموض والإبهام، وقد امتدحها كاتلوس.[289]
كالفوس: - وهو من أبرز رجال عصره، وقد انخرط في المشاكل السياسية. كان صديقاً لكاتلوس واعتاد النقاد أن يقرنوا اسمَيهما معاً وأن يضعوهما في مستوى واحد من المقام الشعري. على أن كتاب شعره قد ضاع ولم يصل إلى أيدينا منه إلّا اليسير.[290] ومن أشهر قصائده "إيو" (Io)، وهي ملحمة قصيرة.
فارو [Varro]: - كتب أيضاً ونظم بعض قصائد قصيرة بذات الأسلوب.
كاتو: - نظم مجموعة غزلية هي "ليديا"، تدور حول شخص واحد.
ونجد أن هؤلاء الشعراء استطاعوا تقليد أغارقة الإسكندرية بكافة ضروب مدرستهم الشعرية: فالملحمة القصيرة لها مثال في "إيو" لكالفوس و"سميرنا" لسينا، ومن الشعر الغربي مجموعة "ليديا" لكاتو، وهناك قصائد أعراس لكالفوس وكاتلوس، كما وتوجد عدة قصائد قصيرة (epigrams) لسينا وكالفوس، ومن أمثلة الشعر التعليمي قصائد كالفوس وترجمات شيشرون في شبابه.[291]
وفي عصر أوغسطس ضاع أثر المدرسة الإسكندرية، غير أننا نجد بعض مَن بقي يحاكيها في نظمه، مثل غالوس [Gallus] وإميليوس ماكر [Aemilius Macer]؛[292] وفرجيليوس نفسه،[293] عميد الأدب اللاتيني قاطبة، يقول إنه لا يستطيع أن يشبّه نفسه أو يسمو إلى درجة سينا.[294]
كان كاتلوس – كما قلنا – زعيم هذه المدرسة الشعرية وأشهر المنتمين إليها. ولعل هذا العرض لمزايا المدرسة يعيننا في تفهّم شعر كاتلوس، الذي كان يسير وفق أصولها ونظمها، ولعلنا لا نستطيع تذوّق شعره إن لم نطّلع على الأدب اليوناني المعاصر.[295]
ومقام كاتلوس في الأدب اللاتيني، وأيضاً في الأدب العالمي، عالٍ ذو شأن. فاسمه من أعظم الأسماء في الأدب اللاتيني، وهو يمثل لنا الزهرة اليانعة في عصر شيشرون المزهر.[296] ومع أنه مات شاباً في الثلاثين، إلّا إن في شعره الغنائي – وهو ما برّز به بالدرجة الأولى - ما يضعه في الخوان الثالث من مصاف الشعراء الغنائيين العالميين، بعد سافو الإغريقية وشلي الإنكليزي.[297] وقد كان كاتلوس قوة جديدة في الأدب الروماني، يستمد مواضيعه – في الغالب – من حياته رأساً: فحبّه وبغضه وصداقته ورحلاته تَبرز لنا طبيعية خالدة من خلال قصائده؛ ولم يستطع شاعر أن يتفوق عليه في المقدرة على تصوير البهجة والغبطة والألم واليأس، دون ما حاجة لأن يلجأ إلى فلسفة هوراس أو تلميحات بروبرشس [Propertius][298] الميثولوجية. وهو أعظم هازىء وأفظع ناقم في الأدب العالمي.[299] وفي شعره تمتزج الحياة مع الحب والشاعرية بقوة وانتظام؛ ومع أن معانيه وأفكاره كثيراً ما حوكيت واقتُبست وأُعيد ذكرها، إلّا إن جمال قصائده يبقى فريداً لا يُفاقُ.[300]
وعبقرية كاتلوس الشعرية تظهر – بالدرجة الأولى – في قصائده الغنائية التي برز بها وتفوق. وهو أقدم – وأول – شاعر غنائي لاتيني، ومُدخل فن الشعر الغنائي لأدب الرومان. وهو وإن لُقّب بالأستاذ، أو المثقف (Doctus)، نظراً لقصائده الطويلة أو التي نظمها وهو يتأثر – خطوة خطوة – دعائم المدرسة الإسكندرية، فإن قصائده الغنائية هي التي تضمن له الخلود.[301] ولا مثيل في الأدب القديم كله لحلقة قصائده في لِسبيا. وسنعود لغنائياته بعد قليل، حين نتحدث عن الأبواب المختلفة في شعره.
وقد اجتمعت عدة عوامل وضعت كاتلوس في الصف الأول من شعراء اللاتين: من هذه رفعة قصائده وامتيازها، فيضاً عن تنوّع مواضيعها؛ فهو جريء بمضاهاة فرجيليوس في قصيدته "زواج بيليوس وثيتِس"، وأوفيدوس في رثائه لأخيه، وكذلك طبولوس [Tibullus]،[302] وهوراس في غنائياته.[303] وقد استطاع أن يستعمل بحوراً متعددة من الشعر، بعضٌ منها لم يُطرق من قبل ولم يُطرق بذات الدرجة من الإجادة من بعد. وهنالك أيضاً – من المميزات – استعماله اللغة السلسة والتعابير البسيطة في النظم في عواطفه وماجريات حياته.[304] وإن هذه السلاسة والبساطة والوضوح الهائل تضعه في صف لوحده بين الشعراء: فهو يرى الصورة أو يحسّ بالعاطفة، فيصوّرهما بلحظة واحدة لا يحتاج إلى ثانية لها حتى يُطرِب ويُدهِش.[305]
وقد استعمل كاتلوس – كما أسبقنا – عدداً وافراً من أوزان الشعر وبحوره، امتاز بها؛ لكننا نعتذر عن عدم تقديم أمثلة وعدم البحث فيها نظراً لأن بحور الشعر اللاتيني غير مألوفة لدينا، ولأن الأمثلة تتطلب معرفة تامة بهذا الشعر وبهذه اللغة. إلّا إننا نقرر هذه الحقيقة وهي إجادته لمعظم الأوزان التي استعملها، المعروفة وغير المعروفة، وتبريزه فيها.
والقصائد التي يعمر بها ديوان كاتلوس، وهي تبلغ – حسب المجموعة المعترف بها – مائة وستة عشر قصيدة، تقع في أبواب متفرقة، نستطيع أن نُرتب كل قصيدة في إحداها؛ هي هذه: قصائد الحبّ، قصائد الرثاء، قصائد الزواج، القصائد الفنية، والمقطوعات القصيرة.
أمّا قصائد الحبّ فتكوّن السلسلة المعروفة بقصائد "لِسبيا"، وقد أتينا على كثير منها – ترجمةً أو إشارة – في بحثنا عن قصة حبّه، وذكرنا بعضاً من مزاياها حين أشرنا إلى مقام غنائيات كاتلوس في الأدب. ولا ريب في أن هذه القصائد الغزلية هي التي تجعل كاتلوس يحتل مكانته؛ وهي – كتعبير عن عواطف شخصية مباشرة – لم يُتفوَّق عليها قطّ، ليس فقط في الأدب اللاتيني، بل في أي أدب آخر.[306] ويصعب أن نجد في الأدب كله مثيلاً لهذه الحلقة الشعرية، من حيث إخلاص الشعور، وتطوّر الفكرة من حبّ واغتباط إلى مقت وقلق، إلى يأس جارف فوداع بعد خيبة أمل...[307] قصة حبّ عظيمة، ووصف عظيم لهذه القصة، في شعر عظيم امتاز بهذا الصدق وبهذا الشعور، واتّصف بالسلاسة العذبة والبساطة المتناهية وبتلك النقاوة الفريدة.[308]
أمّا قصائد الرثاء فهي قليلة العدد، وهي تلك التي قالها في رثاء أخيه، وتدخل تحتها – وإن لم تكن لها علاقة بالرثاء – القصائد التي نظمها إبّان رحلته الشهيرة. وقد مررنا على ذكر هذه القصائد فيما سبق؛ وفي هذه أيضاً يُبدع كاتلوس ويُقتدى في الأدب اللاحق به.
وفي معظم قصائده الطوال عنصر مشترك، هو معالجتها موضوع الزواج – مباشرة أو غير مباشرة - ونلمح في هذه القصائد أن الشاعر اعتنى بها أكثر من اعتنائه بغنائياته أو بمقطوعاته القصيرة؛ من أجل هذا أطلقنا عليها اسم القصائد الفنية. فقد نظمها بأوزان متفاوتة وبأساليب معقدة، وراعى منها الصنعة والإكمال والإشارات الميثولوجية، متأثراً بالأسلوب [الإسكندري] والطريقة الإسكندرية. ولنأخذ أمثلة من هذه القصائد لنشير إلى صنعة كاتلوس الشعرية، ولنبيّن بعض نزعات فنية تظهر في شعره – ولو إلى حدّ – مثل القصة والمسرحية والملحمة:
القصيدة (61): - وقد كتبها تذكاراً لزواج مانليوس توركْواتوس [Manlius Torquaitus] وفينيا أَوْرُنْكُلْيا [Vinia Aurunculeia]. وهنا نلمح ضرباً تمثيلياً – إلى حدّ – من الشعر. فتجد الشاعر يتخذ دور مدير الترتيبات، فيلقِّن الممثلين ويتلو مقطوعات غنائية خاصة بالزواج. وينادي هايمن [Hymen] – ربّ الأعراس – للحضور، ثم يدعو الفتيات اللاتي يلحقن بالعروس إلى بيتها الجديد ليغنين مديحاً لإله الزواج، ويعلّمهن ذاك المديح.
وتبدأ الخدمة، فيأمر الشاعر بفتح الأبواب، وتظهر المصابيح داخلة تقود العروس. ويمتدح الشاعر جمالها ومحبة زوجها المقبل لها. تدخل العروس، فيأمر الصبيان برفع المصابيح، والخدام بتقديم الجوز؛ ويتلو ذلك مزاح ونكات حول الحاضرين والعروسين.
يصل الجميع بيت العريس، ويأمر الشاعر برفع العروس – تبرّكاً – فوق العتبة، ويطلب إلى الصبي الذي يقودها أن يتركها ويكل خدمتها للنساء، ثم [يشير] إلى العريس أن يلحق بعروسه.
ويختم قصيدته برجائه أن يكون الزواج مقروناً بالنسل، ويأمر الخادمات بإغلاق الأبواب متمنياً للعروسين أن يتمتعا بشبابهما.[309]
والقصيدة هذه – على طولها – بسيطة التركيب، وتضاهي أجمل غنائياته من حيث سحرها وبساطتها وإكمالها؛ وفيها موسيقى جميلة وتعابير غنية بالجمال والرقة تذكّر القارىء بنشيد الإنشاد.[310]
القصيدة (64): - وهي ملحمة قصيرة، من أواخر كتاباته ومن أبدعها، عن زواج بيليوس وثيتِس. يروي فيها كيف أحبّت إلهة البحر ثيتِس البطلَ بيليوس بينما كان مسافراً في البحر؛ ثم كيف هُرعت كل تساليا [Thessaly] لتشهد التحضير لزواجهما. بعد ذاك يذكر الشاعر كيف جاء كل من الآلهة إلى الوليمة، وكيف أنشدت الأقدار مديح الوليد المنتظر، أكليس [Achilles]. ويختم الشاعر قصيدته آسفاً لأنه في الأيام الأخيرة أدّى شرّ الناس لانقطاع الصلة والزواج بين الآلهة والبشر.[311]
ويتخلل القصيدة وصف لهجران ثيسيوس [Theseus] لزوجته أريادني [Ariadne] (لأن قصة هذا البطل كانت محاكةً على فراش العرس)، وهو وصف طويل وجميل. وتحوي القصيدة بعض مقاطع في غاية الجمال.[312]
القصيدة (63): - وهي قصة قصيرة، مأخوذة في الأصل عن الميثولوجيا الإغريقية مع تحوير طفيف راق الشاعر، تتحدث عن أتيس. يصوّر فيها شاباً أثينياً يذهب في نزهة ليصطاد مع أرفاقه، فيصيبه هوس ويأخذ يعذّب نفسه؛ ويفكر في الصباح بالهرب، لكن الإلهة سايبيلي [Cybele] ترسل أسداً ليخيفه، وتجعله يقضي آخر أيامه عندها تابعاً خصيّاً.[313]
ومن قصائد الزواج الشهيرة – غير هذه - القصيدة (62)، حيث تُشبَّه العروس بزهرة في بستان مغلق، جميلةٍ قبل أن تُقطف وملطخة بعد القطف؛ وتشبَّه العروس بعد الزواج بالدالية التي لا فائدة منها إن لم تُسنَد بالسروة. لكن حين يُجاد تقليمها تصبح شريفة ومثمرة.[314]
هذه أمثلة من قصائد كاتلوس الطويلة، ومعظمها يتعلق بالزواج. وقد تفنن كاتلوس في أساليبها وأوزانها، وتنقل فيها بين القصة والتمثيلية والملحمة.
ولكاتلوس عدة مقطوعات، بعضها قصير وبعضها طويل، تعالج كافة المواضيع، وبعضها يعود به إلى قصة حبّه. ونكتفي الآن بذكر اثنتين منها:
القصيدة (45): - وهي من أجمل غنائياته القصيرة المتأخرة، وتتحدث عن حبّ سبتيموس [Septimius] وأكمي [Acme] أحدهما للآخر وعن وعودهما. وقد تكون هذه أكثر قصائده صفاءً ومرحاً؛ وفيها تصوير جميل، لعله أمرح تصوير لحب سعيد في أي أدب.[315]
القصيدة (34): - وهي دعاء لديانا [Diana][316]، وتشبه إحدى قصائد هوراس، لكنها تفوقها من حيث البساطة والوحدة والشعور الديني.[317] ومع أنها قصيدة قصيرة، فإن فيها من الوقار والأبهة ما يجعلها في مصاف الطُّرَف الكبرى.[318]
بهذا تنتهي مجموعة المقطوعات القصيرة وتُختتم قصائد الكتاب، ولا ضرورة للتكرار بأن أجمل قصائد كاتلوس هي في مجموعته الغزلية – التي هي مخلّدة بالدرجة الأولى – وإن تكن بعض قصائده الرثائية، أو الفنية، أو مقطوعاته، مبدعة رائعة.
5
هذان شاعرانا - شاعرا الغزل في الأدبَين العربي واللاتيني - شاعران صادقان، جعلا أدبهما أسطوانة حساسة سجلا عليها كل ما اختلج في قلوبهما[319] من مشاعر، وكل ما عمرت به حياتهما من أحداث؛ جمعا فيه البساطة والسلاسة والروعة وجعلاه سهلاً ممتنعاً؛ خلقا فيه إحساسات خالدة نشعر بها حين نقرأها ونحياها كل ساعة؛ وتفنّنا فيه ما استطاعا، وأجادا فيه ما قُدّر لهما. واختلف شعرهما بمقدار ما اختلفت حياتهما واختلف حبّهما.
إنهما شخصان، وحياتان، وحبّان، ظهرت كلها في شعرهما، فجعلتنا حين نقرأ الشعر وندرسه ونتذوقه ونحبّه، لا نقرأ شعراً فحسب بل نقرأ إنسانين، ونحيا مع شاعرين، محبّين، حبيبين.
خاتمة
هل كان في كاتلوس ما يربطه – بأية صورة – بعمر؟ أم هل شاعر غزل اللاتين قابل للمقارنة مع شاعر غزل العرب؟ أكان في الاثنين ما يضعهما في صفّ واحد، ويفردهما عن سائر شعراء غزل الأمم الأُخرى؟
قد درسنا الاثنين وعرفنا شيئاً عن عصر كل منهما، وعن حياته، وحبّه، وشعره. وقد وجدنا صعوبة في ربط الشاعرين معاً: فهذا عمر – وإن كان قد فُقد الكثير ممّا كُتب عنه وعن شعره – نقرأ عنه في كتب الأدب الأولى، ويفرد له صاحب "الأغاني" حوالي سبعين صفحة كبيرة متجمعةً غير ما تفرّق بين ثنايا أجزاء مؤلفه الضخم، فنعرف عنه كثيراً من الحوادث والأخبار والقصص، ونستطيع بذا أن نكوّن لأنفسنا فكرة عنه وعن حياته وحبّه. لكن، هذا كاتلوس، لم ينعم هو وأقرانه الشعراء بمؤرخ للأدب كالأصبهاني – وإن نعموا بمثيل له على نطاق أضيق وبأسلوب آخر- يترك لنا سيرهم وأقاصيصهم ونوادر تكون لنا – كما كانت في حال ابن أبي ربيعة – مصدر الدراسة الأول. من أجل هذا كانت صفحات دراستنا المتعلقة بعمر جملة أخبار أُخذت عن "الأغاني" ورُتبت بحيث تكوّن فكرة أردنا تبيانها، وكانت الصفحات المختصّة بكاتلوس دراسة لما نستخلصه عنه من شعره، وما نعرفه – وهو قليل – من أخباره، وتطبيق[320] لحال العصر ونظمه الاجتماعية على سيرة الشاعر.
وقد نلمح ممّا ذكرنا في الصفحات السابقة نقاطاً تقرّب الشاعرين من بعض، وقد نلمح نقاطاً تبعدهما عن بعض؛ لكن شيئاً واحداً نسجله في هذه الخاتمة، هو أننا نقرأ اليوم – بعد ألفَي سنة من وفاة واحد، وألف ومائتين من وفاة الآخر – ما كتباه، فلا نحسّ بأنه قد عتُق أو بَلي، بل نرى فيه معنى وسَوْحاً وجمالاً؛ فنقرأ عواطف ليست غريبة عنا، ونرى صور حياة نستطيع أن نتخيلها، ونتسلّى بقصص حبّ قد نذكر مثيلات لها في وقتنا الحاضر. نقول أحياناً: هي عواطف شخصية، ونقول: أمّا قطع الأدب العالمية العليا فهي التي تحوي حقائق فلسفية خالدة؛ فنمسك الكتب الضخمة ونقلّب صفحاتها، نفخر بأنها تحتل مكاناً في مكتباتنا ولا نعرف منها إلّا ما نعرفه عنها؛ ونتناسى أنه في قصائد الغزل – كقصائد غزل عمر بن أبي ربيعة وكاتلوس – حقائق فلسفية خالدة، تصوّر حياة نحياها كل يوم، وإحساسات نحسّها كل دقيقة؛ فتجدنا نقرأ شعرهما كل يوم، ونقتبسه في كل مناسبة، ونتذوّقه ونحفظه.
أرأيت نفسك يوماً تقرأ أحد الشاعرين، فيغيب كل فكرك عن الشاعر والقصيدة والمخاطَب والزمن والمناسبة، وتتراءى أمامك محبوبتك أنت، فتقرأ الشعر وكأنك تخاطبها؛ تقرأ كاتلوس وكأنك حانق عليها لإعراضها وخبثها، أو عمر وكأنك ماجن خُلق للّهو؟ أرأيت نفسك تطرح الديوان، وتخاطبها بالأبيات التي كنت تقرأها، ثم تفيق، فلا ترى قربك أحداً؟ .... إنك – عندها – تذوقت أدبهما؛ قد كنتَ في عالم الأدب.
وأنا أقرأ قصائد الحبّ هذه، وأطالع صحائف شعر كاتلوس وعمر بن أبي ربيعة، ليس لأعرف شعور كاتلوس وتطوّر حبّه لـِ "لِسبيا"، ولا لألهو بوقائع عمر وقصائده في نُعْم والثريا وأسماء وهند، بل لهذا ولشيء آخر هو في الدرجة الأولى: لأقرأ نفسي وشعوري، ولأرى ما كنت أنا سأقوله لو كنت شاعراً.
أقرأهما كي أتقمص روح كاتلوس يخاطب لِسبيا،
وكي أتقمّص روح عمر يخاطب هنداً؛....
وأيٌّ ليست له "لِسبيا" و"هند"
!؟!
1 كانون أوّل[321] 1944
الصفحة الأولى من الوثيقة
الصفحة الأخيرة من الوثيقة
* يقول توفيق عبد الله صايغ في مخطوطته: "قُدّم هذا البحث رسالة فصلية في صف 'الأدب في العصر الأموي'، للنصف الأول من العام الدراسي 1944 – 45".
ويهديها: "إلى 'الصغيرة السمراء' التي كانت ماثلة أمامي وأنا أكتب هذه الصفحات، وكانت 'لِسْبيا' من غير ما خداع، وكنت صادقاً غير عابث، .... فكانت 'هِنْداً'."
قائمة المراجع
عمر بن أبي ربيعة
الأصبهاني، أبو الفرج. "الأغاني". مصر: طبعة بولاق، 1285 هـ. ج 1.
جبّور، جبرائيل سليمان. "عمر بن أبي ربيعة – عصره". بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1935. ج 1.
---------. "عمر بن أبي ربيعة - حياته". بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1939. ج 2.
شوارتز، ديلمور. "ديوان عمر بن أبي ربيعة". د. م.: د. ن. 1941.
العقاد، عباس محمود. "شاعر الغزل". مصر: د. ن. 1943.
مبارك، زكي. "حب ابن أبي ربيعة وشعره". القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1919.
***
كاتلّوس
Barber, Eric Arthur. “Catullus”. Encyclopedia Britannica, 14th ed., v. 5, pp. 51, 52.
Dimsdale, Marcus S. History of Latin Literature. London: Heinemann, 1915.
Ellis, Robinson. Catullus Carmina Selection. Oxford: Kessinger Publishing, 1877.
Mackail, John William. Latin Literature. New York: 1902.
Rose, Herbert Jennings. “Latin Literature”. Encyclopedia Britannica., 14th ed., v. 13, pp. 746-754.
Showerman, Grant. Rome & the Romans: A Survey and an Interpretation. New York: The Macmillan Company, 1931.
Thompson, Henry. History of Roman Literature. London: John Joseph Griffin, 2nd ed., 1852.
المصادر:
[1] كذا في الأصل والصواب: فتصفو. [المحقق]
[2] كذا في الأصل والصواب: جبهاتهم. [المحقق]
[3] كذا في الأصل والصواب: متوكئة. [المحقق]
[4] كذا في الأصل والصواب: يفوح. [المحقق]
[5] كاتلوس، 51. ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب الدراسة.
[6] عمر بن أبي ربيعة (ش)، 1.
[7] كتاب "اللزوميات" لأبي علاء المعري، وكتاب "في طبيعة الأشياء" قصيدة طويلة للشاعر الروماني لوكريتيوس يشرح فيها الفلسفة الأبيقورية. [المحقق]
[8] جبور I، 16-26.
[9] جبور I، 27 و28.
[10] جبور I، 30، عن عمر بن أبي ربيعة (ع) 268.
[11] شاعر غنائي وناقد أدبي لاتيني من رومانيا القديمة في زمن أوغسطس قيصر.
[12] جبور I، 29-73.
[13] جبور I، 73-82.
[14] جبور I، 82-91.
[15] جبور I، 91، عن عمر بن أبي ربيعة (ع) 60. [ذَرْو التعاتب: بعض التعاتب. وجاء في معجم المعاني الجامع: ذَرْو من قول: طَرَف منه]. [المحقق]
[16] العقيق: وادٍ في المدينة. [المحقق]
[17] كذا في الأصل والصواب: أوّل. [المحقق]
[18] أرفاقه ورفاقه ورفقاؤه لها معنى واحد. [المحقق]
[19] جبور I، 91-127.
[20] كذا في الأصل والصواب: جَوَارٍ. [المحقق]
[21] مقال "لبنان في معجزة الأغارقة" في أحد أعداد "المكشوف"، أوائل 1944، لا أعرف رقمه بالضبط.
[22] ماريوس: قنصل وعسكري روماني؛ سُلّا أو سولّا: قائد وقنصل وديكتاتور روماني؛ يوليوس قيصر: إمبراطور روما وكان جنرالاً وقائداً سياسياً وكاتباً رومانياً؛ بروتوس: من رجال السياسة في الجمهورية الرومانية وعضو في مجلس الشيوخ الروماني وله شهرة كبيرة لاشتراكه في مؤامرة اغتيال يوليوس قيصر؛ أنطونيوس: قائد وسياسي وقنصل روماني اشتهر بعلاقته بكليوباترا؛ ليبيدوس: جنرال ورجل دولة روماني؛ أوغسطس: رجل دولة روماني وزعيم عسكري، كان يوليوس قيصر عمه الأكبر. [المحقق]
[23] لوكريتيوس: فيلسوف وشاعر روماني؛ ليفيوس: أحد أشهر المؤرخين الرومان؛ شيشرون: رجل دولة روماني ومحامٍ وفيلسوف وأشهر خطباء روما القديمة؛ فرجيليوس (فرجيل): كبير شعراء الأدب اللاتيني القديم كتب الإنياذة؛ أوفيدوس (أوفيد): شاعر روماني قديم، من أشهر أعماله "التحولات" (Metamorphoses) وكانت عن الميثولوجيا الإغريقية والرومانية؛ هوراس: مر التعريف به في الهامش رقم 11. [المحقق]
[24] ماكيل، 39.
[25] ماكيل، 52.
[26] دمزديل، 119.
[27] دمزديل، 119.
[28] دمزديل، 118.
[29] كذا في الأصل والصواب: معهما. [المحقق]
[30] كذا في الأصل والصواب: مثلهما. [المحقق]
[31] كذا في الأصل والصواب: نتحرَّ. [المحقق]
[32] كذا في الأصل والصواب: استبحاراً. [المحقق]
[33] كذا في الأصل والصواب: نواحٍ. [المحقق]
[34] كذا في الأصل والصواب: عُمَر. [المحقق]
[35] جبور II، 2، عن الأصبهاني I، 34.
[36] عن جبور II، 3.
[37] جبور II، 4، عن ابن عبد ربه II، 154.
[38] هذا ترجيح جبور II، 24.
[39] جبور II، 31، عن البغدادي II، 420.
[40] جبور II، 31، عن عمر (ع) 264.
[41] جبور II، 32 و33.
[42] جبور II، 34، عن الأصبهاني I، 101.
[43] جبور II، 35 و36.
[44] جبور II، 38 و39، عن الأصبهاني I، 101.
[45] جبور II، 43.
[46] جبور II، 49.
[47] كذا في الأصل والصواب: أصدقاءه. [المحقق]
[48] هو خالد بن عبد الله القسري من بجيلة، كان يترسل بين عمر وبين النساء وكان من أهل العبث في صباه. [المحقق]
[49] هو عبد الله بن أبي عتيق من أشهر النقّاد الذين تألقوا في آفاق الحجاز، كان مولعاً بالغناء، محباً للأدب والشعر، ناقداً لهما. ويذكر المبرّد في "الكامل في اللغة والأدب" أنه كان أيضاً "مِن نُسّاكِ قريش وظرفائهم، بل كان قد بزّهم ظُرفًا." [المحقق]
[50] هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، كان كريماً، جواداً، ظريفاً، خليقاً، عفيفاً سخياً يسمى بحر الجود. [المحقق]
[51] جبور II، 52-54.
[52] جبور II، 69.
[53] جبور II، 69-71. [ابن سُرَيج هو عبيد، وقيل عبد الله، بن سُرَيج، مغنٍّ من أهل الحجاز برع بالغناء والعزف على العود؛ الغريض هو أبو يزيد عبد الملك، وكان يُكنّى أبا مروان، من أشهر مغني العصر الأموي، أخذ الغناء عن ابن سُرَيج، والغريض لقبٌ له لُقّب به لجماله ونضارة وجهه؛ الحارث بن خالد المخزومي هو أحد شعراء قريش المعدودين في الغزل، وكان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة فلا يتجاوز الغزل إلى المديح ولا الهجاء]. [المحقق]
[54] أي أستحثّ الدابة على الجري. [المحقق]
[55] جبور II، 81، عن عمر (ع) 567.
[56] جبور II، 82-86.
[57] جبور II، 86-89.
[58] هو جميل بثينة، شاعر من عشاق العرب المعروفين، يعود نسبه إلى عُذرة وهي بطن من قضاعة. [المحقق]
[59] موضع في جنوبي غربي مدينة الطائف. [المحقق]
[60] جبور II، 92. [هو مصعب بن الزُّبير، ووالده هو الصحابي الزبير بن العَوّام أحد العشرة المبشَّرين بالجنة]. [المحقق]
[61] جبور II، 93-95.
[62] هو أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب "الأغاني". [المحقق]
[63] هو سليمان بن عبد الملك بن مروان، وهو الخليفة الأموي السابع، ومدة خلافته عامان وثمانية أشهر. [المحقق]
[64] جبور II، 96، عن الأصبهاني I، 35.
[65] جبور II، 98.
[66] إحدى أميرات بني مخزوم في عصرها، ولم تتزوج عمر إلّا بعد أخبار طويلة امتحنته فيها لتتأكد من أن شعره في النساء لا يعدو كونه أدباً فقط. [المحقق]
[67] كذا في الأصل والصواب: لأبنائه. [المحقق]
[68] جبور II، 105-108.
[69] جبور II، 109-116.
[70] جبور II، 74، عن الأصبهاني I، 112.
[71] جبور II، 116-126.
[72] جبور II، 126 و127.
[73] جبور II، 127، عن الأصبهاني I، 61.
[74] جبور II، 127، عن ابن قتيبة (ع) IV، 107.
[75] كذا في الأصل والصواب: الأسود. [المحقق]
[76] جبور II، 127-136.
[77] جبور II، 134، عن الأصبهاني II، 72.
[78] الدلّ تعني الغنج والتيه. [المحقق]
[79] ودوداً. [المحقق]
[80] جبور II، 137-180.
[81] جبور II، 182، عن الأصبهاني I، 48.
[82] هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، كان فقيهاً ومولى لأمية بن خالد. [المحقق]
[83] العواتق: الفتيات أول إدراكهن؛ حِجالهن: سِتْرهن. [المحقق]
[84] جبور II، 182، عن الأصبهاني I، 35.
[85] جبور II، 181-188.
[86] جبور II، 189-195.
[87] جبور II، 196-203.
[88] كذا في الأصل والصواب: أوّل. [المحقق]
[89] كان يوسبيوس أسقفاً، وكان يشار إليه على أنه أبو التاريخ الكنسي بسبب عمله في تسجيل تاريخ الكنيسة المسيحية في وقت مبكر، ولا سيما وقائع التاريخ الكنسي. [المحقق]
[90] دائرة المعارف البريطانية V، 51.
[91] دائرة المعارف البريطانية V، 51.
[92] ثالث أطول نهر في إيطاليا. [المحقق]
[93] سيرميو: نتوء في الطرف الجنوبي لبحيرة غاردا التي هي أكبر بحيرة في شمال إيطاليا. [المحقق]
[94] كاتلوس، 13: 8. دائرة المعارف البريطانية V، 51.
[95] المقصود: أن يرتاده أحد ما فيجد. [المحقق]
[96] شاورمان، 89 و90.
[97] شاورمان، 90.
[98] شاورمان، 91.
[99] شاورمان، 93 و94.
[100] الضحية: الأُضْحِيّة وهي الذبيحة. [المحقق]
[101] شاورمان، 103.
[102] كاتلوس، 68: 15-17.
[103] دمزديل، 142.
[104] كاتلوس، 1.
[105] كان محامياً وخطيباً ورجل دولة رومانياً. [المحقق]
[106] من كبار الشعراء الرومان. [المحقق]
[107] دائرة المعارف البريطانية V، 51.
[108] شاعر وبليغ وسياسي روماني كان من أشد المعارضين ليوليوس قيصر. [المحقق]
[109] منطقة قديمة في شمال غرب آسيا الصغرى، وتجاور بحر مرمرة والبوسفور والبحر الأسود. [المحقق]
[110] دمزديل، 146.
[111] ماكيل، 58.
[112] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب الدراسة بمعاونة السيد عرفان قعوار.
[113] دمزديل، 146.
[114] مدينة إغريقية قديمة تقع على ساحل الأناضول الغربي عند بحر مرمرة. [المحقق]
[115] دمزديل، 149.
[116] إقليم قديم في الوسط الغربي من الأناضول. [المحقق]
[117] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب الدراسة، بمعاونة السيد عرفان قعوار.
[118] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب الدراسة بمعاونة السيد عرفان قعوار.
[119] دمزديل، 147.
[120] ضابط روماني عسكري خدم تحت إمرة يوليوس قيصر الذي شمله برعايته. [المحقق]
[121] دمزديل، 147.
[122] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب الدراسة بمعاونة السيد عرفان قعوار.
[123] هو بومبيوس الكبير (Pompey the Great) أحد القادة العسكريين الذين برزوا في أواخر عصر الجمهورية الرومانية، وينحدر من أسرة رومانية عريقة. [المحقق]
[124] منطقة تاريخية تقع على الساحل الجنوبي للبحر الأسود. [المحقق]
[125] بلاد الغال. [المحقق]
[126] دمزديل، 147.
[127] كذا في الأصل والصواب: عداءه. [المحقق]
[128] دمزديل، 147.
[129] كاتلوس، 10 و11.
[130] كاتلوس، 38.
[131] كاتلوس، 30.
[132] دمزديل، 148.
[133] كاتلوس، 5.
[134] الأصبهاني I، 35.
[135] هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوّام، من حفّاظ الحديث، ورواته. [المحقق]
[136] الأصبهاني I، 35.
[137] هو يحيى بن ثعلبة من رواة الأحاديث. [المحقق]
[138] الأصبهاني I، 36.
[139] الأصبهاني I، 48.
[140] عمر بن أبي ربيعة، (يموت)، 86.
[141] كذا في الأصل والصواب: لمّا. [المحقق]
[142] وردت في بعض الروايات: رددناه. [المحقق]
[143] كذا في الأصل والصواب: خائباً. [المحقق]
[144] جبور II، 182، عن الأصبهاني (د) I، 229. [هذا مثَل يُضرب في اغتنام الفرصة، وأن مَن لم يغتنمها ثم افتقر فلن يغتني بعدها]. [المحقق]
[145] جبور II، 182، عن الأصبهاني (د) I، 229.
[146] الأصبهاني I، 82 و83.
[147] هو علي بن صالح بن الهيثم الكاتب الأنباري، حدّث عن أبي هفان الشاعر، وروى عنه أبو الفرج الأصبهاني. [المحقق]
[148] يقال له سمرة الحِمْيَري، ودوماني نسبة إلى دومان وهي بطن من قبيلة همدان في اليمن. [المحقق]
[149] الأصبهاني I، 35 و36.
[150] جبل في مكة في الجهة الشرقية للمسجد الحرام. [المحقق]
[151] كذا في الأصل والصواب: مُحْرِمون. [المحقق]
[152] الأصبهاني I، 36.
[153] الأصبهاني I، 36.
[154] هو المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي وكان ثقة قليل الحديث. [المحقق]
[155] الأصبهاني I، 36 و37.
[156] هو الزبير بن بكّار من نسل عبد الله بن الزبير، وكان ثقة ثبتاً عالماً بالنسب وأخبار المتقدمين. [المحقق]
[157] أي أنه لم يكن يقف عند الوصف وإنما يجاوزه. [المحقق]
[158] الأصبهاني I، 53.
[159] الأصبهاني I، 89.
[160] الأصبهاني I، 82.
[161] الجنبذ هو كل مرتفع مستدير من الأبنية كالقبة؛ وقيل: قصر الجنبذ وهو قصر في المدينة. [المحقق]
[162] الجزل: موضع قرب مكة. [المحقق]
[163] أخضل: بَلّ. الريطة: ملاءة كلها نسج واحد وقطعة واحدة. [المحقق]
[164] هو محمد بن مصعب بن الزبير بن العوّام. [المحقق]
[165] القزعة: قِطَع من السحاب صغار متفرقة. [المحقق]
[166] الأصبهاني I، 68 و69.
[167] هو محمد بن الضحاك بن عثمان الحزامي المدني، مُحدِّث. [المحقق]
[168] الأصبهاني I، 36.
[169] الجُمّة: ما ترامى من شعر الرأس على المنكبَين. [المحقق]
[170] الأصبهاني I، 37.
[171] مؤرخ وعالم بأنساب العرب وأخبارها وأيامها ووقائعها ومثالبها. [المحقق]
[172] هو عروة بن الزبير بن العوّام، تابعي ومحدِّث ومؤرخ مسلم، وأحد فقهاء المدينة. [المحقق]
[173] الأصبهاني I، 64.
[174] الأصبهاني I، 36.
[175] الأصبهاني I، 36.
[176] الأصبهاني I، 36.
[177] الأصبهاني I، 70-71.
[178] هو محمد بن الأشعث بن قيس الكِندي، انضم إلى مصعب بن الزبير في حربه ضد المختار الثقفي. [المحقق]
[179] الأصبهاني I، 42.
[180] الأصبهاني I، 82 و83.
[181] [فراغ في الأصل]. [المحقق]
[182] الأصبهاني I، 69. [كذا في الأصل والصواب في الأغاني: ابن تفاحة].[المحقق]
[183] الأصبهاني I، 71.
[184] كذا في الأصل والصواب: فؤاده. [المحقق]
[185] الأصبهاني I، 45.
[186] هو أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي، كان صدوقاً حسن الحديث. [المحقق]
[187] المسهب: مَن أسقمه الحب وأذهب عقله. [المحقق]
[188] أي كانت أهلاً لأن يُشغَف بها لجمالها. [المحقق]
[189] كذا في الأصل والصواب: عنّي. [المحقق]
[190] جبل في أعلى مكة. [المحقق]
[191] أي أنها طويلة تامة القوام والخلق. [المحقق]
[192] الأصبهاني I، 85.
[193] مبارك، في كتابه "حب ابن أبي ربيعة وشعره".
[194] مثلاً الرواية في الأصبهاني I، 65.
[195] مثلاً: كاتلوس، 83.
[196] ماكيل، 56.
[197] كذا في الأصل والصواب: عشاقها. [المحقق]
[198] دائرة المعارف البريطانية V، 52.
[199] طمسون، 54.
[200] ماكيل، 55.
[201] عن دمزديل، 143 -146.
[202] كان كاتولوس يخاطب عشيقته كلوديا باسم "لِسبيا" (أو لِزبيا) المنسوب إلى جزيرة ليسبوس اليونانية التي عاشت فيها الشاعرة المنتحرة سافو. ومن جزيرة ليسبوس اشتُقت كلمة "ليزبيان"، أي الكلمة الدالة على المثلية النسائية. [المحقق]
[203] كذا في الأصل والصواب: الترجمات. [المحقق]
[204] معلم الفصاحة والنقد والبلاغة في أثينا. ولد في تدمر في سنة 213م، وله عدة كتب أشهرها "في الجليل" (On the sublime)، والمقصود هو "الجليل" في الأدب، والذي يَعدّه بعض مؤرخي الأدب في المرتبة الثانية بعد كتاب أرسطو "فن الشعر". والرواية المأنوسة أنه أشار على زنوبيا ملكة تدمر أن تتمرد على روما؛ وهذا ما حدث. ولما هُزمت سيقت مأسورة إلى روما، ونُفذ فيه حكم الإعدام في سنة 273م. [المحقق]
[205] أي انتفخت العينان. [المحقق]
[206] ترجم هذه القصيدة عن الأصل اللاتيني صاحب هذه الدراسة.
[207] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب هذه الدراسة.
[208] كاتلوس، 70.
[209] من الأغلاط السارية كلمة القيروان بدلاً من قورينيا (Cyrene)، مثل سمعان القيرواني على سبيل المثال. والمعروف أن القيروان بناها عُقبة بن نافع في سنة 670م بعد التاريخ المفترض لسمعان القيرواني بنحو 640 عاماً، وبعد كاتلوس بنحو 500 عام. [المحقق]
[210] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب الدراسة بمعاونة السيد عرفان قعوار.
[211] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب الدراسة بمعاونة السيد عرفان قعوار.
[212] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب الدراسة بمعاونة السيد عرفان قعوار.
[213] كذا في الأصل والصواب: ذراعَي. [المحقق]
[214] كاتلوس، 36.
[215] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب هذه الدراسة.
[216] ترجمها عن الأصل اللاتيني صاحب هذه الدراسة.
[217] كاتلوس، 77.
[218] كذا في الأصل والصواب: مضنٍ. [المحقق]
[219] يورد هذه الترجمة للأسطر العشرة الأخيرة من هذه القصيدة الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه "جميل بثينة" – اقرأ – ص 72.
[220] كاتلوس، 58.
[221] ترجم هذه القطعة عن الأصل اللاتيني صاحب الدراسة بمعاونة السيد عرفان قعوار.
[222] هو بيرسي شلي (Percy Shelly) شاعر إنجليزي رومانتيكي يُعتبر من أفضل الشعراء الغنائيين باللغة الإنجليزية. [المحقق]
[223] هو روبرت بيرنز (Robert Burns) شاعر إسكتلندي يُعتبر الشاعر الوطني لبلده. [المحقق]
[224] راعية ورد ذكرها مع حبيبها الراعي والملك سليمان الحكيم في سفر "نشيد الإنشاد". [المحقق]
[225] الأصبهاني I، 53.
[226] جعل المنازل بخيلة لا تُخبر إلى أين ارتحل ساكنوها. [المحقق]
[227] من قوله: (الخفيف)
نام صحبي وبات نومي أسيراً
أرقبُ النجم مَوهناً أن يغورا
[المحقق]
[228] كذا في الأصل والصواب: وأبرم نعت. وإبرام النعت: إحكامه. [المحقق]
[229] كذا في الأصل والصواب: وأعلى، من قوله: (الكامل)
فُكّي رهينته فإن لم تفعلي
فاعْلِي على قتْل ابنِ عمّكِ واسْلَمي
[المحقق]
[230] الغلق في الرهن ضد الفك، فكان عمر يفك الرهن في الوقت المشروط فيطلق الراهن من وثاقه عند مرتهنه. يريد: وكم من قلوب أسيرة لا يقدر أصحابها على افتكاكها. مِنى: بلدة على بُعد فرسخ من مكة. وهذا من قوله: (الطويل)
فكمْ من قتيلٍ ما يُباء به دمٌ
ومِنْ غَلِقٍ رهناً إذا لفّه مِنى
[المحقق]
[231] الأصبهاني I، 35. [يعقوب بن إسحق هو ابن السكّيت، إمام في اللغة والأدب]. [المحقق]
[232] الأصبهاني I، 35.
[233] الأصبهاني I، 36. [حمّاد الراوية من أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها، وأول مَن لُقّب بالراوية. أصله من الديلم ومولده بالكوفة]. [المحقق]
[234] هو طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري، تابعي وأحد رواة الحديث النبوي. [المحقق]
[235] يقال: شنق البعير إذا جذبه بالشِّناق حتى يرفع رأسه. والشِّناق كالزمام وزناً ومعنى. [المحقق]
[236] الأصبهاني I، 38.
[237] شاعر أموي من أشهر شعراء العرب في فن الهجاء. شكّل ثالوثاً مع الأخطل والفرزدق. [المحقق]
[238] الأصبهاني I، 38.
[239] الأصبهاني I، 47.
[240] شاعر أموي اشتهر بالمديح والفخر والهجاء. وسُمّي الفرزدق لضخامة وتجهّم وجهه، ومعناها الرغيف الذي يسقط في التنّور. [المحقق]
[241] الأصبهاني I، 36.
[242] الأصبهاني I، 48. [النَّوْطة: التعلق]. [المحقق]
[243] الأصبهاني I، 48.
[244] الأصبهاني I، 51. [الأبْطَح: مكان واسع بين مِنَى ومكة، وهو إلى مِنَى أقرب؛ سجيس كلمة تُستعمل للتأبيد؛ يقال: لا آتيك سجيس اللبالي، أي لا آتيك أبداً]. [المحقق]
[245] الأصبهاني I، 52. [والابتيار: أن يفعل الإنسان الشيء فيذكره ويفخر به]. [المحقق]
[246] الأصبهاني I، 36. [وردت كلمة عمراً في الأصل والصواب: عُمَرَ]. [المحقق]
[247] الأصبهاني I، 65.
[248] الأصبهاني I، 52.
[249] هو نُصيب بن رباح، كان شاعراً مقدَّماً في النسيب والمدائح، وكان عبداً أسود اشتراه عبد العزيز بن مروان وأعتقه. [المحقق]
[250] الأصبهاني I، 35.
[251] الأصبهاني I، 35.
[252] الأصبهاني I، 51.
[253] الأساود: الحيّات. [المحقق]
[254] المِدْرى: المشط. [المحقق]
[255] عمر بن أبي ربيعة (ش)، 336.
[256] عمر بن أبي ربيعة (يموت)، 29. [وتأنّاها: تتمهل عليها]. [المحقق]
[257] الأصبهاني I، 59 و60.
[258] الأصبهاني I، 35.
[259] الأصبهاني I، 35.
[260] الأصبهاني I، 36.
[261] الأصبهاني I، 48.
[262] الأصبهاني I، 37.
[263] الأصبهاني I، 112. [أبو نافع الأسود هو من غلمان المغني ابن سُرَيج، أخذ عنه الغناء وكان من أحذق تلاميذه]. [المحقق]
[264] عائشة بنت طلحة هي ابنة طلحة بن عبيد الله التيمي أحد كبار الصحابة ومن العشرة الأوائل المبشرين بالجنة، وكانت من جميلات عصرها؛ أمّا زوجها فعمر بن عبيد الله، وليس عبد الله مثلما ورد في الأصل، كان من أجواد العرب وأنجادها، وهو ابن عم الصحابي طلحة بن عبيد الله التيمي والد زوجته عائشة. [المحقق]
[265] الأصبهاني I، 38 و39.
[266] خَلَقٌ سمج: بالٍ قبيح. [المحقق]
[267] الأصبهاني I، 39. [المُعْصِر: التي بلغت شبابها وأدركت]. [المحقق]
[268] الأصبهاني I، 64.
[269] الأصبهاني I، 35.
[270] جبور II، 141، عن المرزباني، 204. [المقصود أنه يشبّب ويتغزل بنفسه]. [المحقق]
[271] كذا في الأصل والصواب: وأترابٍ لهندٍ. [المحقق]
[272] ديوان عمر، (يموت)، 160.
[273] لست أدري أين ذكر شوارتز هذا القول، إنما استشهد به في صف "الأدب الأموي" الأستاذ جبرائيل جبور في ديسمبر 1944.
[274] راوية العرب وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان. [المحقق]
[275] بَهْراً: عجباً. [المحقق]
[276] وفي صيغة أُخرى: "عددَ النجمِ والحصى والتراب". [المحقق]
[277] الأصبهاني I، 37.
[278] راجع حول هذا نصّ المناظرة حول موضوع استحداث عمر لمزايا شعره في "الأمالي"، 10 نيسان 1940. وقد فاز الأستاذ جبرائيل جبور على الأستاذ عمر الدسوقي، وكان قِسْمُه: إن عمر لم يستحدث جديداً.
[279] ماكيل، 41 و42.
[280] دمزديل، 137.
[281] دمزديل، 138.
[282] دمزديل، 138.
[283] شاعر ونحوي يوناني. [المحقق]
[284] شاعر ونحوي روماني. [المحقق]
[285] دمزديل، 139.
[286] كذا في الأصل والصواب: السيسالبينية (cisalpina). [المحقق]
[287] طمسن، 61.
[288] كان غايوس هيلفيوس سينا صديقاً لكاتلوس. وقصيدة زميرنا أو سميرنا هي عن حب زميرنا لوالدها. [المحقق]
[289] ماكيل، 52 و53.
[290] ماكيل، 53.
[291] دمزديل، 140.
[292] إميليوس ماكر: شاعر. [المحقق]
[293] فرجيليوس، إكلوغ 9: 35.
[294] دمزديل، 238 و239.
[295] دائرة المعارف البريطانية V، 51.
[296] ماكيل، 53.
[297] ماكيل، 54.
[298] شاعر روماني. [المحقق]
[299] دائرة المعارف البريطانية XIII، 749.
[300] ماكيل، 54.
[301] دمزديل، 158.
[302] شاعر روماني لاتيني. [المحقق]
[303] طمسن، 55.
[304] دائرة المعارف البريطانية XIII، 749.
[305] ماكيل، 61.
[306] ماكيل، 55.
[307] دائرة المعارف البريطانية V، 52.
[308] دمزديل، 148.
[309] دمزديل، 152 و153.
[310] ماكيل، 58.
[311] دمزديل، 155 و156.
[312] دمزديل، 155 و156.
[313] دمزديل، ص 154.
[314] دمزديل، 153.
[315] دمزديل، 150.
[316] ديانا: إلهة الصيد. [المحقق]
[317] دمزديل، 151.
[318] ماكيل، 58.
[319] كذا في الأصل والصواب: قلبَيهما. [المحقق]
[320] كذا في الأصل والصواب: وتطبيقاً. [المحقق]
[321] كذا في الأصل والصواب: الأول. [المحقق]