في اللحظة التي يفتح لك الفنان جواد إبراهيم باب منزله في رام الله، تكتشف أنك لم تأتِ لمقابلته فقط، إنما أنت في متحف يستعرض مراحل من تاريخه الفني، فلوحاته ومنحوتاته المعلّقة على الجدران، والموزعة في زوايا البيت، تحمل في طياتها روحاً ولوناً ووجداناً وامتداداً له كفنان. جلسنا في الحديقة الخلفية لمنزله، حيث تمكث كلبته تحت شجرة فارعة الطول وبجانبها نبتة المديدة تتسلق الجدار عالياً. وطوال الحوار، ما انفكّ كناري إبراهيم في القفص الأصفر الصغير يطلق الصفير والزعيق.
الفنان جواد إبراهيم
بدأنا الحوار بالحديث عن معرض جواد إبراهيم الذي نظّم صدفة عبر عرض أعماله في خيمة في صحراء النقب جنوب فلسطين، في معتقل أنصار 3، المخيم الاعتقالي الذي شيدته دولة الاحتلال والفصل العنصري في إبان الانتفاضة الأولى، للزجّ بآلاف الشبان المنتفضين فيه، تحت شمس الصحراء الحارقة، وكان جواد واحداً منهم، فقد كان الهدف من إقامة هذا السجن "المعسكر" كيّ وعي آلاف الشباب وإقناعهم، مرغَمين، بأن لا طائل من نضالهم وانتفاضتهم. وبدورهم، واجهوا السجّان في حالة من الانصهار الجماعي في بوتقة أخلاقية ونضالية سامية واحدة، والدليل على ذلك، أن الكثيرين من هؤلاء الشبان عادوا مرة ومرتين إلى السجن ذاته، أي أنهم استأنفوا نشاطهم الانتفاضي بعد الإفراج عنهم، ليعود مرة أُخرى إلى السجن.
زيت على قماش، 120cmx120، 2022
ما زال جواد إبراهيم يتذكر رقمه كسجين 11709، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على اعتقاله، حينذاك. ولدى سؤاله عن هذه التجربة الاعتقالية وما الذي اكتسبه منها فنياً، قال أنها ربما العين الحادة التي تحدّق في كل التفاصيل، والتفاصيل في حالة السجن قليلة، وبالتالي تتيح لمخيلة أكثر اتساعاً. أخبرنا عن الصحراء التي افتقدت أي مقومات للحياة، وتحولت إلى سجن يتألف من خيم وساحات تتوزع ضمن أقسام، ويحيط بكل قسم أبراج وحراس ورشاشات وأسلاك شائكة، فتصبح عملية التواصل بين الأقسام معقدة وصعبة. كان المعتقلون يتجاوزونها من خلال كتابة الرسائل والأخبار وتكوير الأوراق على شكل كرة يرمونها من قسم إلى آخر وهي تحمل بين ثناياها الرسائل.
زيت على قماش، 30cmx25، 2022
ترك المكان أثراً لا يزول بسهولة في نفس الفنان جواد إبراهيم. فتأثر وجدانه في النقب بالمحيط الغريب الذي عاش فيه، وبالتفاصيل التي أحاطته، من أبراج وعسكر وأسلاك وبرش (سرير الخشب) وملابس، وسماء النقب الليلية الصافية، وقمر الصحراء المربك. بالصدفة، تمكن جواد إبراهيم من الحصول على قلم أسود من أحد المعتقلين. قلم أسود واحد في ذلك المنفى، يتجرد من كونه أداة، ليغدو صديقاً ورفيق درب.
زيت على قماش، 120cmx120، 2022
كان يرسم على قصاصات يحصل عليها بطرق مختلفة، فرسم أكثر من 20 لوحة بالأسود والأبيض، وكان كلما ينهي واحدة يعلّقها في الخيمة بشكل غير مقصود، فأصبحت الخيمة قاعة عرض لأعمال فنية، يمرّ بها الأسرى خلال ساعات المساء ويطّلعون على الأعمال. عُرف جواد إبراهيم فيما بعد بأنه فنان، فأصبح الأسرى يتوجهون إليه عند الكتابة إلى أقربائهم لكي يرسم على الرسائل. كانت وسيلة التواصل مع الخارج عبارة عن بطاقة بريدية بحجم صغير جداً يوفرها الصليب الأحمر، ليستطيع الأسرى إرسالها إلى ذويهم، فرسم جواد للأسرى في مناسباتهم المختلفة، فمنهم مَن أراد أن يرسم له بمناسبة عيد ميلاد ابنته، أو ذكرى زواج، أو على رسالة من أسير مشتاق إلى حبيبته. رسم جواد عشرات المناسبات، ليكتشف لاحقاً أنها لم تُرسل أبداً، إذ أراد السجّان قهرهم وحرمانهم من أبسط لحظات الفرح.
أكريلك على قماش، 135cmx90، 2022
يتحدث جواد إبراهيم كثيراً عن الوجدان الإنساني اللصيق بالفنان، وبالنسبة إليه، يجب أن يكون الإبداع حراً، والفن الناضج والحقيقي هو إبداع حر، وإذا تقيد بقاعدة يكون منقوصاً. بالنسبة إليه، يرتكز العمل الفني على الذاكرة والواقع والخيال. فالواقع وما يرتبط به من ذاكرة بصرية يومية وما يدور حوله، والفن يتأثر بالبيئة الجغرافية وبكل القيم الإنسانية للفنان. وفي الخيال، يتساءل الفنان كيف يرى العالم؟ وهو سؤال وجودي مشروع عند كل مبدع عن لغز الكون والحياة وتراكُم المعرفة والتجربة ضمن الوجود في هذا الكون. ويوظف الفنان التقنية والمواد التي يستخدمها من أجل هذه الرؤية، ليأتي الموقف الذاتي للفنان معبّراً عن عواطفه وأحاسيسه ونضجه وموقفه من الكثير من القضايا.
الحرية التي يتحدث عنها جواد إبراهيم كثيراً تتجلى في أعماله والوسائط التي يستخدمها، فهو لا يتقيد بأيّ وسيط، بل يتنقل بين أدوات مختلفة، من الزيت، إلى الأكريليك، إلى الخشب، والحجر. وهنا سألناه عن توجُّهه إلى النحت وعلاقته بالحجر، وخصوصاً أن هناك علاقة خاصة تجمع ما بين الفلسطيني والحجر، كرمز للمقاومة. فيخبرنا أن الحجر فيه أسرار لا يستطيع أن يلتقطها إلا الفنان، وعندما كان طفلاً صغيراً كان يتخيل قطع الحجارة بأشكال مختلفة، كمذياع، أو لعبة.
داخل منزل جواد إبراهيم في مدينة رام الله
ويقتبس من مايكل أنجلو مقولة "التمثال موجود في الصخرة وما على النحات إلا أن يزيل القشور"، ويرى أن هناك حواراً صادقاً وجميلاً يُجريه الفنان مع الصخرة، وعلى الرغم من قسوة الصخر، فإن العمل فيه ممتع، والبحث عن الحجر نفسه هو جزء من العملية الفنية. يبحث جواد إبراهيم عن الأحجار في جبال رام الله، وهناك تحت شجرة زيتون في بطن الهوى، بدأ بالنحت لأول مرة. تناول حجراً وبدأ العمل فيه، وارتبط في مخيلته بحجر السنسلة والمقاومة وبيت بيوت. عمل في النحت نحو 11 عاماً، وتركه، لأن النحت يحتاج إلى مكان وإمكانيات وأدوات، كما أنه يسبب مضاعفات جسدية.
كان لنا في ختام اللقاء حديث عن خصوصية الفن الفلسطيني، فقال إن المكان له تأثيره الدائم، والمكان الذي نعيش فيه تجري فيه أحداث مرعبة وتفاصيل كثيرة، على الفنان التقاطها ضمن رؤيته التعبيرية، فالتعبير أهم من الصورة في العمل الفني. أخبرنا جواد أنه قام مؤخراً بإعادة ترتيب منزله على هيئة غاليري واستقبل المهتمين بالزيارة والإطلاع على الأعمال، وترافق الزيارات حوارات ونقاشات شيقة.