لم يكن لبلجيكا يوماً علاقة تاريخية مميزة مع المنطقة العربية، فوجودها خارج حدودها، وخصوصاً الاستعماري منه، تركز في أفريقيا، لكنها، مع ذلك، ارتبطت قديماً بفلسطين من خلال حملات الفرنجةالتي تُعرف بـ "الحملات الصليبية"، وأحد رموزها كان غودفروي دي بويون (Godefroy de Bouillon)، القائد الذي يفتخر به البلجيكيون، والذي وضعوا له تمثالاً في واحدة من أهم ساحات بروكسيل، وأطلقوا عليه اسم "ملك القدس"، وهو مدفون مع أخيه بودوان (Baudouin) في كنيسة القيامة في القدس.
كان لبلجيكا منذ سنة 1850، ضمن الرابط الديني التاريخي لعلاقتها ببلاد الشام، شبكة من القنصليات الفخرية في كل من بيروت ويافا وطرابلس، لكنها أنشأت عدداً من القنصليات في فلسطين، فبنت قنصليتها الفخرية في القدس في سنة 1851، وكان هدفها الرئيسي إعادة بناء آثار غودفروي دي بويون وأخيه بودوان دي فلاندر (Baudouin de Flandre) في كنيسة القيامة. وحتى سنة 1908 كانت قد أنشأت 3 قنصليات في فلسطين: في القدس، ويافا، وحيفا، مثلما يذكر الموقع الإلكتروني للقنصلية العامة لبلجيكا في القدس.
ولم يقتصر وجود بلجيكا على القنصليات، ففي مطلع القرن العشرين، كانت عضواً في اللجنة الكاثوليكية الدائمة في القدس، والتي أنشأها الفاتيكان، وضمت قناصل من بلجيكا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، ومهمتها حماية المقدسات والأملاك المسيحية في القدس.
استقلّت بلجيكا في سنة 1830، وكان شرط استقلالها أن تكون دولة محايدة، لكن هذا حياد انتُهك عندما غزتها ألمانيا في سنة 1914، وبعدما طرح بعض النخب الحاكمة في بلجيكا فكرة "بلجيكا الكبرى"، وذلك بضم أراضٍ مجاورة لها مثل زيلاند (Zeeland) الواقعة في هولندا، أو محافظة ليمبورغ (Limburg) الهولندية، أو حتى دوقية لكسمبورغ الكبرى (Grand Duchy of Luxembourg)، اعتقاداً بأن توسعها الجغرافي سيعطيها قوة أكبر للدفاع عن نفسها. بل إن تلك النخب فكرت في القيام بدور خارج حدودها المباشرة من خلال الحديث عن إمكان أداء دور في فلسطين، بعد الحرب العالمية الأولى.
ويشرح الأكاديمي البلجيكي فرانس دوبول (Frans de Beul) في مقالة بعنوان "بلجيكا وفلسطين خلال الحرب العالمية"، والمنشورة في كتاب بشارة خضر وكلود روزين "بلجيكا والعالم العربي" الذي صدر في سنة 1990،[1] الوضع السياسي الذي نمت في ظله هذه الفكرة، فيشير إلى أنه مع دخول الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول المحور، بدأت دول الحلف الأوروبية بالتفكير في السيطرة على تركة الرجل المريض، وأخذت فكرة السيطرة على فلسطين تداعب مخيلة نخب بلجيكا التي كان عليها أن تراعي وجود تنافس على فلسطين بين 3 دول عظمى: فرنسا، وروسيا، وبريطانيا، لاعتبارات سياسية واستراتيجية واقتصادية ودينية. ويذكر دوبول أن نقاشاً حاداً دار داخل الحكومة البلجيكية بشأن مسألة توسع بلجيكا، بين تيارين: الأول، يدعو إلى الحفاظ على الحياد التام لبلجيكا، حتى لو تعرضت للغزو الماني، وبالتالي رفض أي توسع في حدودها، بغضّ النظر عن أنها كانت قد قطعت علاقاتها مع الإمبراطورية العثمانية في 6 / 11 / 1914؛ الثاني، هو تيار آخر مفعم بالروح القومية كان يرى أن بلجيكا عانت وقدمت تضحيات في الحفاظ على المستقبل الأوروبي في وجه الغزو الألماني، وبالتالي فإنها تستحق مكافأة. ومثّل هذا التيار وزير الخارجية آنذاك الكونت دافينيون (Julien Davignon).
ويرى الباحث بُعداً آخر غير قومي لمنطق الكونت دافينيون، هو البعد الديني، إذ كان يرى في بلجيكا أمة كاثوليكية "شديدة الاحترام للدين". وهذه القناعة الدينية الكاثوليكية مثّلت عاملاً مهماً في تحركه لدى الأوساط الدبلوماسية، فضلاً عن تحركه لدى مرجعية دينية مهمة في بلجيكا آنذاك، تمثلت في الكاردينال ميرسيه (Cardinal Mercier).
واستناداً إلى أرشيف وزارة الخارجية البلجيكية، ينقل الكاتب عن الكونت دافينيون قوله: "يا له من استياء مؤلم في العالم الكاثوليكي إذا وقعت القدس، مثلما وقعت القسطنطينية بعد استسلام 1453، وأصبحت ملكية وثنية، وانتقلت السيطرة عليها إلى أيادٍ منشقة! ويا لها من فرحة، على العكس من ذلك، إذا وضعت المعاهدةُ التي ستنهي الحرب الأماكنَ المقدسة تحت رعاية أمة صغيرة لا تسيء إلى أي شخص، وهي الأكثر تديناً في العالم، وبالتالي إحياء الذكريات التاريخية لغودفروي دي بويون."
لقد تضافرت مجموعة من الدوافع الأيديولوجية والسياسية والتجارية وراء مسعى وضع فلسطين، أو على الأقل القدس، تحت الانتداب البلجيكي. ويذكر المؤرخ والباحث البلجيكي ريك كولسايت (Rik Coolsaet) في كتابه "بلجيكا وسياستها الخارجية، 1830 - 1990"[2] أنه منذ سنة 1916، أطلقت مجموعة من رجال الأعمال البلجيكيين حملة تسعى لبسط الانتداب البلجيكي على فلسطين، مدعومين من مجموعات تجارية وصناعية استقرت في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، أبرزها مجموعة رجل الأعمال البلجيكي الشهير البارون إدوارد لويس جوزف إمبان (Édouard Louis Joseph, Baron Empain) الذي كان يملك مصالح اقتصادية ضخمة هناك.
ويضيف كولسايت أن هدف المجموعات الاقتصادية البلجيكية من الانتداب البلجيكي على فلسطين، كان تسهيل توسيع مصالحها في مجمل منطقة الشرق الأوسط، ولذلك جهدت وبدعم من عدد من السياسيين ورجال الإعلام المرموقين لتشكيل لوبي ضاغط يعمل على إقناع الحكومة البلجيكية بتقديم طلب بسط الانتداب البلجيكي على فلسطين.
ويذكر هذا المؤرخ أن تلك المجموعات تواصلت مع عدد من الشخصيات المهمة في بلجيكا، بينهم الكونت شارل دي بروكفيل (Charles de Broqueville) الذي تقلد عدة مناصب منها منصب قائد للجيش ورئيس للحكومة، واجتمع أعضاؤها معه محاولين إقناعه بأن انتداباً بلجيكياً على فلسطين من شأنه أن يعزز من قوته في المشهد السياسي البلجيكي، ويبرز حرصه على إرث غودفروي دي بويون، كما أنه يعزز من مكانته كحريص على استمرار الكاثوليكية في بلجيكا، في ظل وجود انتقادات له بأنه عيّن شخصيات غير كاثوليكية في حكومته.
ويروي الباحث أن مسؤولي الحملة نجحوا في التواصل مع رجال دين في بلجيكا محاولين إقناعهم بأهمية الطرح الذي ينشدونه، لأنه سيحول دون الخطر الذي ستواجهه الأماكن المقدسة في حالة قيام دولة صهيونية في فلسطين.
وفعلاً، شكل بروكفيل لجنة دراسة غير رسمية برعايته للتحقيق في إمكان تحويل فلسطين إلى دولة عازلة محايدة تحت الانتداب البلجيكي، ووصل الأمر إلى الملك ألبرت الذي طلب من مستشاره العسكري وضع خطة تصور كيف يمكن للجيش البلجيكي تنفيد الانتداب على فلسطين. وتواصلت بلجيكا بهذا الشأن مع فرنسا والفاتيكان.
ويختم المؤرخ قوله بأن هذه الجهود كلها ذهبت أدراج الرياح مع احتدام الآراء المتضاربة للقوى العظمى الأوروبية بشأن فلسطين، مع إصرار بريطانيا على السيطرة الكاملة على فلسطين. وهذا ما حدث في نهاية المطاف.
بلجيكا تصوّت مع قرار تقسيم فلسطين
وعلى الرغم من الرغبة في الانتداب على فلسطين، فإن بلجيكا هي بين الدول 33 التي صوتت لمصلحة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدعو إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، ووضع القدس والأماكن المقدسة تحت إشراف دولي.
ويؤكد العديد من الكتابات الشخصية والإعلامية أن موقف الدبلوماسية البلجيكية، في بداية طرح قضية فلسطين من طرف بريطانيا على مداولات الأمم المتحدة، كان متحفظاً من دون أن يكون رافضاً لتقسيم فلسطين.
ويذكر الباحث البلجيكي المختص في الدراسات الشرق الأوسطية في بروكسيل، جوفروي دي سبرمونت (Geoffroy d’Aspremont)، أن جده الكونت جوفروي دي سبرمونت ليندن (Geoffroy d’Aspremont Lynden) الذي كان وزيراً مفوضاً لبلجيكا في بيروت ودمشق، ولاحقاً قنصلاً عاماً في القدس ابتداء من مطلع سنة 1947، كان مطّلعاً على كثير من التفصيلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فلسطين والمنطقة، وكان يرسل تقارير إلى وزارته في بروكسيل، تحذّر من خطورة تقسيم فلسطين.
ويضيف أن جده أرسل في 8 تشرين الثاني / نوفمبر تقريراً إلى وزير الخارجية البلجيكي آنذاك بول هنري سباك (Paul Henri Spaak)، يصف موقف العرب من مشروع الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين، قائلاً: "العرب مقتنعون بإمبريالية الحركة الصهيونية في الاستيلاء على الأرض. إنهم مقتنعون بأن دولة يهودية منتفخة بسبب الهجرة الجماعية، ومسنودة بسكان أذكياء ونشطين يحركهم إيمان صوفي، ومدعومة بأكثر الوسائل المالية القوية التي ستصل إليها من جميع أنحاء العالم، ستسعى حتماً لتخطي الحدود التي سيتم رسمها لهذه الدولة."
ويذكر جان لوي مينيو (Jean-Louis Mignot) وهو قنصل بلجيكي سابق في القدس، في مقالة نشرها في جريدة "لا ليبر بلجيك" (La Libre Belgique)، أن هذا التقرير ساهم في تحديد موقف بلجيكا من تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالامتناع من التصويت الأول على قرار التقسيم في 25 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، ذلك بأن الدبلوماسي البلجيكي كان على قناعة تامة "بأن إقامة دولة يهودية في فلسطين سيقود إلى صراعات لا نهاية لها."
وينقل الباحث البلجيكي جوفروي دي سبرمونت أن جده أجرى في نهاية سبعينيات القرن الماضي مقابلة صحافيه قال فيها إن "الضغط الأميركي هو الذي جعل الحكومة البلجيكية تغير رأيها وتصوّت في 29 تشرين الثاني / نوفمبر لمصلحة القرار، لأنه وفقاً لتصريحاته، لا يمكن انتخاب رئيس أميركي إذا كان ضده يهود أميركيون."
ويسأل مينيو في مقالته قائلاً: "أدت بلجيكا دوراً من خلال التصويت على إنشاء دولتين منذ البداية، لكن ماذا فعلت كي تظل الدولة العربية قائمة في الوقت نفسه الذي تعيش الدولة العبرية؟" ويضيف: "لقد شارك بلدنا في القرار الجماعي بإنشاء دولتين، لذلك لا يمكنه أن ينسى أنه ساهم في بداية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. إنه صراع، لكنه قبل كل شيء مأساة، لأنه واقع إنساني عميق، مثلما كان يقول جوفروي دي سبرمونت الذي تنبّأ بالواقع المشؤوم بالضم اللاحق لأراضي الشعب الآخر."
وتتحفظ على الاعتراف بإسرائيل
بعد أن وافقت بلجيكا على قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، تحت الضغط الأميركي، كانت نكبة فلسطين قد بدأت حتى قبل إنشاء دولة إسرائيل ونشوب أول حرب عربية - إسرائيلية رسمية في 15 أيار / مايو 1948.
في هذه الأثناء كانت الأمم المتحدة قد توصلت إلى الاتفاق على شخص وسيط دولي فوّضته أن يتصل، بمجرد وقف القتال، بجميع الأطراف للوصول إلى حل عادل لقضية فلسطين، وخوّلته حق تحديد وقف إطلاق النار. وكان هذا الوسيط هو الكونت السويدي فولك برنادوت (Folke Bernadotte) الذي تسلّم المهمة رسمياً بتاريخ 20 / 5 / 1948. وفي 7 / 6 / 1948 وجّه الكونت برنادوت إلى الفريقين المتنازعين مذكرة بشروطه وتفسيراته معلناً الجمعة 11 / 6 / 1948 موعداً لوقف النار أربعة أسابيع بإشرافه وإشراف مساعديه. وقد تم وقف القتال في الموعد المحدد.
ويذكر كتاب "بلجيكيون وعرب: جيران متباعدون، شركاء ضروريون"،[3] أن بلجيكا شاركت بنحو 50 مراقباً في لجنة الهدنة التي شكلها الكونت برنادوت.
وقد أرسل الوسيط الدولي إلى الحكومات العربية وإسرائيل مذكرة ضمّنها المقترحات التي رأى أنها تصلح أساسا لتسوية سلمية، والتي شملت بنداً يقول: "يجب أن تؤكد هيئة الأمم المتحدة حق الذين شُردوا من بيوتهم بسبب الإرهاب الحالي، في العودة إلى ديارهم، وفي أن تُدفع تعويضات عن الأملاك لمَن لا يرغب في العودة." ولم يعجب تقرير الوسيط الدولي الصهيونيين، فاغتالت عصاباتهم الكونت برنادوت في17 / 9 / 1948.
وتذكر الباحثة البلجيكية بريجيت هيرمانس (Brigitte Herremans) في دراسة نُشرت في مجلة "دراسات دبلوماسية" الصادرة في سنة 2013 عن مركز إيغمونت (EGMONT) (المؤسسة الملكية للعلاقات الدولية) أنه "في الأصل، كانت بلجيكا تشكك في إقامة دولة يهودية، فقد أعلن وزير الشؤون الخارجية البلجيكي بول هنري سباك في 3 حزيران / يونيو 1948 أن إقامة دولة يهودية قد يكون خطراً، لأن بلجيكا لا يمكنها أن تضمن تقسيم فلسطين بفاعلية مثلما نصّ عليه القرار. كما أعتقد أن العديد من المواطنين البلجيكيين لم يقتنعوا بشكل كافٍ بشرعية القضية اليهودية، أي إقامة دولة يهودية في فلسطين الانتدابية."[4]
ويذكر بشارة خضر في كتاب "بلجيكيون وعرب..." أن بلجيكا امتنعت من التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، والذي جرى في 11 أيار / مايو 1949، لأنها رأت أن الأساس في قبول دولة إسرائيل في المنظمة الدولية، والمتعلق بوضع القدس والأماكن المقدسة تحت إشراف دولي، هو احترام الحدود التي نصّ عليها قرار التقسيم وحل مسالة اللاجئين الفلسطينيين، وهو أمر لم يتم استيفاؤه.
لكن في نهاية المطاف، كما يذكر الكتاب، وتحت الضغوط الدولية، وبطلب حثيث من البرلمان الفدرالي البلجيكي، اعترفت بلجيكا في29 كانون الثاني / يناير 1949، بحكم الأمر الواقع، بإسرائيل، وأعقب ذلك الاعتراف القانوني في 16 كانون الثاني / يناير 1950، مضيفاً أن بلجيكا أدت دوراً مهماً على مستوى مجلس الأمن في دعم قضية اللاجئين الفلسطينيين.
المصادر:
[1] Frans De Beul, “La Belgique et la Palestine durant la première guerre mondiale: une analyse diplomatique”, in: La Belgique et le Monde Aarabe, edited by Bichara Khader et Claude Roosens (Louvain-la-Neuve: Academia- L’Harmattan, 1990).
[2] Rik Coolsaet, België en zijn buitenlandse politiek, 1830-1990 (Leuven: Van Halewyck, 1998).
[3] Khader Bichara and Claude Roosens, Belges et Arabes: Voisins distants, partenaires nécessaires (Louvain: Presses universitaires de Louvain, 2004).
[4] Brigitte Herremans, “Belgium and the Israeli-Palestinian Conflict: The Cautious Pursuit of a Just Peace”, Studia Diplomatica, vol. LXVI, issue 4 (2013), pp. 77-94.