مفارقات الذاكرة والاستذكار: نهج اليسار الدرزي نموذجا
نبذة مختصرة: 

للطائفة المعروفية في فلسطين خصوصية ميّزتها من سائر الطوائف، فقد انخرطت هذه الطائفة في الدولة الإسرائيلية بعد نكبة 1948، لكن هذا الانخراط بدأ يتفكك في الأعوام الماضية، وهذه المقالة تفحص التحولات الحديثة من خلال ندوة دُعي الكاتب إلى حضورها، في قرية معروفية في الجليل، تكرر خلالها ذكر 3 شخصيات معروفية مهمة، هي: سلطان باشا الأطرش، والأمير شكيب أرسلان، وكمال جنبلاط.

النص الكامل: 

مدخل

دُعيت قبل فترة إلى ندوة للاحتفاء بذكرى يوم الأرض في إحدى القرى المعروفية - الدرزية في الجليل، وشملت هذه الدعوة ذكر أسماء ثلاث شخصيات مرموقة من أصول معروفية هم المغفور لهم: القائد سلطان الأطرش؛ أمير البيان شكيب أرسلان؛ المعلم كمال جنبلاط. وقد أثارت هذه الدعوة، وخصوصاً الربط بين يوم الأرض وهذه الشخصيات، عدة تساؤلات حفّزتني على إثارة بعض الأفكار والفرضيات المبطنة لهذا الربط وما يتيحه من فرصة للنقاش والتمحيص في معاني الاستذكار عامة، وتشكلاته المميزة في الحالة المعروفية - الدرزية في إسرائيل خاصة.

إن إثارة بعض الأفكار من خلال هذا الحدث يمكن أن تتيح المجال للتفكر والتمحيص والاستدلال ليس في بعض ما تواجهه الطائفة المعروفية من تحديات وملابسات وتناقضات تنبع من وضعها وخصوصية تجربتها في إسرائيل فحسب، بل أيضاً في التعمق في تحليل مصطلحي ومفاهيمي في كيفية الاستذكار والعلاقة بين كونه معطى أنطولوجياً وبين مضمونه الإبستمولوجي. كما أنها تتيح المجال للتفكير في محورية التذكر والاستذكار ومعانيهما في وضع تقوم الدولة الإسرائيلية بمشروع محو للذاكرة الفلسطينية واستبدالها بذاكرة مشوهة ومنقوصة تعتمد على الرواية الصهيونية للأرض والتاريخ، وتُبقي الذاكرة الفلسطينية عائمة في فضاء، من دون جذور أو أعمدة تاريخية تمكّنها من مواجهة التحديات الوجودية والوجدانية الماثلة أمامها (جمّال 2018).

وبما أنه من غير الممكن الدخول إلى مختلف جوانب الحدث المذكور، وكونه فرصة سانحة للتفكير في بعض جوانب الاستذكار الجماعي، فإنني سأتعمق في محورين أساسيين فقط: أولاً، التفكير النظري في الذاكرة والاستذكار وأهميتهما في صقل وعي وهوية تاريخية متماسكة ومتسقة المعاني، وخصوصاً في ظروف تؤدي فيها علاقة القوة غير المتكافئة دوراً مصيرياً؛ ثانياً، التطرق إلى الحالة العينية للوعي المبطن في استذكار يوم الأرض في سياق مميز، ذلك بأن الطائفة المعروفية - الدرزية تواجه واحدة من أقسى عمليات صقل الوعي الزائف في العصر الحديث، وأكثرها عمقاً (Jamal 2022).

إن إحياء ذكرى يوم الأرض الخالد يشكل مناسبة، على الرغم من تراجيديتها، لإعادة النظر فيما تتضمنه عملية الاستذكار كدلالة على وعي المجموعة المستذكرة وتبعاتها، وخصوصاً لأن الاحتفاء بذكرى يوم الأرض ليس احتفاء بالأرض بمفهومها المادي فقط، بل بقدسية وروحية العلاقة المتجذرة بين الإنسان والأرض التي يتنفس هواءها ويعشق ترابها ويحيا من مواردها ويقاتل من أجل قيمتها المادية والروحية والوجدانية أيضاً. وفي سياقنا الخاص، فإن هذا الارتباط بالأرض يتعلق بأصلانية المستذكرين الذين يرون أمام أعينهم كيف أن المشروع الكولونيالي - الاستيطاني يهدف أساساً إلى استبدالهم وتحويلهم، ليس إلى تابعين فحسب، بل إلى مغتربين في وطنهم أيضاً، وبالتالي فإن أي علاقة لهم بهذا الوطن تُعتبر تهديداً إذا تجاوزت الاكتفاء بالبقاء فقط، لأن الغزاة يخافون من الذكريات (درويش 2008). لهذا، فإن التمعن في الاستذكار من شأنه أن يساعد في فهم العلاقة المنشودة بين الأرض ومفهومها، فالأرض، تستحق الحياة، ولا يمكنها أن تكون رحماً معتماً لا يمكن اختراقه، بحسب قول الشاعر راينر ماريا ريلكه (Rilke 1923)، وإنما ضوء ساطع نشترك بشكل فاعل وواعٍ في تكوينه وصوغ مكانته، مثلما أوحى لنا بذلك الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قوله إن الأرض التي نحيا عليها ومنها: هي "سيّدةُ الأرض، أُمُّ البداياتِ، أمُّ النهاياتِ" (درويش 2008).

ذاكرة يوم الأرض والوعي التاريخي

هنالك كثير ممّا يقال عن يوم الأرض، لأنه يعيد إلى الأذهان مركزية الأرض التي لا يمكن اعتبارها معطى مفهوماً ضمناً في وجودنا على المستويَين الشخصي والعام. كما لا يمكن ليوم الأرض إلّا أن يحيي مفهوم الأرض بمعناه الحي والمتجدد والمتشكل دائماً كمعطى أساسي بحسب تفاعلنا معها، وبحسب تعاملنا مع وجودها في ذواتنا وتحديد ذواتنا بالنسبة إليها.

على الرغم من أهمية تلك الجوانب، فإنني، ومثلما ذكرتُ، سأنتهز الفرصة لطرح أربعة أسئلة دائماً ما نتطرق إليها: الأول لماذا نتذكر؟ الثاني ماذا ومَن نتذكر؟ الثالث كيف نتذكر؟ الرابع مَن هي الذات المتذكرة القابعة خلف عملية الاستذكار؟

لكن إذا أردنا ألّا نحصر السجال في المستوى الفلسفي والنظري فقط، فإنني سأستغل الفرصة لأسأل عن دلالات وأهمية دمج استذكار يوم الأرض في ذكرى شخصيات تاريخية من الطائفة المعروفية مثل القائد سلطان باشا الأطرش وأمير البيان شكيب أرسلان والمعلم كمال جنبلاط، وهل يمكن التغاضي عن خصوصية وضع الدروز في إسرائيل عند الحديث عن هذا الربط غير المألوف في أماكن أُخرى في فلسطين؟

قبل البدء بالإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدّ من الإشارة إلى أن طرحها لا يأتي للاعتراض على مجرد الدمج بين عمليات استذكار متنوعة، ولا للتقليل من شأن هذه الشخصيات المرموقة التي تشكل مصدر اعتزاز وفخر لكل مَن يهمّه أمر الأمة التي ننتمي إليها، كونها تؤكد عمق الانتماء المعروفي إلى الحاضنة الحضارية العربية والإسلامية، فضلاً عن كونها شخصيات طرحت مشاريع سياسية وثقافية تهدف إلى إعادة الهيبة إلى الأمة والحضارة التي نشأت داخلها وتغذّت من قوتها، بشكل تجاوز إمكان حصرها في مذهبها وانتمائها الضيق.

تأتي هذه الأسئلة في سياق يمكن من خلاله إثارة بعض الحوار والتفكير في أمور لا يتم التطرق إليها بصورة وافية في الأوقات الاعتيادية، ولا يتم التعامل بشكل كافٍ مع الواقع المركب للدروز، والذي تعتريه التناقضات التي ولّدتها سياسات التطويع والشرذمة وصناعة التناقضات الوجدانية والذهنية والأخلاقية، والإشارة الى التحولات الجارية في الواقع الدرزي، وخصوصاً عودة الوعي الوطني إلى طبقة من المثقفين والمثقفات آخذة في الاتساع. لذا من المهم إثارة سؤال: ماذا يعني استذكار هذه الشخصيات الرمزية المرموقة في هذا السياق؟ وعلامَ يدل، ليس بالنسبة إليهم، لأنهم معروفون، بل بالنسبة إلى الذات المستذكِرة، أي نحن؟

إن طرح هذه الأسئلة لا يكون إلّا من باب تأكيد الدور التاريخي لهذه الشخصيات المرموقة والمبجلة، وفي الوقت نفسه هي فرصة سانحة للتفكير بصوت عالٍ في خبايا عمليات الاستذكار ودلالاتها، وما تعكسه من ذواتنا، وما تقوله عن تطور وعينا، وما نحن بحاجة إليه كي نُبقي الذاكرة مشتعلة ومضيئة من أجل بناء وعي حضاري ذي مرجعيات وقواعد متينة واتساق أخلاقي قوي.

قبل التعليق على هذه الأسئلة لا بدّ من أن نؤسس لادعاء أن الإنسان هو ذاكرته لوعيه ولنفسه ومحيطه وتجاربه. وبما أنه لا يستطيع استذكار ذلك كله، فإن ما يتذكر يصبح تعريفاً لذاته، وإذا أردنا أن نتتبّع مَن هو، وما هو هذا الإنسان، فإن علينا حينها أن نطرح الأسئلة عنه وعن دوافعه وتبعاته. فالوعي الإنساني مبنيّ على ذاكرة كي يعرّف ليس مَن نحن فحسب، بل ما نحن وما نصبو إليه أيضاً. وبالتالي فإن الاستذكار ليس عملية تتعلق بالماضي فقط، بل بالمستقبل كذلك، إذ إن القصد المبطن فيها لا يقتصر على تبجيل ما سلف، بل يفعل ذلك من أجل إيجاد أفق مستقبلي يتحول فيه الماضي إلى مرجعية تغيب عنها القدسية بمجرد ربطها بمشروع لصوغ وعي بناء وواقع بديل.

ولا بدّ في هذا السياق أيضاً من أن نشدد على الفرق السياسي الأساسي بين مَن نحن المبني على الهوية التاريخية بما يعني ذاتاً تستبق واقعها، وبالتالي من الممكن أن تتحول إلى سلفية متطرفة يجب الامتناع من الوقوع في فخّها، وبين ما نحن التي تؤكد الهوية الوجدانية والذهنية كوننا بشراً، وبالتالي تُبقي الباب مفتوحاً على مصراعيه لمستقبل أفضل تتم صناعته بلا انقطاع عن وجود الآخرين والتحديات التي يطرحونها على المستوى السياسي والأخلاقي في آنٍ واحد. وبما أنه من المستحيل بناء وعي من دون التعويل على عمليات الاستذكار، فإنه لا بدّ من العودة إلى فكرة التوازن الأرسطوطالية (Aristotle 2013) التي تلزم إيجاد المعادلة الصحيحة بين الماضي والمستقبل من خلال التفكير الآني في تحديات ما نصبو إليه، وما نريد أن نكونه، آخذين بعين الاعتبار ماضينا وتجاربنا وأفعالنا، مع عدم تقديسها أو الخضوع لنموذج أحادي لها. ولا بدّ في هذا السياق من ترديد ما قاله الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني (2011)، من أن "كل أصولية هي رومانسية بلا قدرة على الحلم"، (ص 11)، وأن هنالك فرقاً بين الهوية والذات، ذلك بأن الأولى هي ما نحن عليه من دون جهد وجودي خاص، والأُخرى هي ما نستطيع أن نكونه، لكن لم نجرؤ بعد على الاضطلاع به كأفق حرّ ووحيد لأنفسنا.

وما الجمع بين الهوية التي أزيلت عنها قدسيتها الضيقة والذات الحرة إلّا جوهر فكر المعلم كمال جنبلاط، مثلما يتجلى في كتاباته المتنوعة، وعلى رأسها مقولته في كتابه "رسالتي العدالة الإنسانية" (2004)، وفحواها أن فكره المتمثل في إقامة الحزب التقدمي الاشتراكي يعبّر عن "نظرة جديدة للوجود وللحياة، هي محاولة بعث وتأليف وصهر جميع عناصر الحقّ البشري المتراكم في المدنية وفي التاريخ، وفي ضمير الإنسان الراقي" (ص 72). هذه الفكرة بحسب جنبلاط لانهائية بالمعنى الميتافيزيقي لأنها في رأيه "تؤمن بالإنسان وبالتطور، وبإمكانيات الإنسان اللامتناهية" (ص 72)، وهي تعني محاولة مستمرة للارتقاء من الواقع الحالي إلى مستقبل منشود نتخيله، لكن من أجل الوصول إليه لا بدّ من تطوير آليات حالية تحوّله إلى برنامج عمل في الحاضر.

لا بد من أن يطرح هذا المنشود تساؤلات من أين لنا الوصول إليه، وبحسب أي قواعد يمكن أن نتخيله! في اعتقادي أن فكرة جنبلاط تستحضر ادعاء الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت (Kant 2006)، بأننا كبشر نعوّل في إدراكنا، من دون أن نولي ذلك اهتماماً كاملاً، على "الخيال المبدع" الذي يوصل بين ما نستشعره حسياً، وما نفهمه مفاهيمياً. فبين الاستشعار والإدراك هنالك عملية تجري في عقولنا يمكن لنا أن نفهمها فقط إذا أعدنا النظر في جريانها بشكل واعٍ، والتي من شأنها أن تحوّل الشعور إلى وعي، وهي ليست هذا ولا ذاك. هذه العملية المعقدة التي في حاجة إلى تمحيص في سياق آخر، تلفت النظر إلى أهمية التكامل بين وعينا والواقع الوضعي الذي نعيشه، وبين محورية الذاكرة والخيال في خلق هذا التكامل.

إن الاستذكار بمساعدة الخيال المبدع قادر على تجاوز الاستشعار الحسي وربط الأمور بشكل يتجاوز مركّبات الاستشعار المفردة لتكوين حالة وعيوية متكاملة بشأن المحيط الذي نوجد فيه، والذي تؤدي فيه التجربة الحسية مع الأرض كوطن ومأوى وبقاء دوراً محورياً. هذه العملية غير المنقطعة عن الوجود في سياق معين، ولا هي خارجة عن نطاق ما يتيحه الجسد المستشعر والمتموضع في سياق يؤثر فيه ويصوغ ما هو قادر على التخيل، لديها دور وظائفي مهم في الجمع بين الذاكرة والاستعداد الواعي للحفاظ على اتساق بين فكرنا وسلوكنا ليس الشخصي فحسب، بل الجمعي أيضاً. والاستذكار، بإيعاز من الخيال المبدع، يمكّننا من وضع القواعد العقلية والأخلاقية بشأن الوضع القائم والحكم عليه والسعي لتحسينه من أجل خلق مستقبل منشود أفضل، وبالتالي فإنه لا يستبق ظروف وجوده، وإنما هو مقرون بأنطولوجيته الاجتماعية. ولذلك، هذا الخيال ليس أمراً مجرداً، وهو ليس آلية ذهنية فارغة من الالتزامات الحسية والمضامين المستمدة من تجاربنا ووضعيتنا كأشخاص موجودين في الواقع الذي نعيشه ونتخيل من خلاله.

لهذا، فإن أهمية الفكرة تكمن في أن المنشود منوط بالوعي القائم المستمد بحسب فكر ابن خلدون في "المقدمة" (1981)، من خلال التجربة الفعلية والظروف المادية، ذلك بأن إمكانات المعرفة والتفكير مفتوحة على أفق، لكنها محدودة كونها متموقعة في ظروف تحدّ من لانهائيتها. وقد طور كارل ماركس هذه الفكرة النقدية التي تربط الوجود بالوعي بشكل سببي، في كتابه "الإيديولوجية الألمانية" (2016)، إذ ادّعى أن الوعي ليس نتاج خيال مبدع منقطع عن ظروفه المادية والصراعات الناتجة من ذلك، وإلّا أصبح وعياً زائفاً أو أدلوجة تهدف إلى الحفاظ على الأمر الواقع أو مجرد فانتازيا. ما عناه ابن خلدون، ثم ماركس، هو أن الإنسان لا يمكن أن يطور فكراً ذاتياً حقيقياً بالانقطاع عن تجربته ووجوده الوضعي. ولهذا، فإن حقيقة هذا الوعي مرهونة بالتجربة، وهي بالتالي تراجعية، لأنها تتكون بعد التجربة وليس قبلها. ويتجلى هذا المفهوم للوعي في تتطور علاقتنا بالأرض بعدما تم فقدان القدر الأكبر منها، في الوقت الذي لا يزال ما تبقّى منها مهدداً بالزوال. وهكذا، فإن الفقدان أو التهديد به يشكلان محفزاً أنطولوجياً للوعي، الأمر الذي يضيف جانباً مهماً إلى فكر ابن خلدون وماركس، إذ إن وعينا مرتبط ارتباطاً مباشراً بكينونتنا الوضعية التي هي المفتاح الأساسي لصناعة الوعي واستقصاء تشكيلاته إذا ما أردنا فهمه. وما التعمق بعض الشيء في عملية الاستذكار التي دعيتُ إليها إلّا دلالة واضحة على هاجس يجمع جميع الفلسطينيين القابعين تحت إطار السيطرة الإسرائيلية، على الرغم من اختلاف موقعهم وتجاربهم، وهو هاجس يرتبط بالتهديد وفقدان الأمن ليس الأنطولوجي فحسب، بل المادي أيضاً. وهذا الهاجس الوجودي هو الذي يدفعنا إلى أن نأخذ هذه الادعاءات خطوة إلى الأمام ليصبح من المهم ومن الواجب أن نتساءل عن ماهية الذاكرة والتذكر وربطهما بالإحساس الإنساني الوجودي العميق المنعكس في وعيه بذاته ومحيطه. وكي لا يعتقد البعض أن هذه العملية التفكيرية هي عملية مجردة، فإنه لا بد من ربطها بسياقنا مجدداً. 

الذاكرة والتاريخ والذات والهوية

من أهم ما يتعين علينا التفكير فيه من أجل التعامل مع هاجس فقدان الأمن الوجودي، هو الربط بين ذاكرتنا وتاريخنا كشرط أساسي لحشد قوانا بهدف النهوض بأنفسنا والدفاع، ليس عن بقائنا فحسب، بل أيضاً لاستعادة شرعية مَن نحن وماهية ذواتنا وكيف نريد أن نكون. لهذا لا يمكننا أن نتخيل ذواتنا من دون ذاكرة ووعي بمجمل الأحداث والأفكار والتجارب التي تتشكل على شاكلة ذات، والتي لا تقتصر على ما نحن عليه، بل ترتقي إلى ما نريد أن نكونه أيضاً. هذا النمط من التفكير يستحضر النقاش بشأن العلاقة بين الذاكرة والتاريخ. وقد ميز لنا المفكر الفرنسي بيير نورا تمييزاً تحليلياً مهماً بين الذاكرة والتاريخ ادّعى فيه أن الذاكرة والتاريخ ليسا مفهومَين متشابهين أبداً، حتى إن أحدهما يتعارض مع الآخر، وهو يرى أن "الذاكرة هي الحياة، وهي تُحمَل دائماً على يد مجتمعات حية أُنشئت باسمها، ولذا فإنها دائمة التطور، ومفتوحة على جدلية التذكر والتغييب، وغير واعية بتشوهاتها المتتالية، وحساسة إزاء جميع الاستخدامات والتضليل، وتألف فترات الكُمُون والانبعاثات المفاجئة" (Nora 1989, p. 8). وفي المقابل، يعرض نورا مصطلح "التاريخ" كنقيض للذاكرة، فيقول إن التاريخ هو إعادة بناء ما كان ومضى، بصوره الأكثر إشكالية وغير المكتملة دائماً، بينما الذاكرة هي ظاهرة جارية دوماً، وهي علاقة عِيشتْ في الراهن الأزلي، في حين أن التاريخ هو ممثل للماضي كونه مشاعرياً وساحراً. وينعكس تمايز آخر يقوم به نورا بين التاريخ والذاكرة في موضوعات الذاكرة والتعامل معها، إذ يرى أن "الذاكرة، كونها عاطفية وساحرة، لا تكيّف نفسها إلّا مع التفصيلات المريحة لها؛ فهي تتغذى على الذكريات المموهة، والمرتبط بعضها ببعض، وعلى الذكريات الشاملة أو المحلّقة، الذاتية أو الرمزية، كما أن لديها ردة فعل على جميع علاقات الماضي، وعلى الشاشات كلها، وعلى عمليات الرقابة أو التبعات كافة" (Nora 1989, p. 8). وفي المقابل، يشدد نورا على أن "يستدعي التحليل والخطاب النقدي" بحكم كونه "فعلاً ثقافوياً ومُعَلْمِناً"، لينعكس في تمايز آخر، ذلك بأن "الذاكرة تُموضع الذكريات في الحيز المقدس، والتاريخ يُخلّصها منه. الذاكرة تنبع من مجموعة هي التي تجمعها [....] وهي في طبيعتها تعددية ومحددة، جمعية وفردية. أمّا التاريخ فهو للكل وليس تابعاً لأحد، وهي صفة تؤهله للقيام بمهمته الكونية. والذاكرة تضرب جذورها في العيني، وفي الحيز، وفي الإيماءة، وفي الصورة والغرض، أمّا التاريخ فلا يربط نفسه إلّا بالمتسلسلات المتبدلة، والتطورات والعلاقات بين الأشياء. الذاكرة مطلقة، بينما التاريخ لا يعترف إلّا بالنسبي" (Nora 1989, p. 8). ويواصل نورا تشييد التناقض بين التاريخ والذاكرة، فيبرز إلغاء أحدهما للآخر، وهو يوضح هذا المعتقد بقوله: "في قلب التاريخ تنشط عملية نقدية تتلف الذاكرة العفوية. فالذاكرة مشتبه فيها دائماً لدى التاريخ الذي تتمثل مهمته الأساسية في هدمها وإقصائها" (Nora 1989, p. 8).

أهمية التطرق إلى هذا التمايز تتعلق بالحاجة إلى الوقوف عند كون الذاكرة الفردية أو الجماعية تُكيّف نفسها مع التفصيلات المريحة لها، ولديها ردة فعل على علاقات الماضي كلها، وهي مطلقة. وبناء على ذلك، فإن مجموعة الانتماء ما هي إلّا مجمل الذاكرة الانتقائية والمطلقة المتجذرة في وعي أفرادها، والتي يتم تأكيدها في المنتوجات التربوية والثقافية والفنية للمجموعة، وبالتالي يمكن اعتبارها الوعي المتداول وغير الرسمي لهذه المجموعة. لهذا، فإن الذاكرة، أي الوعي الجماعي المتداول، هي نتاج سياسات جمعية وفردية يمكن الوقوف عندها من خلال قراءة متعمقة في عملية الاستذكار، أي فحص الإمعان في الأمور التي يتم انتقاؤها، والتشديد عليها من أجل بناء وعي ذاتي معين. وبما أن الاستذكار انتقائي فهو يمكّننا من طرح عدة تساؤلات تتعلق بما ادّعاه أفلاطون في "الجمهورية" (2009) من أن الاستذكار هو عملية الاستحضار الحالي للماضي، وبالتالي فإنه متأثر بمجريات الحاضر، ومن أن عملية الاستحضار تقحم شوائب الذاكرة فيها، الأمر الذي يخلق شرخاً بين الماضي المستذكر وعملية تمثيله في الحاضر. ولهذا، فإنه مهم ألّا نكتفي بالاستذكار، بل أن نتعامل مع التاريخ بوعي وبعمق، ولا سيما أن التاريخ هو أيضاً سلاح اجتماعي وسياسي، إذ إنه بحسب مقولة والتر بنيامين الشهيرة، فإن "التعبير عن الماضي تاريخياً لا يعني اقتفاءه 'كما حدث فعلاً'، وإنما هو "الإمساك بالذاكرة مثلما تشعّ في لحظة خطر" (Benjamin 2010). بالتالي، وعلى الرغم من أن بنيامين يخلط الأوراق بين الذاكرة والتاريخ من جديد، مذكراً بأن التاريخ والذاكرة ليسا حصراً نقيضَين، بل تربطهما علاقة تكامل، فإنه لا بدّ من تذكّر هذه الأوراق في عملية الاستذكار التاريخية كي لا نقع في مطبات تاريخ آخروي يخلق شرخاً بيننا وبين ذواتنا، ويصطنع لنا تاريخاً يحولنا إلى مغتربين في وطننا.

ويتأكد هذا الربط المهم في موقف الفيلسوف بول ريكور (Ricoeur 2004) مدعياً أن التذكر يعني معرفة الماضي ليس بصورة مطابقة لما حدث، وإنما يشمل مجريات الماضي مثلما نستذكرها بشكل متخيل في الحاضر. وما استذكار يوم الأرض إلّا محفز مهم لاستحضار فقدان الأرض وتغريبنا عنها. ولهذا فإن استحضار الماضي يجب ألّا ينقطع عن المقاصد المبطنة في عملية الاستذكار، وهي في وضعنا إعادة الروابط الحسية والوجدانية، الفردية والجماعية، بالأرض. فالاستذكار هو قدرة عقلية، لكن اجتماعية وسياسية في آنٍ واحد، ليس لأنها متعلقة بالقدرة على التذكر الشخصي، وبالقدرة العقلية الفردية فحسب، بل لأنها مرتبطة بمقاصد الاستذكار الجمعية أيضاً. فعلينا أن نعي بأننا نتذكر بحسب حاجاتنا ومقاصدنا، وأننا نتذكر بقوة أكبر الأمر الذي أثّر فينا بشكل أعمق وأقوى، أو الشيء الذي نحن بحاجة إليه. وهنا لا بدّ من أن نستدعي ادعاء هنري بيرغسون (Bergson 2007) الذي ربط لنا الذاكرة بالعادة، ونادى بالحاجة التحليلية والنظرية إلى أن نفصل بينهما. فما يتعلق بالذاكرة هو ليس ما تحوّل إلى عادة سلوكية أو كلامية، وإنما ما هو ليس كذلك. هذه المفارقة بين الذاكرة والعادة مهمة لأنها تؤكد الحاجة إلى البحث في الذاكرة، وخصوصاً الجماعية، ليس من خلال الإمعان في المعتاد، وإنما فيما هو مبطن أو مغيّب في الوعي الجماعي. كما أن عملية الاستذكار تستحضر الزمن كمركّب أساسي فيها، ذلك بأن العلاقة بين الماضي والحاضر ليست علاقة توالٍ وتتابع فقط، بل علاقة تحدد أيضاً ما نحن عليه، أي وعينا.

لهذا، ومثلما يذكّرنا المسكيني (2011) مرة أُخرى، إذا أردنا أن ندرك شأن مجموعة ذات انتماء، فإن علينا أن نقف عند ذاكرتها ونسأل عن ماهية هذه الذاكرة ليس من خلال المتاح لنا من خلال عاداتها فحسب، بل أيضاً من خلال ما هو مبطن في خطابها وسجالها ووعيها المستذكر. هذه هي الطريقة الأسلم لاستقراء المفارقة بين الهوية والذات، أي بين مَن نحن وما نحن وماذا نريد أن نكون عليه. بعبارة أُخرى، علينا أن نسأل ماذا ومَن نتذكر كي نستقرىء أو نستدل على ما هي الدلالات المبطنة في عملية الاستذكار، وأساساً ما هي الذات المنشودة فيها. 

دلالات التذكر والاستذكار الذهنية والسياسية

إن طرح الأسماء الثلاثة التي ترافق هذه الذكرى ليوم الأرض تلزمنا بطرح السؤال لماذا هؤلاء؟ ومع أنه ليس ممكناً الإجابة عن هذا السؤال بشكل كامل في هذا السياق، وعلى الرغم من أن الادعاء المعهود أن ذكرى يوم الأرض يتلازم مع ذكرى وفاة كمال جنبلاط وولادة ووفاة سلطان الأطرش هو ادعاء شرعي وفيه كثير من المنطق عندما يتم الاحتفاء بذكرى يوم الأرض في القرى المعروفية، والذي من شأنه تعزيز الوعي وتوسيع رقعة التحشيد لذكرى هذا اليوم الخالد، إلّا إن هذا التزامن لا يحجب الحاجة إلى التطرق إلى سؤال لماذا، وماذا يعني هذا التلازم في الاستذكار، وما هي دلالاته وتبعاته الفكرية والعقائدية والسياسية. والادعاء هنا هو أن علينا تأكيد أن عملية الاستذكار لا يمكنها أن تخضع لتسخير هوياتي ضيق، مع أنه في السياق الذي نتحدث عنه، فإنها تأتي من أجل تطوير نمط بنّاء من صوغ الذاكرة الجماعية مبني على قواعد فكرية وعقائدية ووجدانية صحيحة تتحدى الوعي الجماعي السائد، إلّا إن من واجب القائمين على هذا الربط تسويغه ليس بمجرد التوارد الزمني ليوم الأرض مع شخصيات تاريخية معينة، أو بافتراض قصدي مبني في فئات اليسار الدرزي على التوافق على الأهمية الفكرية لهذه الشخصيات، وإنما من خلال تعميق العلاقة المباشرة بين فكرهم والمناسبات الوطنية، وعلى رأسها يوم الأرض لما في ذلك من أهمية ليست وجدانية ووعيوية فحسب، بل وظائفية وتحشيدية أيضاً.

وقبل أي شيء تجدر الإشارة إلى أن الاستذكار الذي نتحدث عنه ليس له أي علاقة بالتقديس والتهليل المؤدلج أو التأسيس لشخصنة التاريخ، كما أنه لا يخضع لظاهرة الاستنجاد بهذه الشخصيات من أجل إزالة الشبهات التي طورتها الدولة بشأن انتماء الدروز وولائهم الوجداني لأرضهم ووطنهم وحضارتهم وقوميتهم، مثلما يفعل بعض المتصهينين فينا. فالسياق الذي نتحدث من خلاله لا شبهات في وعيه السياسي والوطني، وبالتالي فإن إثارة الجدل عن عملية الاستذكار ليوم الأرض في محاذاة استذكار الشخصيات الثلاث، إنما تأتي من باب الإشارة إلى إيجابية هذا الاستذكار من جهة، وإلى ما يتيحه من فرصة لتحديث الاستذكار وتنويره بشكل يتماشى مع الرؤية المشتركة لكل مَن يهمه الانتماء إلى الأرض كوطن جامع من جهة أُخرى. لهذا يأتي التحليل التالي كي يتطرق إلى المعاني والدلالات الاجتماعية والسياسية للاستذكار في السياق الذي نعالجه، مبقين على ذِكْر أنه لا اعتراض مبدئياً على الدمج بين ذكرى يوم الأرض الخالد وذكرى ال

شخصيات الثلاث العملاقة – كمال جنبلاط وشكيب أرسلان وسلطان الأطرش - التي نجحت في دخول متاحف الوجدان الإنساني من أوسع أبوابها، والتي لا تزال في الذاكرة خالدة مخلدة إلى الأبد.

لإيفاء الغرض سأكتفي بالتطرق إلى نقطتين مهمتين مبطنتين في عملية استذكار هذه الشخصيات في ذكرى يوم الأرض:

أولاً، لا بد من البدء بتأكيد التكامل بين هذه الشخصيات الملهمة التي يعكس كل واحد منها جانباً مشرقاً في الأفق البشري: الشجاعة والشهامة والجرأة عند سلطان الأطرش، والجذور الأصيلة والوعي الحضاري والإبداع الفكري عند شكيب أرسلان، والمعرفة والذكاء والتواضع عند كمال جنبلاط. ولا بدّ من الإشارة إلى أننا نتحدث عن شخصيات تحظى بتوافق مجتمعي واسع على جميع ما يتعلق بعطائها وتفانيها من أجل مجتمعها، والاستماتة في الدفاع عن حقوقه وعلى رأسها الوطن والانتماء إلى الأمة.

لكن من واجبنا أن نشير إلى أننا نذكرهم كرموز تاريخية وأخلاقية معطاءة وشهمة وبطولية، لكننا نبقيهم بعيدين عن التداول اليومي لمجتمعنا، وعن ترجمة أفكارهم إلى قيم عملية وممارسة فعلية لما دَعوا إليه. بعبارة أُخرى، لم ننجح في تحويل هذه الشخصيات إلى جزء من المعرفة المتداولة في مفهومها العميق في المجتمع العربي عامة، ولم ننجح في تحويلهم إلى إرث يشكل بوصلة في السلوك الشخصي والعام في القرى المعروفية خاصة. صحيح أن هنالك تماثيل لسلطان باشا الأطرش وشوارع أُطلق عليها اسم كمال جنبلاط في بعض القرى، إلّا إننا لم نتجاوز الرمزية الطوباوية في التعامل مع هذه الشخصيات، كما أن أفكارهم وأفعالهم لم تتحول إلى موروث ثقافي عام تتداوله الأجيال الناشئة من أجل الحفاظ على الانتماء إلى الحضارة العربية والإسلامية وما هو منبثق منها في مناحي الحياة كافة. وعلى العكس من ذلك، عدا قلة قليلة، فإنه يجري التعامل مع هذه الشخصيات البارعة من باب طائفي ضيق، ويتم حصرها للتغني بها من طرف البعض، من دون التعمق في فكرها وعقائدها واتّباع ما نادت به من الناحية الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، علاوة على أن المؤسسات الرسمية الدينية والعلمانية في القرى الدرزية تقوم بتجييش الخواطر والمشاعر لأبناء الطائفة وبناتها كي ينخرطوا في أعمال أو دعم سلوكيات ومواقف تتناقض بشكل كامل مع مواقف ووجدان هذه الشخصيات التاريخية المهمة. وعلى الرغم من أهمية التماثيل التي تقام لهذه الشخصيات في بعض القرى، فإنها تبقى رمزية، وإذا جرى استخدامها فإنها في أغلب الأحيان تُستغل لتعزيز هوية طائفية ضيقة الأفق ومغتربة عن ذاتها.

ولا بد من أن نوجه الأنظار في هذا السياق إلى خطورة الدور الذي تؤديه المؤسسة التعليمية المحكومة لمنظومة أيديولوجية ترعاها وتحافظ عليها الدولة بمفهومها الصهيوني في تسطيح هذه الشخصيات، وإخراجها من سياقها الوجداني، وتأكيد هويتها الطائفية الضيقة لإخراجها من دورها في صقل ذاكرة حضارية ووجدانية وأخلاقية تتحدى الواقع المادي والوعي التاريخي والانتماء الحضاري الذي تعيشه الأغلبية الساحقة من أبناء الطائفة المعروفية وبناتها. ومن المهم الإشارة إلى أن مَن يروّج لهذه الشخصيات بشكل هزيل، ويخدم أهدافاً بعيدة عن وجدانها، هم من أكثر الأشخاص المتعصبين لانتمائهم الطائفي، والمتقوقعين في مفهوم ذاتي ضيق الأفق، وبالتالي يخدمون سياسة خبيثة تقزم شخصيات تاريخية ذات بعد إنساني يتجاوز انتماءهم المذهبي.

من الواضح أن التعامل مع هذه الشخصيات بشكل جدي وعميق في عملية التنشئة المدرسية من شأنه أن يخلق ثغرة لا يمكن سدّها بين الوعي والواقع، بحيث يخضع كثير من أبناء الطائفة المعروفية وبناتها لتساؤلات عن انتمائهم وعن التصادم المباشر الذي تصنّعه المؤسسة بين وجدانها وظروف حياتها المادية، الأمر الذي يضطر العديد منهم إلى تغليب المصلحة المادية المباشرة وتغييب الاعتبارات الأخلاقية، كأن الابتعاد عن الالتزامات الوجدانية النابعة عن الانتماء تعني انحلالها أو غيابها.

علينا في هذا السياق أن نوضح، مثلما علّمنا المعلم الكبير كمال جنبلاط، أنه لا فراغ أخلاقياً في أي واقع إنساني، وأنه لا يمكن الفصل بين السلوك والأخلاق، حتى عندما ننكر أن جميع ما نقوم به له قواعد ودلالات أخلاقية. ومن الواضح أنه من مصلحة المؤسسة الحاكمة أن تخلق وعياً زائفاً إذا تعامل مع هذه الشخصيات الكبيرة فهو إنما يقطعها عن سياقها ويحصر الاهتمام بها بانتمائها الطائفي، مع أن الأطرش وأرسلان وجنبلاط حاربوا الطائفية باسم الوطنية والقومية والعقيدة الإسلامية. وهنا تتجلى لنا أهمية الفصل ولو التحليلي بين العمل السياسي بناء على مَن نحن كأننا ننحصر في هويتنا المباشرة، وبين ما نحن الذي أكدته الشخصيات الثلاث، والذي يُبرز أهمية مَن نكون، أي بشراً نشاطر الآخرين انتماءهم، ونعوّل على ما نصبو إليه، من دون تحوّل مَن نحن إلى قوالب هوياتية جامدة وبالتالي قاتلة، بحسب قول أمين معلوف (2004). إن هوية الأطرش وأرسلان وجنبلاط هي هوية شاملة وجامعة تنظر إلى نفسها بمصطلحات قومية وعقائدية غير سلفية وإنما تقدمية تصبو إلى التحرر من نير الكولونيالية، أكانت عسكرية كما في حال الأطرش، أم حضارية - إسلامية كما في حال أرسلان، أم إبستمولوجية وفكرية في حالة جنبلاط.

ولا بد من أن نوجه الأنظار إلى أن هذه الشخصيات التاريخية المهمة يستخدمها جميع أبناء الطائفة للاعتزاز والتفاخر بها، بمَن في ذلك الذين يصوّتون للأحزاب الصهيونية، الأمر الذي يخلق تحدّياً، ويدل على أن النمط الوعيوي السائد هو نتاج لنجاح المؤسسة في خلق الوعي الزائف الطائفي الذي ذُكر سابقاً، وعلى أن التفاخر بهذه الشخصيات من طرف الذين يؤكدون في سلوكهم السياسي أنهم بعيدون كل البعد عن الهويات الحقيقية لهؤلاء الأبطال التاريخيين، يُبرز بوضوح أن الاستذكار الرمزي لوحده غير كافٍ.

هذا الأمر يعني أن على القيادات الثقافية والسياسية الواعية في القرى المعروفية إيجاد صيغ استذكار جديدة تتحدى المألوف عند المجموعة التي تنتمي إليها، وتخلق تمايزاً من الذين يتفاخرون بهذه الشخصيات من جهة، لكنهم يمارسون سياسات تتماشى مع فكر وسياسات الأحزاب الصهيونية، البعيدة كل البعد عن انتماء الطائفة المعروفية الحقيقي إلى الأمة العربية والحضارة الإسلامية من جهة أُخرى. وهذه الأنماط الجديدة من الاستذكار يتعين عليها التشديد على التعمق في مكونات الذكرى والربط بين الشخصيات وإرثها الفكري والأخلاقي والعقائدي، وذلك من أجل التغلب على تكريسها لشرعنة سلوكيات طائفية منغلقة على ذاتها وتنتهي بشرعنة سلوكيات يومية لا تتماشى، بل تتناقض مع الحد الأدنى لما تتوقعه هذه الشخصيات من أبناء جلدتها. ويشمل هذا النمط المتميز من الاستذكار الضغط على جهاز التربية والتعليم الرسمي وغير الرسمي بهدف إدخال تغييرات جدية في المناهج التعليمية تتطرق إلى رمزية هذه الشخصيات الوجدانية كي تترسخ ثقافة الانتماء، لا الضيقة والمنغلقة على ذاتها والمنقطعة عن الإرث الحضاري لمحيطها، وإنما المتجذرة والمرتبطة بهويتها التاريخية والحضارية والتي توفر الأسس الذهنية لوعي متّسق يتغلب على الوعي القائم الذي يدل على حالة قطيعة خطرة مع التاريخ والانتماء، وعلى وهن خلقي يؤول بأجيالنا الشابة إلى الضياع.

هذه المفارقة لا بد لها من أن تثير فينا بعض التساؤلات، وخصوصاً فيما يتعلق بكيف نتذكر، وليس ماذا ومَن نتذكر فقط. ويجب أن نتساءل كيف لنا أن نتعامل بشكل نقدي مع ما تريد لنا المؤسسة المهيمنة أن نتذكره، وكيف لنا أن نغير هذا المسار ليس من أجل إعطاء هذه الشخصيات حقّها التاريخي فحسب، بل لتحويلها إلى نموذج يوفر بوصلة أخلاقية ووجدانية أيضاً لسلوك أجيالنا المقبلة. لهذا من المهم التذكير بأن رمزية هذه الشخصيات لا تكفي للدلالة على مَن نحن وماذا نحن، ومن المهم أيضاً القيام بتعميق التعريف بهذه الشخصيات، والعمل على ألّا يتم قطعها عن سياقها، وعدم الاكتفاء برمزيتها ودفع قوتها ومضامين عطائها الفكري إلى التأثير في بناء الوعي الاجتماعي الحالي. إن الفكر النيّر الذي طرحه جنبلاط، والقومي الذي طرحه أرسلان، والنموذج القيادي الذي مثله الأطرش، يجب أن يتم ربطها بكيفية مواجهة تحدياتنا الآنية، وخصوصاً فيما يتعلق بالمفارقة القائمة بين سياسات المؤسسة الإسرائيلية التي تعمل على سلخنا عن محيطنا العربي ومحاولة "تدليلنا" كأننا مميزون لديها من جهة، وفي الوقت نفسه تفرض سياسات التضييق ومصادرة الأراضي على قرانا مثلما حدث لسائر القرى الفلسطينية من جهة أُخرى. وهذا الأمر يعني تأويل فكرها بشكل يخاطب هواجسنا وتحدياتنا، والعمل على تجذير المعرفة بها من خلال الالتزام بقراءة نصوصها وربطها بسياقها الفكري والحضاري ومناقشتها كي تتحول إلى جزء حيّ من الذاكرة والمخيلة العامة، وكي نقدم من خلالها بدائل من الأنماط السلوكية المتبعة في محيطنا، ولنوفر إجابات جذرية عن العديد من التساؤلات والمعضلات التي يواجهها مجتمعنا.

بعد أن انتهينا من وضع حجر الأساس لمقولتنا الأهم، علينا أن نسمح لأنفسنا بالاستمرار في النقد الذاتي من خلال عدم الاكتفاء بالجمع بين هذه الشخصيات على أساس انتمائها الطائفي فقط. فهذه الشخصيات، في فكرها وفعلها، تجاوزت حدود الطائفة وحاربت الطائفية، ولهذا يجب عدم السماح بتسخيرها في سبيل تنمية هوية طائفية ضيقة، وذلك على الرغم من الحاجة إلى الحفاظ على هذه الهوية من دون تسييسها. إن طرح هذا الموضوع واجب من أجل عدم التقليل من شأنها، وعدم السماح بزجّها في عمليات بناء وعي تتناقض مع وجدانها ورؤيتها.

هذه المهمة لا تُبطل أهمية الاستذكار، لكنها تتطلب التنبه إلى خلفياته ومضامينه وتوظيفاته الممكنة، الأمر الذي يعني أن عملية الاستذكار في حاجة إلى تعزيز وتطوير وتجذير، كما أنها تتطلب العمل على تجاوز محدودية الهوية الطائفية، والنظر بعمق إلى فكر هذه الشخصيات لنرى أنها تجاوزت هوياتها الموقعية في تكوين فكرها على الرغم من انتمائها الطائفي، واختلفت في مشاربها الفكرية ورؤيتها الاجتماعية وتطورها. فكمال جنبلاط في "ثورة في عالم الإنسان" (1987)، وفي "أحاديث عن الحرية" (1987)، يعكس انقلاباً على الموروث الثقافي والاجتماعي، ويطرح فكراً نيّراً مبنياً على المساواة والكرامة لجميع أبناء البشر، كما أن فكره علماني في منطلقاته، إذ إنه يفتح الأفق لبناء مجتمع تعددي متحضر يختلف عن المألوف في زمانه. أمّا شكيب أرسلان في كتابه "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم" (1930)، فيطرح فكراً قومياً مبنياً أساساً على العقيدة الإسلامية وعلى رأسها "القرآن" كمرجع مركزي لنواحي الحياة كلها، وبالتالي فإنه أقرب إلى التراث المعهود في وقته. هاتان النظرتان إلى الواقع تأتيان في ظروف متنوعة، ومع أنهما واجهتا تحديات تاريخية كانت ماثلة أمام المجتمع العربي في عدة فترات، إلّا إنهما طرحتا فكراً تجاوز محدوديات زمانهما، وتحدثتا عن الأزلي في فكرهما الأيديولوجي وبرامجهما السياسية، وذلك من أجل مواجهة التحديات والنهوض بالأمة العربية إلى واقع أفضل ليس في فترتهما فحسب، بل بشكل مفتوح على أفق مستقبلي غير محدود أيضاً.

لهذا لا بدّ من دراسة فكر هذه الشخصيات بتروٍّ، وجعل الاختلاف والتنوع بينها جزءاً من التعمق في مدى مطابقتهما لتحديات اليوم، الأمر الذي يعني تحويل دراسة فكرها إلى نموذج للترفع عن حصرها في هويتها الطائفية، وللتعامل بجدية مع رؤيتها المختلفة من أجل التغلب على النمطية السائدة في التعامل معها. وفقط من خلال دراسة عميقة لفكر هذه الشخصيات ومعانيها ومراجعها وفرضياتها الذهنية والعقائدية والاجتماعية والسياسية يمكن استعادة زمام التعامل معها بجدية في مقابل محاولات تسطيحها من جانب بعض النخب المهيمنة التي تستغلها لأهداف بعيدة عن وجدان هذه الشخصيات المهمة. إن عملاً كهذا من شأنه تجنّب استغلال رمزية الشخصيات التاريخية التي تلامس ضميرنا ووجداننا من طرف النخب السياسية المهيمنة لأهداف بعيدة عن فكرها ووجدانها وأهدافها، ولا سيما تلك القيادات التي تتغنى بهذه الشخصيات من أجل تعزيز أنماط سلوكية ضيقة الأفق مثلما هي الحال في المنتديات الشبابية، وفي مقدمها الحركة الشبابية الدرزية التي تجري تنميتها على القطيعة مع المحيط العربي والعزلة الحضارية والدينية، وبالتالي الانضواء تحت هوية انتهازية تتطلب الطاعة والولاء لأحزاب صهيونية تنافي ما دعت إليه الشخصيات التاريخية المذكورة.

ثانياً، إن للتذكر جانباً رمزياً ومهماً بحيث يصبح ماذا ومَن نتذكر وكيف نتذكر، تذكراً محورياً للنظر في الوظائفية الرمزية التي يتم تسخيرها من أجل هدف تريد عملية الاستذكار تحقيقه، وخصوصاً إذا اعتُبر هذا الهدف سامياً. وهذا الأمر يعني أن الاستذكار هو محاولة لاستخدام شخصيات تاريخية بهدف السمو بذواتنا إلى أماكن نصبو إليها، أو لنخلق وعياً يستشرف أن هذه الشخصيات التاريخية يمكنها أن تؤدي في تلك الأماكن دوراً بنّاء. إنها عملية تسخير رمزية لشخصيات بطولية من شأنها أن تثير مشاعر مَن نريد التأثير فيهم، وتأتي بهم إلى تطوير وعي يجعلهم يمارسون سلوكيات نصبو إليها. لهذا لا بد لنا من أن نطرح السؤال التالي: لماذا لا نضيف إلى عملية الاستذكار شخصيات عاشرناها وعشنا معها وهي أيضاً كبيرة الهامة في فكرها وعطائها، حتى إن اختلفت أو اعتقد البعض أنها لم ترتقِ إلى مستوى الشخصيات التاريخية الثلاث، مع أن عطاءها واستذكاره يمكنهما أن يجعلا عملية الاستذكار قريبة أكثر إلى واقعنا، حتى إن لم يكن ثمة إجماع مجتمعي تام عليهما، مثلما هي الحال مع الشخصيات التاريخية الثلاث؟ وكي لا تبقى الفكرة مجردة، ها أنا أذكر على سبيل المثال لا الحصر، أسماء شخصيات لها عطاؤها وإرثها مثل الشيخ فرهود فرهود، وسميح القاسم، وسلمان ناطور، ومحمد نفاع، وغيرهم؟!

من الجائز أن يثير هذا الطرح بعض النقد الجائز والشرعي، لكن قصدنا من هذا الخطاب ليس أن نخلق توازياً بين الشخصيات التاريخية المتوافق عليها، وشخصيات تاريخية أُخرى، وإنما تحويل الطرح إلى عملية ذهنية من شأنها أن تحوّل عدم التوافق على عملية الاستذكار وشخصياتها إلى عملية تفكيرية نستطيع من خلالها التعرف إلى مفارقات الاستذكار والتوافق أو عدم التوافق عليها كدلالة يمكن استخدامها لقليل من الترائي والتمحيص في هذا الموضوع كله. وبما أنه ينقصنا ميزان قاطع وحيادي لنقيس من خلاله الوزن النوعي والتأثير القائم للشخصيات المهمة في سياق استذكار يوم الأرض كحدث وطني محوري، وإذا أردنا أن نحوّله إلى حدث جماهيري، فإنه لا ضير في أن نفتح باب النقاش في هذا الموضوع، كي نرى كيف يمكن إجراء قفزة نوعية في عملية الاستذكار لتفي بالغرض التي يتم توظيفها من أجله.

من الواضح أن هنالك توافقاً على رمزية الشخصيات التاريخية الثلاث، وهذا التوافق حصراً يدّعي التمحيص والتفكير في عملية الاستذكار. أولاً، يمكن أن نكتفي برمزية هذه الشخصيات من دون التعامل مع فكرها وتأويله من أجل استخدام الأفكار والقيم المتجذرة فيه لبناء مجتمع أفضل. وإذا كان من المهم التفكير في توسيع رقعة الاستذكار، فإنه لا بد من التعامل الجدي مع هذه الشخصيات، وفي مقدم ذلك التشابه والاختلاف في فكرها ورؤيتها وآليات عملها. ثانياً، يجب ألّا نسمح للملابسات والمفارقات المنوطة بذلك، بأن تُبقي استمرار الانضواء تحت رموز يتم تفريغها من فحواها الفكري بهدف الإبقاء على وحدة الصف حولها. وعلى الرغم من أهمية الرمزية في تطوير ذاكرة ما، ومن محورية الرومانسية في استذكار شخصيات من الماضي البعيد، فإن معنى ومضمون هذه الذاكرة لا يقلّان أهمية عن مجرد وجودها. وبالتالي، فإن أسئلة كيف نستذكر ومَن ولماذا، هي أسئلة لا بد من تناولها بجدية في طقوس الاستذكار. كما أن الإجماع على شخصيات الاستذكار هي عملية اجتماعية يمكن أن تبدأ بخلافات وسجالات معينة، غير أن من المهم إثارة النقاش فيها وبشأنها كي يتم تصنيع المخيال الجماعي المراد بمشاركة جماهيرية واسعة لا تنحصر في نخبة قيادة صغيرة.

لهذا، علينا أن نثير في أنفسنا تساؤلات عمّن هي الذات المتذكرة التي نريد أن نصنعها، فالاستذكار لا يدل على شخصية المستذكَر فقط، بل على هوية المستذكِر أيضاً. وإذا أردنا أن نصنع ذاتاً غير منقطعة عن واقعها، ولا تقوم بالانتقائية بمَن تتذكر وكيف تتذكر كي تبقى على اتساق وعيوي مع ذاتها في ظروف يجب زعزعتها والانقلاب عليها لأنها لا تحمل أفقاً أخلاقياً وسياسياً يعكس ما تصبو إليه الشخصيات الثلاث الكبيرة، فإنه لا بد من إضافة شخصيات محلية دفعت ثمناً باهظاً جرّاء موقفها الأخلاقي والسياسي، والعمل على استذكارها، حتى إن أدى ذلك إلى عدم توافق تام في المواقف والشخصيات. هذا الأمر يعني طرح تساؤل عن ذواتنا عندما نقوم بطقوس الاستذكار التي يجب أن نعيرها اهتماماً كبيراً لأهميتها في الإبقاء على الأمن الأنطولوجي، وهو مركب أساسي في هوية الإنسان في العصر الحديث (Jamal 2019).

إن إقامة طقوس الاستذكار هي عمل إنساني وحقل يمكن من خلاله الاستدلال على هوية الذات المتذكرة ووعيها، وذلك من خلال ماذا ومَن وكيف تتذكر. لذلك، دعونا نعيد النظر في نموذج التذكر الجماعي كي ندمج الشخصيات المستذكرة في واقعنا الحالي من خلال التعمق في فكرها وسجالها وسلوكها، ودعونا نضيف إلى سجل الاستذكار مَن هم ليسوا جزءاً عضوياً من الذاكرة الجماعية الحالية، لنبني وعياً جماعياً بديلاً ممّا هو سائد اليوم. أنا أعي بأن من الممكن أن نختلف في الرأي فيما يتعلق بالشخصيات التي تستحق الاستذكار، والتي من الواجب أن تكون جزءاً من أيقونة الوعي التاريخي الجماعي، لكنني أعتقد أن إضافة شخصيات تُستذكر، من شأنها أن تخلق التزامات جديدة تعزز تحشيد مجموعات جديدة للخط الوطني الذي التزمت به الشخصيات التاريخية، وأن تخلق جسوراً مع سائر مجتمعنا العربي في فلكنا المحلي. إن اختلاف الرأي في هذا الشأن يحتمل ويتطلب فتح باب السجال بين مختلف الفئات المجتمعية، بما في ذلك تلك المتضاربة في التوجه الفكري والعقائدي، ذلك بأن السجال المفتوح والمبني على عقلانية خطابية من شأنه توفير أساس حضاري وتوافقات لا نجدها في مجتمعنا الحالي، كما أن من شأنه إيصالنا إلى واقع تتعدد فيه الشخصيات المستذكرة التي من الجائز أن يضيء كل منها جانباً معيناً أو ناحية محددة من تاريخ وتجارب مجتمعنا.

إن ذكرى يوم الأرض التي لا يتم الاحتفاء بها كما يجب في قرانا هي فرصة سانحة لإعادة النظر في الاستذكار بصورة عامة، ولإيجاد شتى السبل لفتح الآفاق من أجل دمج كل مَن تهمّه الأرض في الانضمام إلى هذا الاحتفاء. وبما أن ذكرى يوم الأرض ليست مجرد احتجاج عابر نريد أن نسجله، فإنها فرصة لإعادة النظر في الوعي الذاتي وتطويره نحو ما يصبو إليه وجدان الجماعة وهو الدمج بين التشبث بالأرض ليس لأسباب أهمها مادية، مثلما يتجلى لنا في السلوك الفردي لدى العديد منا، وبين التشبث بالأرض كوطن وحاضنة تعطي الملكيةُ الفردية فيها الأرضَ جانباً ينقصها وهو قيمة الأرض الوجدانية والإنسانية.

لا بد في هذا السياق من أن نتساءل عن مدى ارتباط عملية الاستذكار هنا بما يحدث في جهاز التربية والتعليم، وبالشرخ الهائل بين الوعي الذي تتم تنميته، وبين ما هو منشود من ناحية الوعي الجماعي، كما يجب أن نعمل جاهدين على اختراق الوعي المهيمن وتفكيكه، ذلك بأن لدينا أرضية مادية خصبة لذلك، ولا سيما بعد تراجع القطاع الاجتماعي الذي يعتاش من سلك الأمن، وتصاعد عدد المثقفات والمثقفين في المجتمع، والاغتراب المتزايد عن جميع ما يتعلق بالمؤسسة السياسية الإسرائيلية، وخصوصاً بعد قانون القومية (Jamal and Kensicki 2020). إن الشخصيات الرمزية التي تحدثنا عنها ذخر مهم في بناء وعي قادر على توفير قاعدة وجدانية ورؤية حضارية من شأنها الارتقاء بالمجتمع المعروفي إلى مستقبل أفضل تجد فيه الأجيال الشابة إجابات أفضل للمعضلات والتحديات القيمية والعملية التي يواجهونها.

هذه مهمة يجب التخطيط لإنجازها والعمل على بلورة مضامينها وكيفية تقديمها كبديل من عملية الاستذكار المهيمنة على مجتمعنا في المؤسسات التعليمية، وهي أيضاً مهمة في حاجة إلى التفكير والإبداع والعمل الدؤوب. ولا بدّ لكل مَن هو جزء من عملية الاستذكار من أن يكون جزءاً من هذا الجهد كي يكون الاستذكار ليس مجرد شعارات، وإنما جزء من عملية بناء وعي جماعي ومخيلة جماعية يستمدان قوتهما من ارتباطهما بالواقع المادي والتجربة اليومية من أجل تطوير وعي بديل، وما فكر الشخصيات المذكورة أعلاه إلّا فضاء رحب لمخيال جماعي أخلاقي وحضاري وليبرالي وتعددي في نفس الوقت.

خلاصة

إن تذكّر الماضي يطرح جدلية معقدة التكوينات، ذلك بأن عملية التذكر لها جوانب إدراكية وذهنية وجوانب زمانية وجوانب سياسية تتعلق بمحفزات الاستذكار ودوافعه وأهدافه، الأمر الذي يعني أن التذكر هو عملية لا تقتصر على العفوية في تكوينة العقل البشري، بل هي انعكاس أيضاً لإرادة لا بدّ من تفكيكها إذا ما أردنا فهمها. هذا صحيح في حالات الاستذكار الجماعية، لأن التذكر والاستذكار ليسا عملية نقوم بها كذوات تستبقها، وإنما يحددان ما نحن عليه كعملية مستمرة من التكوين الإدراكي والذهني، فالإنسان الذي يعي ما هو عليه هو مجرد ذاكرة إذا فُقدت فقد ذاته وهويته. والإدراك الإنساني في طبيعته مبني على استذكار التجارب السابقة للاستدلال على قوانين سلوكية تمكّنه من الإلمام بوجوده وامتلاك القدرة على ترتيب مجريات حياته بشكل منطقي ومتسلسل. لهذا، فإن الاستذكار هو حقل مهم للمراجعة إذا أردنا دراسة حالة إنسانية، أو وضع مجموعة بشرية أياً تكن. فالذاكرة والاستذكار هما شبّاك مهم لاستشفاف ما يجري في وعي مجموعات إنسانية، وبالتالي فإن مراجعة وتحليل عمليات استذكار معينة، من شأنهما أن يشكلا مدخلاً مهماً لفهم ما تفعل هذه المجموعات، ولماذا ولِمَ بهذا الشكل، ولكي تستطيع أن تستشرف ما هو المستقبل المنشود المبطن في عملية استذكارها وتفتح باب النقاش للتداول بشأنه حضارياً وبشفافية، بحيث تؤدي شخصيات تاريخية دوراً مهماً، لكن من دون تقديس أعمى من جهة، أو عدم التعمق في فكرها والتعامل معه بتمحيص من أجل فحص مدى ملاءمته للظروف العينية التي يواجهها المجتمع المستذكر من جهة أُخرى. والحالة الخاصة التي عالجتها هذه المقالة تطرح واجب إعادة النظر في ذاكرة اليسار الدرزي في إسرائيل، وذلك من خلال تأكيد أهمية الربط بين يوم الأرض ونمط العلاقة مع الأرض من جهة، وتصحيح مسار الاستذكار بحيث يتم ربطه بسياقه الوطني وإرثه الحضاري من جهة أُخرى. في هذا السياق علينا التشديد على عدم الوقوع في مطبات نمط الاستذكار الرسمية التي تستنجد بشخصيات تاريخية يتم تقليص رسالتها الوجدانية لخدمة سياسات وعيوية بعيدة كل البعد عمّا أرادته هذه الشخصيات. ومن أجل تصحيح المسار لا بد من مزج الذاكرة باستذكار شخصيات محلية ذات هوية وطنية، وفي استطاعتها الحد من إمكان استغلال عملية الاستذكار المتبعة من تحقيق مآربها الخبيثة.

 

المراجع 

بالعربية

ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (1981). "المقدمة". بيروت: دار القلم، ط 4. 

أرسلان، شكيب (1930). "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم". بيروت: دار مكتبة الحياة. 

أفلاطون (2009). "الجمهورية: المدينة الفاضلة". ترجمة عيسى الحسن. بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، ط 1. 

جمّال، أمل (2018). "عقلية البقاء والقطيعة الأخلاقية في سلوكيات المجموعات الصغيرة: الدروز في إسرائيل مثالاً". في: "العرب الدروز في إسرائيل: مقاربات وقراءات نظرية وسياسية ناقدة". تحرير يسري خيزران. حيفا: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية / مدى الكرمل، ص 14-66، في الرابط الإلكتروني. 

جنبلاط، كمال (1987). "أحاديث عن الحرية". المختارة: الدار التقدمية، ط 2. 

جنبلاط، كمال (1987). "ثورة في عالم الإنسان". المختارة: الدار التقدمية، ط 3. 

جنبلاط، كمال (2004). "رسالتي في العدالة الإنسانية". المختارة: الدار التقدمية. 

درويش، محمود (2008). "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". تحرير يعقوب حجازي. عكا: دار الأسوار. 

ماركس، كارل وفريدريك أنجلز (2016). "الأيديولوجيا الألمانية". بيروت: دار الفارابي. 

المسكيني، فتحي (2011). "الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة". بيروت: جداول للنشر والتوزيع، ط 1. 

معلوف، أمين (2004). "الهويات القاتلة". بيروت: دار الفارابي.

 

بالأجنبية

Aristotle (2013). Eudemian Ethics. Edited and Translated by Brad Inwood and Raphael Woolf. Cambridge: Cambridge University Press. 

Benjamin, Walter (2010). Über den Begriff der Gischichte. Frankfurt am Main: Suhrkamp. 

Bergson, Henri (2007). Matter and Memory. New York: Cosimo Classics. 

Jamal, Amal (December 2019). "Ontological Counter-Securitization in Asymmetric Power Relations: Lessons from Israel". International Studies Review, vol. 22, issue 4, pp. 932-965. 

Jamal, Amal (2022). “Descriptive Over-Representation, Cliental Accountability, and Minority Politics: The Case of the Druze in Israel”. Democratization

Jamal, Amal and Anna Kensicki (2020). “Theorizing Half-Statelessness: A Case Study of the Nation-State Law in Israel”. Citizenship Studies, vol. 24, issue 6, pp. 769-785. 

Kant, Immanuel (2006). Kritik der Urteilskraft. Einleitung und Bibliographie herausgegeben von Heiner F. Klemme. Leipzig: Felix Meiner Verlag. 

Nora, Pierre (Spring 1989). “Between Memory and History: Les Lieux de Mémoire”. Representations, vol. 26, pp. 7-24. 

Ricoeur, Paul (2004). Memory, History, Forgetting. Translated by Kathleen Blamey and David Pellauer. Chicago: Chicago University Press. 

Rilke, Rainer Maria (1923). Duineser Elegien. Leipzig: Insel-Verlag.

السيرة الشخصية: 

أمل جمّال: أستاذ الفكر والاتصال السياسي في جامعة تل أبيب.