الانتخابات وتحديات المأسسة الديمقراطية
نبذة مختصرة: 

أُنجزت في آذار / مارس 2022، المرحلة الثانية من الانتخابات المحلية التي جرت في الضفة الغربية، ولم يُشارك قطاع غزة فيها للمرة الثالثة، فقد فضّلت حركة "حماس" الاستمرار في تعيين الأعضاء. وفي الحالتين، كان الخاسر هو المؤسسة الديمقراطية المرجوة؛ ففي الضفة حلت العشائر والعائلات مكان الفصائل والأحزاب، وغاب بالتالي الاهتمام بالشأن العام لمصلحة العشيرة والعائلة، وفي غزة، استمر الشأن الفصائلي متقدماً على الشأن العام.

النص الكامل: 

يتجاوز الصراع المحتدم بين الشعب الفلسطيني ونظام الأبارتهايد الاستعماري الثيوقراطي الإسرائيلي، حدود السيطرة على الأرض والموارد وقمع السكان الأصلانيين، ليصل إلى حد التدخل المنهجي المباشر في تفكيك بنية المجتمع في الضفة والقطاع ومناطق 48، ويمتد الأمر إلى تدخّل غير مباشر في إذابة بنية الشتات الفلسطيني.

إزاء ذلك، من الطبيعي أن تسعى قوى التحرر لتقوية الذات وتطوير البنية المجتمعية من أجل الصمود والبقاء والمضي في معركة التحرر وتقرير المصير. في هذا الصراع المتصاعد يصطدم المواطنون وأبناء الشعب في مختلف المواقع بضعف أهلية المؤسسة الفلسطينية، إذ يبرز تناقض بين الحالة الكفاحية الوطنية للسواد الأكبر من الناس، وبين مستوى المأسسة الضعيف والمشوه وغير القادر على تنظيم الطاقة الكفاحية وتوفير المقومات السياسية والمادية والاقتصادية، والتي تجعلها قادرة على الصمود والبناء وانتزاع المكتسبات ومراكمتها.

المأسسة في هذا النوع من الصراع ضرورية من أجل اكتساب القوة والتأثير والاستمرارية، فضلاً عن أهميتها في بناء المجتمع وتطوره، ويبرز في هذا السياق بون شاسع بين المشروعين الصهيوني والفلسطيني: الأول اعتمد على بناء المؤسسات الأمنية والتعليمية والاقتصادية، وبعد ذلك استقدم شعباً من المهاجرين مقدماً نموذجاً لهرم مقلوب في نشأة المجتمعات وتطورها، وذلك بحسب المؤرخ الإسرائيلي رابينوبتش؛ الثاني شعب يعيش بشكل طبيعي ويحتاج إلى المؤسسة وإلى نمو وتطور في تشكيلته الاقتصادية الاجتماعية، غير أن نموه الطبيعي تعرّض ولا يزال، لكبح منهجي في سياق عملية إقصاء استعمارية تاريخية، كي يبقى الصراع مفتوحاً في مختلف مجالات الحياة وفي مركزها النضال الوطني.

تاريخياً، خضعت المؤسسات الفلسطينية المعنية بالشؤون الإدارية والخدمية والتنموية لسلطات خارجية: عثمانية وبريطانية وإسرائيلية. وكان الوجه الرئيسي في تلك الفترات المتعاقبة هو هيمنة السلطة المركزية واستخدامها للمؤسسات كأداة سيطرة على حساب تلبية الخدمات وحاجة المواطنين، فجرى ترسيم السيطرة بمنظومة قانونية، وبأوامر عسكرية إسرائيلية أضيفت إلى القوانين العثمانية والبريطانية الغابرة، وأحكمت الرقابة المشددة على البلديات بإشراف ضابط في الحكم العسكري وذلك في سياق طمس الكيانية الفلسطينية، وكانت النتيجة كبح دور البلديات التطويري.

وفي السياق التاريخي، عرض علي الجرباوي في دراسة خاصة تجربة البلديات تحت السيطرة العثمانية والبريطانية والإسرائيلية والعربية،[1] والتي يُستدل منها مجموعة من المؤشرات لعل أبرزها:

  • محدودية الدور وضعف الخدمات التي تستطيع المجالس تقديمها لتلبية حاجات السكان، في ظل الحكم الاستعماري المهيمن ومنظومة قوانينه وقيوده، وهامشية الدور التطويري والتنظيمي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى المستوى الذي لا تستطيع فيه المجالس تمثيل السكان.
  • انتزاع البلديات والمجالس المحلية دوراً سياسياً تمثيلياً في ظل القبضة الإسرائيلية خلال انتخابات 1976، لكن سلطات الاحتلال أقصت رؤساء البلديات المنتخبين في مطلع الثمانينيات لمصلحة الإدارة المدنية ولجان محلية معينة تابعة لها، ولمصلحة روابط القرى المعينة والتابعة.
  • النقلة السياسية عبر الانتخاب أو عبر انتفاضة 1987 لم تنعكس إيجاباً على الخدمات والتطوير وقضايا المجتمع الاقتصادية والتنموية، نظراً إلى استحواذ السياسة على عمل البلديات. ولم تتمكن الحركة السياسية من تقديم مفهوم يدمج الدور الوطني في بناء مؤسسات مجتمعية تلبّي مصالح الناس.
  • بنية المجتمع التقليدية والذكورية شكلت حاضنة لتفرد الرؤساء في بناء جهاز إداري قائم على المحسوبية والواسطة ومكانة العائلات، وثقافة القبول بتنفيذ ما يوكل إلى المجالس، باستثناء رفض الولاء السياسي للاحتلال.
  • افتقار المجالس إلى الاستقلال المالي بفعل منع البلديات من التحكم في مواردها المتأتية من الرسوم والضرائب والرخص وغير ذلك، واعتمادها على السلطة المركزية كمصدر تمويل أساسي، وعلى دعم خارجي.
  • غياب الرقابة والنقد والتقييم والمحاسبة، أكان ذلك من المواطنين، أم من أجسام مهنية مستقلة، أم من التنظيمات السياسية، والاستعاضة عن ذلك بتفاهمات مراكز القوى العائلية والعشائرية والسياسية، والتي تنطلق من المصالح. 

مركزية فلسطينية جديدة

مع نهاية الحكم العثماني بلغ عدد البلديات 22 بلدية، وفي عهد الانتداب 24 بلدية، وخلال العهدين الأردني (في الضفة) والمصري (في غزة) كان عدد البلديات 26 بلدية. وبعد سنة 1967، أضاف الاحتلال الإسرائيلي 3 بلديات هي يطا (في الضفة) ودير البلح ورفح (في غزة)، فبلغ عدد البلديات 29 بلدية (25 في الضفة، و4 في قطاع غزة).[2]

بعد تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية في سنة 1994، أصبحت هيئات الحكم المحلي تابعة لها، وقد اتبعت هذه السلطة في البداية سياسة تعيين رؤساء وأعضاء المجالس المحلية، والتي بقيت قائمة حتى إجراء الانتخابات المحلية في سنتَي 2004 و2005، بعد عقد من صدور قانون الهيئات المحلية في سنة 1997، والذي ينصّ على إجراء الانتخابات للهيئات المحلية، ويوضح في المادة 3، البند 2، أنه "يتولى إدارة الهيئة المحلية مجلس يُنتخب رئيسه وأعضاؤه انتخاباً حراً."[3] لكن عوضاً عن الانتخاب عينت السلطة من خلال وزارة الحكم المحلي 3739 عضواً، بينهم 61 عضواً من النساء بنسبة 6,1% في الضفة الغربية، بينما رفض قطاع غزة تعيين أي امرأة.[4]

لقد استندت سياسة التعيين في تلك الآونة إلى الولاء، وحرصت على التنسيق مع وجهاء العائلات والعشائر ومع التنظيمات، وكان معظم أعضاء الهيئات من حركة "فتح" وأنصارها، الأمر الذي يعني سيطرة مركزية من طرف السلطة وحزبها ("فتح") على المجالس.

إذاً، جرى تنظيم أول انتخابات للمجالس البلدية والمحلية في سنة 2004، وقد أعلنت "حماس" و"فتح" فوزهما في تلك الانتخابات، لكن الغلبة كانت لحركة "حماس"، ثم جاءت انتخابات الرئاسة في سنة 2005، والتي فاز فيها مرشح "فتح"، محمود عباس (أبو مازن)، بينما فازت "حماس" بأكثرية مقاعد المجلس التشريعي (البرلمان). وتعطلت انتخابات المجالس البلدية والمحلية، بعد الانقسام بين الضفة وغزة في سنة 1997، وأُجريت بعد ذلك 3 مرات، في الضفة الغربية وحدها، من دون غزة، في سنوات 2012، و2017، و2021 – 2022.

وبلغ عدد الهيئات المحلية في عهد السلطة الوطنية الفلسطينية 478 هيئة محلية هي عبارة عن بلديات مدن ومجالس بلدات وقرى. وللوهلة الأولى يَستشفّ المتابع أن نقلة نوعية حدثت نظراً إلى الأعداد الضخمة من الهيئات الجديدة، وهو ما يوحي بامتلاك السلطة والمواطنين زمام الأمور وبالانتقال إلى اللامركزية، لكن تلك الهيئات في الحقيقة بقيت تحت تأثير سلطة مركزية وحزبية.

صحيح أن إسرائيل كطرف استعماري هي المقرر في اتفاق أوسلو وتطبيقاته، ولا تسمح بالسيادة على السكان، والتي لا تنفصل عن السيادة على الأرض والموارد. لكن على الرغم من ذلك، فإن الحاجة إلى إعادة بناء المجتمع الفلسطيني كانت ضرورية وممكنة تحت عنوان دمقرطة المجتمع الفلسطيني من خلال إجراء انتخابات، وسنّ منظومة قوانين جديدة بدلاً من القوانين العثمانية والانتدابية والعربية والعسكرية الرجعية التي تقادمت وعفا عليها الزمن، وخصوصاً في مجال الأحوال الشخصية والعقوبات، فضلاً عن اعتماد نظام تعليمي يزيل القيود عن العقول، وإنشاء ضمان اجتماعي لمصلحة العاملين، ونظام صحي يتيح رعاية الطبقات الشعبية، وقانون مطبوعات وإعلام يضمن الحريات، وخطة تنمية مجتمعية تعتمد على الموارد الفلسطينية أساساً، ونظام عمل يعزز المجتمع المنتج، وصولاً إلى مجالس بلدية وقروية تمثيلية.

لم تخض السلطة والمنظمة، ولا المعارضة، في هذه القضايا الحيوية التي تصنع التغيير بمشاركة شعبية منظمة، وبمؤسسات ديمقراطية وأنظمة وقوانين جديدة تجعلها تفلت بالتدريج من القيود الاستعمارية. فالتحرر لا يقدَّم هدية على طبق للشعب الرازح تحت الاحتلال، وإنما يمر عبر نضال متعدد الأوجه، ويتوَّج بالانعتاق والتعافي والتقدم. خلافاً لذلك، افتقر الوسط السياسي إلى رؤية واضحة تربط الخلاص من الاحتلال بتطور المجتمع ومؤسساته وبمشاركته المنظمة، وسادت مركزية شديدة تتلخص بتحكم رئيس السلطة بكل شيء، وتحديداً بالتعيينات على أساس الولاء والمحسوبية، ومن خلال وزارة الحكم المحلي أيضاً، واستُحدثت سلطة المحافظين المعينين بقرار رئاسي، والمتعارضة مع سلطة البلديات والمجالس القروية، فسادت ازدواجية الأدوار وزاد عدم الوضوح،[5] والنتيجة أن هامش اللامركزية بات ضافياً.

ومع أن قانون الهيئات المحلية لم يمنح هيئات الحكم المحلي الاستقلال المالي المطلوب، إلّا إن تطوراً حدث في البنية التحتية (زاد عدد المدارس بما يتلاءم مع الزيادة السكانية، وبعض المدن طور الصرف الصحي وشبكات الطرق واستحدث مكبّات للنفايات، وازدهر العمران، بمعزل عن حل أزمة السكن للفئات الشعبية، ونشأت مراكز إعلامية وثقافية). غير أن هذا التطور لم يخضع للتخطيط، واعتمد أساساً على الدعم المالي الخارجي للسلطة وللبلديات والمجالس المحلية التي لم تنجح في حل أزمة المياه الناجمة عن سرقة المحتلين للمياه. وما حدث في الواقع يشبه فقاعة يختلف مستواها من مدينة إلى أُخرى ومن قرية إلى أُخرى، فضلاً عن فرض قيود وكوابح داخلية جديدة / قديمة ساهمت في تعزيز التحولات الرجعية الداخلية، وفي تفكك المجتمع وانقسامه السياسي، وفي فتح الأبواب أمام التدخلات الخارجية كافة. 

الانتخابات الأخيرة: تطور كمّي وتراجع كيفي

شملت الانتخابات الأخيرة (2021 - 2022) 478 هيئة محلية، على فترتين انتخابيتين، وقد فازت 185 قائمة بالتزكية نظراً إلى وجود قائمة واحدة، وهو ما يعني توافق العشائر والحمائل على تمثيلها في القائمة وفقاً لعدد الهويات لدى كل حمولة. أمّا التنظيمات السياسية فتحدَّد موقعها إمّا جزءاً من التفاهم العشائري، وإمّا على هامش المشهد، وباتت لا تغني ولا تسمن من جوع. ولم تتقدم أي قائمة انتخابية في 90 بلدة وقرية، الأمر الذي يعني أن سيطرة العائلات والحمائل هي الأقوى، وأن التنظيمات السياسية ليس لها أي نفوذ أو تأثير في هذه القرى.

اقتصرت الانتخابات الفعلية على 203 مراكز، بعد أن استنكف عن الترشح 16% من المراكز في المرحلة الأولى، و28% في المرحلة الثانية، الأمر الذي يُظهر عدم اكتراث كبيراً من المواطنين بالانتخابات، وتفويت حقهم في المشاركة، ويعبّر عن أزمة في البنية الاجتماعية لها تداعياتها.

أُعلنت في المرحلتين نسبة مشاركة بلغت 58%، وهي نسبة غير دقيقة، كون المواقع التي فازت بالتزكية مضمنة في هذه النسبة، مع أن الناخبين لم يزاولوا حقهم في الانتخاب. أمّا توزع القوائم، فكان بنسبة 69% للقوائم المستقلة، و31 % لقوائم حزبية. وفازت النساء بـ 21% من المقاعد بالاقتراع والتزكية،[6] عملاً بالكوتا النسائية المقرّة في القانون.

وأشار تقرير لجنة الانتخابات المركزية إلى أن الانتخابات المحلية التي عُقدت 3 مرات خلال السنوات 2012، و2017، و2021 – 2022، لم تشمل قطاع غزة الذي تسيطر عليه سلطة "حماس" التي لا تسمح بإجراء الانتخابات فيه. والأمر نفسه ينطبق على الاتحادات الشعبية والطلابية والنقابية في القطاع التي تعطلت فيها الانتخابات عدا استثناءات قليلة.

وتعتمد حركة "حماس" على التعيين في قطاع غزة، في الوقت الذي تشارك في انتخابات الضفة الغربية. ومن اللافت هنا أن مفهوم "حماس" الانتقائي للمشاركة وعدم إجراء الانتخابات يرتبط بإرادة الاستمرار في السيطرة، الأمر الذي يفاقم الخلل في المسألة الديمقراطية. وعلى الطرف الآخر من لوحة الانقسام، فإن تأجيل (أو تعطيل) حركة "فتح" للانتخابات الرئاسية والتشريعية وانتخابات المجلس الوطني، في سنة 2021، جاء لسبب غير معلن هو خشية "فتح" من خسارة الانتخابات.

هكذا، يلتقي التنظيمان عند موقف رفض التبادل السلمي للسلطة، وبالتالي كبح وإعاقة الحياة الديمقراطية والتغيير إلى الأحسن، ولا سيما أن رفضهما يستند إلى قوة الأجهزة الأمنية التي تفرض السيطرة وتقمع الجمهور والأنصار المنتمين إلى الطرف الآخر.

وقد اعتبر الناطق الإعلامي للجنة الانتخابات المركزية، فريد طعم الله، انتظام الانتخابات المحلية في الضفة إنجازاً مهماً ومؤشراً إلى تأييد الناس لـ "حماس"، أو انخفاض ثقتهم بها، وإلى كون هذا الانتظام يُكسب الناخبين الخبرة والنضج اللذين يطوران وعيهم الديمقراطي مع كل انتخابات.

ويستنتج طعم الله أن المزاج العام ذهب في المرة الأخيرة في اتجاه القوائم المستقلة التي بلغت نسبتها 71%، علماً بأن حركتَي "فتح" و"حماس" كان لهما وجود في تلك القوائم المستقلة، فضلاً عن الحضور العشائري. وتؤكد هذه النسبة المرتفعة للقوائم المستقلة أن المزاج العام يثق أكثر بالمستقلين بعد تجربته السلبية مع حكم الحركتين اللتين ركبتا الموجة وشكلتا قوائم لكل منهما تحت عنوان "المستقلين".

غير أن ثمة فرقاً بين انتخابات هدفها السيطرة عبر موالين وتحالفات عائلية وعشائرية وإعادة بناء نظام اجتماعي منغلق، وبين انتخابات هدفها إشراك المجتمع المدني في الحكم، وهو الفرق ذاته بين ديمقراطية قابلة للتطور، وبين لاديمقراطية تعزز التحولات الرجعية داخل المجتمع. 

إعادة تشكيل النظام الاجتماعي

لا تنفصل انتخابات المجالس المحلية أو تعيينها عن النظام الاجتماعي الآخذ في التشكل منذ تأسيس السلطة ثم انقسامها إلى سلطتين حاكمتين في الضفة وغزة، عملتا على بناء نظام اجتماعي بمواصفات بعيدة عن حقوق الناس والأفراد وحرياتهم، وعن حكم القانون، اعتماداً على أجهزة قضائية رسمية غير مستقلة في الضفة، وأجهزة غير رسمية ممثلة في زعماء العشائر والعائلات ولجان الإصلاح ورابطة علماء فلسطين في غزة.

لقد أصبح النظام الاجتماعي في غزة قائماً على الشريعة، وفق مرجعية المدرسة الفكرية المحافظة للإخوان المسلمين. أمّا في الضفة فإن النظام الاجتماعي قائم على جهاز قضائي غير مستقل، بالشراكة مع العشائر، والمرجعية هنا هي المدرسة الدينية المحافظة من خارج الإخوان المسلمين. وكلاهما – بتفاوت - لا يدفعان الأمور نحو دولة مدنية وديمقراطية.

في دورتَي الانتخابات السابقة والأخيرة، ازدادت مظاهر العشائرية والعائلية داخل المجتمع الفلسطيني، وهذا تطور طبيعي كون السلطة الفلسطينية دعمت تأسيس ديوان العشائر في بداية عهدها، ثم جاء قانون الانتخابات الأول (نظام الدوائر) لمصلحة العشائر التي استحوذت على نسبة كبيرة من المجالس البلدية والمحلية، وأصبح تأثير العائلات والعشائر أقوى من تأثير الأحزاب السياسية، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى التحالف مع العشائر وتقديم التنازلات لها على حساب حكم القانون.

ويَظهر تغلغل العشائرية في الحياة العامة، من خلال استطلاع رأي أجراه "معهد العالم العربي للبحوث والتنمية" ("أوراد") في 24 آب / أغسطس، وبيّن فيه أن 37% من المستطلعين يرون أن انتماء المرشحين إلى العائلة هو العامل المؤثر في اختيارهم، وأن 37% رجحوا أن يختاروا مرشحين ينتمون إلى الأحزاب السياسية، وقال 13% إن امتلاك القدرات المهنية هو الأهم بالنسبة إليهم.[7]

ويرتبط صعود العشائر، في كثير من البلدات والقرى، بانكفاء الأحزاب والمؤسسات، وتراجع الدولة وضعف التزامها بالقانون أو عدمه، وهشاشة مؤسساتها، وعدم ثقة المواطنين بها، وبقدراتها على تأمين حاجاتهم، وبإمكان دفاعها عن حقوقهم وأمنهم الوطني والاجتماعي. وقد أدى تقاعس السلطة وضعفها، وضعف تأثير الأحزاب، إلى لجوء الناس إلى البديل الذي كان العائلة والعشيرة ودواوينها وروابطها، فتراجع الاهتمام بالشأن العام، ذلك بأن مرشح العشيرة والعائلة يعنيه فقط حاجة عشيرته وعائلته ومطالبهما، وهو غير معنيّ بالشأن العام ولا يكترث بالمصلحة المشتركة وحق المواطنة الفردي والجمعي، ولا يقيم وزناً لسلطة القانون والقضاء المدني والعدالة وحقوق الإنسان والدولة.

إن الخيار العشائري واحتلال ممثليه مراكز عامة، وانتشار الثأر والتعصب والانغلاق، أمور تقود إلى العودة إلى علاقات ما قبل مدنية وما قبل الحداثة، والأخطر من ذلك أن خيار العشائرية يستبدل الهوية الوطنية الجامعة بهويات فرعية تهدد الوحدة المجتمعية والوحدة الوطنية. ولهذه الأسباب، فإن دولة الاحتلال تغذي العودة إلى العائلات والحمائل في سياق سياستها الهادفة إلى تفكيك بنية المجتمع وكبح تطوره.

صحيح أنه لا بديل من الانتخابات، لكن السؤال هو إلى أي انتخابات، وأي نظام اجتماعي تخدمه الانتخابات؟ في الوقت الحاضر، يتشكل نظام اجتماعي سياسي يعبّر عن مصالح القوى المحافظة والرجعية، وتسود فيه معارك صراع على النفوذ تَكبح جميع المنجزات السابقة، كمعركة إسقاط مشروع الضمان الاجتماعي، والتي خاضها تحالف العائلات والقطاع الخاص وفاز فيها. أمّا الصراع بين عائلتَي الجعبري وعواودي في الخليل، فتسبب بالأذى للمدينة، وأضعف السلطة والقانون والنظام والحق العام الذي نُحّي جانباً. كذلك المعركة المفتوحة ضد حقوق النساء تحت عنوان إسقاط اتفاقية "سيداو"، والتي شاركت فيها العشائر والقوى الظلامية، وركبت موجتها شرائح وفئات عابرة للتنظيمات السياسية.

الأخطر الآن، أن حرباً على الثقافة تُشن في رام الله بعد الخليل ونابلس وغزة؛ حرب طالت أكبر المراكز الثقافية: القطان، ومراكز عشتار، ومركز المستودع، وذلك باستخدام أسباب مفتعلة وشكلية تحت عنوان تهديد قيم المجتمع. ومؤخراً تعرّض نشاط ثقافي لمؤسسة تامر تناول "نشأة الكون" لهجوم يمسّ حرية التعبير.

ويلاحظ في هذا الشأن، أن المجالس البلدية المنتخبة لا تدافع عن المؤسسات المسؤولة عنها إدارياً، بل إنها تتجاهل خنق حرية التعبير، بسبب غياب البرامج التي تعبّر عن دور المجالس في حقل الحريات العامة والفردية التي تتعرض للهجوم، وهو أهم حقل في بناء مجتمع ديمقراطي مزدهر.

أمّا موقف السلطة فكان متماهياً مع الهجوم على الثقافة، ومفرطاً في الدفاع عن الحق العام، بل إن السلطة تخلّت بذلك عن دورها الافتراضي في الدفاع عن مواطنيها الذين يتعرضون لإرهاب فكري وقمع مجموعات تشبه "لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التي تعمل في رام الله والقدس ونابلس وغزة والخليل تحت سمع أجهزة السلطة وبصرها. ولا يمكن فصل تماهي السلطة مع قمع المجموعات، عن تقييدها لحرية الرأي والتعبير، وانتهاكاتها المتزايدة للحقّ في التعبير، بحيث يصبح المواطن أمام قمع تمارسه السلطة، وقمع بالإنابة تمارسه العشائر والعائلات. ولا يمكن فصل انتهاك العدالة عن تراجع القضاء وخضوعه للسلطة السياسية، والاستعاضة عنه بالقضاء العشائري.

ربما تكون الانتخابات خطوة إلى الأمام، وقد تكون خطوات إلى الوراء، لكن ما يهم هو المضمون الذي تتمخض عنه الانتخابات، والذي يمر عبر برامج ومهمات ومفاهيم وأفكار وقيم تدعم نظاماً اجتماعياً مدنياً ديمقراطياً. فعلى سبيل المثال، أحدثت انتخابات نقابة المحامين في الضفة الغربية والمعركة القانونية التي خاضتها بعد فوزها، نقلة مهمة في طريق الدفاع عن العدالة، وذلك حين نجح إضرابها في وقف العمل في المحاكم، وقاد إلى تراجع السلطة عن مراسيم القرارات بقوانين صادرة عن الرئيس محمود عباس. وفي مقابل ذلك لم يكن لانتخابات جامعة بيرزيت أي مضمون، وإنما اقتصرت على استبدال كتلة بأُخرى.

 

المصادر:

[1] علي الجرباوي، "دور البلديات في فلسطين - الدولة "، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 9 (شتاء 1992)، ص 36 – 84، في الرابط الإلكتروني.

[2] المصدر نفسه.

[3] "قانون الهيئات المحلية الفلسطينية (12 / 10 / 1997)"، "مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – وفا"، في الرابط الإلكتروني.

[4] "ورقة حقائق: مشاركة المرأة في المجالس المحلية في الضفة الغربية وقطاع غزة"، "المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية / مسارات"، في الرابط الإلكتروني.

[5] لمزيد عن أزمة الحكم المحلي، انظر ملف "بعد 20 عاماً على 'أوسلو': الحكم المحلي.. واقع وآفاق"، "الأيام" (رام الله)، 30 كانون الأول / ديسمبر 2013، في الرابط الإلكتروني.

[6] انظر: "تقرير لجنة الانتخابات المحلية 2021: المرحلتان الأولى والثانية"، "لجنة الانتخابات المركزية (رام الله)"، تموز / يوليو 2022، في الرابط الإلكتروني.

[7] عدنان أبو عامر، "العشائر تنافس الفصائل في الانتخابات المحلية الفلسطينية"، موقع "المونيتور"، 29 آب / أغسطس 2016، في الرابط الإلكتروني.

 

السيرة الشخصية: 

مهند عبد الحميد: صحافي فلسطيني.