حين يكتب الفدائي
النص الكامل: 

رسائل "لجنة المعرفة والحرية " (3)

في سيرة "التنين والصياد" التي تشكل متن أطروحة الماجستير التي تناقَش اليوم في جامعة بيرزيت، يكتب زكريا زبيدي كلاماً يقع تحت الكلام. اللغة لا تتسع لكل هذا النور الذي ينفجر كالماء من جوف التجربة، فيصير الفدائي ملح الأرض، ويرسم صورته بالكلمة التي كانت في البدء فعلاً. الكلمة – الفعل تعيدنا إلى أول اللغة، فحين يتكلم الفدائي، تصير اللغة جديدة ومشعّة، لأنها تجسد الفعل، وتتشكل به.

يعيدنا زكريا زبيدي إلى كلام الفدائيين. كلام التفاني والشجاعة والحلم، وإلى المعنى الأخلاقي الذي تجسده كلمة فدائي حين تستعيد معناها. هكذا تعرفت إليه من خلال صديقنا المشترك جوليانو مير خميس. فبعد لقائي القصير بزكريا في فيلم "أولاد أرنا"، اتخذت علاقتنا شكل حوارات هاتفية متقطعة، لكنها في كل مرة كانت تعيدنا إلى مخيم جنين الذي صار مسرحاً للحرية والبطولة والموت.

لم أكن أدري حينها، بأن زكريا ورفاقه يخبئون في أضلعهم ووجدانهم، قلقاً ثقافياً، ورغبة في تحويل تجربتهم إلى رؤية فكرية. هذا ما قام به جمال حويل في كتابه / أطروحته: "معركة مخيم جنين الكبرى 2002، التاريخ الحي"، وهذا ما يقوم به اليوم زكريا زبيدي الذي حفر نفقاً تحت الكلمات، قبل أن يحفر مع رفاقه نفق الحرية في سجن جلبوع.

يكتب زكريا تجربته كمطارَد ومقاوم وفدائي، فيعيد لكلمة فدائي معناها. الفدائي يحوّل تجربته النضالية إلى فعل ثقافي، تماماً كما فعل باسل الأعرج الذي حوّل موقعه كمثقف إلى فعل نضالي.

منذ متى؟ منذ عبد الرحيم محمود وغسان كنفاني وكمال ناصر ومحمود الهمشري ووائل زعيتر وعز الدين قلق وماجد أبو شرار، اكتشف المثقفون أن طريق ثقافة الحرية تقود إلى الممارسة النضالية، وبذا أزالوا الفرق بين صورة المثقف وصورة الفدائي، حين قادتهم الكلمات إلى موتهم المُحيي.

لا أدري من أين أتى زكريا بهذه الإرادة والمثابرة كي ينجز أطروحته في السجن، لكن ما صرت أعرفه هو أن الحركة الأسيرة تخبّئ في عتمة السجن والأسر تجربة نضالية وثقافية هي الأكثر نقاء وثباتاً وإبداعاً. فمن بين صفوف الأسرى تولد قيادات جديدة للمقاومة، وتتشكل أوجه جديدة للثقافة الفلسطينية.

وأنا لا أستطيع أن أفي أساتذته بكلام يعبّر عن مدى تقديري وإعجابي بعملهم في ظرف مستحيل.

هذه الأطروحة الناقصة، التي تغيب عنها بسبب ظروف القمع تجربة نفق الحرية في جلبوع، أخذتني إلى المعنى العميق للثقافة، وإلى الدور الريادي الذي تستطيع الجامعات الفلسطينية التي تعيش تحت وطأة احتلال وحشي أن تلعبه، بصفتها جسراً للتواصل بين العمل الأكاديمي والرؤية الخلاقة والمبدعة التي تصنعها المقاومة.

بعد تجربة أدب المقاومة التي رسمت آفاق الوعي الجديد، وبعد رياح التغيير في الفنون التشكيلية والمسرح والسينما، تولد اليوم أكاديميا مقاومة تؤسس لفعل فكري وثقافي وبحثي جديد.

من هنا، من بيروت المحاصرة بالدمار الروحي والأخلاقي، نكتشف في هذه الأطروحة - السيرة بأن الحياة تتجدد بمَن يقاومون دفاعاً عن الحياة.

تحية إلى زكريا زبيدي، وإلى زملائه القدامى - الجدد في هذا الصرح الأكاديمي الكبير.

 

زكريا زبيدي مع عائلته أمام منزلهم الذي دمره الاحتلال في سنة ١٩٨٩