منذ بداية شهر تموز/يوليو 2022، تخوض نقابة المحامين حراكاً متواصلاً، يرقى إلى مستوى معركة نضالية نقابية دفاعاً عن مبادئ العدالة، ورفضاً لإنفاذ القرارات بقانون، التي عدّلت قانون الإجراءات الجزائية وقانون أصول المحاكمات المدنية وقانون التنفيذ.
حراك نقابة المحامين واكبه شبه توقُّف في عمل المحاكم، ما عدا بعض الحالات والقضايا ذات الطبيعة الاستثنائية، والتي حرصت النقابة على عدم المسّ بها. مع العلم بأن المحاكم تعاني أصلا جرّاء ضعف واكتظاظ وبطء في العمل. وما لم تستجب السلطة لمطالب الدفاع عن العدالة، فإن العمل بالقانون مهدد بالشلل.
وبالعودة إلى جذور الازمة، نجد أن ما فجّر الموقف هو صدور "القرارات بقانون "التي عدّلت القوانين الإجرائية الرئيسية المشار إليها أعلاه، وهذه القوانين تمثل الإطار الناظم للعمل القضائي بصورته الشاملة، وهي ترسم حدود التقاضي، وتشكل في حالتها العادية ضمانة للمحاكمات العادلة، والعدالة الناجزة، وكانت القوانين الأصلية التي تم تعديلها بموجب "القرارات بقانون" أُقرت وصدرت عن المجلس التشريعي المنتخب، والتي استغرق إقرارها وقتاً طويلاً بلغ أعواماً، وبمشاركة خبراء في القوانين ذات العلاقة، وبعد مرورها بقراءات متعددة في المجلس التشريعي.
صدور "القرارات بقانون" المعدلة أفرغت تلك القوانين من مضمونها، ومثلت في الوقت ذاته انتهاكاً لضمانات حقوق الإنسان في ممارسة الحق في التقاضي واللجوء إلى القاضي الطبيعي والعادي، أما التعديلات التي عدّلت قانون الإجراءات الجزائية، فقد انتهكت مبادئ راسخة، كقرينة البراءة والحق في الدفاع والحق في المثول الفعلي والحقيقي أمام قاضي التوقيف، وخلافها من الضمانات.
فعلى سبيل المثال، أُلغيَ مبدأ علنية التقاضي أمام محكمة الاستئناف في القضايا الجنائية، والتي أصبحت تنظر في تدقيق من قاضيين اثنين، وليس ثلاثة قضاة، وبصورة علنية، وهو ما يعني عدم حضور المتهم أو محامي الدفاع لدى محكمة الاستئناف في القضايا التي تصدر أحكامها عن محاكم الصلح، والتي قد تصل العقوبة فيها إلى ثلاثة أعوام حبس. وأصبح عبء إحضار شهود الدفاع يقع على المتهم! ومن المعروف أن الشهود، في أغلبيتهم، هم من أفراد الضابطة العدلية، والتي لا يستطيع المتهم إحضارهم، لأنه لا يملك القوة أو السلطة التنفيذية لإحضارهم، فاذا لم يحضر الشهود، فإنه يُعتبر عاجزاً عن تقديم بيّنته.
كما أن إلغاء حضور المتهم أمام قاضي التوقيف يعني حجب وإخفاء أي تعذيب يكون قد تعرّض له هذا الأخير في مراكز التوقيف والتحقيق، لأن الحضور الفعلي والجسدي للمتهم كان يجب أن يترافق مع فحص ظاهر وتوثيق لمسألة تعرُّض المتهم لأي نوع من أنواع التعذيب، أو المعاملة القاسية، أو الحاطة من كرامته؛ فالتعديلات، كما يبدو، جاءت لإخفاء مسائل تتعلق بتعذيب الموقوفين، وخصوصاً مَن يتم نقلهم ما بين المحافظات إلى اللجنة الأمنية السيئة الصيت في أريحا.
كما أن بقية التعديلات تعرضت لمسائل تتعلق بإنكار التوقيع في الأوراق التجارية، وهي التي يتوجب أن تحظى بحصانة، وبحجية بالغة لتسيير الأعمال التجارية، لكن الأخطر في كل تلك التعديلات كان التعديل الذي جاء في مسألة رسوم المحاكم ومضاعفتها عشرات المرات في بعض القضايا، والتي تحول دون وصول المواطن الفلسطيني البسيط إلى مرفق العدالة والقضاء، وبحيث يصبح القضاء في الدعاوى التنفيذية والمدنية حكراً على شريحة من الشعب الفلسطيني مقتدرة مالياً ومادياً، وفي الأصل، فإن هذه الشريحة لا تحتاج إلى القضاء لكي تحلّ قضاياها ومشاكلها، بل لديها إمكانات نفوذ لدى أجهزة السلطة تغنيها عن اللجوء إلى القضاء العادي، لكن المواطن البسيط هو مَن يلجأ عادة إلى المحاكم لتحصيل حقوقه، وبعد هذه التعديلات تصبح تكلفة اللجوء إلى المحاكم مكلفة بطريقة باهضة وأغلى أصلاً من الحق الذي يريد الوصول إليه وتحقيقه.
أمام كل هذه التعديلات التي أشرت إلى بعضها، وبعد أن كانت نقابة المحامين منفتحة منذ البداية على الحوار ومبدأ المشاركة، لأنها عضو مكوِّن ورئيسي في بناء العدل وتحقيق العدالة، فقد شاركت النقابة في بعض المشاورات مع بقية أطراف قطاع العدالة، والتي أدت أولاً، ومنذ صدور تلك القرارات بقانون، إلى وقف تنفيذها موقتاً إلى حين استكمال المشاورات، إلا إن النقابة، وبعد وقف تنفيذ تلك القرارات بقانون لغاية الأول من شهر تموز/يوليو، لم تجد أي رد أو تجاوب على الاقتراحات التي تقدمت بها لتعديل النصوص المعيبة التي جاءت في تلك القرارات، وقد تمخضت الاجتماعات الأخيرة للمجلس التنسيقي لقطاع العدالة، الذي شُكّل في وقت سابق من طرف رئيس السلطة الفلسطينية، إلى تجاهُل مطالبات نقابة المحامين واقتراحاتهم إجراء التعديلات على القرارات بقانون، وكانت نقابة المحامين شكلت لجاناً خاصة من المحامين المختصين والخبراء، من أجل تقديم تلك التعديلات وإجرائها، بحيث تضمن الحد الأدنى من التوافق الذي من الممكن أن يُيسّر العمل ويدفع بالعدالة إلى الاتجاه الصحيح، إلا إن فشل اجتماعات المجلس كان بفعل تعنُّت الجهات الممثلة الأُخرى فيه وعدم تقبّلها، بل نفيها فكرة وجود الآخر، أي نقابة المحامين التي أصبحت في لحظة معينة تمثل هموم الشارع وحلم المواطن الفلسطيني العادي في تحقيق سير عادل ومنصف لإجراءات التقاضي واللجوء إلى المحاكم.
لقد ظهرت نقابة المحامين كمدافع أساسي عن حقوق الإنسان الفلسطيني وكرامته، كما أظهرت النقابة في معركتها هذه أنها، وبحق، تدافع عن حقوق المواطنين، وعن حمايتهم من تعسّف السلطة وما تتخذه من إجراءات تتمثل في قرارات بقانون تمس بالدرجة الأولى المواطن الفلسطيني، وليس بالضرورة تمس المحامي كطرف من أطراف العدالة، وهذا ما أعطى حراك نقابة المحامين بُعداً وتأييداً شعبياً لافتاً، إذ أصبحت معركة الدفاع عن العدالة محط اهتمام الشارع الفلسطيني، فقد وقفت أغلبية النقابات المهنية إلى جانب نقابة المحامين، وعقدت المؤتمرات لحشد التأييد والدعم للمحامين، وشارك بعض النقابات، فعلاً، في المسيرات والاعتصامات التي تنظمها النقابة أسبوعياً في المحاكم المختلفة، وفي كافة محافظات الضفة.
يلاحَظ البعد الشعبي الذي ينبىء بتحرك أوسع، ليس من بقية النقابات فحسب، بل من الاتحادات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، كما أن هذه المعركة بدأت تتخذ بعداً دولياً لافتاً في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وضمانات المحاكمة العادلة، وتكفي الإشارة إلى أن توصيات لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة، والتي صدرت قبل أيام، تطرقت إلى القرارات بقانون، مشيرةً إلى مدى ما أصاب هذه التعديلات من خلل يتعلق بمخالفة صارخة للاتفاقيات الدولية التي كانت دولة فلسطين وقّعتها من دون تحفُّظ، والتي تخص ضمانات المحاكمة العادلة وتجريم التعذيب والإساءة إلى حق الانسان وكرامته.
وأخيراً، إن كل هذا الحراك، بكل عناصره، لم يلقَ حتى تاريخه أي تجاوب أو أي ردة فعل من أصحاب التعديلات الذين حملوها وهم لا يعلمون بأن في إجراء هذه التعديلات مسّاً باسم فلسطين، وبالنضال الذي خاضه ويخوضه هذا الشعب لتحقيق أبسط معنى للعدالة التي فقدها على يد سلطات الاحتلال بالأمس، ويفقدها أيضاً من خلالهم اليوم.