يؤكد الخطاب المتلفز الأول الذي وجهه يائير لبيد إلى الجمهور الإسرائيلي مساء يوم السبت في 2 تموز/يوليو الجاري، بعد أن تسلّم مهام منصبه بصفته رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد، ظاهرة راحت تترسخ في المجتمع الإسرائيلي منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهي ظاهرة توجّه هذا المجتمع أكثر فأكثر نحو مواقف اليمين القومي والديني المتطرف، بحيث باتت الطبقة السياسية الإسرائيلية بمجملها أسيرة هذه المواقف، وامّحت الحدود تقريباً بين تشكيلاتها التي كانت تصنّف سابقاً ضمن "اليمين" و "الوسط" و "اليسار"، وصارت الاختلافات بين برامج الحكومات المتعاقبة تقتصر على السياسات الداخلية، وخصوصاً على العلاقة بين الدين والدولة، وبناء الميزانية العامة، وتوزيع الدخل وسبل مكافحة الفساد، بينما تشكّل ما يشبّه الإجماع القومي حول الطبيعة اليهودية للدولة، وهو ما عبّر عنه التأييد الكبير في الكنيست لقانون القومية المقر في تموز/يوليو 2018، وحول استمرار الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية المحتلة، والحفاظ على وحدة القدس بصفتها "العاصمة الأبدية" لإسرائيل، وعدم الإنسحاب إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، والحوؤل دون قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، وحول "التهديدات" الخارجية التي يُزعم أن إسرائيل تواجهها.
وكان يائير لبيد، زعيم حزب "يش عتيد" (هناك مستقبل)، قد وصل إلى رئاسة الحكومة، بموجب اتفاق تقاسم السلطة مع رئيس الوزراء السابق نفتالي بينت، بعد أن تعثرت الحكومة الإسرائيلية الإئتلافية الموسعة، التي تشكّلت في حزيران/يونيو 2021 في قضية تجديد قانون المستوطنين الذي يسمح بتطبيق القوانين الإسرائيلية على أكثر من 500 ألف مستوطن إسرائيلي يعيشون في الضفة الغربية باستثناء مدينة القدس الشرقية المحتلة، والذي بات تطبيقه تلقائياً بعد حل الكنيست والدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية جديدة حُدد موعدها في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. وهكذا، فإن يائير لبيد، الذي "أفسح المجال كثيراً لغيره، وضحى بأناه، وصل أخيراً إلى هدفه" في ترؤس الحكومة الإسرائيلية، ولكن من دون أن يكون لديه "أي سبب للاحتفال بالنصر"، ذلك إنه سيشغل هذا المنصب خلال مرحلة انتقالية لن تتجاوز الأربعة أشهر[1].
من هو يائير لببيد؟
ولد يائير لبيد في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 1963، ونشأ في حي "ياد الياهو" في مدينة أبيب. كان والده، تومي من أبرز الصحفيين في إسرائيل، واشتهر بلسانه اللاذع ومواقفه العلمانية الصارخة، وأصبح وزيراً للعدل وتوفي في سنة 2008. أما والدته، شولاميت، فهي روائية وكاتبة مسرحية مشهورة.
ترك يائير لبيد المدرسة الثانوية قبل أن ينهي دراسته وشرع في مسيرة مهنية ناجحة في مجال الصحافة، إذ كتب مقالاته الأولى لصحيفة "معاريف" اليومية، وراح صيته يذيع بين الناس من خلال العامود الأسبوعي الذي صار يكتبه لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، وأّلف، في الوقت نفسه، روايات ومسرحيات ومسلسلات تلفزيونية وبعض الأغاني، كما قام بأدوار تمثيلية صغيرة. بيد أن أكثر ما جعله معروفاً بين الإسرائيليين هو البرنامج التلفزيوني الحواري الذي صار يقدمه في القناة الثانية، والذي أصبح الأكثر مشاهدة في إسرائيل. أما ما يؤخذ عليه في الأوساط السياسية فهو ضعف خبرته العسكرية، ذلك إنه أدّى خدمته العسكرية كصحفي في مجلة الجيش الإسرائيلي.
وعلى الصعيد السياسي، عُرف يائير لبيد بمواقفه القومية الليبرالية والعلمانية، واستغل، في سنة 2012، الاحتجاجات المطالبة بالعدالة الاجتماعية التي هزت إسرائيل، كي يترك عمله التلفزيوني وينخرط في الحياة السياسية من خلال تأسيس حزب "يش عتيد"، الذي طالب بإنهاء الاستثناءات العسكرية الممنوحة لطائفة الأرثوذكسيين المتشددين في إسرائيل، وخفض الإعانات الحكومية الكبيرة المقدمة لها، وتبنى مطالب الفئات الوسطى الداعية إلى تحقيق توازن في ميزانية الدولة ومحاربة الفساد المنتشر في صفوف النخب السياسية، واتخذ أنصاره عنوان أحد أعمدته في الصحافة: "أين المال؟"، كشعار لحملة حزبهم في انتخابات الكنيست في كانون الثاني/يناير 2013، والتي برز فيها حزب "يش عتيد" بصفته القوة السياسية الثانية خلف حزب "الليكود"، بعد أن حصل على 19 مقعداً من مقاعد الكنيست، واختار يائير لبيد الانضمام إلى "الليكود" في حكومة ائتلافية برئاسة بنيامين نتنياهو، شغل فيها منصب وزير المال.
بيد أن ائتلافه مع حزب "الليكود" لم يعمر طويلاً، إذ أقاله في أواخر سنة 2014 بنيامين نتنياهو من حكومته، لأنه رفض زيادة الإنفاق على المستوطنات في ظل تنفيذ تدابير التقشف التي اعتمدتها وزارته. وفي انتخابات الكنيست، التي جرت في آذار/مارس 2015، تراجع عدد نواب حزب "يش عتيد" إلى 11 نائباً فقط، ثم تحالف يائير لبيد في انتخابات الكنيست الثلاث اللاحقة مع الحزب الذي شكّله بني غانتس باسم "حصن لإسرائيل" في ائتلاف انتخابي حمل اسم "كاحول لافان" (أزرق أبيض)، وصُنّف في موقع "يمين الوسط"، وحصل فيها على 35 و 33 و 33 مقعداً على التوالي، وذلك قبل أن يفك تحالفه مع بني غانتس، الذي اشترك في حكومة بنيامين نتنياهو، ويخوض حزبه الانتخابات التي جرت في آذار/مارس 2021 بصورة مستقلة ويحصل فيها على 17 مقعداً، بينما لم يحصل "كاحول لافان" الذي حافظ عليه بني غانتس سوى على 8 مقاعد، وهو ما جعل يائير لبيد في موقع قوة ليشغل في الحكومة التي ترأسها نفتالي بينت، وأنهت 12 عاماً من حكم بنيامين نتنياهو المتواصل، موقع رئيس الوزراء المناوب ووزير الخارجية[2].
النهج نفسه بتغليف أكثر ليبرالية
يسلط خطاب يائير لبيد المتلفز الأول الموجّه إلى الجمهور الإسرائيلي الضوء على النهج الذي ستعتمده حكومته، ويزكّى الظاهرة المشار إليها سابقاً وهي امّحاء الحدود بين تشكيلات إسرائيل السياسية التي كانت تصنّف في "اليمين" و "الوسط" و "اليسار".
فهو أشاد في بداية خطابه بـ "الإنجازات الاقتصادية والأمنية غير المسبوقة" التي تحققت في عهد سلفه نفتالي بينت، زعيم حزب "يمينا" القومي الديني، وشكره لأنه سمح لمواطني إسرائيل "بأن يكونوا شهوداً على عملية انتقال منظم للسلطة بين أناس محترمين ويثقون ببعضهم بعضاً"، وذلك في نكزة لبنيامين نتنياهو، الذي خرق اتفاق نقل السلطة لسنة 2020 مع بني غانتس ولم يحترمه، ثم دعا "إلى الوحدة والنقاش العام المحترم" قبل الانتخابات الخامسة التي ستشهدها إسرائيل في أقل من ثلاث سنوات ونصف السنة، مضيفاً أن دولة إسرائيل "أكبر منا جميعاً وأهم من أي واحد منا، فهي وجدت قبلنا وستستمر في الوجود بعدنا"، الأمر الذي يحتم علينا "أن نعطي الأولوية للصالح العام، وإلى كل ما يوحدنا، وأن نعرف كيف ندير خلافاتنا التي لن تختفي"، ورأى أن المجال السياسي بات "متطرفاً وعنيفاً وخبيثاً بصورة متزايدة، وهو يجر المجتمع الإسرائيلي كله في أعقابه، ولا بد من وضع حد لذلك، وهذا هذا هو التحدي الذي نواجهه"، وذلك في تلميح إلى أساليب زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، الذي شن حملة شرسة ضد الحكومة الائتلافية الموسعة، التي ضمت حزباً عربياً إسلامياً، وأطاحت به من السلطة قبل عام.
وحدد يائير لبيد الهدف المشترك لجميع الإسرائيليين في "وجود "إسرائيل يهودية وديمقراطية وليبرالية وعظيمة وقوية وحديثة ومزدهرة"، وأضاف، في معرض التأكيد على ظاهرة الإجماع القومي: "تفيد الحقيقة الإسرائيلية الراسخة بأننا نؤمن بالأمور نفسها فيما يتعلق بمعظم القضايا المهمة؛ نؤمن بأن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وبأن إقامتها لم تبدأ في سنة 1948 بل تعود ليوم عبور نهر الأردن من قبل يهوشع بن نون وما قام به من ربط الشعب اليهودي ببلاده والقوم اليهودي بالوطن الإسرائيلي إلى أبد الأبدين"، كما نؤمن بأن إسرائيل "هي دولة يهودية بشخصيتها وهويتها وحتى في علاقاتها مع غير اليهود الذين يعيشون بيننا!"، متجنباً ذكر العرب الفلسطينيين من مواطني إسرائيل، ومحاولاً طمأنة الناخبين المتدينين والأرثوذكسيين الذين كان يعارضهم بشدة، والذين يخشون وجود "علماني" على رأس الدولة.
وتابع يائير لبيد قائلاً: "ونؤمن بأن إسرائيل لا بد لها من أن تكون دولة ديمقراطية وليبرالية، تضمن لكل مواطن الحق في استبدال الحكم وتقرير مسار حياته، ولا يجوز لأحد أن يحرمه من حقوقه الأساسية أي من كرامته وحريته وحرية اختيار عمله، وحقه في التمتع بالأمان الشخصي". كما أن الاقتصاد الإسرائيلي "يجب أن يقوم على مبادئ اقتصاد السوق والإبداع والديناميية التكنولوجية، وأن دورنا هو أيضاً حماية أولئك الذين لا يملكون شيئاً، وتوفير فرصة متكافئة لجميع الأطفال أينما كانوا".
ثم انتقل يائير لبيد إلى عرض مواقفه إزاء علاقات إسرائيل بمحيطها وطبيعة "التهديدات" التي تواجهها، فأكد، في البدء، ضرورة "الحفاظ دائماً على قوتنا العسكرية، إذ من دونها لا يوجد هناك أمن"، مضيفاً: "إننا سنحمي أنفسنا بأنفسنا، وسنتأكد دائماً من امتلاكنا جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي هو عبارة عن جيش عظمته لا جدال فيها ويخاف أعداؤنا منه".
وبينما كان في السنوات السابقة يؤكد تأييده "حل الدولتين" ودعوته إلى التفاوض السياسي مع الفلسطينيين، تجنب يائير لبيد، في خطابه المتلفز، الحديث عن ذلك، واكتفى بالقول إنه "ما دام أمنها مضموناً، فإن إسرائيل دولة تريد السلام، وتتواصل مع جميع الناس في الشرق الأوسط، بمن فيهم الفلسطينيون، وتقول لهم: لقد حان الوقت لكي تدركوا أننا لن نغادر هذا المكان، لذلك دعونا نتعلم كيف نعيش معاً".
وفي إشارة إلى اتفاقيات التطبيع التي وقعتها حكومة بنيامين نتنياهو مع عدد من الدول العربية واحتمال إبرام اتفاقيات مماثلة، أكد يائير لبيد "أن أعظم نعمة انطوت عليها اتفاقيات أبراهام هي هذه الدينامية الأمنية والاقتصادية التي نشأت خلال قمة النقب" التي عقدت في آذار/مارس 2022 بمبادرة منه بصفته وزير خارجية إسرائيل، وبمشاركة وزراء خارجية الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، ومصر، والمغرب والولايات المتحدة، آملاً بأن "تنطوي اتفاقيات التطبيع المستقبلية على النعمة نفسها".
وبعد أن أشاد يائير لبيد بالولايات المتحدة الأميركية بصفتها "أعظم صديق وحليف لنا"، ودعا المجتمع الدولي للتجند في "مكافحة معاداة السامية ومساعي نزع الشرعية عن إسرائيل"، اعتبر أن إيران تمثّل "التهديد الرئيسي" لإسرائيل وتعهد "ببذل كل ما في وسعنا لمنع إيران من امتلاك القدرة النووية أو التموضع على حدودنا"، وأضاف: "أقول لكل من يتمنى القضاء علينا، من غزة إلى طهران، ومن سواحل لبنان إلى سورية، لا تحاولوا اختبارنا؛ فإسرائيل تعرف جيداً كيف تستخدم قوتها ضد كل التهديدات وضد كل أعدائها"[3].
شرعية أكثر من بينت لكن نشوة النصر قد تكون عابرة
أصبح يائير لبيد أول رئيس حكومة إسرائيلي يتولى منصبه بعد حل الكنيست، وهو سيكون، بالتالي، على رأس حكومة انتقالية غير قادر، من دون أغلبية برلمانية، على تمرير أي قوانين مهمة، ولا على إقالة أو تعيين أي وزير، الأمر الذي سيحد من هامش المناورة لديه. ومع ذلك، فهو يملك، كما يقدّر العديد من المحللين، شرعية ديمقراطية أكثر من نفتالي بينت، ذلك إنه رئيس الحزب السياسي الثاني في إسرائيل الموحد خلف قيادته، والذي يمثله 17 نائباً في الكنيست، كما إن تنازله عن قيادة ائتلاف "أزرق أبيض" لصالح بني غانتس في سنة 2020، ثم تنازله عن منصب رئيس الوزراء لنفتالي بينت سنة 2021، زادا من مكانته السياسية وسط الشارع الإسرائيلي.
في غضون أيام قليلة، سيرحب يائير لبيد بالرئيس الأميركي جو بايدن في مطار بن غوريون، وسيخبره بأن الاتفاق الدولي بشأن برنامج إيران النووي، الذي تحاول واشنطن إنعاشه، "لن يكون في مصلحة إسرائيل"، وسيأمل بأن يؤكد جو بايدن له عزم بلاده على تعزيز أمن إسرائيل وتوسيع عملية التطبيع العربي معها، ثم سيتعين عليه متابعة العديد من القضايا الاقتصادية والأمنية المهمة، كقضية ارتفاع تكاليف المعيشة، وقضية "الأسرى والجنود المفقودين" في قطاع غزة، وقيادة الحملة التي لا تتوقف "ضد إيران وحماس وحزب الله"، وكذلك البدء في تعبئة قواته استعداداً لخوض معركة الانتخابات التشريعية الحامية في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر القادم. وستدور هذه المعركة الانتخابية، كسابقاتها، بين الأحزاب المؤيدة لبنيامين نتنياهو والمعارضة له؛ وبينما فاز نتنياهو وحلفاؤه (الليكود، والصهيونية الدينية، وشاس، ويهدوت هتوراه) بـ 52 مقعداً في انتخابات آذار/مارس 2021، والتي نتج عنها تحالف بينت-لبيد، تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن الكتلة التي يقودها نتنياهو يمكن أن تصل في الانتخابات القادمة إلى 58-60 نائباً في الكنيست الذي يضم 120 عضواً، أي يمكن أن تشارف حدود الأغلبية. وليس من المستبعد، بعد أن أعلن نفتالي بينت انسحابه من قيادة حزبه "يمينا" وعدم ترشحه للانتخابات القادمة، أن تقدم زعيمة حزب "يمينا" الجديدة، أييليت شاكيد، على العودة إلى التحالف مع حزب "الليكود" والمشاركة في الائئلاف الانتخابي الذي سيتزعمه بنيامين نتنياهو، وخصوصاً أن هناك احتمالاً بأن لا يتجاوز حزب "يمينا"، الذي شهد انشقاقات عديدة، نسبة الحسم في حال عدم مشاركته ضمن ائتلاف انتخابي قوي[4].أما إذا لم يتمكن الائتلاف الانتخابي الذي سيضم الأحزاب الموالية لبنيامين نتيناهو، والائتلاف الذي سيضم الأحزاب المعارضة له، من بلوغ الأغلبية البرلمانية، فإن إسرائيل ستواجه حينها، مرة أخرى، أزمة سياسية لا يعرف أحد من الآن كيف ستتجاوزها.ومهما يكن، من المرجح أن تكون نشوة النصر التي شعر بها يائير لبيد، الملقّب بجورج كلوني الإسرائيلي، بعد تحقيق حلمه بالوصول إلى رئاسة حكومة إسرائيل، نشوة عابرة لم تدم طويلاً.
[1] https://www.lemonde.fr/international/article/2022/06/30/en-israel-yair-lapid-premier-ministre-en-campagne_6132708_3210.html
[2] https://lejv2.info/2022/07/01/qui-est-yair-lapid-le-nouveau-premier-ministre-israelien/ ;
[3] https://fr.timesofisrael.com/dans-son-1er-discours-lapid-appelle-a-lunite-contre-la-violence-et-la-malveillance;
https://www.hona.co.il/article/47992
[4] https://www.i24news.tv/fr/actu/israel/politique/1656862689-analyse-yair-lapid-plus-de-legitimite-que-naftali-bennett-mais-moins-de-marge-de-manoeuvre;