مخيم جنين: البطل الفردي والأسطورة والفصائل و"قواعد الاشتباك"
النص الكامل: 

يتناقل جيل النكبة من لاجئي مخيم جنين ما جرى في الشتاء القاسي في سنة 1950، والذي غيّر موقعهم من مخيم جنزور الذي يبعد 6 كيلومترات جنوبي شرقي جنين، إلى مكانه الحالي الملاصق للمدينة، وتحديداً في محطة القطار العثمانية سابقاً، بعد أن بدّلت عاصفة شباط / فبراير الثلجية حالهم في مخيم يضم مهجرين من 59 مدينة وقرية مدمرة في أقضية جنين والناصرة وحيفا.

 

مدخل مخيم جنين حيث كُتب على لوحة "مخيم جنين: محطة انتظار لحين العودة"

 

يحتضن مخيم جنين "أنوية صلبة" غالباً ما كانت المقاومة تشتعل فيها على شكل هبّات شعبية سبقت انتفاضة 1987. والرقعة التي تمتد على 374 دونماً هي مساحة المخيم، وذلك بحسب المؤرخ الراحل مخلص محجوب الحاج حسن، صارت علامة فارقة لمقاومة المحتل، والتي كانت ذروتها معركة نيسان / أبريل البطولية في سنة 2002. ففي ذلك الشهر من تلك السنة، قام المخيم برسم "قواعد اشتباك" جديدة مع المحتلين انتقل صداها بعيداً، واحتلت عناوين الأخبار العالمية، وباتت الشغل الشاغل للباحثين والمحللين.

وهذا التحقيق يعالج بروز ظاهرة البطل الفردي، وغياب الفصائل، ويحاول معالجة مفهومَي البطولة والأسطورة، ويتتبّع ما وراء المشهد، ويقارن بين التحولات الطارئة على المخيم خلال عقدين، ويقدم تحليلات لحالة لا تتكرر كثيراً.

 

مشهد عام لمخيم جنين

 

عضو المجلس الثوري لـحركة "فتح"، وأحد المشاركين في معركة المخيم في سنة 2002، وأستاذ العلوم السياسية جمال حويل، أعدّ أطروحة ماجستير عن المعركة وضعت المخيم في سياقه الفلسطيني التاريخي والاجتماعي والعسكري والسياسي، وصدرت في هذه السنة (2022) في كتاب عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان "معركة مخيم جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي". وقد أجرت "مجلة الدراسات الفلسطينية" مقابلة معه، تتبّع خلالها الصورة والأسطورة في يوميات المعركة، وقدّم خلاصات وملاحظات نقدية عنها، مشيراً إلى أنه عالج الأحداث بموضوعية وواقعية، لأن الأسطرة تنحو منحى المبالغة والخرافة.

ويوضح أن الأسطرة جزء من الخرافات التي لا تتكرر، فما حدث ويحدث في مخيم جنين هو "بطولةٌ ومقاومة عناصرهما شبان يؤمنون بحقهم وبقدرتهم على توجيه ضربات مؤلمة إلى الاحتلال وتدفيعه الثمن. وهؤلاء الشبان تجمعهم وحدة وروابط نضالية، وهم محاطون بالتحام جماهيري في رقعة صغيرة، ولديهم الإعداد، حتى لو كان بسيطاً، لمواجهة الاحتلال."

ويبيّن حويل أن معركة 2002 ليست أسطورة، بل "بطولة قابلة للتكرار"، ومع أنها لم تحقق نصراً عسكرياً بالمعنى التقليدي، إلّا إنها "جولة مواجهة" حققت فوزاً على الاحتلال، وأعادت اصطفاف الشعب حول خيار المواجهة، وأثبتت القدرة على الصمود، وأوصلت رسالة إلى العالم فحواها أن قضية فلسطين في الصدارة، وأنها حطمت "أسطورة الجيش الذي لا يُقهر"، وذلك في جولة جرت على نصف كيلومتر مربع، بحضور رئيس حكومة الاحتلال أريئيل شارون، ووزير جيشه، ورئيس أركانه، وأوقعت خسائر كبيرة في صفوفه، على الرغم من استخدام قوات الاحتلال قوة غير متوافقة مع القانون الدولي، وطائرات إف 16، ومروحيات، وقناصة، ودبابات، وجرافات عملاقة للانتصار على مجموعة مقاومين.

يعود حويل إلى التاريخ اليهودي الذي يتفاخر بأسطورة "الماتسادا" التي انتصروا فيها على الرومان، وإلى احتفال الفرنسيين بمواجهة 400 جندي لعشرة آلاف ألماني، وكانت شرارة الثورة الفرنسية. ويرصد تحولات المخيم خلال 20 عاماً، فالقيادة السياسية التي كانت تجمع بين المقاومة والمفاوضات، والتي كانت حاضنة سياسية للمقاومة تغيرت، ووصلت بعد محادثات "كامب ديفيد" إلى قناعة بأن إسرائيل لن تقدم شيئاً، وإنما تبحث عن تنازلات في القدس واللاجئين، بينما القيادة الراهنة لا تؤمن بالمقاومة المسلحة، ولا توفر حاضنة أو دعماً للعمل العسكري.

ويشير إلى أن الانقسام الحاد الجغرافي والسياسي والنفسي والاجتماعي بين حركتَي "فتح" و"حماس" خلق ظروفاً صعبة، وأوجد عدم ثقة بين الطرفين بحيث بات كل طرف يخشى من صعود الطرف الآخر، وأضحت المقاومة في هذا السياق مسألة مختلفاً عليها. فقد تغيرت التنظيمات خلال عقدين من الزمن، وأصبحت تمتلك حسابات ليست سهلة، ولديها توازنات وتحالفات ومصالح تخشى عليها، ومرهونة بالخسائر والمكاسب التي يمكن أن تحصل عليها كما في غزة.

تغيرت "الحاضنة الاجتماعية للمقاومة"، مثلما يرى حويل، فقد كانت متماسكة في سنة 2002، لكنها باتت الآن مشتتة بعد الانسداد السياسي، والفساد المستشري، وغياب الوحدة الوطنية، والإحباط العام، والضغوط الإسرائيلية على القيادة والمجتمع لإعادة هندسة الجماهير الفلسطينية، وصوغ وعي جديد، وإيجاد "طبقة سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية" ترفض المقاومة المسلحة وتدينها، وتتعايش مع سياسات الاحتلال، من خلال سعيها للهدوء، على الرغم من زحف الاستيطان، وتهويد القدس، والجدار، والاعتقالات، وحصار غزة.

ويضيف حويل أنه في ظل الإحباط الراهن والظروف المعقدة المرافقة له، فإن مسلحين أفراداً باتوا يصوغون في مخيم جنين رسالة ترفض الاحتلال وتشدد على وجود أشكال المقاومة كلها. غير أن بعض الفصائل يسارع إلى إعلان العمليات ويتبنّاها للتغطية على فشله، مُظهراً للعيان الاختلاف بين الموقف الرسمي لحركة "فتح" من المقاومة، وبين مواقف أُطرها التنظيمية. ويتوقف حويل عند المتغيرات كالتطبيع العربي مع دولة الاحتلال، وإبرام الدول العربية معاهدات سلام من دون شروط، الأمر الذي ألقى بظلاله على فلسطين كافة.

واستناداً إلى حويل، فإن تجربة مخيم جنين مختلفة، فهي تعيش ظروف الوحدة والمواجهة والمقاومة وترفض التنكر لها، وتجابه مشاريع الاحتواء كلها، وحملات التشكيك في جدوى المقاومة المسلحة، وتقف سدّاً في وجه تهديد الوحدة المجتمعية الوطنية. وفي هذا السياق أوجدت المقاومة نوعاً من الردع، وأثبتت أن غياب الأفق السياسي لن يحقق "الأمن" لإسرائيل.

لا يسعى المخيم للصدام مع السلطة الفلسطينية التي تحاول أحياناً ترحيل أزمتها إليه من دون أن تستفيد في الوقت نفسه من فعل المقاومة، بل تصرّ على أن المفاوضات هي الحل الوحيد، كما أن حركة "حماس" لم تقدم رؤية مغايرة تتجاوز الخطاب الاستهلاكي. وفي مقابل ذلك تواجه المقاومة خططاً إسرائيلية محمومة للاستفراد بالمقاومة جغرافياً، وإنهاء العمل المقاوم الشامل، غير أن معركة الشيخ جرّاح وحّدت فلسطين في مقاومتها، وبرهنت فشل التسوية، بينما ظهرت غزة كـ "حالة ردع".

ويتابع حويل أنه قبل انتقاد نموذج المقاومة في جنين، يجب مراجعة إنجازات السلطة منذ تأسيسها: فقد تضاعف الاستيطان، واتّسع تهويد القدس، وأقيم الجدار، وحوصرت غزة، ويستمر اعتقال 5000 مناضل ومناضلة، وهذا كله في موازاة بعض "الإنجازات المحدودة" مثل لمّ شمل محدود للعائلات، وبعض "الرشاوى الاقتصادية" والتصاريح، وخلق طبقة اقتصادية تتساوق مع الاحتلال، بحيث نرى بعض رجال الأعمال يمتنع من المشاركة في بيوت عزاء الشهداء، حرصاً على امتيازاته.

يقول حويل إن نموذج جنين "يصدر إشارة دائمة ليس إلى الفلسطينيين فحسب، بل إلى العرب والمسلمين أيضاً، وهي رسالة تؤكد أن المقاومة هي البديل من تسوية لا تريدها إسرائيل، فقد حقق نموذج جنين نجاحات في سنة 2002، لكنها لم تُستثمر سياسياً مثلما يجب." ويلاحَظ الآن أن العمليات الفردية أربكت المنظومة السياسية الإسرائيلية، وأوصلت رسالة فحواها أن الفلسطيني قادر على إيذاء الاحتلال، وأن ما يسمى عملية "كسر الأمواج" الإسرائيلية التي تستهدف جنين يعني تطويق المقاومة، وعدم منحها القدرة على الانتشار إلى بقية المحافظات، وذلك خشية من النموذج المقاوم الذي أثبت قدرته على التأثير، الأمر الذي تُرجم بالضغوط الأميركية على حكومة بينت للسير في التسوية.

يتفهم حويل ردات أفعال أهالي الشهداء، فهناك العاديون غير المسيسين الذين ظهروا بعد فقدانهم أبناءهم بحالة إنسانية وحزن، وهناك الأسرى المحررون الذين ذاقوا مرارة السجان، وهناك الذين قدّموا رسالة دعم للمقاومة مع أنهم يحملون رتباً عسكرية، لأن تجربتهم مختلفة تشبه تجربة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي قدّم بعد استشهاد ابنه خطاباً حماسياً، وهو ما قدمه والد الشهيد رعد حازم الذي حقق في زمن قياسي نحو مليون ونصف مليون تفاعل مؤيد، ورفض تسليم نفسه قبل استلام جثمان ابنه الذي تعرض للاعتقال بعمر 16 عاماً، واعتزل بعد خروجه من المعتقل وعاش في بيت في أرض زراعية بعيدة.

ويربط حويل بين ممارسات الاحتلال في القدس وغزة، واستمرار الاعتقالات والعدوان المتكرر على مخيم جنين والقتل بدم بارد في أزقّته، وبين حالة الغضب والدفاع عن النفس، وهي أعمال تُقرّها اتفاقيات جنيف في حالة الاحتلال والدفاع عن النفس.

والخطان الفلسطينيان الراهنان، وفق حويل، هما: "المفاوضات كخيار وحيد، ومواجهة الاحتلال بغضّ النظر عن الشكل"، لأن توفير الهدوء للاحتلال يعني توفير مزيد من أدوات القتل، وتقصير عمر القضية، وزيادة شراسة الاستيطان لتكون الضفة الغربية عملياً دولة للمستوطنين، واستمرار الاعتقالات، وتهويد القدس، ونهب المقاصة.

ويشير إلى أن ما كتبه ابن خلدون عن بداية الحضارات، يفسر المنطلقات الاقتصادية في التعامل مع نموذج المخيم، كون أصحابها يخشون على مصالحهم، ويكررون تجارب تواطؤ جزء من النخب التجارية "الجبانة" عبر التاريخ مع المحتل، ويقفزون عن حقيقة أن حركات التحرر كلها في العالم دفعت ثمناً باهظاً لحريتها.

ويلفت حويل الأنظار إلى موقف رجال أعمال كثر لم يتفقدوا منازل المقاومين، ولم يشاركوا في بيوت عزاء الشهداء، ويرفضون حتى الظهور في صور مع المناضلين، خشية على امتيازاتهم ممّا يسمى "الإدارة المدنية"، ويجري ذلك من دون محاسبة هؤلاء على تواصلهم المباشر مع قادة جيش الاحتلال وضباطه، ومشاركتهم في أفراحهم وتهنئتهم بالمواليد الجدد، بل نراهم ينتظرون اللحظة الملائمة لنهب الوطن، مثلما حدث في عدة ثورات عالمية.

ولا يخفي حويل حقيقة سعي الاحتلال لإيجاد "طبقة أمنية وسياسية واقتصادية تقود الوطن، وتكون أدوات بديلة عملياً من السلطة"، ويتمثل ذلك في نفوذ رجال الأعمال أكثر من رموز السلطة، وصولاً إلى تصفية القضية. 

من دون مشروع مقاوم لن نحصل على شيء

يؤكد أستاذ الإعلام في الجامعة الأميركية في جنين، سعيد أبو معلّا، لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية" أنه يصعب القول إن السلطة لم تفقد الآن سوى سيطرتها في جنين ومخيمها، فهذا تقدير في غير محلة، ذلك بأن "السلطة كفكرة سقطت منذ أعوام في فلسطين كلها، بعد فشلها في توفير ما وعدت به شعبها."

يرى أبو معلّا أن تمركز الظاهرة المسلحة في جنين يعود إلى أنها تمتلك "رأس مال رمزياً، وتصوراً ذاتياً عن نفسها"، يدفعها إلى ممارسة دور نضالي مهم في هذه المرحلة، وهو رأس مال نضالي، أو قيمة رمزية، حاولت السلطة تحطيمهما والاستهانة بهما.

ويقول أبو معلّا إن الاحتلال لا يتوقف ولا للحظة عن ممارساته في حقّ الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يشجع على رفض الواقع، وعلى ممارسة أشكال نضالية فردية. وهذه المسألة مرتبطة بأمور كثيرة منها مثلاً فرار الأسرى الستة وكلهم من جنين، وهو ما "يمنح المكان قيمة نضالية عالية أكثر من فكرة فقدان السلطة سيطرتها عليه."

ويرى أن الفصائل "مطاردة من الاحتلال والسلطة"، فلو تبيّن أن رعد حازم مثلاً تلقى تدريباً وتخطيطاً ودعماً من حركة فلسطينية، فماذا ستكون النتيجة؟ ويمكن تخيل ما سيجري، إذ سيقوم طرف فلسطيني وآخر إسرائيلي بمهمة ملاحقة هذا الفصيل وتفكيك أذرعه، وهو ما حدث مع الجبهة الشعبية وقياداتها في الأعوام الخمسة الماضية.

ويعتقد أبو معلّا أن أي فصيل سياسي سيقود مشروعاً مقاوماً غير "فتح" سيفشل، لأن السلطة ستقف ضده، فأصعب حالة نضالية يمكن خوضها هي عندما يكون التفكك داخلياً جرّاء وجود عوامل هزيمة ذاتية. لكن السلطة التي تسيطر على مقاليد الأمور في الضفة "لا تريد حالة مقاومة إلّا على مقاسها"، بل إنه حتى المقاومة الشعبية نفسها والنماذج الجديدة في المقاومة الشعبية في بيتا وبرقة وغيرها، لا تريدها السلطة نموذجاً، وإنما "حالة وسطية"، الأمر الذي يفسر وجود نماذج نضالية في مناطق محدودة لم تتحول إلى حالة نضالية في جميع أنحاء الضفة الغربية. هذا "فشل حقيقي" ودليل على عدم التزام المنظمة والسلطة بقرارات تفعيل المقاومة الشعبية. باختصار، السلطة لا تريد مشروعاً مقاوماً ولا تساعد على بلورته، وما يجري هو "عمليات تنفيس مبهرة في بيئة قفراء للأسف، والمصيبة أننا في لحظة تاريخية بحاجة إلى مشروع مقاوم، ومن دونه لن نحصل على شيء، ولن نعيد الاهتمام بفلسطين."

ويشير أبو معلّا إلى أن مَن يريد أن يقاوم فردياً، لا يُفكر في أرباح وخسائر، الأمر الذي يجعلنا ندينه. والسؤال الكبير المفروض طرحه هو: ماذا يجب أن نفعل للتعامل مع الفعل النضالي الذي يقدمه مخيم جنين؟ وكيف نجعله حالة نضالية؟ وكيف نفهمه؟ 

"عش الدبابير": الثابت والمتغير

يعمل عاطف أبو الرُّب صحافياً في جنين ومخيمها منذ نحو 30 عاماً، ويرى في حديث إلى "مجلة الدراسات الفلسطينية" أن الاحتلال استخدم "الماكينة الإعلامية" في سنة 2000 لتصوير المخيم والمدينة كـ "عش دبابير"، وذلك بحسب ما يحلو له، وها هو اليوم يعيد استخدام الأسلوب ذاته، لكن بتقنيات العالم الافتراضي، ومن خلال تجييش متابعي شبكات التواصل الاجتماعي، في مقابل "رواية فلسطينية هزيلة في الغالب أو غائبة"، ولأسباب كثيرة.

ويوضح أن دولة الاحتلال تعتمد العمليات الاستخباراتية؛ هكذا كانت قبل اجتياح 2002، وها هي اليوم تستخدم العمليات ذاتها، فهي كانت وما زالت تركز قبيل الاجتياحات الكبيرة على عمل فرق الموت الخاصة (المستعربين).

ويتوقع أبو الرُّب عدم لجوء إسرائيل إلى استخدام المدافع والطائرات مثلما حدث قبل 20 عاماً، ويقارن بين إعلان الرئيس الراحل ياسر عرفات دخوله المواجهة، ودعوته قوى الأمن إلى التصدي لقوات الاحتلال، وانخراط جميع القوى في المواجهة، وبين اقتصار المقاومة على "عدد قليل من المسلحين المؤيدين لـ 'فتح' والجهاد الإسلامي بشكل أساسي، من دون وجود رعاية ومظلة حقيقية."

 

الرئيس الراحل ياسر عرفات متفقداً الدمار داخل المقاطعة خلال حصاره في داخلها في سنة 2002

 

ويصف تراجع تأثير السلطة ومكانتها في مخيم جنين وفي جميع المناطق بـ "التراكمي"، وبأنه نتيجة طبيعية للحصار المالي المفروض عليها، ولحصرها خياراتها السياسية بالتفاوض، ولانتمائها إلى حلف التسوية، ولعدم وجود إمكانات مالية لديها كما في سنة 2002، فضلاً عن تلاشي البعد العربي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، إذ إن دولاً عربية تتحالف بشكل مباشر مع دولة الاحتلال.

وفي مقابل ذلك، تحاول سلطات الاحتلال إبرام تهدئة مع "حماس" على الرغم من تهديد هذه الأخيرة بالتدخل العسكري نصرة للقدس وجنين، وعلى الرغم من وضع "حماس" الشائك، فهي خارج شرعية منظمة التحرير من جهة، وهي جزء من قطب الممانعة الإقليمي من جهة أُخرى، الأمر الذي من شأنه التقليل من مكانة السلطة جماهيرياً، حتى إن كانت "حماس" غير مشاركة في عمليات المقاومة.

ويبيّن أبو الرُّب أن البطل الفردي هو "نتيجة طبيعية لـضعف الفصائل، ولقدرة إسرائيل على كشف أمر العمل العسكري بفعل تقدم الاحتلال استخباراتياً، ولخوف معظم القيادات من تحمّل تبعات العمليات." لكن بعض الشبان المفعمين بالوطنية يقتنص أول فرصة للحصول على سلاح، ويتصرف بعيداً عن توجيهات أي جهة حزبية، الأمر الذي يؤدي إلى فشل بعض العمليات، ومحدودية تأثيرها. 

"أسود منفردة" وتقليد جماعي

يرى عضو التجمع الوطني الديمقراطي، عمر عسّاف، أن ظاهرة المقاومة الفردية ‏هي نتيجة فقدان العمل الجماعي المنظم وتراجعه بفعل الهزائم التي لحقت به، أو جرّاء القمع الشديد الذي لا يترك له مجالاً لالتقاط أنفاسه، ولذا تبرز "ظاهرة العمل الفردي" التي تتصدر المشهد السياسي.

يذكّر عسّاف بنموذج ثائر حمّاد، بطل عملية "عيون الحرامية" الذي استطاع قتل 11 جندياً، وإصابة 9 آخرين، وهذا كله بـ 26 رصاصة فقط، ثم انسحب بسلام، ولم تنجح أجهزة الاحتلال في اكتشافه إلّا بعد أعوام. كما يذكّر بنموذجَي نضال زلوم وبهاء عليان، وغيرهما ممّن يُطلق عليهم لقب "الذئاب المنفردة"، أو "الأسود المنفردة".

 

ملصق عن ثائر حمّاد باسم كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة "فتح"

 

ويقول عسّاف إن "ظاهرة جديدة" باتت تجمع بين العمل الجماعي والمبادرة الفردية والاستبسال والشجاعة، وربما شكّل مخيم جنين نموذجها، فمَن يَزُر المخيم ومقبرة الشهداء يَجِدْ نحو 200 من أضرحة الشهداء الذين يجري الحديث عنهم على أنهم "أبطال فرديون، أو مجموعات ظل" استمروا يقاتلون حتى آخر قطرة دم، واستطاعوا إيقاف جنود الاحتلال عدة مرات، وجعلوهم يدفعون ثمناً غير قليل، خلال اقتحامهم للمخيم قبل عقدين.

 

مقبرة الشهداء في مخيم جنين

 

وبحسب عسّاف، فإن النموذج الذي قدمه المقاتلون في مخيم جنين في سنة 2002، والذي قتلوا خلاله 23 جندياً إسرائيلياً وأوقعوا عشرات الإصابات، هو نموذج يحظى بالفخر، فقد دفع بشبان من المخيم إلى اتخاذ زملائهم قدوة لنضالهم، مثل الأخوين نضال وشادي النوباني، كما شكلت حالة محمود طوالبة نموذجاً للصمود، إذ ظل يقاوم حتى قُصف المنزل الذي كان يتحصن فيه وتبعثرت أشلاء جسده في أكثر من موقع.

ويربط عسّاف بين بطولات 2002 التي عكست نفسها على المرحلة الراهنة بـ "علاقة روحية أكثر من تنظيمية أو عائلية"، وبين الشبان الذين يعانون ضنك العيش، ولا علاقة لهم بالفصائل، ولا يبدو عليهم الاهتمام بالشأن الوطني مثل الشهيد رعد حازم، إذ كان معروفاً باهتمامه بالعملة الرقمية (البيتكوين) وبشؤون الإنترنت، وربما كان مطلوباً لأكثر من جهة باعتباره مهتماً باختراق الحسابات، وجمع ثروة مالية، الأمر الذي يعكس "انكفاء العمل المنظم والفصائلي"، والابتعاد عن نهج أولئك الذين يعملون معاً ويتبعون في توجهاتهم وقناعاتهم وميولهم هذا الحزب أو ذاك. فهؤلاء الشبان يشكلون وحدة واحدة تتجاوز الاعتبارات السياسية والحزبية لمصلحة العلاقات الروحية. 

"جنين غراد": الاستعارة والتعميم

وصف الرئيس الراحل ياسر عرفات مخيم جنين بـ "جنين غراد"، تشبهاً بالمدينة السوفياتية ستالينغراد أو فولغوغراد (Volgograd) حالياً. هذا ما قاله عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" في حديث إلى "مجلة الدراسات الفلسطينية"، مستحضراً تاريخ جنين التي ارتبطت مقاومتها في أثناء مرحلة الاستعمار البريطاني بالشيخ عز الدين القسّام، السوري الدم والفلسطيني الهوى، والذي استشهد في أحراش يعبد في سنة 1936، وبصفتها مركزاً يحتضن مقابر جثامين الجيش العراقي الذين انتصروا لفلسطين، وهي معالم لها دور في تحريك الناس وتعبئتهم، وهذا فضلاً عن موقعها الجغرافي الحدودي مع أراضي 48، وعلاقتها العميقة بالصامدين الفلسطينيين فيها.

أوضح زكي أن مخيم جنين تحول فعلاً بعد معركة نيسان / أبريل 2002 إلى "جنين غراد"، وأصبح محل إعجاب كثيرين واحترامهم، بل إن جنين بدأت تأخذ دوراً مميزاً في الأداء النضالي الفلسطيني، وتحولت إلى خصم عنيد لا يخضع للاحتلال. فبعد 20 عاماً أصبحت جنين ومخيمها "حاضنة للوحدة الوطنية التي تتجلى بحَمَلة البنادق الذين تميزوا بتحولهم إلى فصيل واحد في المواجهة." واعتبر زكي أن محافظة جنين "بمخيمها وقراها تتنافس على المقاومة، فنضالاتها لا تنحصر في بطولات فردية، وإنما هي حاضنة وحدة وطنية، وروح جماعية." ووصف البطولات الفردية بـ "تعويض أو تسديد دَين" عن أصحاب الكراسي والملتزمين بالقيود التي فرضتها عليهم جهات إقليمية ودولية.

 

مقاتلون يتشاركون الطعام خلال معركة جنين في سنة 2002

 

وعن علاقة السلطة بالمخيم، يوضح زكي أن أحداً لا يستطيع الضغط على السلطة لتقوم بعمل قد يُعد انتحارياً في مواجهة الاحتلال في جنين، علماً بأنها لا تستطيع ملاحقة المسلحين فيها والتنكيل بهم، الأمر الذي أوجد "نوعاً من الشرعية للدفاع عن النفس." لكن في غير جنين، فإن الوضع ربما يكون مغايراً.

يقول زكي إن السلطة مقيدة باتفاقيات، ولا يستطيع مسؤولوها إصدار توجيهات للمقاومين، لكنه يعتقد أنه إذا جرى تنفيذ عمليات فردية فإنها تفيد القضية في المحصلة النهائية. ولا يخفي أن العلاقة بين الفصائل وجنين قائمة على تبادل الأدوار وتكاملها، وفي هذا السياق، أكد أن إدانة الرئيس محمود عباس لعمليات المقاومة هو "شأن يخصه"، فهو يستطيع قول ما يريد، ويضحي بشعبيته لأنه مقيد باتفاقيات مع إسرائيل، لكن "فتح" تقف على يسار الرئيس والسلطة.

ورأى زكي أن "فتح" لا تنسى تاريخها وقادتها وشهداءها، بل إنها تبادر إلى ترتيب أوضاعها بشكل أفضل. ورفض زكي استمرار إلقاء العبء الكبير على كوادر "فتح" في الأقاليم ليكونوا على غرار نموذج جنين، وطالب قيادة الحركة بأن تقوم دورها، فلا تهادن العدو، بل تردّ الاعتبار إلى الحركة ومبادئها، ولا سيما بعد أن انطفأت الأضواء كلها. وبالتالي يتعين عليها أن تتعامل مع إسرائيل باعتبارها عدواً وليست "الطرف الآخر"، وخصوصاً بعد أن تجاوز الاحتلال جميع الحدود، محوّلاً "الأقصى" الآن إلى "مرقص"، وساعياً لتقسيمه مكانياً وزمانياً.

وبشأن تراجع الفصائل وصعود البطل الفرد، يوضح زكي أن "فتح" لديها رؤيتها الخاصة، وهي أن الشعب أكبر من قيادته. ويعتبر أن تعميم نموذج جنين يعتمد على صحوة "فتح" ويقظتها، فهي تحتاج إلى قيادة جماعية قادرة على تحقيق الوحدة الوطنية، ولا تتعامل مع الاحتلال باعتبارها موظفة لديه، مثل البعض الذي يرى مصلحته في استمرار الوضع الراهن والتعايش مع الاحتلال، بينما يرفض آخرون هذا الأمر. 

تخصص بالمقاومة المسلحة

يشير أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العربية الأميركية التي لا تبعد كثيراً عن مخيم جنين، أيمن يوسف، إلى "فقدان السلطة سيطرتها على مخيم جنين"، وصعود "البطل الفردي" الذي يعبّر عن عجز الفصائل عن إشراك الشعب في المقاومة بذريعة الاعتبارات الميدانية والظروف السياسية والاقتصادية في الأراضي المحتلة، بينما تحتدم المواجهة بين الاحتلال والمجموعات المسلحة التابعة لـ "الجهاد الإسلامي"، و"كتائب الأقصى"، ومجموعات مسلحة أُخرى لديها أجندة واضحة لسلوك خط المقاومة.

إن تاريخ المقاومة في جنين الذي كثيراً ما اعتمد الصدام المسلح، يعطيها اليوم دفة القيادة للمقاومة الميدانية بالسلاح، وضرب الاحتلال في العمق، جرّاء انسداد الأفق السياسي، وتوقف المفاوضات.

ويعتبر يوسف أن وجود "الزبائنية" في النخب السياسية، ونفوذ النخب الاقتصادية، عاملان أضعفا الثقافة الوطنية المقاومة، وعززا موقع الاقتصاد التابع للاحتلال، وأضعفا التنمية وخلق الفرص والحرص على الكرامة، وزادا في الأزمة التي نتجت من تأثيرات جائحة "كورونا" في ضعف المنظومة الرسمية، وسرّعا في ظهور مسلحي جنين "الذين لا يقودون انتفاضة بمفهومها الشامل، وإنما يصنعون هبّات أحد تمثلاتها هو العمل العسكري." 

إعلام من دون تفصيلات إنسانية

تقول الإعلامية ورئيسة جمعية "كي لا ننسى" والعضو في اللجنة الشعبية للخدمات في مخيم جنين، فرحة أبو الهيجاء، إن الإعلام المحلي كان يكتفي بنقل العدوان على المخيم كله، من دون أن يتعمق في التفصيلات الصغيرة لحياة الناس؛ فعند استشهاد طفل مثلاً، لا تتم الإحاطة بالخلفيات الإنسانية والاجتماعية، كما أن وسائل الإعلام لا تسهب في الكلام على الجوانب الشخصية للشهداء والأسرى خلال العدوان الأخير، فالإعلام يقفز عن الأسباب والدوافع ويكتفي بنقل الأخبار المجردة، فضلاً عن غياب الخطاب السياسي والتوجيهي عن الإعلام الحكومي. وتعتقد أبو الهيجاء أن التفصيلات الإنسانية تساهم في تغيير وجهات النظر حيال القضايا المتنوعة، وتأسف لـ "تسابق الفصائل على تبنّي الشهداء، وتجاوز عوالمهم الإنسانية المؤثرة والمهمة."

غير أن أبو الهيجاء توضح أن أحداث سنة 2022 في المخيم كانت مختلفة ونُقلت إعلامياً من دون تضخيم، ولا تتشابه مع عدوان 2002 الغاشم الذي اختلطت فيه الشائعات بالحقائق، إذ نُشرت آنذاك إحصاءات عن وجود مئات الشهداء، بينما كان عددهم 62 شهيداً فقط. كما أن عدوان 2022 تميز بتلاحم الفصائل ووحدتها واتساع نطاق المقاومة.

وترى أبو الهيجاء أن نقل مشاعر أمهات الشهداء يمكن الحكم عليه بأكثر من زاوية، "فتقديمهن بشكل يقفز عن أحزانهن، أو إظهار بطولتهن أو نقل زغاريدهن، وتسويق أنهن يرسلن أبناءهن إلى الموت، أمور كلها تجافي الحقيقة"، إذ علينا احترام أحزان الأمهات من دون تدخّل، وعدم توجيه أسئلة عن مشاعرهن بعد الصدمة مباشرة. كما أنه ليس مقبولاً فبركة صور لشهداء أطفال قتلهم الاحتلال في بيوتهم وتقديمهم كمقاومين يحملون السلاح.

ولا تغفل أبو الهيجاء أن تذكر أن إعلام الاحتلال يستغل مشاهد أمهات الشهداء لإلصاق تهم الإرهاب بنا، فنراه يَسِم المخيم بالإرهاب مع أنه يمارس ردات فعل طبيعية، حتى لو كانت فردية، رداً على الأوضاع الصعبة التي يعيشها سكان المخيم، وعلى الضرر الواقع عليهم. وتصف المخيم بـ "بقعة ساخنة" تعيش واقعاً معقداً وغير مستقر، ومع هذا لا يجري تضخيم ما يحدث في مكان مكتظ ومحروم من حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولا ننسى أنه في كل بيت يوجد شهيد وأسير وجريح، ولذا تنخرط النساء والفئات كلها في الدفاع عن المخيم، مع إصرار على عدم السماح بتكرار تجربة 2002 حين قُتل الناس داخل بيوتهم.

إن أبرز ما يمسّ مشاعر الناس في المخيم هو "وجود سلطة تعجز أجهزتها وأسلحتها عن حماية المخيم والدفاع عنه، فهي تنتظر انسحاب الاحتلال لممارسة دورها، وهو ما يحدث بعد كل اقتحام"، الأمر الذي أوجد حالة التفاف حول سلاح المقاومة الذي يعتبره سكان المخيم الشيء الوحيد الذي يعمل على حمايتهم، وهذا في موازاة تراجع التنظيمات السياسية وفشلها وتلاشي دورها وتأثيرها. وتضيف أبو الهيجاء أن رهان الاحتلال، ومحاولاته تغذية سلاح فوضى واقتتال في المخيم موجّه ضد السلطة، فشلا، بل ثبت عكسهما، إذ في أثناء كل اقتحام إسرائيلي نرى السلاح يوجَّه ضد جنود الاحتلال، وليس ضد السلطة أو الشعب.

وتفند أبو الهيجاء الأصوات التي تتهم سلاح المخيم بأنه مكرس للأعراس أو للمناسبات الاجتماعية، أو لممارسة الفوضى، وتصفها بـ "رواية مغلوطة انجرّ كثيرون خلفها." وتبيّن أن التعارض بين مقاومة المخيم وأصحاب المصالح الاقتصادية ورجال الأعمال لا يطفو على السطح إلّا بعد إغلاق الاحتلال لحاجز الجلمة، إذ يظهر حينها بعض الأصوات المعارضة ضمناً للمقاومة، وذلك خشية على مصالح رجال الأعمال وامتيازاتهم. وبالتالي، فإن حصار الاحتلال الاقتصادي لجنين يسعى لإحداث شرخ داخلي، ولإبعاد الناس عن المقاومة. 

فشل النموذج التنموي الاستعماري

يشير مدير تحرير مجلة "شؤون فلسطينية"، إبراهيم ربايعة، إلى ما سمّاه "فشل النموذج التنموي الاستعماري في جنين"، فقد اعتبر أن زيارة وزيرة الخارجية الأميركية، كونداليزا رايس، لجنين بعد اجتياح نيسان / أبريل 2002 كان يراد منها "إعلان وفاة مقاومة جنين، عن طريق تقديم نموذج أبيض للمستعمرين الذين يقدّمون مشاريع لتنمية الشعوب المستعمَرة."

ويضيف ربايعة أن جنين ومخيمها دفعا ثمن تفجيرات 11 أيلول / سبتمبر 2001، إذ حدث أول اجتياح للمخيم بعد ساعات من الهجمات التي استغلتها إسرائيل لوصم الشعب الفلسطيني بالإرهاب، وترافق ذلك مع حالة عربية مرتبكة بلغت ذروتها في الغزو الأميركي للعراق، الأمر الذي ساهم في تضعضع الحالة الفلسطينية عامة.

ويشير ربايعة إلى أن الفعل المقاوم في سنة 2002 كان منظماً بهياكل وبُنى واضحة، لكنه انزاح راهناً نحو "فردانية الفعل" الذي لا يُعدّ حدثاً عابراً، بل منظومة متكاملة غرست في المجتمع الفلسطيني والعربي ظاهرة المبادرة الفردية التي تتعامل مع القضية الفلسطينية بشكل فردي. ويلفت إلى أنه في السنة الماضية (2021)، حفّزت أحداث الشيخ جرّاح قيام هبّة شعبية عمّت فلسطين كلها، حاملة معها فرصة العودة إلى النضال المشترك، والتحول من تفاعل الشبان الرقمي إلى الفعل الميداني، غير أن تلك الفرصة لم تُستغل بسبب استمرار غياب التنظيمات.

ويشترط ربايعة لعودة المقاومة المنظمة إلى جنين والوطن، العودةَ إلى "الوحدة الوطنية، والاتفاق على برنامج عمل وطني موحد بين التنظيمات عقب فشل محاولات خلق أجسام بديلة من منظمة التحرير."

ويصف ربايعة النموذج الفردي للمقاومة بـ "فعل يعيد الحياة إلى القضية إلى حين الاتفاق على برنامج وطني موحد، ويبرهن على فشل نموذجَي التطبيع والسلام الاقتصادي"، وهو نموذج يتكرر للعام الثاني، وخصوصاً خلال شهر رمضان. ويرى أن "البطل الفردي" هو نتيجة غياب البرنامج الوطني، وانعدام الرؤية، جرّاء الانقسام الذي لا يُعتبر طارئاً على الحركة الوطنية، بل إنه موجود منذ ما قبل النكبة متمثلاً في ثوب الأحزاب والعائلات، الأمر الذي يؤكد أن أزمتنا تكمن في النخب وليس في الشعب.

أمّا نماذج جنين والشيخ جرّاح ومناطق 48 وغزة فيصفها ربايعة بـ "نقاط مضيئة" وسط ترهل الحالة الفلسطينية والعربية، ويقول إن هذا ليس "أسطرة أو خيالاً"، وإنما محاولة تبحث عن الأمل المفقود، وتثبّت الهوية الوطنية التي يبحث عنها الشعب الفلسطيني منذ سنة 1890.

وينتقد ربايعة الأصوات التي تتهم جنين بالمبالغة في نموذجها، ويستدل على ذلك في التعظيم الذي توليه حركات المقاومة في العالم أجمع، والذي تسبغه الحركة الصهيونية على إنجازاتها ورموزها واشتباكاتها، فهذا جزء من التعبئة المعنوية. 

مخيم الحقيقة و"البطل الجمعي"

يصف الكاتب عدنان الصبّاح، مؤسس الحملة الدولية لتوثيق جرائم الحرب ورئيسها، مخيم جنين بـ "مخيم الحقيقة لجميع اللاجئين الفلسطينيين"، لأن موقعه القريب من مناطق 48 كان مهماً للإبقاء على الرواية الفلسطينية حية في الأذهان، ووفر للمخيم إمكان نسج "محكية وطنية" تقدّم فرصة دافئة لمشاهدة فلسطين المفقودة بالعين من أمام صفيح المخيم وخيامه الباردة، وهي رواية امتدت حتى النكسة.

ويقول الصبّاح إن المخيم عانى داخلياً بفعل التفرقة، ويرى أن المدينة الملاصقة تعيش حياة مختلفة، وهو ما جعل من اللاجئين أحياناً "شبه طبقة مختلفة عن محيطهم." غير أن هذا الوضع ساهم في أن يكونوا في طليعة الشعب والبلد، لأن قضيتهم ليست العودة فقط، بل الخلاص أيضاً من المعاناة والكارثة الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والثقافية التي صنعت المخيم، حتى حانت الفرصة لهم في نيسان / أبريل 2002 لصناعة البطولة والصمود أمام ترسانة قوة احتلال يصفق العالم لجيشها، وتستورد بعض الدول أدوات القمع منه.

ويتبنّى الصبّاح رؤية أن المخيم "صنع رواية وقصة بالدم كان الشعب بحاجة إليهما، ومتعطشاً إلى بطلَيهما الجمعيَّين" اللذين وصلت صورتهما إلى العالم كله، وجعلت كل مَن يسكن في المخيم يتشرف بالانتماء إليهما وبتقاسم البطولة معهما، الأمر الذي مهّد للأسطورة في المواجهة، وهي الحالة التي لم ينتبه إليها المثقفون والأدباء، ولم يصلوا إلى مستوى إبداعاتها، بل عجزوا حتى عن كتابة رواية تليق بالبطولة، ولم يرتقوا إلى مستوى الحدث.

ويضيف الصبّاح أن قوى الثورة الفلسطينية كلها، باستثناء المقاومة في غزة، تقف "متفرجة" على الأبطال الفرديين، بينما تصفق الفصائل لهم من دون تقديم أي عون، وهو ما يؤدي إلى انتهاء الأعمال الفردية بالاستشهاد دائماً، بل هناك للأسف، مَن يحاول ربطها بالانتحار الفردي.

ويستدل الصبّاح على غياب أي حماية للمقاومين الأفراد بعد الانسحاب من مواقع العمليات، بأنهم يُتركون بمفردهم من دون تقديم يد العون والحماية إليهم.

ويشير إلى أن "هروب الفصائل والقوى التي تسمي نفسها الثورية من دورها"، واكتفاءها بالتصفيق للمقاومين الأفراد، هما اللذان دفعا الأفراد إلى الإمساك بزمام الأمور بأيديهم، والقيام بعمل غير مدروس لا يرتبط بأهداف أبعد، ولا يُعدّ جزءاً من عمل جمعي يؤدي إلى نتيجة.

ويرى الصبّاح أن "تسخيف" نموذج جنين وثورتها لا ينفصل عن المعارضة التاريخية لأي مقاومة، والتي تنقسم إلى معارضين علنيين كالنخب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والجبناء الذين لا يريدون الانكشاف أمام أي فعل، ومدّعي احتكار الثورة وامتلاكها الحصري، والذين يرفضون أي فعل ثوري. ويتوقع أن تخلق النماذج الفردية في مخيم جنين وسواه "حالة تنظيمية ما"، إذ لن تستطيع الاستمرار في فرديتها، وستضطر إلى الانتظام في شكل ما، وستسحب البساط من تحت أقدام "الفصائل النائمة".

ويصف الصبّاح مخيم جنين بـ "حالة خاصة مقرون اسمها بالبطولة، وأي اقتراب للسلطة منها يعني الاقتراب من البطولة، ومهاجمة سلاحها"، وهو ما لا تريده السلطة التي لن تضع نفسها في مواجهة معه، بل ستختلف علاقتها به عن علاقتها بأي جهة أُخرى. 

السلطة متهمة في الأحوال كافة

الصحافي المختص بالإعلام الإسرائيلي، محمد أبو علّان، يقول إن موجة المقاومة الفردية الأخيرة بدأت في أيلول / سبتمبر 2015 بإلقاء حجارة على حافلة في القدس ومقتل مستوطن، وإن إعلام الاحتلال صار يربطها بما يسميه "التحريض" عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فبدأت جهات رسمية اتصالاتها بموقع "فايسبوك"، ورُفعت دعاوى قضائية ضد الشركة في الولايات المتحدة لوقف "التحريض"، كما أن الاحتلال صار يخشى ظاهرة تقليد شبان آخرين لها، وبات إعلامه يتابع نجاح المنفذين في الانسحاب من مواقعها.

ويعلل انتشار الظاهرة بالوهن الذي تعيشه فصائل منظمة التحرير التي تقتصر ردة فعلها على المباركة وانتظار معرفة المنفذ من أجل تبنّيه لتحقيق مكاسب، بينما باتت"حماس" تربط المقاومة بمناسبات سياسية. فالمقاومة لم تعد حالة تتبنّاها الفصائل، ذلك بأن "الأبطال الأفراد" خرجوا عن هذا الخط وحساباته السياسية، كما كشفت المقاومة عن عجز أذرع الاستخبارات الإسرائيلية، لأن مَن يقف خلف تلك العمليات الفردية هم شبان بلا تنظيمات أو تجارب سابقة، ويستخدمون وسائل بسيطة كالسكاكين والدهس، وهو ما يجعل تتبّعهم ومنع عملياتهم بشكل استباقي أمراً صعباً.

ويرى أبو علّان أن الإعلام الإسرائيلي لا يتحدث عن "عجز" فصائل المقاومة، بل يتهم الأطراف الفلسطينية كلها بالتحريض عبر المدارس ووسائل الإعلام، ويضع السلطة، و"حماس"، و"الجهاد الإسلامي"، في دائرة الاستهداف بعد كل عملية فردية، ويحمّلها المسؤولية، بينما صارت الفصائل تقنّن عملياً من تصريحاتها، أو تصدر تصريحات للاستهلاك المحلي، أمّا السلطة فاكتفت بإدانة العمليات على لسان الرئيس محمود عباس.

ويعتبر أبو علّان أن نموذج جنين كسر المعادلة الأمنية للاحتلال بعد نجاح عمليتَي تل أبيب و"بني براك"، وعدم قدرة "الشاباك" على الكشف عنهما قبل وقوعهما، وخصوصاً أن المنفذَين أسيران محرران وصلا إلى موقع العملية بكل سهولة، مسقطَين حصانة جدار الفصل العنصري، ومثبتَين فشل ما يسمّى "النظرية الأمنية الإسرائيلية".

ويرى أبو علّان أن الإعلام الإسرائيلي يمرر رسالة إلى الإسرائيليين فحواها أن قوات الاحتلال تعمل على تحقيق "الأمن"، وتسعى لتحقيق الردع وخلق وضع يمنع الشبان من التفكير في تنفيذ عمليات. كما يروج الإعلام الإسرائيلي لفقدان السلطة سيطرتها على الشارع الفلسطيني، وجنين تحديداً، ويشير إلى أن كل فراغ للسلطة يقابله صعود لـ "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، متهماً في الوقت نفسه السلطة بالتحريض عبر المناهج أو رجال الأمن. ويشدد أبو علّان على أن إعلام الاحتلال يمارس التحريض ضد كل ما هو فلسطيني، باستثناء أصوات قليلة غير مؤثرة مثل الصحافي جدعون ليفي الذي كتب في "هآرتس" أنه لولا "العنف" لما تحرك العالم، بينما قال آفي زخارف إنه إذا أرادت إسرائيل مواصلة احتلالها للضفة الغربية، فعليها ألّا تبكي إذا وقعت عمليات.

السيرة الشخصية: 

عبد الباسط خلف: إعلامي وباحث مقيم في جنين.