ثمة تقييم خطأ لاهتمامات الشباب الفلسطيني، والتي باتت تتجاوز "أيقنة" الفدائي، وأُحادية "حق العودة" في التفكير الفلسطيني الكلاسيكي، إلى اهتمام بالحياة اليومية الشديدة الصعوبة، وخصوصاً بالنسبة إلى فئة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، من دون الحطّ من تلك الأيقنة ومن "حق العودة".
بعض الموسيقى
ابتسم أبو حسن البالغ من العمر 55 عاماً، وهو من سكان شاتيلا، ابتسامة عريضة عند الاستماع إلى مطلع أغنية "رُمّانة" وهي من تأليف وتلحين وغناء سميح شقير، والتي يصوّر فيها جهود الفدائيين الجريئة، لكن غير المجدية في نهاية المطاف، في مقاومة الغزو الإسرائيلي للبنان في سنة 1982. ابتسم أبو حسن وقال: "هذه الأغنية أثارت فينا الرغبة في مواصلة القتال... هذه الأغنية تذكّرني بحربي وبعدوّي الذي يريد أن يأخذني بعيداً عن جذوري... الأغاني الثورية أعطتنا القوة... لنبقى حازمين."
بعد فترة وجيزة، أسْمَعته مع ابنه حسن البالغ من العمر 21 عاماً أغنية راب للفرقة "كتيبة ٥" بعنوان "أهلاً فيك بالمخيمات". وبدلاً من الاحتفال بأمجاد ماضية، فإن هذه الأغنية تصوّر حياة الفلسطينيين في المخيمات اللبنانية اليوم بكل ما فيها من صعوبات: الظروف المعيشية غير الصحية وندرة الخدمات الاجتماعية ونسبة البطالة المرتفعة. "أهلاً فيك بالمخيمات" أيضاً رسمت ابتسامة، لكن هذه المرة على وجه حسن. لا يَحُدّ أبو حسن من حرية ابنه في الاستماع إلى أنواع مختلفة من الموسيقى: "هذه... الأغاني... تخبرنا بما يجري الآن معنا. لم يعد الأمر يتعلق بمحاربة العدو فقط، بل بقتال داخلي أيضاً. هذه الموسيقى تنتقد المسؤولين عن الوضع الذي نجد أنفسنا فيه الآن."
تستند هذه المقالة القصيرة إلى أحد جوانب بحثي في شاتيلا، مخيم اللاجئين الفلسطينيين في جنوب بيروت، حيث قمت بعملي الميداني خلال سنتَي 2007 و2008، وسكنت في واحدة من تلك السنتَين في المخيم. وتمحور سؤال بحثي حول كيفية تعبير الشباب عن بلوغهم سن الرشد وعن انتمائهم الجنسي. إن طريقة تعبيرهم عن بلوغ سن الرشد وعن انتمائهم الجندري تختلف عن طريقة آبائهم الفدائيين الذين حاربوا في السبعينيات خلال ما يسميه الفلسطينيون أيام الثورة وهي ذروة المقاومة المسلحة الفلسطينية في لبنان. لقد أظهر الفدائيون بلوغهم سن الرشد من خلال النضال لاستعادة فلسطين. أمّا بالنسبة إلى أبنائهم، فإن الشباب يعبّرون عن بلوغهم سن الرشد وانتمائهم الجنسي بطرق أُخرى، مثل السعي لبناء منزل أو الزواج على سبيل المثال. وهذا لا يعني، مثلما أوضحتُ في كتابي (Barbosa 2022)، أن رجولة الشباب هي في أزمة، بل في الواقع فإن الخطابات عن الذكورة المهيمنة لا تكفي لتفسير السِّيَر الذاتية للرجال ذوي القوة السياسية - العسكرية أو الاقتصادية المحدودة، مثل الشباب.
من هنا، أحاول أن أبيّن في دراستي تاريخية ومرونة مفهوم الذكورة الذي يختلف من مكان إلى مكان، ومن وقت إلى آخر. ففي ظل المستويات العالية جداً من البطالة، وبعد تسريح المقاومة الفلسطينية عناصرها، فإن الشباب بكل بساطة لا يستطيعون تكرار الأدوار البطولية لآبائهم الذين ينضحون بالرجولة وهم يروون إنجازاتهم.
أمّا في هذه المقالة، فإنني سأتناول هذا الموضوع تاريخياً وإثنوغرافياً، من خلال خطوتين: أولاً، سأعرض ملخصاً تاريخياً للملحمة الفلسطينية في لبنان كي يتضح الإطار التاريخي لتحول الذكورة من فترة إلى أُخرى؛ ثانياً، سأُبرز كيف ينعكس ذلك في الموسيقى التي ينتجها الفلسطينيون بناء على ورشتَي عمل دُعِي المشاركون فيهما إلى الاستماع إلى أغنيتين: الأغنية الوطنية "رُمّانة"، وأغنية الراب "أهلاً فيك بالمخيمات"، وإلى التعبير عن آرائهم فيهما. وما نتج من ورشتَي العمل يسلط الضوء على الأشكال المتنوعة التي تربط الفدائيين والشباب بفلسطين، وعلى كيفية تأطير ذكورتهم. ففي الوقت الذي يغذّي الفدائيون أيديولوجيا العودة إلى فلسطين ويطالبون بمكانتهم كرجال مناضلين في سبيل استعادة وطنهم، نجد أن الشباب اختاروا "المشاركة السياقية" (Puig 2007) التي تندمج فيها العلاقة بالوطن مع انشغال آخر هو الاضطرار إلى التعامل مع الظروف المعيشية القاسية في لبنان. فكلاجئين، لا يمكن للفلسطينيين في لبنان امتلاك عقارات، كما لا يمكنهم العمل محلياً بحرّية. وبالنسبة إلى الشباب، فإنهم يضطرون في كثير من الأحيان إلى تأجيل خطط الزواج.
هذه الصعوبات والوضع الفلسطيني العام، يجري الحديث عنهما من خلال موسيقى الراب التي يدمج فيها اللاجئون الفلسطينيون المطالبة الأزلية بالعودة مع مطالب أكثر إلحاحاً في لبنان. وفي هذا السياق، لا أقترح أن موسيقى الراب ليست سياسية، فهي مثلما اقترح بويغ (Puig 2007)، تعبّر بطريقة أُخرى عن الإنسان سياسياً.
"أسياد المسيرات العسكرية اللبنانية": السياق والتنافس[1]
تشكل الأغاني أداة قوية لتصوير السياقات التاريخية المتغيرة التي تؤثر في مسارات الفدائيين وشباب اليوم.
كانت سبعينيات القرن الماضي سنوات مجيدة من منظور اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في لبنان الذي كان تاريخياً عرضة للصراعات، إذ إنه بلد كان يبلغ عدد سكانه نحو أربعة ملايين نسمة في أثناء عملي الميداني خلال سنتَي2007 و2008، ينتمون إلى 18 طائفة دينية، وهو بلد غالباً ما يقع عند تقاطع مصالح محلية وإقليمية ودولية متعددة. وقد أدى الفلسطينيون الذين هُجّروا إليه في سنة 1948، دوراً في السياسة الطائفية اللبنانية.
ومثلت سنة 1982 نقطة التحول في الملحمة الفلسطينية في لبنان، فالفترة التي سبقت ذلك الوقت، والتي بدأت في أواخر الستينيات (وخصوصاً بعد سنة 1970 عندما طُردت القيادة الفلسطينية من الأردن وانتقلت إلى لبنان وأقامت مقارّ لها في محيط شاتيلا)، هي الفترة التي يشير إليها الجيل الأكبر سناً من الفلسطينيين على أنها حقبة أيام الثورة العظيمة. لقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية في أيام الثورة هذه في ذروة قوتها في لبنان، وكذلك كان زعيمها ياسر عرفات (Sayigh 1979). وكانت الشخصية الأيقونية المرتبطة بهذه الفترة هي بالتحديد الفدائي، أي المقاتل في المقاومة الفلسطينية. وتشير الكلمة ذاتها إلى رجل مستعد للتضحية بنفسه في القتال لاستعادة الوطن الأم. وغالباً ما كرّمت ملصقات هذه الحقبة الفدائي وصوّرته شجاعاً وصاحب كبرياء بكوفية تغطي رأسه وبندقية في يده، يسير على قمة التلال ويتوغل عسكرياً في عمق فلسطين.
يتذكر أحمد (31 عاماً)، وهو محاسب عاطل عن العمل من مخيم شاتيلا، نشأته خلال أيام الثورة بحنين، فيقول: "كان الفدائيون مثل كونان[2] يسيرون في أزقة المخيم بحزم وقوة، والبنادق معلّقة على خصرهم. لقد رغبنا بشدة في أن نكون مثلهم." هناك مرارة فيما يتذكره أحمد، فحياة هذا الشاب بعيدة كل البعد عن حياة الفدائي، كما أن سيرته الذاتية تعكس نقطة التحول في المسار الفلسطيني في لبنان في سنة 1982. ففي تلك السنة اعتُبر الإجلاء القسري لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومجزرة صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيتها آلاف الفلسطينيين واللبنانيين (al-Hout 2004)، بمثابة زوال أيام الثورة، بينما مثّل اتفاق الطائف في سنة 1989، والذي اعتُبر النهاية الرسمية للحرب الأهلية اللبنانية، إقصاء للفلسطينيين وجعلهم كبش فداء. فعلى سبيل المثال، فإن القانون الذي صدر في سنة 1962، والذي جُعل أكثر صرامة بعد سنة 1982، حظر على الفلسطينيين العمل في 72 مهنة وحرفة. وبالتالي، زادت نسبة البطالة بين اللاجئين بمعدلات عالية، الأمر الذي أثّر في الشباب الفلسطيني اللاجىء بصورة خاصة.
خلص، دقّوا الإيقاع
أنتقل الآن لأوضح كيف تعكس أغنيتان السمات الذاتية الجندرية المتنوعة للفدائيين والشباب وسِيَرهم الذاتية المتباينة بشكل كبير. ويستند هذا القسم إلى البيانات التي جمعتها خلال ورشتَي عمل نظمتهما بشأن أغنيتين بمساعدة شباب شاتيلا، والأغنيتان هما "رُمّانة" لسميح شقير وهي أغنية وطنية من الثمانينيات، و"أهلاً فيك بالمخيمات" وهي أغنية راب للفرقة الفلسطينية "كتيبة 5" من ألحان شباب من برج البراجنة، وهو مخيم آخر في بيروت. في البداية قسمتُ المشاركين في ورشة العمل، وهم من اللاجئين الفلسطينيين من الجنوب اللبناني، إلى فئتين عمريتين: واحدة فوق الثلاثين، والأُخرى تحت هذا السن، ثم جمعت المجموعتين معاً.
ما إن انتهيت من عزف أغنية الراب "أهلاً فيك بالمخيمات" لمجموعة من الرجال فوق الثلاثين حتى انهالت الانتقادات. فقد انتقد رجل يبلغ من العمر 50 عاماً الأغنية بحدّة قائلاً: "هذه الموسيقى مبالغ فيها وكاذبة. المغنون يستغلون معاناة الناس. إنهم يأخذوننا بعيداً عن حق العودة والتحرير والدولة الفلسطينية الجديدة. نحن نقبل حقيقة أننا نعيش في مخيمات اللاجئين من أجل تعزيز حق العودة." مشارك آخر كان أكثر حزماً، قال: "لا يمكن لهذه الأغنية إلّا أن تكون من عمل الموساد [الاستخبارات الإسرائيلية]. انتبه للكلمات واستمع إلى الإيقاع، هذه الأغنية صهيونية بالكامل، إنها تهيننا وتهين شعبنا ولا علاقة لها بواقع المخيمات. الثورة ستبقى حتى الجيل الفلسطيني الأخير."
ومع أنني كنت مستعداً لردة فعل قوية، إلّا إنني لم أتوقع أن يهاجم المشاركون الراب على أنه صهيوني، أو حتى اعتباره مستوحى من الموساد. لقد ثَبُت أن النيرفانا المنهجية (الحلم غير القابل للتحقق) التي اختبرتُها عند تنظيم ورشتَي العمل مع شباب شاتيلا من خلال السماح لهم بإبداء رأيهم في شكل الورشتين والنشاطات ذات الصلة، هي في نهاية المطاف سريعة الزوال.
كان الشباب هم مَن اقترحوا عليّ الأغنيتين اللتين استخدمتهما: الأولى، "رُمّانة" وهي تتكلم على الغزو الإسرائيلي للبنان وبيروت ورحيل الفدائيين القسري في سنة 1982، وتقول كلماتها:
رُمّانة
رُمّانة.. رُمّانة ع خصري
وكلاشينكوف بإيدي
ودنيي شعلانة
ودنيي شعلانة
وطياراتن ترمي الموت
أطنانه علينا ترمي والعون ما جانا
أطنانه علينا ترمي والعون ما جانا
ردينا يللي بْيِنْرَدْ
وقابلنا المدفع بالفرد
اشهدي يا بيروت علينا
لو تسأل الجنوب
شو شاف طوابير وعسكر
لو تسأل الشقيف
كم هجمة وغارة تتكسر
كم هجمة وغارة تتكسر
واسأل صيدا وصور وخلدة
بتذكر وقفات التحدي
بتذكر وقفات التحدي
وصوت ينادي وما في حدّْ
نقاتل بالخنجر واليد
اشهدي يا بيروت علينا
تحاصرنا ببيروت
كبر الهم وكنّا أكبر
من عصفات الموت
وكل شي حولينا يتفجر
وكل شي حولينا يتفجر
ولما طلعنا بالسفينة
دموعك بيروت تغطينا
دموعك بيروت تغطينا
ودعناكي وقلنا عهد
نردّ جميلك هذا وعد
اشهدي يا بيروت علينا
الأغنية الثانية هي "أهلاً فيك بالمخيمات" التي تحكي عن الظروف المعيشية القاسية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين اليوم، والتي تقول كلماتها:
أهلاً فيك بالمخيمات
الشباب زهقوا الحياة عمّال بيعبوا فراغات،
الحيط صامد بالمخيم هادا للذكريات،
وآخر قرش بيجي بتسرقوا الجمعيات،
غيروا المكاتب، بس عشكل التنظيمات،
وقت منشوف كل شي عم يدمر منحارب عشانو،
صورة الزعيم بتضلها صامدة لحالا...
واللحمة ما تتوزع إلّا للعم يحملوا لافتات،
وبعدن عم يضحكوا علينا صحاب البدلات،
خلصت الأغاني الوطنية خَلَص دُقوا البِيت [beat][3]،
أشباح وأرواح الميتين بعدن فلتانين،
في ناس خَلَص نسيوا، وناس بعدن متذكرين،
في صُوَر شهدا انمحت وفي صُوَر تاني جايين،
كل المناضلين ناموا، بقيوا الكلشنات،
شعر عالحيطان وبقايا رصاصات،
الشباب كتير ملّت من الروحة عالسفارات،
البيوت كتير زهقت من كتر الانحدارات،
بكرا بيبنوا جسر، وقبلا عمارات،
ورا كل الغيم البشع صورة الزعيم بتضلها صامدة لحالا...
أهلاً فيك أخوي بالمخيمات (أهلاً)
أهلاً فيك أخوي بالمخيمات (أهلاً)
شفنا سطوح المخيم، شفناها إنو خاشعة،
لأنو أعلام بلادي عم بترفرف فوق عليها،
نفس أكبر قضية بأصغر زاروبة فيها،
حَمَام بالسما وطفل عمال يناديها،
أكتر ناسها بالحرمان الله باليها،
رجل يتعارك مع مرتو بعدين يراضيها،
أمهات تدعي على أبنائها أرواحها تعطيها،
طالب يدرس عشان إمّو يحاول يرضيها،
فنان يرسم خريطة بلادو وأراضيها،
بنت وعشيقها بالخراب يقوم يخفيها،
شاب لآخر حد بيعَلّي الموسيقى،
وعند الأذان يطفيها، شباب ضايع،
إذا شُتم وطنهم قلبوا عاليها واطيها،
عجوز يروي لحفيدو بلادو بحكاييها،
يضحك لذكرى شقية والدمعة تتليها،
بيوت جميلة بلا ألوان تغطيها،
شمس دافئة واحدة، وفلسطين تبقيها
أهلاً فيك أخوي بالمخيمات (أهلاً)
أهلاً فيك أخوي بالمخيمات (أهلاً)
مسكن بلا سقف، تقدم إلى الخلف،
حيطان إعلانات، حرب المخيمات،
بنايات مهدومة من كتر الطلقات،
طرقاتها متاهات مليانة حشرات،
سماها جنة، مجموعة بالكَشّات،[4]
بمقبرة وحدة احتشدت الوفيات،
برحمتك الله إرحم الأموات،
متمسكين باليو - أن [UN]، طب إجمع الإعاشات،
ما حدا سامع بالداخل صرخات،
بالمستشفى انتظر الموت بقاعة الأموات،
إختار بين جماعة اللحي أو الشعارات،
من هلأ لموعد العودة عقبال الأذان...
أهلاً فيك أخوي بالمخيمات (أهلاً)
أهلاً فيك أخوي بالمخيمات (أهلاً)
ليك، بالمخيم الأنا في بعدو صامد لحالو،
إتغيرت أشكالو بس باقي نضالو،
عالحيطان في ورق نعوة لناس عاديين،
ذكرى فلسطين، بقايا مناضلين،
إطلّع عالسما شرطان كهرابا،
إذا ما سرقت خط، كيف بدك تشوفو؟ كيف؟!
عروس صحابا، رح توقع السقوفي،
يا ميّ من تحت الأرض ما عاش إطوفي،
الشباب غرقانين بالبطالة بالعطالة،
فش شغل، فش مصاري، الولاد بلا دراسة،
الله يخليلنا الأونروا عالرئاسة،
بيحلّو مشاكلنا بحبة بانادول من العيادة...
أهلاً فيك أخوي بالمخيمات (أهلاً)
أهلاً فيك أخوي بالمخيمات (أهلاً)
لم تكن كلمات الأغنية الأولى "رُمّانة" كافية ليتعاطف الشباب مع كبار السن المشاركين معهم في ورشتَي العمل. قال شاب يبلغ من العمر 22 عاماً بصريح العبارة: "نحن جميعاً نغني للثورة مثل أولئك الذين يحتفلون بالشعراء الذين ماتوا منذ فترة طويلة... نحن بحاجة إلى التطلع إلى الأمام بدلاً من الاحتفال إلى الأبد بالانتصارات الماضية." في المقابل عززت أغنية "أهلاً فيك بالمخيمات" قناعات المجموعة الشابة، مثلما نستنتج من كلام هذا الشاب البالغ من العمر 24 عاماً، والذي حدد مسار النقاش قائلاً: "مثلما ترى، ما تُظهره هذه الأغنية هو إخفاقات الثورة. حتى اليوم، نحن ندفع ثمن أخطاء الجيل السابق. ما تركوه لنا في النهاية هو المعاناة والحرمان من الحقوق المدنية والإذلال والخضوع." لم يكن من المفاجىء إذاً، عندما جمعت الفئتين العمريتين معاً، أن أجد أن المناقشة العامة قاربت المواجهة المفتوحة، وأجبرت شباب شاتيلا على ممارسة مهاراتهم الدبلوماسية.
لا بدّ من وجود سبب يدفع الناس إلى قول أشياء معينة بواسطة الغناء. يمكن النظر إلى بعض الأسباب التي تجعل موسيقى الراب تحظى بشعبية متزايدة بين شباب شاتيلا والمخيمات الأُخرى في لبنان، فتلك الموسيقى تتكون بشكل أساسي من كلمات يتم قولها على إيقاع معين، وهي دائما تتّسم بكونها عملية (Bennett 2001)، الأمر الذي يعني أن مغني الراب، الذي لديه بلا شك موهبة موسيقية، لا يحتاج إلى قضاء أعوام طويلة في المعهد الموسيقي لإتقان آلة، أو تعلّم النظرية الموسيقية. فضلاً عن ذلك، يتمتع مغني الراب بالعديد من الخصائص التي يصفها كلود ليفي شتراوس (Lévi-Strauss 1962) بأنها تعود إلى الحِرفيين/ الصنايعيين (bricoleurs)، إذ يُجمّع الإيقاعات والمحتوى من مصادر متنوعة، ثم يخلطها معاً. ويقول أحد طلاب هذا الأسلوب الموسيقي: "إنها الحرية في التنقل بين الأنواع الموسيقية المتنوعة، والتي تفك تشابك الموروثات الثقافية الثابتة وتحرر مغني الراب من عالم الهيمنة إلى عالم هجين... هذه هي عملية البناء والتحويل والاستعارة واستيعاب الكل ثم إصدار معنى وسيط جديد" (Nassar 2011, p. 362). بهذه الحرية الشعرية والشكلية يمكن لمغني الراب وللشباب، من خلال موسيقى الراب، أن يقولوا أو يغنوا ما ظل غير محكيٍّ حتى اللحظة. وهكذا تشكل موسيقى الراب وسيلة للشباب للتعبير عن عدم الرضا عن الحاضر (وربما أيضاً عن الماضي)، وتصوّر احتمالات أُخرى للمستقبل.
على سبيل الاستنتاج: الرابسودي[5] الفلسطيني
بدلاً من التشديد على أنه الساهر على هوية وطنية مجمدة في الزمن، فإن الراب الفلسطيني المتّسم بالمرونة يشكل خطاباً معاصراً (Puig 2007)، لا حنين فيه ولا رومانسية، فهو لا يتغنى بفلسطين الريف المخلدة بالموسيقى التراثية التي تصف أشجار الزيتون والقرى الصغيرة. والراب الفلسطيني ليس قومياً بحتاً، فهو ينقل صورة الشعب غير المرتبطة بالأرض فقط، ويركز على المقاومة اليومية أيضاً بدلاً من تمجيد المعارك الماضية. فعلى الرغم من استمرار وجود أطياف وأوهام الستينيات والسبعينيات، فإن الحاضر يعني أنه ليس كل مقاومة بحاجة إلى أن تُترجم إلى ثورة.
وصف بويغ (Puig 2007) الراب بأنه دون سياسي، وذلك نظراً إلى انشغال هذا النوع من الموسيقى بالحياة اليومية باعتبارها ساحة صراع، وإلى تناوله الصريح قصور الحياة في الريف، بينما أفهمه أنا على أنه سياسي بامتياز، لا بل قد يجوز القول إن موسيقى الماضي بهوسها بفلسطين الريفية وتمجيدها لمعارك الماضي ليست، للمفارقة، سياسية بما فيه الكفاية. فبدلاً من تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان اليوم، مثل عدم الوصول إلى سوق العمل وسوء الإسكان والتعليم والخدمات الصحية، فإن أغاني الماضي تتبنّى نبرة تصالحية تجاه الأنظمة العربية، بما في ذلك السلطات الفلسطينية. لكن في الوقت الحاضر يشعر الشباب الفلسطيني، وهم على حق، بالغضب.
إن الأغاني القديمة تجعل فهم معنى "المقاومة" جامداً؛ فكيف يجب فهم المقاومة اليوم؟ لماذا يتعين على شباب شاتيلا والمخيمات الأُخرى، فضلاً عن الأكاديميين الذين يُجرون الأبحاث عنهم، أن يسلّموا جدلاً بالطريقة التي فهم بها جيلُ الفدائيين السابق المقاومةَ؟ لماذا يجب اعتبار المطالبة بالوصول إلى سوق العمل، أو الحصول على الأملاك والصحة والتعليم، مثلما يتم تصويرها بشكل فاعل في موسيقى الراب الفلسطينية، على أنهما أقل سياسية وأقل مقاومة من المطالبة الدائمة بالعودة في الأغاني القديمة؟ لماذا يجب أن يُنظر إلى قصص المخيم الصغيرة للطلاب الذين يدرسون بجد، وإلى الأمهات اللواتي يؤدّبن أولادهن، وإلى العشاق الذين يمارسون الحب بين الأنقاض، وهذه كلها قصص موصوفة بشكل مؤثر في أغنية "أهلاً فيك بالمخيمات"، على أنها أقل أصالة أو صموداً من الأغاني القديمة التي تتغنى بالفدائيين وبأشجار الزيتون والصّبار في فلسطين؟
*تستند هذه المقالة إلى أحد فصول كتاب غوستافو باربوزا، والذي صدر مؤخراً بعنوان:
The Best of Hard Times: Palestinian Refugees Masculinities in Lebanon. New York: Syracuse University Press, 2022.
كما تستند إلى مقالة سبق أن نشرها الكاتب (Barbosa 2018)، والمقالة التي بين أيدينا، خصّ بها الكاتب "مجلة الدراسات الفلسطينية"، وقد كُتبت بالإنجليزية وأشرف الكاتب على ترجمتها، وهي بعنوان:
Khalas, We Play the Beat: Fida’iyyin and Shabab Talk Through Music
المراجع
بالأجنبية
al-Hout, Bayan Nuwayhed (2004). Sabra and Shatila: September 1982. London; Ann Arbor, Michigan: Pluto Press.
Barbosa, Gustavo (2018). “Gender Troubles in Shatila, Lebanon: Bodies that Matter (the Fida’iyyin’s Heroism) and Undoing Gender (the Shabab’s Burden)”. In: Reconceiving Muslim Men: Love and Marriage, Family and Care in Precarious Times. Edited by Marcia Inhorn and Nefissa Naguib. New York: Berghahn Books, pp. 27-46.
_________ (2022). The Best of Hard Times: Palestinian Refugee Masculinities in Lebanon. New York: Syracuse University Press.
Bennett, Andy (2001). Cultures of Popular Music. Buckingham: Open University Press.
Gilsenan, Michael (1996). Lords of the Lebanese Marches: Violence and Narrative in an Arab Society. London; New York: I. B. Tauris.
Lévi-Strauss, Claude (1962). La pensée sauvage. Paris: Librairie Plon.
Nassar, Angie (2011). “Scratch the Past, This is OUR Soundtrack: Hip-Hop in Lebanon”. In: Arab Youth: Social Mobilisation in Times of Risk. Edited by Samir Khalaf and Roseanne Saad Khalaf. London: Saqi Books, pp. 359-386.
Puig, Nicolas (2007). “’Bienvenue dans les camps!’LÉmergence d’un rap palestinien au Liban: Une nouvelle chanson sociale et politique”. In: Itinéraires esthétiques et scènes culturelles au Proche-Orient. Edited by Nicolas Puig and Franck Mermier. Beirut: Presses de L’IFPO, pp. 148-171.
Sayigh, Rosemary (1979). Palestinians: From Peasants to Revolutionaries: A People’s History. London: Zed Press.
المصادر:
[1] هذا العنوان مستوحى من كتاب جيلسينان:
Michael Gilsenan (1996), Lords of the Lebanese Marches: Violence and Narrative in an Arab Society (London; New York: I. B. Tauris).
وبينما يستخدم كلمة "marches" بمعنى "التخوم أو الحدود"، فإنني أستعمل المعنى القاموسي الآخر للكلمة، أي "المسيرة"، وتحديداً "المسيرة العسكرية"، عنواناً لهذا القسم من المقالة.
[2] كونان (أو المحقق كونان) هي شخصية البطل في سلسلة "مانغا" للكاتب الياباني غوشو أوياما، والتي تحولت إلى سلسلة تلفزيونية وألعاب فيديو. وقد أُذيعت الحلقة الأولى في 8 كانون الثاني / يناير 1996، ثم عُرضت الحلقات بالتوالي إلى أن وصلت إلى أكثر من 1038 حلقة. (المحرر)
[3] أي الإيقاع. [المحرر]
[4] كشّ الحمام. [المحرر]
[5] التعاريف المتنوعة التي وجدتها لمصطلح الرابسودي تؤكد دائماً فكرة الحرية. فالرابسوديات تتميز بانسياب هيكلي حرّ، وتتضمن أمزجة ونغمات متناقضة، الأمر الذي يحافظ على حسّ الارتجال.