السلطة الفلسطينية وهوبيتوس القبيلة: استيحاء السلطة من الرمز الاجتماعي
نبذة مختصرة: 

شهد مسار السلطة الفلسطينية تحولاً عميقاً، من كونها سلطة ممثلة لشعب ونتيجة عملية ثورية، إلى سلطة تعمل على البقاء من خلال مدّ روابط مع رجال الأعمال وقادة العائلات والعشائر. وهذه المقالة تسعى من خلال بُعد نظري لقياس أبعاد هذا التحول ومآلاته.

النص الكامل: 

مدخل نظري

السلطة الرمزية هي سلطة لامرئية، ولا يمكن أن تمارَس إلّا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم خاضعون لها، بل يمارسونها بشكل ضمني ضمن عدة مستويات.[1] ومع فشل إقامة دولة فلسطينية كاملة المؤسسات تقوم على فصل حقيقي بين السلطات وعلى تراتبية تشريعية في وضع القوانين والتصويت عليها، وذلك ضمن مستويات الأحزاب والمؤسسات المدنية المتعددة والأفراد، برزت مشكلة كبيرة ارتبطت بعدم القدرة على صوغ هوية وطنية جامعة سياسياً واجتماعياً، إلى جانب تنامي صراع على السلطة انبثقت منه قاعدتان حكوميتان، الأولى في الضفة الغربية، والثانية في غزة.

هذا الانقسام المترسخ أصبح يعمل ضمن بُنى اجتماعية خاصة به لم تعرف الدولة القومية ومؤسساتها قبل اتفاق أوسلو (1994)، ولم تساهم بشكل فاعل ورسمي في إنتاج هوية وطنية وسياسية، الأمر الذي دفع كل حكومة إلى البحث عن روافد اجتماعية تضمن لها البقاء والاستمرار بعيداً عن العملية الديمقراطية التي تلفظ الحكم الشمولي. وقد وجدت تلك الحكومات المتصارعة ضالتها في بُنية طبقية مبنية على إرث تاريخي في التسلط قوامه القبيلة أو العائلة، وهذه البُنية تُعتبر من أهم البُنى الاجتماعية التي جرت تغذيتها في التنظيم الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني، فهي القوة الآمرة التي لديها الإمكان الفعلي لتسيير أنشطة الناس، وتنسيق المصالح المتعارضة وإلحاق تلك المصالح بإدارة السلطة المتحكمة عن طريق الإقناع أو القسر.[2] وهكذا تبدأ مرحلة جديدة في تأمين الطاعة لتحقيق الأهداف بواسطة الحظوة أو الصيت أو الموقع الاجتماعي من خلال بث الروح في الرمز الاجتماعي (الهوبيتوس بحسب طرح بيير بورديو)،[3] والمقصود به هنا (القبيلة / العائلة) من دون أي إدراك مجتمعي لخطورة تلك السطوة الرمزية على إدارة دفة السلطة، فالهيمنة هنا غير ظاهرة وغائبة لأنها أصبحت جزءاً من حياة الناس اليومية، وامتداداً لوضع قائم منذ عقود طويلة. 

إطار تاريخي

تُعتبر السلطة الفلسطينية وما أنتجته من حكم ذاتي للفلسطينيين، بعد عقود من الاحتلال والوصايات الدولية المتنوعة، من أهم المخرجات التي انبثقت من توقيع اتفاق أوسلو في سنة 1994، والذي ترافق مع تحولات سياسية واقتصادية عالمية مهمة رجحت كفة القطب الرأسمالي الليبرالي على حساب المعسكرات الأيديولوجية الأُخرى. وكان للقطب المهيمن دور كبير في صوغ ملامح هذه الفترة، فالدولة المرغوب في قيامها، والتي حمل قانونها الأساسي مفاهيم ليبرالية بعيدة كل البعد عن التراتبية الاجتماعية والاقتصادية في مجتمع لا يملك مؤسسات مدنية ولا إنتاجاً اقتصادياً قادراً على بناء دولة بشكل كامل، باتت تحت هيمنة هذا الشكل التنظيمي غير المدني في المجتمع الفلسطيني، والذي فرض نوعاً من عدم التوازن في عملية بناء مؤسسات السلطة في مرحلة تأسيسها الرامية إلى أخذ دور تنظيمات ميدانية متعددة كانت تدير الشؤون السياسية والاجتماعية. وهكذا بدأت مرحلة جديدة مهّدت لتحولات كبيرة في بُنية المجتمع الفلسطيني على جميع الصعد، بما فيها الرؤى الوطنية، والأهداف المرحلية في بناء الإنسان والمجتمع معاً.

أدى بناء مؤسسات فلسطينية رسمية إلى ظهور خطاب جديد مرتبط بالذات الفلسطينية، وقد امتد ذلك الخطاب إلى الآخر ضمن دائرة الصراع على السلطة والهوية، بحيث بات الفرد ممزقاً بين الأحزاب والمتراصفات الطبقية المتعددة في مجتمع مشوه طبقياً ومتعدد البُنى، يحتكم بعضه لرؤى أيديولوجية لها امتداد إقليمي وعالمي، وآخر للقبيلة والعائلة ضمن صيرورة لها إرث تاريخي في الهيمنة السياسية والاقتصادية وُجد منذ نهايات الحكم العثماني، ومنها عائلات تطورت فيما بعد إلى أحزاب وطنية وسياسية لم تتخلص من خصومتها وتنافسها.

النكبة، وما أنتجته من تشرذم على البُنية السوسيولوجية جغرافياً، إلى جانب انتقال الحكم السياسي إلى غير الفلسطينيين (إلى الإدارة الأردنية والمصرية للضفة وقطاع غزة بعد نكبة 1948، وإلى إسرائيل في سنة 1967) هي أمور طمست تلك النزعة بشكل ملحوظ، غير أنها عادت لتظهر فيما بعد في المدن والقرى. فموظفو سلطة الاحتلال لم يحكموا بشكل مباشر، وإنما جرى استغلال المناصب الاجتماعية في كل فضاء مديني من أجل بسط النفوذ، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في ترسيخ حكم تلك القوى والعائلات الاجتماعية. إن أعوام التبعية لحكومات غير فلسطينية غيّبت الفرد الفلسطيني ومؤسساته المدنية عن العمل السياسي والوطني بحيث أصبحت تلك المؤسسات تعمل ضمن استراتيجيات لا تصبّ في بناء دولة فلسطينية، وهو ما أحدث جموداً كبيراً استمر لعقود في بنية المجتمع، وأثّر في الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

من أبرز التحولات الأُخرى التي أدت دوراً كبيراً في تحولات السلطة داخل المجتمع الفلسطيني، نشوء طبقة اجتماعية جديدة ارتبطت بفضاء مخيمات اللجوء، والتي كانت تركيبتها الاجتماعية لا تحتكم إلى القبيلة بقدر ما تحتكم إلى تنظيمات سياسية تتحكم فيها خطابات الأحزاب السياسية التي تمثلت في أحزاب قومية / ويسارية، ثم في أحزاب وطنية قبل هزيمة 1967 بأعوام قليلة. وكانت هذه الخطابات امتداداً لخطاب فلسطيني قديم غذّاه بعض النخب المثقفة بعد النكبة ضمن سياق الدولة الواحدة، ثم تماشى مع خطاب القومية في أثناء فترة حكم جمال عبد الناصر. وهذا الخطاب كان مرتبطاً في الأساس بالشأن السياسي الذي ساهم في تهميش العمل على إصلاح الواقع الاقتصادي والاجتماعي. وتكرس هذا الأمر مع رؤية مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التي أُنشئت في سنة 1965، والتي كان لها الدور الأكبر في عملية بثّ روح الخطاب الفلسطيني بين أفراد المجتمع، ومباشرة العمل على بناء هوية وطنية فلسطينية ذات إجماع شعبي في الجغرافيا الفلسطينية كلها، لكن بعد عقدين من الزمن ظهرت الأحزاب الدينية مع صعود حركة "حماس" والجهاد الإسلامي خلال الانتفاضة الأولى في سنة 1987.

هنا بدأت مرحلة جديدة بدأت فيها هيمنة التيارات الإسلامية التي تبنّت مقاربة جهادية تسير على خط متوازٍ مع العاطفة الدينية في المخيال الشعبي والديني الفلسطيني، والتي تعاملت مع القضية الفلسطينية من خلال الخطاب الديني الذي أسهب في سرد العلاقة بين الدين والصراع اليهودي من خلال عدة أبعاد. وهذا البديل، حل لدى المواطن مكان استراتيجيا السلطة الفلسطينية وأجهزتها، إلى جانب بروز طبقة المتحكمين في السلطة كشريحة برجوازية غير منتجة وفاسدة ومنفصلة عملياً عن المشروع الوطني وتستغل الشعب الفلسطيني وقضيته. هذا الانسلاخ واضح المعالم جعل السلطة تدرك أهمية إيجاد بديل داخل الخطاب الشعبي يستحوذ على الإجماع على شرعيتها، فكانت القبيلة هي جسر العبور نحو بُنية المجتمع من خلال تمكين رموزها بشكل غير مباشر في البنية السياسية سواء بإشراكها مع الإقليم الشعبي التابع لحركة "فتح"، أو إدخالها في المؤسسات الرسمية بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال توظيف أبنائها.

في هذا السياق بدأت السلطة الفلسطينية بتدعيم شرعيتها من خلال ما رسخته من مؤسسات جديدة فتحت آفاقاً وظيفية ارتبطت بكسب ودّ طبقات وفئات معينة لها امتداد طبقي في الماضي على خلفية سياسية أو عائلية. وهذا الامتداد ذو البعد المصلحي مع فئات معينة، وتهميش القاعدة الأكبر من المجتمع، كرّسا صورة السلطة على أنها سلطة وظيفية ينحصر دور قيادتها في الحكم والانتفاع من خلال علاقة تحالف مع القوى الرأسمالية ورجال الأعمال. فهي اذاً سلطة قامت وتتغذى من المناصب السلطوية على حساب الطبقات الشعبية، الأمر الذي أدى إلى بروز أزمة في الهوية والانتماء إلى المؤسسة الوطنية، وهي أزمة تصاعدت تباعاً وأثّرت بشكل كبير في شرعية السلطة في الشارع الفلسطيني، لتبدأ عملية خلق الرمز الاجتماعي وتغذيته متمثلاً في القبيلة كخط دفاع أخير عن كيانها الأحادي. 

الدولة وهابيتوس القبيلة

تُعتبر الدولة ومؤسساتها من أهم الفضاءات التنظيمية في حياة الشعوب، فهي التي تمتلك أهم وظيفة في الحياة الإنسانية لأنها تنتج التراتبيات الاجتماعية وتقوننها وتقونن شرعيتها، إلى جانب إنتاج هويتها الاجتماعية المشروعة، فضلاً عن ضعف العمل ضمن بناء مؤسسات اجتماعية واقتصادية بعيدة عن أصحاب المناصب في السلطة. وهنا، أصبح خطاب الشارع الفلسطيني غير قادر على تقبّل توجهات السلطة التي أخذت شرعيتها في الحكم من خلال عمل نضالي طويل، ثم عبر الانتخابات (1996؛ 2005؛ 2006) التي دشنت التراجع عبر عدم التسليم بنتائج الانتخابات، وبعدئذ عبر انقلاب "حماس" في غزة، أضف إلى ذلك انتشار الفساد، وهذه كلها أمور تسببت بأزمة ثقة مع المواطنين، وأوجدت حالة رفض واحتجاجات تعاملت السلطة معها بالقمع الذي وضعها في دائرة صراع وجودي، فبات الانشقاق واضح المعالم بين أفراد العائلة الواحدة، ومتكرّساً بشكل جلي في الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني في الشارع العام. كما أن توقف المجلس التشريعي عن الانعقاد قرابة عقدين جعل الدولة الوظيفية تخسر أهم قواعدها السياسية، وهو ما تجلى في رفض النخب السياسية والمثقفة لها ليصبح الشارع العام والنخب معاً على مسافة من تلك السلطة.

لقد فقدت السلطة الفلسطينية قدرتها على أن تكون مؤسسة مؤثرة في حياة المجتمع في العملية السياسية وإنتاجها الشعبي، لأن وجود هذه السلطة لا يحتكم إلى تراتبية كبيرة من التوافق والانسجام في إرساء بُنيتها وقوانينها وتشريعاتها. فالدولة بمفهومها الحديث لا تكون مرتكزة على مؤسساتها التي تعمل تحت سلطاتها المتنوعة، بل إنها تعتمد عملية دينامية تمتد شرعيتها من أدنى درجات السلم الاجتماعي، أي أنها تبدأ من الفرد وتمر بالبُنى التي يتفاعل فيها الفرد، وتنتهي بنظام قانوني يحظى بإجماع الكل، وهو ما ألغته السلطة الفلسطينية.

بهذا التفكك والتفرد في الحكم فَقَدَ الفرد الفلسطيني الثقة بمؤسسات سياسية تنكرت للشرعية الوحيدة في وجودها، وهي إنتاج هوية مشروعة يتفق معها مختلف أطياف المجتمع، بينما الهوية التي سادت في خطاب السلطة الفلسطينية عن السلام والنمو الاقتصادي وتحرر الفرد لم تتوافق مع بعض مركبات أطياف المجتمع.

هذا التناحر الأيديولوجي لم يأتِ ضمن عملية سياسية كان الشعب هو المحرك الأساسي فيها، وإنما جاء ضمن مستويات حزبية متأصلة ومتناحرة، أغلبية أطياف الشعب منعزلة عنها، ما لم تكن على ارتباط بها على مستوى الوظيفة أو العائلة، لتصبح السلطة الفلسطينية ضمن تلك الدائرة من الصراع، وبتفرد الحزب الواحد في الحكم ("فتح" في الضفة، و"حماس" في غزة)، هي التي تنتج تلك القوانين في التعامل مع القضية الفلسطينية على المستويين الشعبي والرسمي.

هنا برز الشكل الأخطر في تحولات الدولة الفلسطينية، لأن مفهوم الدولة في الوعي الشعبي أظهرها كأنها "فاعل مرفوع" بكل شيء، وهذه "جملة لاهوتية"[4] يجب أن تتم إزالتها من البُنى الذهنية للأفراد لأنها ليست سوى أفعال سياسية يطلقها فاعلون في النظام السياسي للدولة، يخدمون المسيطرين اقتصادياً ورموزهم السياسية. لقد فُرضت السلطة اللاهوتية على المجتمع الفلسطيني المتشرذم من خلال البدأ بإرساء مفاهيم الانتماء إلى الحزب عبر المرور بالعائلة والقبيلة والوظيفة، فعمل كل حزب على تغذية نفوذ بعض العائلات في مواجهة العائلات أو القبائل التي تنتمي إلى الحزب المعارض، الأمر الذي أوجد علاقة بين الدولة ورموزها من خلال جماعة وسيطة (القبيلة والعائلة) أجادت السيطرة على الجموع من أجل ترسيخ الولاء للسلطة. وهنا برزت مشكلة خطرة تتعلق باعتراف تلك السلطات الاجتماعية بنفوذ الدولة، وذلك ضمن سياق مصلحة متبادلة أعطتها إمكان التربع على رأس المدينة أو القرية أو الحي من خلال وظائف حيوية رمزية وقفت في وجه أي عمل اجتماعي أو سياسي معارض للحكم السياسي.

أصبح الحكم السياسي الداعم لتلك الطبقة الرمزية، أهم من فكرة الهوية والوطن والقضية، لأن النفوذ ضمن تصارع طبقي طويل هو أهم ما يمكن الاستحواذ عليه عند تلك الرمزيات، فضلاً عن الخوف من خسارة ما حملته تلك العلاقة من وظائف وتسهيلات اقتصادية جعلت الأفراد منصاعين للعائلة التي ترتب أمور التكيّف مع النظام السياسي الداعم لها. وبدأ في إثر ذلك يطفو داخل المدن والقرى والمخيمات نفوذ تلك الجماعات وعائلاتها التي جعلت من بناء دولة فلسطينية وهماً، لأن السلطة بهذه العلاقة نسفت أهم سمات الدولة الحديثة، وهي إلغاء العلاقات الاجتماعية الاقطاعية،[5] بل إنها رسختها لتستند إلى تلك العلاقات القبائلية، ولتجعل مرحلة وهم الشرعية تسود من خلال خلق جماعات متخيلة[6] عملت على ترسيخ شكل انتماء خيالي يربطهما معاً، بحيث أضحى الناس يتصرفون في تلك العلاقة على أساس إدراكهم لوجود جماعة وظيفية تدعم وجودهم، وذلك من دون التطلع إلى بناء هوية وطنية مشتركة تربطهم بأطياف مجتمعهم كافة.

يشكل فضاء المدينة الحيز المهم لتفسير نشوء تلك العلاقة بين القبيلة والنظام السياسي، وذلك لتفسير وتحليل السبب الكامن في عدم تمكّن الدولة من التربع فوق هرم المجتمع على الرغم من المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عملت على تطويرها. وهذا الصراع نشأ أساساً لدى السلطة بسبب عدم قدرتها على خلق حشد شعبي منتمٍ إليها من دون علاقات وظيفية، فالأفراد الذين عملوا في وظائف السلطة كانوا، في معظمهم، يبحثون عن الدعم المالي للاستمرار في علاقتهم الوظيفية معها، من دون أن يكون لديهم أي انتماء إليها، وهو ما يبرر مشاركة الموظفين التابعين لمؤسسات السلطة في أي تظاهرة سياسية للحزب الحاكم، فضلاً عن مشاركة طلاب الجامعات والمدارس الذين يُفرض عليهم هذا الأمر. أمّا الشعب فلا يلتفت إلى تلك التمظهرات السياسية أو الثقافية، وذلك بسبب عدم وجود أدنى ارتباط معها، جرّاء ضياع الهوية الجامعة، وخصوصاً مشروع التحرر والدولة وبناء الإنسان.

نتيجة القطيعة الكبيرة بين الشعب والسلطة، ارتدّت المؤسسات الاجتماعية نحو فضاءات أُخرى لها امتداد عائلي أو جغرافي ضيّق من أجل بناء تنظيمات تخدم رؤى تلك الجماعات المتنوعة، سواء بالعمل السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، وذلك على غرار الحركات الدينية التي احتفظت بالفاعلية الكبرى على حشد الرأي الشعبي.[7] وقد استغلت السلطة هذا الواقع من أجل بناء وتبنّي خطاب قبائلي للسيطرة على تلك البُنى الاجتماعية غير المنتمية إلى النظام الحاكم ومؤسساته، الأمر الذي أبرز القبيلة باعتبارها الوجه القومي الوحيد المسيطر على المجتمع من خلال كونها متناسقة معه وتتعامل مع أفراده وفق مفاهيم دينية وقبائلية ومصاهرة ونسب.

هذا الشكل طمس فعلاً الفجوة بين السلطة السياسية والمجتمع من خلال الاحتكام لا إلى شريحة اجتماعية، بل إلى رموز كل طبقة، تماشياً مع عقلية المجتمع الفلسطيني الذي يُعتبر جزءاً من العقلية العربية الكلاسيكية التي تعتبر القبيلة ومفاهيمها الاجتماعية الدينية حقيقة مطلقة، والتي تُقصي كل خطاب آخر.[8] فخطاب الحركات الاجتماعية التي تمثل الخطاب المرجعي باسم الإجماع المنشود، كانت غايته السلطة، وهنا أصبح الفرد في ظل هذا التحول يعيش في ظل حكومة توظف عواطف الناس لمصلحتها، كما أن مفهوم الهيمنة استُخدم بنجاح ليسود تلك الطبقات، لأن هذه الهيمنة لا تندرج وفق مفهوم هيمنة طبقة على طبقة، كما أن واقع قبولها من طرف ضحاياها أمر مسلّم به وطبيعي وبديهي على الرغم ممّا يعانونه من ظلم وفقر.[9] والسؤال هو: كيف قبل الفلسطينيون المهيمَن عليهم واقعاً اجتماعياً يشتغل ضدهم بهذه التراتبية؟

سبب هذا القبول يرتبط بالوعي الزائف الذي يتعارض مع الوعي الطبقي الكامل بحسب أطروحات لوكاتش[10] في فهم شمولية تلك الهيمنة المستندة إلى سلطة الأمس الأبدي، وإلى الكاريزما[11] التي أدت السلطة دوراً كبيراً في صوغها وترسيخها بشكل غير مباشر في البُنية الاجتماعية والسياسية الفلسطينية. فالفرد في المجتمع الفلسطيني في ظل تلك التنشئة الكلاسيكية على العائلة والقبيلة، يرى أن حقائق المجتمع مسلّم بها ولا جدال فيها، وهو ما أطلق عليه بورديو مفهوم doxa[12] الذي يظهر فيه العالَم الطبيعي والاجتماعي كذات واحدة، أي أن الأفراد يتصورون حياتهم على أنها إجراءات روتينية تستند إلى الاعتراف بالنظم الاجتماعية كطرق طبيعية من الحياة بدلاً من التنظيمات السياسية الأُخرى.

ومن أجل ضمان ذلك الاستقرار في فهم الأفراد للسلطة الاجتماعية عملت الدولة على ترسيخ القوانين المستمدة من الأعراف والقبائلية لردم أي فجوة قد تظهر بين السلطتين، وهذا نوع من الممارسة الخفية من طرف السلطة لسيادتها الرمزية المنظمة، ففواعلها الاجتماعية (القبائلية) أصبحوا الأشخاص المخولين بثّ خطابها الأيديولوجي المنظم على شكل شعارات رمزية كبديل من الأحزاب أو المكونات السياسية التي تتصارع فيما بينها في فرض سلطتها. وبحسب مفهوم doxa، فإن تلك الفواعل الاجتماعية الجديدة أصبحت تمارِس فعل الهيمنة على عقول بيضاء تُعدّ موادّ خاماً، فتنطبع مفردات الخطاب بسهولة عليها، وذلك على شكل إشارات يبثّها الفاعل الاجتماعي بإشارات خفيّة وراء حجاب من الإقناع، مستغلاً في ذلك عواطف الناس. وتمتد هذه الهيمنة لتشمل حقولاً أُخرى لها تأثير غير مباشر في ذهن الفرد، فنرى التأطير يشمل حقول الفن والذوق والأدب والسياسة والدين، وهكذا تصبح السلطة هي المهيمنة على أدق تفصيلات المجتمع تحت غطاء غير مرئي لأنها أصبحت جزءاً من حياة الناس اليومية.[13]

 

المراجع

بالعربية

أحجيج، حسن. "نظرية العالم الاجتماعي: قواعد الممارسة السوسيولوجية عند بيير بورديو". الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2018. 

بورديو، بيير. "الرمز والسلطة". ترجمة عبد السلام بن عبد العالي. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر والتوزيع، 1990.

____. "عن الدولة: دروس في الكوليج دي فرانس (1989 – 1992)". ترجمة نصير مروّة. بيروت؛ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016.

زين الدين، أحمد. "الحداثة ويقظة المقدس: أنماط وسلوكيات وأفكار". بيروت: بيسان للنشر والتوزيع، 2015.

غيدنز، أنتوني وفيليب صاتن. "مفاهيم أساسية في علم الاجتماع". بيروت؛ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018.

فيبر، ماكس. "رجل العلم ورجل السياسة". ترجمة نادر ذكرى. بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر، 1982. 

بالأجنبية

Anderson, Benedict. Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. London; New York: Verso Books, 1983.

Bourdieu, Pierre. Outline of a Theory of Practice. Translated by Richard Nice. Cambridge: Cambridge University Press, 1977.

Lukacs, Georg. Histoire et conscience de classe: Essai de dialectique marxiste. Paris: Editions de Minuit, 1974.

Masline, Mikhaïl (ed.), Dictionnaire de la philosophie russe, Traduit par Françoise Lesourd (Lausanne, Suisse: Editions l'Age d'Homme, 2010).

Weber, Max. Le savant et le politique. Paris: Union Générale d’Éditions, 1963.

 

المصادر:

[1] بيير بورديو، "الرمز والسلطة"، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1990)، ص 52.

[2] Mikhaïl Masline (ed.), Dictionnaire de la philosophie russe, traduit par Françoise Lesourd (Lausanne, Suisse: Editions l'Age d'Homme, 2010).

[3] هو رأس المال الرمزي.

[4] بيار بورديو، "عن الدولة: دروس في الكوليج دي فرانس (1989 – 1992)"، ترجمة نصير مروّة (بيروت؛ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص 30.

[5] أنتوني غيدنز وفيليب صاتن، "مفاهيم أساسية في علم الاجتماع"، ترجمة محمود الذوادي (بيروت؛ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص337.

[6] Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism (London; New York: Verso Books, 1983), p. 235.

[7] أحمد زين الدين، "الحداثة ويقظة المقدس: أنماط وسلوكيات وأفكار" (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع، 2015)، ص 160.

[8] المصدر نفسه، ص 181.

[9] حسن أحجيج، "نظرية العالَم الاجتماعي: قواعد الممارسة السوسيولوجية عند بيير بورديو" (الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2018)، ص 150.

[10] Georg Lukacs , Histoire et conscience de classe: Essai de dialectique marxiste (Paris: Editions de Minuit, 1974), p. 73.

[11] Max Weber, Le savant et le politique (Paris: Union Générale d’Éditions, 1963), p. 114.

[12] Pierre Bouedieu, Outline of a Theory of Practice, translated by Richard Nice (Cambridge: Cambridge University Press, 1977), p. 164.

[13] ماكس فيبر، "رجل العلم ورجل السياسة"، ترجمة نادر ذكرى (بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر، 1982)، ص 48.

السيرة الشخصية: 

أحمد الحرباوي: باحث في مختبر السرديات الفلسطيني (الخليل).